تعرف على قيمة الرحمة في الحضارة الإسلامية
تاريخ النشر: 2nd, January 2024 GMT
الرحمة من صفات المتقين والإسلام دين الرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة، والرحمة في الإسلام سمة حضارية عامة تشمل الأكوان كلها من إنسان وحيوان وطير وشجر وحجر ومؤمن وغير مؤمن، وقد أجمل الله سبحانه وتعالى الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب الحصر والقصر بقوله:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
وآيات الرحمة في القرآن كثيرة، وقد تكررت مفردة الرحمة في القرآن الكريم خمسًا وسبعين مرة منسوبة لله تعالى تارة، وللرسول صلى الله عليه وسلم أخرى، وللوحي تارة، ولعامة المؤمنين مرات عديدة، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على ضرورة التراحم بين العباد جميعًا، روى أبو داود والترمذي بإسناد حسن من حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو قال: قال رسُولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: «الرَّاحِمُون يرحمُهُمُ الرَّحمنُ، ارحمُوا من فِي الأرضِ يرحمكُم من فِي السَّماءِ، الرَّحِمُ شُجنةٌ مِن الرَّحمنِ، فمن وصلها وصلهُ الله ومن قطعها قطعهُ الله».
وروى البخاري في "صحيحه" من حديث أبِي هُريرة رضِي الله عنهُ، قال: سمِعتُ رسُول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقُولُ: «إِنَّ اللَّه خلق الرَّحمة يوم خلقها مِائة رحمةٍ، فأمسك عِندهُ تِسعًا وتِسعِين رحمةً، وأرسل فِي خلقِهِ كُلِّهِم رحمةً واحِدةً، فلو يعلمُ الكافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِند الله مِن الرَّحمةِ لم ييأس مِن الجنَّةِ، ولو يعلمُ المُؤمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِند الله من العذابِ لم يأمن مِن النَّارِ».
وهذه الرحمة العظيمة هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يصبر كثيرًا على أذى المشركين له وأصحابه الكرام بشتى أنواع الإيذاء البدني واللفظي، على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على هدايتهم وعلى نجاتهم، وقد جاءه جبريل عليه السلام قائلًا له: إن اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
إن هذه السمة الحضارية هي التي جعلت الإسلام ينتشر انتشارًا واسعًا في ربوع المعمورة، فالسيفُ لا يفتح القلوب للمحبة، ولا يخاطب العقول بالحجة والبرهان، والإكراه لا يثبت عقيدة صحيحة، والسيف لا يجعل غير المسلمين آمنين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم في ظل حضارة الإسلام التي قامت على الرحمة، وإن أكبر دليل يشهد على انتشار الإسلام بالرحمة وبالدعوة بالموعظة الحسنة، أنَّ أغلب حملة الشريعة من محدثين وفقهاء ولغويين ومفسرين هم من أبناء وأحفاد الأجداد الأوائل الذين دخلوا الإسلام بدعوة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن جلهم من غير العرب، وإمام النحو سيبويه هو من أصول فارسية، وتلميذه الأخفش بلخي وهذا منتشر جدًّا في الحضارة الإسلامية بحيث يصعب حصره واستقصاؤه؛ مما يدل أكبر دلالة على أن نور الإيمان والرحمة الذي خالط القلوب هو الذي حدا بهؤلاء إلى الامتزاج بالإسلام قرآنًا وسنة ولغة وعلومًا وسلوكًا. وكما شملت الرحمة في الإسلام الإنسانية كلها دون تفريق على أي أساس ديني أو عرقي، شملت كذلك الحيوانات التي لا تستطيع التعبير عن مكنون نفسها؛ فالمرأة