بعد 88 يوما من المعارك الضارية، لم يكن الطريق يوما إلى قلب قطاع غزة نزهة سهلة كما ظن الاحتلال الإسرائيلي الذي يمضي بتحديات جمّة، بينما تصنع المقاومة واقعا عسكريا جديدا في خضم إحباط بلغ ذروته في الداخل الإسرائيلي مع بوادر فشل العملية البرية في تحقيق أيٍّ من أهدافها. وفي ذروة الأحداث، دخلت جماعة أنصار الله الحوثي مُبكرا إلى قلب المعركة من مكانها البعيد المؤثر عند مضيق باب المندب، لتنجح في إسقاط المسيرة الأميركية الأحدث من طراز "إم كيو 9″، ثم واصلت الجماعة استعراض قوتها واشتبكت مع المُدمرتين "يو إس إس كارني" و"يو إس إس مَيسن" التابعتين للبحرية الأميركية، قبل أن تطلق توعدها الأهم باستهداف كل سفينة إسرائيلية أو متجهة إلى إسرائيل حتى وقف الحرب وفك الحصار عن غزة (1).

وأخيرا، وصل الاشتباك إلى ذروته في الساعات الأخيرة، حين قصفت البحرية الأميركية زوارق تابعة للحوثيين متسببة في مقتل 10 أشخاص.

على مدار الشهرين الماضيين، بدت واشنطن في قمة الغضب والارتباك معا، لأن الحوثيين يمتلكون بالفعل ترسانة صواريخ بالستية جيدة وطائرات مُسيَّرة يتجاوز مداها ألفيْ كيلومتر، وهي المسافة الفاصلة بين تل أبيب وصنعاء، ورغم أنه لا يمكن لهم نظريا تشكيل تهديد عسكري مباشر للداخل الإسرائيلي، فإنهم على عكس المقاومة يستطيعون فرض حظر بحري انتقائي ضد السفن الإسرائيلية المارة عبر مضيق باب المندب، وتهديد السفن الحربية الأميركية التي تظهر لحمايتها. وقد دفع هذا بكثير من السفن المرتبطة بإسرائيل لتجنُّب المرور في البحر الأحمر والدوران حول أفريقيا، في ظل تردد الموقف الأميركي والتعقيدات السياسية التي تحول دون تحمُّس الدول المُطلة على البحر الأحمر للانخراط في مواجهة ضد جماعة الحوثي في الوقت الراهن.

يُعد التعامل مع "التهديد الحوثي" أحد الملفات الشائكة التي تهدد بتفجر العلاقة بين أميركا وإسرائيل، فرغم الدعم العسكري المفتوح الذي تقدمه واشنطن للمجهود الحربي للاحتلال، ثمة خلافات جوهرية بين الطرفين، أهمها أن واشنطن لا تبدو مرتاحة لفكرة حرب بلا نهاية في غزة، فضلا عن تشككها في إمكانية إخضاع القطاع للسيطرة الإسرائيلية. تبدو الخلافات أصعب حول ما يفعله الحوثيون في البحر الأحمر، إذ ترفض واشنطن توجيه ضربة عسكرية مباشرة للحوثيين، ما دفع نتنياهو لإبلاغ الإدارة الأميركية عزمه التحرك عسكريا ضدهم إذا لم تتخذ واشنطن أي إجراءات (2). في الأخير، قررت واشنطن التدخل على استحياء من أجل حماية السفن التي قد يستهدفها الحوثيون، دون أن تتخذ قرارا بالتصعيد المباشر ضدهم. وينبع هذا القرار المتحفِّظ حيال التهديدات الأمنية التي تواجه الملاحة في البحر الأحمر من حسابات معقدة، تتعلق في جوهرها بالأوضاع في اليمن والحرب الدائرة فيها منذ عام 2014.

