هل هناك أخلاق في السياسة؟ «2»
تاريخ النشر: 2nd, January 2024 GMT
لقد انشغل كبار الفلاسفة بقضية «الأخلاق والسياسة» حتى عصرنا هذا، وكانوا يحلمون بإمكانية تحقق الأخلاق في السياسة. ولقد رأى بعض الفلاسفة أن ثمة اختلافًا كبيرًا بين الأخلاق والسياسة: فالأخلاق تتعلق بسلوك الفرد وبتعامل الأفراد بعضهم مع بعض؛ في حين أن السياسة تتعلق بإدارة شؤون الجماعة. وقديمًا أدرك تراسيماخوس -كما رأينا في المقال السابق- التباين بين السياسة والأخلاق، حينما رأى أن العدالة هي تحقيق مصلحة الأقوى، ومعنى ذلك أن العدالة تدور مع القوة وجودًا وعدمًا؛ وهو الرأي الذي أثار حفيظة أفلاطون كما سنرى.
ويمكننا أن نبدأ هنا بالسياسة الداخلية، وسوف نرجع هنا إلى مثال واحد من كبار الفلاسفة القدماء، وهو أفلاطون الذي رأى أن السياسة ينبغي أن تقوم على العدالة؛ لأن مفهوم العدالة كان مفهومًا مركزيًّا في السياسة والأخلاق عند فلاسفة اليونان. لقد رأى أفلاطون أن العدالة تتحقق في الفرد عندما يتحقق التوازن بين القوى العقلية والقوى الغضبية (التي تتعلق بالوجدان) والقوى الشهوانية أو الحسية، على أن يكون العقل هو ما يدير غيره من القوى. وعلى نحو مشابه فإن الدولة ينبغي أن تقوم على تحقيق قيم عليا مثل: الحكمة، وهي السمة التي تميز الفلاسفة؛ ومن ثم فإنهم ينبغي أن يحكموا الدولة ويديرونها باعتبارهم الطبقة أو القوة العاقلة. ومن هذه القيم: الشجاعة التي يمثلها جيش قوي مقدام (أي في طبقة الجند)، ومن هذه القيم أيضًا العدالة التي يمكن أن تتحقق في طبقة المواطنين من مهنيين وعمال ومزارعين وغيرهم حينما يقوم كل فرد بالوظيفة المنوط بها بحسب مَلكاته وإمكانياته؛ ولذلك يقول أفلاطون: «في دولتنا سيكون الملاح ملاحًا والإسكافي إسكافيًّا». ولكن أفلاطون كان يتحدث عن السياسة في الدولة أو الجمهورية. ومن الواضح أن رأي أفلاطون كان يوتوبيًا حالمًا في تفسير العدالة في الدولة، ولكنه لم يتناول مفهوم العدالة في السياسة الدولية، وآراؤه القليلة في هذا- مثل تلميذه أرسطو، كانت تعكس موقفًا أرستقراطيًّا متعاليًّا على الشعوب الأخرى.
ومن الرؤى السياسية الدولية التي كانت تتطلع إلى تحقيق السلام في العالم: رؤية الفيلسوف الكبير إمانويل كانط؛ إذ كان يتطلع إلى تنظير أو مقترح لتحقيق السلام في العالم باعتبار ذلك غاية أخلاقية عظمى، وباعتبار أن ذلك يمكن أن يقضي على الحروب والصراعات في العالم، ويسعى إلى تأسيس دولة عالمية يعيش فيها مواطن عالمي يحكمه قانون عام. ويكفي في هذا الصدد أن نذكر كتاب كانط «مشروع للسلام الدائم» الذي طالب فيه بإنشاء تحالف دولي يقوم على قوانين دولية تحكم الصراع في العالم، وتسعى إلى تأسيس حالة من السلام الدائم. وهذه القوانين ينبغي أن تنص على مبادئ عديدة منها: أن النظام أو القانون العالمي الدولي ينبغي أن يقوم على الديمقراطية وليس على الهيمنة والاستغلال، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. ومنها أن الحرب وإن كان لا يمكن تجنبها دائمًا، فإنها لا تكون مشروعة إلا في حالة واحدة هي دفاع الدولة أو الأمة عن استقلالها وعن العدوان الذي يقع عليها من جانب دولة أخرى. ومنها: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كالتدخل في نظم الحكم فيها، حتى إن كان ذلك بدعوى الإصلاح السياسي والاقتصادي، وإن كان هذا التدخل مشروعًا في حالات استثنائية من قبيل: تعرض شعب ما للاستبداد والعنف المفرط من جانب حكومته الاستبدادية، أو نشأة صراعات داخلية تهدد شعوب هذه الدول. ومن ذلك أيضًا تحريم جرائم الحرب بين الدول. وفي كل هذا تفاصيل عديدة ذكرها هذا الفيلسوف الفذ فيما يتعلق بإنشاء حلف أو منظمة عالمية تحكم العالم من خلال قانون دولي، وكأنه كان يرصد الأوضاع العالمية في عصره، ويستشرف المستقبل من خلال نداء للعالم أو الإنسانية؛ ولهذا يوصف من ضمن أوصافه العديدة بأنه «فيلسوف السلام الأبدي».
