لجريدة عمان:
2025-01-30@11:48:24 GMT

الروائي الباحث «3»

تاريخ النشر: 2nd, January 2024 GMT

صرتُ أفكّر دوما لمَ أنتصرُ لبعضٍ من رواياتِ الخليج، وأنشدُّ إلى قسمٍ مهم منها، حتّى صرتُ أكاد أشكُّ في نفسي وأتّهمها بالتملّق والتزلّف والتقرّب، ثمّ سرعان ما تنبّهني نفسي الأمّارة بالكبرياء أنّي لم أرض على عدد مهمّ من الرواية الخليجيّة وأنّي كتبتُ فيها ما كتبه مالك في الخمر؟ جواب سؤالي أنّ عددا مهمّا من أصحاب الكتابة الروائيّة المشرقيّة قد دخل في تقديس مرجعيّاته، وأنهى رصيده الحكائيّ (هذا حُكم نسبيّ جدّا)، فدخل في سرْد العاديّ، في حين أنّ التجربة الخليجيّة عموما ما زالت بصدد صناعة مرجعيّاتها، وحكاياتها جمّة، وملقاة على قارعة الطريق، تحتاجُ روائيّا فَطِنا لتحويلها إلى رواية أو إلى قصّة تسرُّ القُرّاء وتُبْهرهم، فإن أخذت عُمان (التي أعرفها جيّدا) نموذجًا، فإنّ ظُفار لها رصيدٌ من الحكايات ومن التقاليد ومن الطقوس ومن العادات، ما به تختلف عن منطقة الشرقيّة، ومنطقة الشرقيّة لها من الأساطير والعادات والتقاليد والحكايات ما به تنفرد عن الباطنة أو الوسطى وهكذا دواليك، المُختلف في ظلّ المؤتلف يقدّ ثراء حكائيّا زاخرا، وهي مناطقُ مليئةٌ بحكايات مختلفة عن عموم حكايات المشرق -نسبيّا- في تاريخها القديم والحديث، في حين أنّ الشرق العربيّ التقليدي يتآكل ويأكلُ من فُتات رُواته الذين فتّحوا سُبُل الرواية، ويتعثّرُ المُحدَثون في السبيل الذي أشاده الأقدمون في الكتابة الروائيّة، وعديد التجارب تُستَعَاد وتُجتَرّ.

في نطاق هذه الفكرة المركزيّة ووصلا لها بموضوع الروائيّ الباحث أردتُ أن أتحدّث عن باحثٍ جامعيّ متألّق في اللّغة العربيّة وآدابها، أراد أن يختم تجربته التدريسيّة بكتابة الرواية وهو الروائيّ شكري المبخوت، وكما كان يردّد أحد أساتذتي مستنقصًا ما يكتبه هذا الروائيّ الباحث، واصفا إيّاه بأنّه «مبخوتٌ» فعلا، وهو حاصِدُ جوائز، أمّا منزلته الروائيّة، فهي منزلةٌ خلافيّة، بعضهم يراه مشروعا روائيّا، والبعض يراه روائيّا في حدّه الأدنى، وأنا أرى أنّه كتب الرواية الوحيدة وهي «الطلياني»، ويعسُر أن يكتب روايةً في حجمها (على أنّها روايةٌ عاديّة أجازتْها الجائزة التي مُنحت لها)، ذلك أنّ الباحث الروائيّ في موضوع مقالي، في الأصل هو مُعلّم صبية، وأراد أن يحكي حكايةً جمّع فيها حوادث جيل باعتماد شكل حكائي لا جِدّة فيه، وإنّما هي عودةٌ إلى النمط المحفوظيّ في الرواية، أو استعادة شكل الحكاية التقليدي، الاجتماعي. روايةُ «الطلياني»، هي حكايةُ شخصيّة استثمر فيها الروائيّ الواقع السياسيّ والاجتماعي في تونس ثمانينيّات القرن الماضي وتسعينياته، واستدعى حكايات من واقع هذه الفترة ووظّف منها وقائع عديدة، فأخرجها في قالب رواية قابلة للقراءة، جمّع فيها الكاتب شتات حكايات، وصُور شخصيّات وصراع أيديولوجيّات وعجنها واصلا إيّاها بوتَدٍ أنشدت إليه هذه الشظايا، وهو شخصيّة الطلياني من منظور سارد عارف عالم، في عودةٍ بيّنة إلى صورة الراوي العارف، الذي يبدو في السطح مصاحبا للشخصيّة الأساس، وهو في الأصل داخلٌ في سرائرها مبينٌ لدواخلها، وهي ظاهرةٌ تشفّ عن استرجاع الطرق الروائيّة القديمة استكانةً إلى معهود السرد، مع أخطاء وقع فيها الكاتب في إعمال شخصيّة رائية راوية، مقرَّبة من الشخصيّة الأساس الفاعلة المرويّة (ليس هذا مجال التوسّع فيها).