اليمن.. تعقيدات السياسة

يرتبط الموقف الأميركي بعدم الاشتباك مع الحوثيين بتعقيدات أكبر متعلقة بحرب اليمن المُمتدة منذ تسع سنوات، حيث ترفض الولايات المتحدة وضع الجماعة على قوائم الإرهاب حتى اللحظة (باستثناء فترة قصيرة أواخر عهد إدارة ترامب) لترتيبات تعلقت بإقناع الأطراف المشاركة في الحرب باستحالة حسم الصراع عسكريا، وضرورة الجلوس على طاولة المفاوضات. ومع ظهور بوادر على رغبة الأطراف المختلفة في تليين مواقفها والتفاوض على حل سياسي، ترى الولايات المتحدة أنه لا يمكن المغامرة بالعودة إلى المربع صفر، وخاصة أن الحوثيين أثبتوا أنهم مكون لا يمكن تجاوزه في أي حل.

بالنسبة للسعودية التي تدخلت في اليمن منذ مارس/آذار عام 2015، بهدف ما وصفته بإعادة الشرعية اليمنية منذ سيطرة الحوثي على العاصمة صنعاء، فهي ترغب على ما يبدو في تقليل انخراطها المباشر خاصة على الصعيد العسكري، علاوة على أن جماعة الحوثي شملتها مؤخرا مسارات سعودي عملت على خفض التصعيد وإعادة العلاقات الدبلوماسية. وبحسب ما نشرته وكالة "رويترز"، ضغطت السعودية على الولايات المتحدة، وطلبت منها بوضوح عدم مهاجمة الحوثيين، والالتزام معهم بضبط النفس، لأن ذلك يضُر بعملية السلام التي تقودها في اليمن، كما أن الاندفاع نحو حرب إقليمية واسعة في الشرق الأوسط يهدد الممرات البحرية التي يمُر عبرها النفط السعودي، وهي أكبر مُصدر للنفط عالميا (3).

في غضون ذلك، دلَّلت شواهد عدة على التأثير الذي أحدثه "طوفان الأقصى" على القرار السياسي العربي، بما في ذلك داخل اليمن نفسه. ومن ضمن التحولات الجديدة امتناع الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا عن المشاركة في التحالف البحري الذي دعت إليه الولايات المتحدة لحماية خطوط الملاحة التي تتعرض لتهديدات الحوثيين، ما يعني نظريا أن الجيش اليمني سوف يمتنع ضمنيا عن قتال الحوثيين في الداخل، وهو نفسه النداء الذي وجهته الجماعة لخصومها بـ"عدم التورط في أي أعمال عسكرية لصالح الكيان الصهيوني بالتزامن مع جرائمه في غزة، لأن من شأن ذلك أن يُشعل اليمن ضد الجميع" (4) (5).

وفي الوقت الذي يقول فيه الحوثيون الذين يسيطرون على ثلاثة موانئ رئيسية إن عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر لها أهداف مُحددة ومعروفة للجميع ولا تستهدف إلا السفن الإسرائيلية، دعت الولايات المتحدة لتوسيع قوة المهام المشتركة 153، وهي وحدة عسكرية تضم 39 دولة تركز على تأمين ومكافحة الإرهاب في البحر الأحمر وخليج عدن. وقد تولَّت مصر قيادتها منذ ديسمبر/كانون الأول 2022، قبل تسليمها إلى الأسطول الخامس الأميركي الذي يتولى قيادتها حاليا منذ يونيو/حزيران الماضي. وبينما تتصدر مصر وإلى جوارها السعودية والإمارات والأردن والولايات المتحدة مسؤولية حماية التجارة العالمية، وسلامة عبور ناقلات النفط من قناة السويس، لا يبدو أن أحدا من هؤلاء يرغب في خوض مواجهة مباشرة مع الحوثيين في هذا التوقيت، خاصة أن عملية كتلك سوف تظهر بوصفها خدمة للمصالح الإسرائيلية أكثر من كونها طريقة لتأمين الملاحة في البحر الأحمر (6).