التي حبست الهرة دخلت فيها النار بقسوتها عليها، والبغيُّ التي أنقذت كلبًا من العطش أدخلها الله تعالى الجنة برحمتها لذلك الكلب، حتى روي عن بعض حكام المسلمين أنه كان يأمر عماله بنثر القمح على رءوس الجبال حتى لا يقال جاعت الطير في بلاد المسلمين! لقد تغلغلت الرحمة في قلوب المسلمين حتى صارت منهج حياة، وأسلوب دعوة، ونمط تعايش، ولهجة خطاب، وظهر ذلك في حربهم قبل سلمهم، وفي شدتهم قبل رخائهم، ومع مخالفهم قبل موافقهم. ولا شك أن هذه السمة العظيمة لرسالة وحضارة الإسلام، لتؤكد بالدليل الدامغ أن ما تقوم به بعض الجماعات المتطرفة من إرهاب وسفك للدماء بغير وجه حق هو شيء لا علاقة له بالإسلام من قريب أو من بعيد، ويؤكد أيضًا أن الإسلام لن تعود رايته وحضارته تظلل البشرية إلا تحت ظلال الرحمة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الرحمة صفات المتقين الرحمة في القرآن صلى الله علیه وسلم الرحمة فی ى الله ع
إقرأ أيضاً:
«البحوث الإسلامية» يطلق مبادرة «معًا لمواجهة الإلحاد» لتحصين المجتمع بالوعي والفكر المستنير
أطلق مجمع البحوث الإسلامية، مساء أمس الخميس، عبر منصَّة «تليجرام»، أولى فعاليات مبادرته «معًا لمواجهة الإلحاد»، بحضور نخبة من العلماء، ومشاركة واسعة من الوعَّاظ والواعظات؛ كخطوة عملية تهدف إلى تحصين الشباب، وتعزيز الإيمان بالفكر والحُجَّة.
فِكر يواجه الفكر
افتتح اللقاء فضيلة أ.د. محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، بكلمة أكَّد فيها أنَّ ظاهرة الإلحاد، رغم أنها طارئة على تاريخ البشرية فإنها أصبحت من أبرز التحديات الفكرية التي تواجه المجتمع اليوم، لا سيَّما في ظل انتشارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرًا إلى أنَّ الحركاتِ الإلحاديةَ تعتمد على التشكيك في الثوابت واستغلال الجوانب النفسية والاجتماعية للشباب؛ ممَّا يستدعي مواجهة واعية ومتعمِّقة.
وأوضح د. الجندي، أنَّ المبادرة تسعى لإعادة ضبط البوصلة الفكرية للشباب، بحيث يتمكَّنون من التمييز بين الحقائق العلمية الموثوقة والأفكار المشوَّهة التي تُروَّج تحت ستار الحرية الفكرية، داعيًا إلى تبنِّي خطاب علمي عقلاني يعتمد على أدلة واضحة ومنطق متين.
وشدَّد الأمين العام على أهميَّة دَور العلماء والوعَّاظ في توصيل رسائل الإسلام التي تحترم العقل والمنطق، وتجيب عن تساؤلات العصر بأسلوب يقبله الشباب، لافتًا إلى أنَّ دَور المبادرة لا يتوقَّف عند النقاش العلمي فقط؛ بل يمتدُّ إلى إعادة صياغة العَلاقة بين الدين والعلم بشكل يُظهر التكامل بينهما، بعيدًا عن التناقض المزعوم الذي يروِّج له الملحدون.
واختتم الدكتور محمد الجندي كلمته بالإشارة إلى أنَّ الإسلام يدعو إلى البحث والتأمُّل، ويُكرم العقل كأداة للمعرفة والتدبُّر، مبيِّنًا أن هذا النَّهج يجعل الإسلام قادرًا على مواجهة الشبهات كافَّة التي تتعرَّض لها العقيدة الإسلامية.
رؤية عميقة وأهداف طموحة
من جانبها، أوضحت أ.د. إلهام محمد شاهين، الأمين المساعد لشئون الوعظات بالمجمع، أنَّ المبادرة تهدف إلى معالجة خطر الأفكار المضلِّلة التي تُبثُّ بشكل مكثَّف عبر منصَّات التواصل الاجتماعي، وما تسبِّبه من زعزعة لإيمان الشباب، وأنَّ المبادرة تسعى إلى غرس قِيَم الإيمان واليقين في نفوس الشباب، من خلال تسليحهم بالمعرفة والوعي، وإيجاد بيئة حوارية تُتيح للمشاركين تبادل الأفكار والخبرات.