لقد كتبت رواية «الطلياني» تعبيرا عن مرحلةٍ من اليسير أن يجد كاتبها وفْرةَ الأحداث وتنوّع الشخصيّات لإثراء روايته، ولكنّه يكون عاجزا عن تخييل أحداث، وصناعة شخصيّات، ويكون عاجزا عن صناعة حكايته بعيدا عن المرجعيّات المكشوفة، ولذلك، فقد كانت الأعمال الروائيّة اللاّحقة واهنة، ضعيفة، سافرة المرجعيّة، ومنها -تمثيلا- رواية «باغندا» التي أُقِيمت على شخصيّة مرجعيّة رياضيّة حقيقيّة، لم يُوَفّق كاتبها في بنائها بناء روائيّا، رغما من عمله على إخفائها، وإدارته السرد على سبب اختفائها. عودا إلى مسألة الجامعيّ وكتابة الرواية، فإنّ افتقار بعض كتَبَة الرواية إلى مَلَكة التخييل يرجع أساسا إلى الوعي بالاقتدار، والإيمان أنّ الجامعيّ قادرٌ على صناعة الرواية بحكم علمه بقوانينها وأدواته، مع العلم أنّ العالم بقانون الظاهرة لا يعني بالضرورة أن يُتقن الإبداع فيها. لقد أدرك العرب منذ القديم، أنّ العالم بالنحو والبلاغة والعروض لا يكتب شعرا بالضرورة، بل لا يكتب شعرا بالأساس، ومن كَتب من اللّغويين في قديم الأدب شعرا فقد انتهى إلى الفشل والخيبة، ولذلك فإنّ فكرةً سائدة وجب أن تُدْحَض، وهي أنّ دكاترة اللّغة العربيّة قادرون على كتابة الأدب، بالعكس، فهم الأعجز عن الإبداع، لسببٍ بسيط يتمثّل في أنّ أغلبهم محكوم بالضوابط والقوانين، وفي ذهنه قياسٌ منطقيّ لما يجوز وما لا يجوز، والأدب في جوهره قائم على ما لا يجوز فمبدعوه «أمراء الكلام»، وليسوا خاضعين بالضرورة لسنن الكتابة. شكري المبخوت باحثٌ له مكانته، وكاتب رواية لا أعتقد أنّه يحتلّ منزلة فارقة في تاريخ الرواية العربيّة، ولا يُحدث رجّة ولا أثرا -رغم جائزة البوكر- فما يكتبه داخلٌ في المألوف ممّا هو سائدٌ ومنتشرٌ، ما يكتبه هو نمطٌ سلفيّ في كتابة الرواية، وكان الأجدى والأجدر أن يكتفي بِعُصارة ذهنه، أي بالرواية الفائزة. الأستاذ الجامعيّ والرواية صلةٌ جديرة بالاهتمام، قد لا تُطرَح في النقد الغربيّ، ولكنّها شاعت في حديث الأدب العربيّ، وصار عددٌ مهم من «الدكاترة» يستهينون بمَركب الكتابة الروائيّة، ولهذا فصلتُ في المقالة السابقة بين نمطين من الجامعيين الذين يكتبون الرواية، نمط هو في الأصل كاتب، قصّاصٌ، حكّاءٌ، ثم يتوجّه إلى البحث العلمي، فهذا مالكٌ لزمام الرواية، له هبةُ الحكي، والنمط الثاني الذي يدخل فيه شكري المبخوت ومَن ماثله، هو أنّه في الأصل باحثٌ جامعيّ ينتهي إلى كتابة الرواية من باب أنّه مالكٌ للّغة، عارفٌ بقوانين الأدب، وأعتقد أنّ هذا النمط يُمكن أن يكتب روايةً فحسب، هي مذكّراته، أو هي حصيلة تجربته، ثمّ يصمت، فلا ينساق في الكتابة، ويذهب في ظنّه أنّه كاتبٌ روائيّ، ويدخل ضمن هذا الإطار عددٌ مهم من الكُتّاب الجامعيين، أغلب رواياتهم باهتة، تفتقر إلى مِلح الرواية، فهم عموما من كُتّاب الرواية الوحيدة، وما عداها هو وهْم الرواية، ولعلّ الروائيّ حسونة المصباحي على حقّ -نسبيّا- عندما صرّح أنّ «الجامعيين أفسدوا المشهد الروائيّ»، فقد جمعوا بين السلطة (نقدا) والحُكم (لجان الجوائز) والكتابة الإبداعيّة (كتابة الرواية).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتابة الروایة الروائی ة ة الروایة فی الأصل روائی ا ع فیها شخصی ة