عاجل | واشنطن بوست عن مسؤول أمريكي: خطة إدارة بايدن هي توسيع قوة المهام المشتركة 153 لحماية السفن بعد هجمات #الحوثيين pic.twitter.com/vwSEu0FpUG

— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) December 10, 2023

وما يزيد من تعقيد الموقف أن إيران هدَّدت رسميا على لسان وزير دفاعها من أن ذلك التحالف سيواجه مشكلات استثنائية، ووجَّهت تحذيرا ضمنيا للجميع بأن المنطقة لم تعُد قادرة على تحمل المزيد من صراعات القوى نتيجة ما أسماه بـ "الحماقات الأميركية"، على حد تعبيره. وفي ضوء ذلك، لا أحد يميل لاتخاذ خطوات أحادية متسرعة، بما في ذلك الولايات المتحدة، بسبب الرفض العربي من جهة وحتى إحجام العديد من حلفاء الولايات المتحدة الغربيين عن المشاركة وفي مقدمتهم إسبانيا، ومنعا لهدم سنوات من السلام مع الحوثيين من جهة أخرى، إلى جانب الرغبة في عدم توسيع الحرب إقليميا، وهو نهج حرصت عليه واشنطن جزئيا بعد أن حثت إسرائيل على عدم الرد عسكريا على الحوثيين، لأن ذلك يمكن أن يشعل صراعا أوسع في منطقة على حافة الهاوية بالفعل، بحسب ما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية (7).

تعقيدات نقاط القوة والضعف

بيد أنه لا التحذيرات ولا التحركات الأميركية المحدودة أفلحت في دفع الحوثيين لإيقاف هجماتهم التي تسببت في توقف شبه كامل لوصول السفن إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وإجبار السفن المتجهة إلى إسرائيل على استخدام الطريق الأطول للوصول إلى أوروبا حول أفريقيا حتى لا تُستَهدف، ما يجعل الرحلة أطول بثلاثة أسابيع وأكثر تكلفة. ورغم ابتعاد ميناء إيلات عن قاعدة إطلاق الصواريخ الحوثية في صنعاء بنحو 2000 كيلومتر تقريبا، فإن الصواريخ الحوثية استطاعت الوصول إلى الأراضي الإسرائيلية بغض النظر عن محدودية ما حققته من أضرار. وسبق ونقل موقع "بوليتيكو" الأميركي عن مسؤولين في البنتاغون أن تكلفة إسقاط مُسيَّرات وصواريخ الحوثيين تُشكِّل مصدر قلق متزايد، حيث تكلف الصواريخ مليوني دولار لاعتراض مُسيَّرة تكلفتها ألفا دولار، وهو ما يرفع كلفة الصراع، ويدفع واشنطن للنظر في خيارات أقل تكلفة للدفاع الجوي، ومنها المفاوضات.

ما يزيد الأمور تعقيدا لدى الولايات المتحدة أنها ترغب في تحقيق أهداف متعارضة في الوقت نفسه. فمن ناحية، تعتبر نفسها مُلزمة بحماية المصالح الإسرائيلية والبحر الأحمر باعتباره منطقة ذات مصالح إستراتيجية، ومن ناحية أخرى لا ترغب في زيادة التصعيد مع إيران وحلفائها في المنطقة كي لا تزيد الأمور تعقيدا على المحور الشمالي ممثلا في حزب الله اللبناني، الذي بدأ بالفعل اشتباكات مع إسرائيل ما انفكت تزداد عنفا. وفي الوقت نفسه، اختبرت إيران شرعية تصعيدها عبر المؤتمر الدولي الذي دعت إليه من أجل غزة، وحضره ممثلون عن أكثر من 50 دولة، وانتقد جميعهم الولايات المتحدة، ما يشير إلى أن واشنطن قد تتجه لمراجعة خيارات الاحتواء أو التصعيد (8) (9).

