تأملات في سياسات نتنياهو البراغماتي العالق في الحكم والغارق في الدماء
تاريخ النشر: 2nd, January 2024 GMT
الكتاب: بنيامين نتنياهو: إعادة إنتاج المشروع الصهيوني ضمن منظومة صراع الحضارات
الكاتب: مهند مصطفی
الناشر: مركز رؤية للتنمية السياسية إسطنبول ـ 2019
عدد الصفحات: 166 صفحة
ـ 1 ـ
تمثل دراسة الشخصيات الفاعلة في الساحة السياسية الإسرائيلية ضرورة فلسطينية تساعد، مع عناصر أخرى كثيرة، على توقّع سياسيات العدو وردود أفعاله وعلى استشراف المستقبل عامّة.
للاقتراب أكثر من شخصية نتنياهو يعود الباحث إلى تاريخه الشخصي والعائلي. فهو ينحدر من جدّ حاخام مبشّر بالصهيونية في بلده الأصلي ليتوانيا ثم في سائر أنحاء أوروبا الشرقية قبل أن يهاجر إلى فلسطين عام 1920، وأب منخرط في خصومات إيديولوجية متعاقبة داخل التيار الصهيوني، فيهاجر من فلسطين إلى الولايات المتحدة لشعوره بتعسّف خصومه عليه ولن عود إليها إلا سنة 1948. وبعد عودته بسنة سينجب بنيامين نتنياهو الذي كانت العائلة ترى فيه فاعلا في الحقل الاقتصادي وتعدّه لذلك. ولكن مقتل شقيقه العسكري في عملية عنتيبي جعله ينخرط في الحقل السياسي. فتم تعيينه ملحقا سياسيا للسفارة الإسرائيلية في واشنطن عام 1982 ثم مندوبا لإسرائيل في الأمم المتحدة 1984- 1988. وسيمثل الحدثان نقطة انطلاقته نحو قمة هرم السلطة في إسرائيل. فقد أبان عن قدرات خطابية وعن تمكّن من اللغة الإنجليزية وأفاد من علاقات والده المتشعبة في الولايات المتحدة لتعزيز مكانته الدبلوماسية مما جمع حوله مناصرين يرون فيها جوادا رابحا.
ـ 2 ـ
يستمد نتنياهو هويته السياسية من عنصرين:
ـ فقد ركّز على تاريخ اليهود في الشتات والإرهاب والعودة بها إلى عصور بعيدة ليقنع محيطه بأن اليهود مستهدفين في وجودهم مشردين من وطنهم الأصلي. وأمكن له أن يقنع الأمم المتحدة بفتح أرشيفها حول الكارثة. وهذا ما عُدّ إنجازا معتبرا له. وفي الحقيقة لم يكن الأمر أكثر من دعاية لشخصه. فهذا الأرشيف لم يحمل ما هو جديد حول معرفتنا بما تعرض له اليهود في النصف الأول من القرن العشرين.
ـ سوّق نفسه باعتباره خبيرا في الإرهاب. فأصدر كتابه الأول من بعنوان "كيف تستطيع النظم الديمقراطية الانتصار على الإرهاب؟" ويقوم تصوّره على سياسة اللاّسلم وعلى محاربة [الإرهاب] بلا هوادة، وبديهي أنه يقصد بالإرهاب المقاومة الفلسطينية المشروعة وفق القانون الدّولي. وإجابته عن سؤال صحفي "هل ستبقى إسرائيل تقاتل باستمرار"، تكشف ذلك. فقد أجابه على النحو التالي: [هنالك توقع أن تتحول إسرائيل إلى ديزني لاند، لن يكون ذلك أليس ثمة في تاريخ الشعوب والدول من عاشوا كل الوقت بالحروب؟ سيبقى هنالك دائما قتلة ومجرمون وسنبقى دائما نحتاج إلى الشرطة لا يمكن البحث عن نهاية ذلك.]. فهذه الشخصية الدموية لا تستطيع أن تعيش بعيدا عن القتال الدموي العنيف وقد أثبت ذلك في علاقته بخصومه السياسيين داخل الليكود وخارجه قبل أن يثبته ضد الفلسطينيين.
يمثل نتنياهو رابع أربعة ترأسوا الليكود،وريث حزب "حيروت أي "الحرية" ووريث منظمة الأرجون الإرهابية قبل تفكيك تنظيمها وأسلحتها عام 1948ووصلوا إلى سدّة الحكم منذ تأسيسه في 1973، فقد وصل إلى رئاسته منذ 1992. ومنذ ذلك الحين غيّر من قانونه ومنح رئاسته صلاحيات واسعة وكشف عن نزعة دكتاتورية جلية. ولئن انتكست شعبيته في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي بسبب الاتهامات الموجهة له بالتحريض على إسحاق رابين ومشاركته في المظاهرات التي تعارض اتفاقيات أسلو، خاصة بعد فوزه بانتخابات 1996، فاتصقت به العبارة التورارتية [قتلت وأيضا ورثت] فإنه كان يعوّل على براغماتيته ليتجاوز محنه في كل مرة. فينحني ريثما تمر العاصفة ليبدأ مسيرة الصهيوني الذي يهجّر الفلسطينيين ويفتك بهم من جديد.