إقرأ أيضاً:

الروائي السوداني طارق الطيب: «القاهرة للكتاب» الأضخم في الشرق الأوسط.. ويعتبر عيدا ثقافيا نحتفي به كل عام

الدكتور طارق الطيب، ابن النيلين، وُلد في القاهرة لأسرة سودانية مصرية، فجمع في روحه بين دفء الجنوب وعبق الشمال، شاعرٌ وروائي وأستاذ جامعي، عبر بجسور الكلمة إلى القارة العجوز وحط رحاله في فيينا، حيث تتناغم الثقافات في كتاباته بين مصر والسودان والنمسا، ينسج بحرفية قصص الهجرة والانتماء، متنقلًا بين الحنين إلى الجذور والانفتاح على العالم الجديد. في كتاباته، يعكس مزيجا فريدا من البساطة والعمق، مقدما تجربة أدبية تنبض بالإنسانية، وعلى هامش مشاركته في معرض القاهرة الدولي للكتاب، أجرت معه جريدة «الوطن» حوارا يستعرض فيه جوانب من تجربته الأدبية، وحكاياته بين العوالم المختلفة.

ماذا تمثل لك المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب؟

معرض القاهرة الدولي للكتاب فرصة رائعة لالتقاء الكُتّاب والناشرين، سواء لعرض إصدارات جديدة أو إعادة تقديم الكتب القديمة، يتميز المعرض بأجوائه الثقافية الثرية التي تتيح تبادل الأفكار والآراء بين مختلف الفئات، ربما يختلف عن غيره في نقطة معينة، وهي القدرة الشرائية للزوار، إذ قد يجد البعض صعوبة في شراء كل ما يرغبون فيه بسبب الظروف الاقتصادية، رغم أن أسعار الكتب تعد طبيعية إلى حد كبير.

ومع ذلك، تبقى القدرة الشرائية التحدي الأكبر، ما يجعلني أتمنى أن يتم تقديم دعم مادي لدور النشر، بحيث تتمكن من تخفيض أسعار الكتب وإتاحتها بشكل أكبر للجمهور.من الأمور التي أرى أنها تحتاج إلى تطوير، ضرورة وجود برامج واضحة ومتاحة يمكن للزائر الاطلاع عليها بسهولة لمعرفة مواعيد وأماكن الندوات والفعاليات بدقة، فغياب هذه التفاصيل قد يسبب بعض الإرباك للزوار، قد تبدو هذه ملاحظات صغيرة، لكنها في الواقع تؤثر بشكل كبير على تجربة الزائر وتجعل المعرض أكثر تنظيمًا وسلاسة.

ومع ذلك، يظل معرض القاهرة الدولي للكتاب حدثا ثقافيا نفخر به جميعا، فهو واحد من أكبر المعارض على مستوى العالم، ويُعد الأضخم في الشرق الأوسط، إنه ليس مجرد معرض، بل مناسبة ثقافية كبرى نشارك فيها بالكتابة والنشر، ولقاء الأصدقاء والقراء في أجواء حميمية رائعة، المعرض بالنسبة لنا يُمثل عيدا ثقافيا نحتفي به كل عام.