لقد بادرت طهران باتخاذ خطوات سريعة، منها إعلان الحرس الثوري الانتهاء من إعداد قوات تعبئة بحرية خاصة للعمل في مياه الخليج يبلغ تعدادها نحو 55 ألف عسكري، وتضم 33 ألف قطعة بحرية للعمل في مياه الخليج العربي وصولا إلى سواحل تنزانيا في شرق أفريقيا، وهو ما يتيح لتلك القوات الانخراط في معارك بقوارب سريعة، وحراسة منصات النفط والغاز البحرية الإيرانية، إلى جانب تحقيق هدفها بإغلاق البحر الأحمر إذا لزم الأمر، والاشتباك مع القوة الدولية المحدودة التي شكلتها الولايات المتحدة. ورغم تفوق الطرف الغربي في تلك المعادلة عسكريا، فإن الطرف الآخر قادر على تحقيق انتصارات تكتيكية وفق نظرية الحرب غير المتكافئة، ما يعني أن التصعيد يُنذر باستنزاف طويل للقوة الغربية، لا مجرد عملية سريعة لتأمين الملاحة دون كلفة كبيرة كما يتصوَّر البعض.

جُرِّبت الحرب البحرية غير المتكافئة في اليمن من قبل منذ عام 2015، حين اتخذت جماعة الحوثي جزيرة ميون التي تتحكم بالمدخل الجنوبي لمضيق باب المندب موقعا عسكريا لها. ورغم تمكن التحالف العربي من السيطرة على المضيق، فإن ذلك لم يمنع الحوثيين من إثبات حضورهم عبر مهاجمة سفن دول التحالف، وإطلاق الصواريخ حتى صوب البحرية الأميركية نفسها. كما زرعوا ألغاما بحرية عشوائيا في المياه الإقليمية، وأحدثوا أضرارا بالغة بما يمتلكونه من ترسانة بحرية تشمل صواريخ "كروز" مضادة للسفن يصل مداها إلى 300 كيلومتر، ومسيرات هجومية وانتحارية، ما يعني أن أي سفينة تقترب من مضيق باب المندب يمكن أن تتعرض للتهديد بصاروخ يُطلَق من أقصى شمال البلاد، وبواسطة أسلحة يُتحكَّم بها من صنعاء.

 

إلى جانب كل تلك الأدوات، يُعتقد أن إيران زودت الحوثيين، بحسب مزاعم غربية، بسفينة مراقبة في البحر الأحمر مهمتها كشف مواقع السفن التجارية التي أغلقت أجهزة الراديو الخاصة بها لمنع تعقبها عبر الإنترنت، الأمر الذي يُعتقد أنه دفع أغلب شركات الشحن لتغيير مسارها، والابتعاد عن ممر مشتعل قد لا تتمكن أي قوى كبرى من السيطرة عليه وإخضاعه بقوة السلاح دون السياسة، على الأقل في وقت قريب. وتُعوِّل الولايات المتحدة على الصين والهند بوصفهما من أكبر حلفاء إيران في الضغط عليها لحل أزمة البحر الأحمر إذا ما ارتفعت أسعار النفط عالميا نتيجة لتلك التطورات المرتبطة بالعدوان على الغزة (10) (11).

يبدو أن توجيه ضربة عسكرية غربية شاملة للحوثيين ليس أمرا سهلا على ضوء التعقيدات والتشابكات الكثيرة التي تربط الحوثيين بمحادثات السلام مع الرياض، والتحالفات الوثيقة مع طهران، ورغبة واشنطن نفسها في احتواء الحوثيين على المدى البعيد داخل اليمن لحماية مكتسبات الوساطة الأممية، علاوة على التوتر في الأهداف المُعلنة حيال حرب غزة بين الحليفين الأوثق، تل أبيب وواشنطن. لذلك، فإن هجمات الحوثي على السفن الإسرائيلية مرشحة للاستمرار حتى ينجح المجتمع الدولي في إيقاف آلة القتل الإسرائيلية، ووضع نهاية للحرب الإسرائيلية التي توشك على دخول شهرها الرابع.