من مظاهر براغماتيته أنه صاغ خطابا جديدا إثر تلك الانتكاسة، معتبرا أن مهمة حكومته "لن تكون إلغاء اتفاقيات أوسلو، بل الحفاظ على ما تبقى من أرض إسرائيل"، مؤكدًا أن إسرائيل لن تحتل من جديد قطاع غزة، ولن تفكك السلطة الفلسطينية وأنه يقبل بفكرة حل الدولتين، بالنظر إلى الظروف الدولية والإقليمية وخضع للضغوط الأمريكية في تجميد الاستيطان في مناطق معينة. وحالما وجد الظروف الملائمة عاد إلى مواقعه الأيديولوجية، فأسقط هذا في دورة حكمه الثالثة حل الدولتين. وأعلن أن زمن إخلاء المستوطنين وتفكيك المستوطنات قد ولى من قاموسه السياسي. ورغم التعثّر الاقتصادي استطاع أن يصنع رأيا عاما معارضا للسلام في أغلبيته مطالبا بالمزيد من المستوطنات. وجعل سبيله غلى ذلك التحالف مع الأحزاب الدينية المتطرّفة واستقطاب المستوطنين داخل الليكود والتخلي عن بقية اتفاقيات أوسلو.
ـ 3 ـ
تعدّ العناصر المشكلة لأيديولوجية نتنياهو أسرية محضة. ففضلا عن تأثره بجده الحاخام نتان الذي انتقل من تبني صهيونية هرتسل إلى التيار الصهيوني التنقيحي، وهو تيار يدعو إلى إقامة إسرائيل الكبرى على أراضي الضفة الغربيةوالأردن بقيادة جابوتنسكي، كان لتفكير والده وقعا على تصوّراته الإيديولوجية. فقد نشأ بنتسيون نتنياهو في حضن المنظومة الأيديولوجية للحركة الصهيونية التنقيحية بدوره، وكان يدعو إلى تشييد جدار حديدي، بين الدولة الوليدة والعرب الذين يحيطون بها.
يقول هذا الأب عن العرب في مقابلة أجرتها معه صحيفة معاريف عام 2009 "لا يجد الكتاب المقدس [التناخ] أي صورة أسوأ من هذه الصورة الرجل القادم من الصحراء. لماذا؟ لأنه لا يحترم أي قانون، ولأنه يستطيع أن يفعل ما يحلو له في الصحراء... إن النزعة التي تميل إلى الصراع هي في جوهرها نزعة العربي. فهو عدو في جوهره وشخصيته لن تسمح له بالتوصل إلى أي تسوية أو اتفاق، وهو لا يلقي بالا لنوع المقاومة التي سيواجهها، أو الثمن الذي يتحتم عليه أن يدفعه، إن وجوده مرتبط بحرب أبدية". وجليّ أنّ سياسية بنيامين نتنياهو تجسيد لهذه الخطوط الكبرى التي يحدّدها الانتماء الإيديولوجي الصهيوني للعائلة. وببراعته البراغماتية أنتج من مقتل شقیقه یونتان في عملية عنتيبي التي اختطف فيها الفلسطينيون واليساريون الأمميون الألمان يونيو 1976، طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية سردية بطولة العائلة وتضحيتها.
يختزل المؤرخ الإسرائيلي عوفر نوردهايمر سلطوية نتنياهو في نزع شرعية الخصوم السياسيين واتهام وسائل الإعلام بأنها معادية وغير وطنية ونزع شرعية المؤسسات التي تهدد روحه السلطوية وإحداث تفسخ بين المجموعات المختلفة، الأمر الذي يضعفها وعامة كان نتنياهو يعمل باستمرار على إقصاء المعارضين له وإحاطة نفسه بمن يضمن ولاءهم.
ـ 4 ـ
يؤطر نتنياهو مشروعه الصهيوني ضمن صراع الحضارات وينتهي الباحث إلى أنه ظل يعيد المقولات نفسها. واستنتج من ذلك عدم قدرته على التجديد والتطوير وتقديم مقاربات جديدة. فلم ينفك يردّد أنّ المشروع الصهيوني هو رأس الحربة من الصراع الحضاري بين الغرب المسيحي ـ اليهودي وبين الحضارة الغربية الإسلامية، وأنّ الصراع التاريخي بين المشروع العربي الإسلامي وبين المشروع الغربي يمتد إلى يومنا هذا، وأن القضية الفلسطينية هي جزء مركب من هذا الصراع الحضاري.