- كيف ترى الأدب السوداني في ظل ترديد البعض بأنه توقف عند الطيب صالح

تحدثتُ في إحدى المناسبات عن موضوع «تصنيم» الطيب صالح، أي جعله أيقونة أدبية مقدسة، الأمر الذي أثار استياء البعض، لكنني أوضحت أن الطيب صالح بلا شك يُعد أحد عمالقة الرواية العربية وكاتبًا عظيمًا ورائعًا، إلا أنه من الضروري أن نتجاوز إرثه، ونبحث عما بعده وعمن بعده، من المهم أن نرى ونقيّم من جاء بعد الطيب صالح في الساحة الأدبية السودانية.

المشكلة التي تواجه الأدب السوداني، هي أن أي تناول له يبدأ وينتهي عند الطيب صالح، وكأن لا أحد بعده، على عكس الأدب المصري، حيث نجد العديد من الروافد الأدبية، فعلى سبيل المثال، بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، كان هناك ميل في البداية لربط كثير من الأعمال الأدبية بكتابات محفوظ، لكن هناك تنوع في الارتباط عند التيارات الجديدة في القصة نمر من يوسف إدريس إلى محمد المخزنجي، ونمر من محفوظ إلى جمال الغيطاني، ومن نوال السعداوي إلى سلوى بكر، وهكذا، وهي محطات متتالية لكتاب استطاعوا أن يُشكلوا محطات أدبية بارزة تضيف إلى المشهد الأدبي المصري، بينما في السودان نجد أن المحطة الكبرى الوحيدة تظل الطيب صالح ويدور النقاد دوما حول مقامه فقط.

- برأيك.. ما أبرز التحديات التي تواجه الأدب السوداني؟

من التحديات التي تواجه الأدب السوداني عدم وجود مركزية واضحة لدعمه، فالكتاب السودانيون منتشرون في مختلف أنحاء العالم، أنا لا أفضل استخدام مصطلح «المنفى»، لكن الحقيقة أن الكثير من الأدباء السودانيين يعيشون خارج السودان لأسباب عديدة منها قلة الدعم الأدبي والمعنوي داخل البلاد، هذا التوزع الجغرافي للأدباء يجعل من الصعب جمع هذه المواهب في مشهد أدبي موحد يتسم بالتماسك والوضوح.

أتمنى أن تعود الأحوال إلى السودان كما كانت في الماضي، وأن تتمكن المؤسسات الثقافية من دعمهم، كما أتمنى أن تهتم المجلات والدوريات العربية بإدراج الكتاب السودانيين ضمن المحتوى الأدبي دون تمييز، فمن المؤسف أن نجد اسم الكاتب السوداني غالبا ما يُدرج في نهاية الفهرس، وكأن هناك ترتيبًا غير معلن يجعلهم في المؤخرة.

كما أن الأمر لا يقتصر فقط على السودان، ففي مصر مثلًا هناك مفهوم «أدب الأقاليم»، حيث يتم الاعتراف بكتاب المحافظات المختلفة مثل الأقصر وأسوان وغيرها، ويُمنحون مكانتهم المستحقة إلى جانب كتاب العاصمة، وهذا أمر يجب أن يمتد إلى رؤية الأدب السوداني، ليُنظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من المشهد الأدبي العربي ككل.

السودان قدم العديد من الكتاب والكاتبات الرائعين، الذين نجح بعضهم في تحقيق الانتشار العالمي بعد خروجهم من البلاد، بينما لا يزال من بقي داخل السودان يواجه صعوبات كبيرة في النشر وإيصال صوته إلى العالم، ومع ذلك، عندما أقرأ الأدب السوداني الحديد، أشعر بإعجاب وانبهار كبيرين لما يحتويه من إبداع حقيقي يستحق الاهتمام والتقدير.