لذا فإن الاحتمال الأكثر ترجيحا هو أن واشنطن، كما فعلت في تدخلها الأخير، سوف تستمر في سياسة التدخلات المحدودة الهادفة لمنع ضربات الحوثي في مهدها، وهي سياسة لا ترقى لتقويض قوة الحوثيين، لكنها تنأى بالولايات المتحدة عن توسيع نطاق الصراع في البحر الأحمر. لا يُدلِّل على ذلك أكثر مما قاله البيت الأبيض في أعقاب الهجوم الأميركي على الزوارق الحوثية، إذ أصدر بيانا قال فيه إنه لا يسعى لتوسيع نطاق الحرب في الشرق الأوسط. وكما قال جون كيربي منسق الاتصالات الإستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأميركي: "نحن لا نسعى لإشعال صراع مع الحوثيين، الأفضل هو أن يتوقَّف الحوثيون عن هجماتهم، كما أوضحنا لهم مرات ومرات" (12).

___________________________________________

المصادر

Combined Multinational Effort Averts Attempted Seizure in the Gulf of Aden. إلغاء التصنيفات الإرهابية لأنصار الله. Saudi Arabia urges US restraint as Houthis attack ships in the Red Sea. مصدر مسؤول ينفي مشاركة اليمن في تحالف بحري جديد. تهديد الحوثي لخصومهم بعدم استهدافهم لصالح إسرائيل. مصر تتولى قيادة قوة المهام المشتركة (153). Fight for Gaza’s Khan Younis Puts Israel, U.S. on Collision Course. Tehran hosts international conference on Palestine. Containing the Houthis in Yemen: Issues and Options for the Policy Review.  Iranian Spy Ship Helps Houthis Direct Attacks on Red Sea Vessels. The mistake of designating the Houthis as a foreign terrorist organization. White House says it is not seeking wider conflict after US helicopters sink Houthi boats in Red Sea, killing crews

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی البحر الأحمر مع الحوثیین باب المندب فی الیمن فی الوقت الذی ی أن ذلک

إقرأ أيضاً:

"فورين بوليسي": أوروبا الموحدة أو المفتتة مرتبطة بعودة ترامب للبيت الأبيض!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تساءلت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية عن مستقبل قارة أوروبا؟ هل ستظل القارة السلمية والديمقراطية والموحدة كما هي الصورة التي عليها في العقود القليلة الماضية؟ أم أوروبا المفتتة والمتقلبة والمبتلاة بالصراعات التي كانت موجودة لقرون قبل ذلك؟ 

وترى المجلة الأمريكية أن الإجابة على هذا التساؤل ستتكشف إذا فاز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل، حيث كان ترمب يفكر في انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (ناتو) خلال فترة ولايته الأولى كرئيس. ويعتقد بعض مساعديه السابقين أنه قد يفعل ذلك إذا وصل مجددا إلى البيت الأبيض.

ويأمل المتفاءلون أن تتمكن أوروبا من الاستمرار في الازدهار حتى لو فقدت المظلة الأمنية الأمريكية (انسحاب واشنطن من حلف الناتو)، ولكن من المرجح أن أوروبا ما بعد أمريكا سوف تناضل من أجل التعامل مع التهديدات التي تواجهها، بل وربما ترتد في نهاية المطاف إلى أنماط ماضيها الأكثر قتامة وفوضوية وغير ليبرالية. 

وأوضحت المجلة الأمريكية أن أوروبا تغيرت بشكل كبير منذ الحرب العالمية الثانية، حتى أن العديد من الناس لم يعد يتذكروا كيف بدت القارة يائسة ذات يوم، حيث كانت أوروبا أرض الحروب والمتاعب التي لا نهاية لها.