ولقد تأسست بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية المنظمات الدولية التي كان يحلم بها كانط، ولكن السلام الدائم لم يتحقق في العالم. والرأي عندي أن العدالة والسلم والأمن في العالم لا يمكن تحققها إلا عندما يتغير بالفعل النظام العالمي الجديد من خلال إعادة هيكلة بنية النظم والمؤسسات الدولية، بحيث تتأسس قوانينها وقراراتها على العدالة وتكون مُلزمة بحيث تحميها مجموعة الدول التي تصدرها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن تصور تحقق مفهوم العدالة في ظل نظام تمتلك فيه بعض الدول القوية حق «الفيتو» في نقض القرارات التي تصدر بالأغلبية. فهل يمكن تغيير هذه النظم، أم أن الدول القوية ستحول دون هذا التغيير، بحيث تصدق مقولة تراسيماخوس المستهجنة والظالمة التي تقول لنا: العدالة هي تحقيق مصلحة الأقوى»؟ ذلك سؤال مفتوح؛ لأنه يتعلق بمصير العالم، وعلى أي نحو سوف يتشكل في المستقبل، وإن تغيرت موازين القوى فيه. ولكن ما يمنح الأمل في المستقبل أن الشعوب وبعض الساسة في العالم أصبحوا على وعي بهشاشة النظام العالمي وافتقاره إلى الضمير، وهذا ما ظهر مؤخرًا في بعض المواقف من حرب إسرائيل على غزة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی السیاسة أن العدالة فی العالم ینبغی أن لا یمکن مفهوم ا
إقرأ أيضاً:
تحت رعاية رئيس الدولة.. مؤتمر الدفاع الدولي 2025 ينطلق غداً بمشاركة 1800 من قادة القطاع حول العالم
تحت رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، تنطلق غداً في قصر الإمارات فعاليات مؤتمر الدفاع الدولي 2025، المصاحب لمعرضي «آيدكس» و«نافدكس»، وذلك بمشاركة قادة وخبراء وشركات الدفاع والأمن من أنحاء العالم لمناقشة أبرز التحديات والفرص في هذا القطاع، مما يؤكد التزام دولة الإمارات بتعزيز الحوار والتعاون والابتكار في مشهد الدفاع العالمي المتغير.
تنظم مجموعة أدنيك المؤتمر بالتعاون مع وزارة الدفاع ومجلس التوازن «توازن» تحت شعار «إعادة بلورة منظومة الدفاع: الابتكار والتكامل والمرونة»، وتستقطب نسخة هذا العام أكثر من 1800 مشارك خبير ومختص.
يناقش المؤتمر عبر ثلاث جلسات، الاضطرابات العالمية والاستعدادات الدفاعية ومحاولات تخفيف حدة التهديدات التي تواجه سلاسل التوريد الضرورية والمعلومات المضللة وعمليات التأثير وطرق استخدام المعلومات سلاحاً في النزاعات المعاصرة، إضافة إلى جلسة حول عالم الفضاء والتهديدات والفرص الناشئة عن ذلك، وذلك بمشاركة 12 متحدثاً، بمن فيهم قادة، ووزراء ومسؤولون كبار في قطاع الدفاع من مختلف دول العالم.
يتمتع المؤتمر بسجل حافل من المشاركات الدولية الناجحة، وهو ما رسّخ سمعته واحداً من أبرز المنتديات العالمية للحوار في مجال الدفاع والأمن ولعبت النسخ السابقة من المؤتمر دوراً مهماً في تعزيز التعاون الدولي، وعرض أحدث الابتكارات، وصياغة مستقبل استراتيجيات الدفاع.
ويعكس إرث المؤتمر المتمثل في النقاشات المؤثرة والمشاركة رفيعة المستوى التزام الإمارات الثابت بدفع عجلة التقدم، وتأسيس شراكات هادفة في المجتمع الدفاعي العالمي.
ويتيح المؤتمر هذا العام المشاركة الافتراضية عبر المنصات الرقمية العالمية، ما يضمن مشاركة أوسع من جمهور عالمي، ويوفر هذا النموذج الهجين فرصة لقادة الصناعة وصناع السياسات والخبراء الإعلاميين الذين لا يستطيعون الحضور شخصياً ليكونوا جزءاً من النقاشات المهمة من أي مكان في العالم.
ويُتوقع أن يسهم الحدث في تعزيز التعاون العالمي وإجراء نقاشات مؤثرة لمواجهة التحديات المتسارعة في مجالي الدفاع والأمن.
ويشهد «مؤتمر الدفاع الدولي» مشاركة دولية رفيعة المستوى عبر استقطابه كوكبة من الشخصيات العالمية البارزة في مجالات الدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا، من بينهم الدكتور يوسي شيفي، مدير مركز النقل والخدمات اللوجستية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكبار القادة العسكريين من مختلف الدول، وتعقد في ختام المؤتمر جلسة مخصصة لتقديم توصيات استراتيجية ترسم إطار برامج الدفاع المستقبلي.