- كيف استخدمت «ثنائية الحياة والموت» كأداة لاستكشاف المعاني الفلسفية في رواية «رأيت ما لا يجوز لك»؟

دائما نكتب عن الحياة، نكتب عن وقائعها، ونكتب عن الموت الذي لا نعرفه، وفي رواية «رأيت ما لا يجوز لك»، نجد حديثا طويلًا عن شخص أُصيب بمرض ألزهايمر، ذلك المرض الذي يُعد حالةً بين الموت والحياة، تحكي الرواية قصة بلال، وكيف أنه، في لحظةٍ ما، نزل تحت الأرض في ظروفٍ غامضة ليكون مع الموتى، ولكن ليس ليكون ميتا مثلهم، لقد وجدهم أحياء، يجلسون في قاعة كبيرة ويتحدثون.

وكان الشرط الوحيد في هذا المكان أن لا أحد يكذب أبدا؛ بل يكتفي كل شخص بأن يحكي حياته بصدقٍ تام، ويجيب على الأسئلة بكل طواعية، والكل يستجيب لهذه الحالة العامة في البوح الصادق وبلا إجبار، مسألة الثنائية بين الحياة والموت تأخذ بُعدًا مختلفًا في هذه الرواية، حيث يصبح الموت هنا حالة غامضة، وبلال نفسه لا يعرف هل هو حيّ أم ميت داخل هذا المكان.

- إلى أي مدى وظفت السرد غير التقليدي لإشراك القارئ في رحلة بلال النفسية والفكرية؟

في هذه الرواية، يلعب السرد والحوار دورا محوريا، حيث يظهر أحد الشخصيات وهو الذي سحب بلال إلى هذا البرزخ ليكون من بين الموتى، وهو شخصية تُدعى «سريد»، دعاه إلى هذا المكان الغامض، مكان يقع تحت الأرض، أو في السماء، أو ربما في فضاء ما.. لا نعرف تحديدا، ودارت بين بلال وسريد حوارات مكثفة، ما خلق حالة من التفاعل الفريد بين شخص حيّ وآخر يُعتبر ميتًا، أو ربما بين شخصين أحياء، أو حتى بين شخصين ميتين.

وهنا تكمن المفارقة في الأسئلة العديدة التي تُطرح ضمن هذه الحوارات المتعددة بين بلال وسريد، ما يعكس عمق الرحلة الفكرية والنفسية التي يخوضها بلال، ويُشرك القارئ في رحلة من التأمل والتساؤل حول الحياة والموت.

- ما التقنيات السردية التي استخدمتها لتعزيز عنصريْ الغموض والتشويق في الرواية؟

لا أعتمد على تقنية سردية محددة، لكن في بعض أعمالي تظهر ملامح سردية معينة، على سبيل المثال، في رواية بيت النخيل، لجأت إلى توظيف الأحلام كوسيلة لسرد أمور لا يمكن التعبير عنها بشكل مباشر، استخدمت الحلم لنقل تفاصيل معقدة لا يمكن كتابتها في صفحات عديدة، بحيث يرتبط الحلم ارتباطا وثيقا بالأحداث السابقة واللاحقة، ما يجعله جزءا أصيلا من السياق السردي وليس عنصرا منفصلا عنه.أما في رواية لهو الإله الصغير، فقد اعتمدت على تعدد الأصوات، حيث استخدمت ثلاثة أصوات مختلفة تُمثَّل بثلاثة حروف متمايزة هي: شمس والعارف والكاشف، ليتمكن القارئ من التمييز بين المتحدثين أثناء القراءة، كان هدفي هو إيصال صوت معين للقارئ بشكل واضح ومميز، ما يجعله يدرك التنوع السردي ويمنح النص تمازجًا وتناغمًا خاصًا.

الكتابة عن الموت مثل الكتابة عن الحياة، وربما تتجاوزها عمقًا، فالكتابة عن الموت تفتح آفاقًا واسعة للإبداع والتخيل، حيث يمكن ابتكار أحداث خارقة مثل قدرة بشري على الطيران بنفسه أو عودة ميت إلى الحياة، وهي أمور قد يصعب تقبّلها في الواقع، لكنها تُصبح ممكنة داخل فضاء الرواية.

في (رأيت ما لا يجوز لك)، تجد عناصر من هذا النوع، حيث تتشابك الغرائبية مع الواقع، مما يخلق جوًا من التشويق والغموض، هناك سرٌّ ما في الرواية لن أكشف عنه، ليظل القارئ متشوقًا لاكتشافه بنفسه أثناء القراءة.