وبطبيعة الحال، لم تكن ولادة أوروبا الجديدة أمرا يسيرا، حيث تضمنت مجموعة من الالتزامات المتشابكة ذات التأثيرات الثورية. وكان الأمر الأكثر أهمية هو الالتزام الأمني الأمريكي، عبر حلف شمال الأطلسي، حيث كسرت الحماية العسكرية الأمريكية حلقة العنف المميتة داخل القارة، ولم يعد الأعداء القدامى (مثل فرنسا وألمانيا) مضطرين إلى الخوف من بعضهم البعض، وبالتالي التخلي عن سباقات التسلح التي ابتليت بها المنطقة، وحمل السلاح فقط في مواجهة التهديدات المشتركة للقارة العجوز.

وأشارت "فورين بوليسي" إلى أنه لم يكن المقصود من التزام الولايات المتحدة تجاه أوروبا أن يستمر ذلك إلى الأبد. فعلى سبيل المثال، كان بول هوفمان، الذي أشرف على خطة مارشال (المشروع الاقتصادي لإعادة إعمار أوروبا)، يحب أن يقول مازحا إن هدفه كان "جعل أوروبا تقف على قدميها وإنزالها عن ظهورنا (واشنطن)". كما تساءل الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في خمسينيات القرن الماضي، عن متى يمكن للأوروبيين أن يتقدموا إلى الأمام حتى تتمكن واشنطن من "الجلوس والاسترخاء إلى حد ما". 

بلا شك، فكرت الولايات المتحدة في عدة مناسبات في خفض أو حتى إلغاء وجود قواتها في أوروبا. ولا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئا، فقد جلب الدور الأمريكي في أوروبا فوائد غير عادية، ولكنه فرض في الوقت نفسه تكاليفا غير عادية. فمن خلال توفير المساعدات الخارجية والسماح بالوصول غير المتماثل إلى أسواقها المحلية الواسعة، أعادت الولايات المتحدة بناء قارة وساعدت دولها على النمو بشكل أسرع من الولايات المتحدة نفسها.

ونبهت "فورين بوليسي" إلى أنه مع استمرار بعض المضايقات من دول أوروبية والتحديات الجديدة التي تجذب انتباه واشنطن إلى اتجاهات أخرى، أصبحت الشكوك بشأن استمرار التزامات أمريكا تجاه أوروبا أقوى من أي وقت مضى. 

وفي هذا الصدد، لطالما أعرب ترمب عن أسفه للأعباء التي تتحملها واشنطن في حلف شمال الأطلسي، وقد هدد بالسماح للروس بأن يفعلوا "ما يريدون" مع الحلفاء الأوروبيين الذين لا يشاركون (يدفعون) في تحمل هذه الأعباء. ومن الواضح –وفقا لفورين بوليسي- أن ترمب يكره الاتحاد الأوروبي، حيث لا ينظر إليه باعتباره تتويجا للوحدة القارية، بل كمنافس اقتصادي شرس. وباعتباره شعبويا غير ليبرالي، فترمب لا يبالي لمصائر الديمقراطية الليبرالية في أوروبا. لذا، عندما يروج لسياسته الخارجية "أمريكا أولا"، فإنه يعني سياسة خارجية تتخلى فيها الولايات المتحدة عن الالتزامات غير العادية التي أخذتها على عاتقها منذ الحرب العالمية الثانية.

وأكدت المجلة الأمريكية أن الوقت قد حان للنظر بشأن احتمال أن تغادر الولايات المتحدة أوروبا في يوم من الأيام، وأن يتم التفكير فيما سيحدث بعد ذلك.