وأشارت د. شاهين إلى أنَّ أحد الأهداف المهمَّة للمبادرة هو اكتشاف المواهب والعقول المفكرة بين الوعَّاظ والواعظات، والعمل على إعداد كوادر متميِّزة تكون قادرة على قيادة النقاشات الفكرية والدفاع عن الإسلام بأسلوب علمي ومقنع، ممَّا يسهم في بناء جيل من الشباب الواعي والقادر على مواجهة الشبهات.
أمين الفتوى يوضح حكم بيع الذهب بالذهبما حكم الصلاة في الأوقات المكروهة؟.. أمين الفتوى يجيب
شبهات تحت المجهر
وفي مداخلة علمية شاملة، قدَّم أ.د. جميل تعيلب، أستاذ العقيدة والفلسفة، ردًّا قاطعًا على شبهة (مَن خلق الله؟)، موضِّحًا أنَّ هذا السؤال ينطوي على تناقض منطقي؛ إذْ إنَّ الخالق -وَفقًا للتعريف الإيماني- هو الله المتَّصف بالأزليَّة، فلا بداية له، ولا يخضع لقيود الزمان والمكان، وأنَّ هذا السؤال يُظهر فهمًا خاطئًا لطبيعة الألوهية؛ إذْ يُسقط خصائص المخلوق على الخالق، وهو ما يُعدُّ مغالطةً واضحةً.
وانتقل د. تعيلب إلى تفنيد نظرية (التطوُّر)، مبيِّنًا أنَّ العديد من أُسُسها يتناقض مع الحقائق العلمية والمنطقية. وأنَّ السجل الأحفوري الذي يُفترض أنه داعمٌ للنظرية، يكشف عن فجوات كبيرة بين الأنواع، مع غياب ما يُسمَّى بـ(الأشكال الانتقالية)؛ ممَّا يُضعف مزاعم النظرية حول تحوُّل الكائنات تدريجيًّا عبر ملايين السنين.
وأشار أستاذ العقيدة والفلسفة إلى التعقيد المُذهِل في الكائنات الحيَّة، مؤكِّدًا أنَّ الأنظمة الدقيقة داخل الخلية الواحدة؛ مثل: الحمض النووي (DNA)، لا يمكن تفسيرها بالصدفة أو الطفرات العشوائية، لافتًا إلى أنَّ الطفرات -في معظمها- تسبِّب أضرارًا للكائنات الحيَّة بدلًا من تحسينها؛ ممَّا يجعلها غير قادرة على تفسير التنوُّع الهائل في الحياة، وأنَّ هذا التعقيد يشير بوضوح إلى وجود خالق حكيم عليم.
وشدَّد الدكتور جميل تعيلب في نهاية حديثه على أهميَّة تسليح الشباب بالوعي العلمي والديني لمواجهة مثل هذه الأفكار، مؤكِّدًا أنَّ الإسلام يمتلك إجابات منطقية لكل الشبهات، وأنَّ الاستناد إلى العلم والفكر هو السبيل الأقوى لتحصين المجتمع من هذا الفكر المنحرف.
نقاش وتفاعل حي
وتميَّز اللقاء بحوار مفتوح مع الوعَّاظ والواعظات أثار نقاشاتٍ ثريَّةً بين المشاركين؛ ممَّا يعكس الأثر الإيجابي للمبادرة في تسليط الضوء على القضايا الإلحادية وتقديم ردود علمية تعزِّز وعي المجتمع، ومِنَ المقرَّر أن تستمر المبادرة ببرامجَ أسبوعيةٍ تُتيح الفرصة للتفاعل البنَّاء وتطوير مهارات الوعَّاظ والواعظات في مواجهة هذه التحديات الفكرية الراهنة.