- أنت كاتب «سوداني.. مصري.. نمساوي» الجنسية.. ما تأثير نشأتك في القاهرة على كتاباتك مقارنة بتجربتك في المهجر؟

نشأتي في القاهرة تركت بصمة عميقة على كتاباتي، في طفولتي، كنت أقضي وقتي بين بيت جدتي في الحسينية، حيث الحياة أكثر تقليدية، وبين بيت أسرتي في عين شمس، ومدرستي كانت تقع على أطراف بدايات الدلتا الخضراء، ما سمح لي بالتفاعل مع الطبيعة بشكل مباشر، هذه التداخلات البيئية أثرت بشكل كبير على وعيي وتفكيري، خاصة خلال فترة الستينيات التي كانت غنية بالتحولات الاجتماعية في مصر.

مع انتقالي إلى أوروبا، واجهت طفرة كبيرة في الثقافة والحياة اليومية، كان الأمر أشبه بالانتقال عبر قرون، وليس مجرد مكان أو زمن آخر، وجرى اختياري سفيرا لتمثيل النمسا ثقافيا في كثير من المحافل الدولية، هناك، وجدت عالما مختلفا تماما، لكنه كان ثابتا نسبيا مقارنة بالتحولات التي شهدتها مصر عبر السنين، العودة إلى القاهرة، لاحقا، كانت بمنزلة رحلة إلى الجذور، لكني وجدت أن ملامح الحياة قد تغيّرت، سواء على صعيد الطقوس أو العادات أو بنية البيئة الاجتماعية.

- ماذا تمثل لك الهوية؟

فكرة الهوية لديّ هي أنها كائن حي ديناميكي، وليست حالة جامدة أو مغلقة، البعض يعتقد أن الهوية يجب أن تكون ثابتة ومحصّنة، لكن هذا مفهوم خاطئ، الهوية، بالنسبة لي، هي كائن حي مفتوح وقابل للتغيير. كلما تعلمت شيئا جديدا أو اكتسبت خبرة ما، فإن هويتك تتغير، على سبيل المثال، تعلم لغة جديدة، مثل الألمانية في حالتي، أضاف لي الكثير ولم يُفقدني أصل لغتي العربية، على العكس، اللغة الجديدة وقفت بجوار لغتي الأم وأثرتها، ولم تُزحها أو تُقلل من شأنها.

من يرى أن تعلم لغة جديدة أو تبني ثقافة مختلفة يعني تغرّبًا أو فقدانًا للهوية يخطئ تمامًا، الهوية الحقيقية تنمو وتتسع لتستوعب كل ما هو جديد، وتظل دائمًا متحركة وحية، الهوية الجامدة، في رأيي، هي هوية ميتة ومآلها الاندثار، لذلك، أرى أن الهجرة والانتقال بين الثقافات لم تُضع هويتي، بل أضافت إليها وأثرتها.

مقالات مشابهة

  • “اللجنة” لصنع الله إبراهيم: كيف تسائل الرواية أنظمة القهر؟
  • تشييع جنازة الروائي محمد جبريل ظهر اليوم
  • الماجستير بإمتياز للباحث عبدالمجيد العلوي في الإدارة والتخطيط التربوي
  • وفاة الروائي محمد جبريل عن عمر يناهز 87 عامًا
  • باحث يعلق على الاتصال الهاتفى بين وزير الخارجية المصرى ونظيره الأمريكي
  • الروائي اليمني الغربي عمران: معرض الكتاب أعظم حدث ثقافي لتنوع أنشطته وكثرة دور النشر (حوار)
  • الهيمنة المكانيّة من خلال تحوّلات شخصيّة البطل قراءة في رواية «طبول الوادي» لمحمود الرحبي
  • قراءة في كتاب: “أسواق.. الأسواق الأسبوعية في منطقة عسير”
  • الروائي السوداني طارق الطيب: «القاهرة للكتاب» الأضخم في الشرق الأوسط.. ويعتبر عيدا ثقافيا نحتفي به كل عام
  • الماجستير بامتياز للباحث في العلوم السياسية عبدالكريم إسماعيل