ونوهت المجلة إلى أنه في سيناريو متفائل، سوف تظل أوروبا ديمقراطية، ومتماسكة، وموحدة في مواجهة أعدائها، حيث إن انسحاب الولايات المتحدة قد يجبر الاتحاد الأوروبي على دعم أوكرانيا خلال الحرب الحالية، وإعطاء كييف ضمانات أمنية ذات معنى بعد السلام، وتحويل نفسها إلى جهة فاعلة عسكريا من الطراز العالمي من أجل درء روسيا والتهديدات الأخرى التي تصدت لها الولايات المتحدة في السابق. وبالتالي، فإن أوروبا ستظهر باعتبارها ركيزة قوية ومستقلة للنظام العالمي الليبرالي، وستكون واشنطن حينها حرة في التركيز على أولويات أخرى.

ولفتت "فورين بوليسي" إلى أنه بالنسبة للمشاكل المتعلقة بهذا السيناريو، فعلى سبيل المثال، عندما يروج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتكامل الأوروبي كبديل للقيادة الأمريكية، يبدو أنه ينسى أن أوروبا أصبحت موحدة ومتماسكة على وجه التحديد بسبب مناخ الطمأنينة الذي قدمته واشنطن، وأن الاتحاد الأوروبي كان منقسما بشدة حول كيفية التعامل مع العدوان الروسي حتى فبراير 2022، إلى أن أخذت واشنطن زمام المبادرة في وقت مبكر في إمداد أوكرانيا. والدرس المستفاد هنا هو أنه من الصعب للغاية تنسيق العمل الجماعي بين العشرات من الدول (الأوروبية) ذات المصالح المختلفة، ما لم يكن هناك من يطرق الرؤوس بلطف ويوفر القيادة المهيمنة.

وعليه، فإن الاتفاق على من ينبغي أن يقود أوروبا سيكون صعبا، حيث إن فرنسا تتطلع دائما إلى القيادة، ولكن هذا الأمر يثير انزعاجا كبيرا لدى بعض الدول، خاصة في أوروبا الشرقية، التي لا تعتقد حقا أن باريس لديها الميل أو القدرة على التعامل مع أمنها على أنه أمنها الخاص. كما أن برلين تتمتع بالموارد الاقتصادية اللازمة لقيادة القارة، ولكن الطبقة السياسية فيها تشعر بالقلق منذ فترة طويلة من أن القيام بذلك سيؤدي ببساطة إلى إحياء المخاوف من القوة الألمانية. 

وتتمثل مشكلة أخرى في هذا السيناريو في أن أوروبا القادرة على التعامل مع شؤونها الأمنية سوف تكون أكثر تسليحا مما هي عليه اليوم، وأنها ستستثمر بكثافة في الأسلحة الأكثر فتكا في العالم، وأنه مع فقدان المظلة النووية الأمريكية، يمكن لدول خط المواجهة التي تأمل في ردع روسيا - وفي المقام الأول بولندا - أن تسعى إلى الحصول على أسلحة نووية خاصة بها (سباق تسلح نووي).

وبالنسبة للسيناريو الثاني، فيتلخص في أوروبا، ما بعد أمريكا، الضعيفة والمنقسمة ــأو قارة لا تتقاتل بلدانها مع بعضها البعض ولكنها لا تدعم بعضها البعض. وإن هذه النسخة من أوروبا لن تكون بمثابة عودة إلى الفوضى بقدر ما ستكون استمرارا لحالة اللامبالة تجاه القضايا الوجودية. ففي هذا السيناريو، سوف يفشل الاتحاد الأوروبي في توفير القوة العسكرية اللازمة لتحرير أوكرانيا وحماية دول خط المواجهة الشرقية، وسوف تكافح القارة من أجل التعامل مع التهديد الاقتصادي والجيوسياسي الذي تفرضه الصين. كما قد تجد أوروبا نفسها عالقة بين ما وصفته المجلة الأمريكية بـ "روسيا العدوانية، والصين المفترسة، والولايات المتحدة المعادية" في عهد ترمب. وهذا هو السيناريو الذي يقلق ماكرون وغيره من الزعماء الأوروبيين. 

وأوضحت "فورين بوليسي" أن تحقيق التوازن بين روسيا من دون قوة الولايات المتحدة سوف يتطلب زيادات هائلة ومرهقة ماليا في النفقات العسكرية الأوروبية، الأمر الذي قد يضطر الدول الأوروبية إلى فرض زيادات ضريبية ضخمة لا تحظى بشعبية أو خفض برامج الرعاية الاجتماعية. وقد تقبل بعض الدول، مثل بولندا ودول البلطيق، بدفع هذا الثمن للحفاظ على استقلالها، فيما قد يقرر آخرون أن الاستعداد العسكري لا يستحق تمزيق العقد الاجتماعي، وأن استيعاب روسيا "العدوانية" هو المسار الأكثر حكمة.

وفي السيناريو الثالث، قد يبدو مستقبل أوروبا مشابها إلى حد كبير لماضيها. فمع انحسار نفوذ واشنطن المعزز للاستقرار، تبدأ العداوات الوطنية المكبوتة منذ فترة طويلة بين بعض دول أوروبا في الظهور من جديد. وفي هذا الوضع، تبدأ الدول الأوروبية في تسليح نفسها بشكل أكبر، ويسعى البعض إلى تحقيق الأمن الذاتي الذي لا يمكن أن توفره إلا الأسلحة النووية، وتتراجع الديمقراطية مع انتشار النزعة القومية غير الليبرالية، والتي تتسم في كثير من الأحيان بكراهية الأجانب. ومع مرور الوقت، وقد يستغرق الأمر أعواما، وربما عقودا، تصبح أوروبا ما بعد أمريكا مرتعا للتطرف والتنافس.

وخلاصة الأمر أن أوروبا ما بعد أمريكا سوف تختلف جوهريا عن أوروبا التي نعرفها، خاصة وأن أوروبا اليوم هي نتاج تشكيل فريد تاريخيا وغير مسبوق من القوة والنفوذ أنشأته الولايات المتحدة. 

وقد يتوهم أنصار أمريكا أولا أن الولايات المتحدة يمكنها تحقيق كافة الامتيازات المترتبة على استقرار أوروبا من دون دفع أي من التكاليف. ولكن الواقع يشير إلى أن أوروبا الأضعف والأكثر تشرذما من شأنها أن تجعل من الصعب على العالم الديمقراطي أن يتعامل مع التحديات التي تفرضها روسيا، أو الصين، أو إيران. كما أنه إذا تحولت أوروبا إلى الظلام والشر مرة أخرى، فقد تقوم مرة أخرى بتصدير صراعاتها إلى العالم، وبالتالي تعريض ما هو أكثر بكثير من مستقبل أوروبا للخطر.

مقالات مشابهة

  • بنك الولايات المتحدة يحذر: هجمات الحوثيين في البحر الأحمر تُعيق سلسلة التوريد وتهدد الاقتصاد الأمريكي
  • «حاطم 2» يقلب المعادلة .. اليمن إلى نادي «الفرط صوتي»
  • تحالف “حارس الأزهار”.. البحر الأحمر ومعركة الملاحة العالمية
  • (وكالة) أبوظبي تعرض على واشنطن قاعدة في أرض الصومال بدلاً من حاملات الطائرات لمهاجمة الحوثيين
  • تحذير أمريكي من استخدام الحوثي لنفوذه الجديد حتى بعد انتهاء حرب غزة
  • هجمات صنعاء في البحر الأحمر تُلحق خسائر فادحة بتجار الأخشاب في الولايات المتحدة وبريطانيا
  • وزير خارجية اليمن: هجمات الحوثيين هدفها كسب تأييد شعبي والهروب من مشكلاتها
  • "فورين بوليسي": أوروبا الموحدة أو المفتتة مرتبطة بعودة ترامب للبيت الأبيض!
  • الجيش الأميركي يقول إنه دمر 7 طائرات مسيرة ومركب تحكم للحوثيين في البحر الأحمر
  • القيادة المركزية الأمريكية تعلن تدمير 7 طائرات مسيرة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين في اليمن