ولكن حرب غزة هذه الأيام، تثبت صواب تقدير نتنياهو. فالأمر لا يتعلّق بمبادرات فردية وقدرة على ابتكار التصورات بقدر ما يتعلّق بمشروع غربي ينفّذ على الأرض بثبات منذ بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين في ثمانينات القرن التاسع عشر. وما التضييق على التظاهر مساندة للفلسطينيين إدانة لإجرام إسرائيل وما المساندة الغربية اللا مشروطة للكيان الإسرائيلي وتبرير قتل المدنيين والاعتداء على المستشفيات إلا دليل على اعتماد الغرب المسيحي ـ اليهودي على المشروع الصهيوني في حربه على الحضارة العربية الاسلامية رغم الدعوات المنافقة إلى الحوار بين الأديان أو الحضارات.
ـ 5 ـ
يقول نتنياهو ظاهرا بمصالحة فلسطينية مقابل تسوية إسرائيلية. ويشرح الباحث الدلالات المقصودة من وراء هذه الاصطلاحات. فالتسوية تستند إلى موازين القوى لا إلى تطبيق القانون الدولي. وهي تخدم بجلاء الجانب الإسرائيلي وتساعده على فرض تصوراته. ومقابل التسوية التي تتحقق بين النّخب السياسية تمثل المصالحةُ الاعترافَ الشعبي بشرعية الطرف الآخر وتبنى روايته عن حقه التاريخي. ومع ذلك فليست هذه الشعارات إلا خطابا معدّا للاستهلاك الإعلامي ولتجنب الحرج مع المجتمع الدولي. فنتنياهو يفضّل في حقيقة الأمر إدارة الصراع مع الفلسطينيين دون إنهائه، آملا في تصفية قضيتهم واقتلاعها من جذورها وفاء لخلفياته الإيديولوجية.
يشرح نتنياهو هذا الموقف في قوله إن "إنتاج شعب فلسطيني وهوية وطنية فلسطينية كان مؤامرة عربية لإسقاط حق اليهود في فلسطين، فطيلة هذا التاريخ الطويل، لم يعرب السكان العرب في أرض إسرائيل، وإن تلميحا، عن رغبة في الاستقلال القومي، أو في ما يعرف اليوم بـ تقرير المصير". كان هنالك عرب عاشوا في أرض إسرائيل مثلما عاش عرب آخرون في أماكن أخرى كثيرة، ولكن لم يكن هناك شعب فلسطيني ذو وعي قومي أو هوية قومية، أو حتى مصالح قومية مشتركة. ومثلما لم تكن دولة فلسطينية، لم يكن كذلك شعب فلسطيني، أو ثقافة فلسطينية"..
وليس هذا التفكير غير امتداد لإيديولوجيا والده بنتسيون نتنياهو التي يعلنها على رؤوس الأشهاد. فيقول "يمثل الإرهابي (يقصد الفلسطيني المقاوم للاحتلال الصهيوني) إنسانا من نوع جديد، يعيد الإنسانية إلى فترة ما قبل التاريخ، إلى فترة لم تكن فيها الأخلاق، وبما أنه لا يعترف بآية قيمة أخلاقية وعديم كل شعور أخلاقي، فإنه عديم الضوابط الأخلاقية. لذا، هو قادر على ارتكاب كل جريمة، وكما هي ماكينة القتل، فإنه يقوم بأفعاله بلا خجل وبلا أخلاق، ولكنه أيضا كاذب مخادع بصورة كاملة، ولذلك فإنه أخطر بكثير من النازية التي كانت تصرح بأهدافها على في ما يتعلق بالحقيقة، هو أي الإرهابي عدمي نحو علني كامل".
ـ 6 ـ
عمل الكتاب على محاولة فهم دوافع سياسات نتنياهو المتعلقة بالقضية الفلسطينية، من جهة دوافعها الإيديولوجية ومن جهة الاعتبارات البرغماتية السياسية. فيجد أنها تتغير بتغير المعطيات والوقائع السياسية الإقليمية والدولية فتظهر المرونة وعدم الارتباط بأسس. وعند مقارنه نتنياهو بخصمه شارون يقدّر أنّ " شارون رمى إلى تغيير الواقع، بينما يقتنص نتنياهو التغيرات التي حدثت وتحدث في الواقع السياسي والإستراتيجي ويلقي بنفسه عليها، عبر استغلالها وأدلجتها، وتوخياً للدقة، يمكن القول إن شارون يغير الواقع رغم ثقله، ونتنياهو يقتنص فرصا يفرضها الواقع ولا يصنعها هو". ورغم هذه البراغماتية الظاهرة على السطح يختفي في طبقات سياسة نتنياهو العميقة تصلّب ناشئ عن خلفياته الصهيونية التنقيحية المغالية في تطرّفها.
صحيح أنّ بنيامين نتنياهو براغماتي عالق في الحكم ويغرق في الدماء للحفاظ على احتمائه بالسلطة من زنزانات السجون. ولكن وراء سياساته خلفيات إيديولوجية ظاهرة هي المشروع الصهيوني وأخرى أكثر خفاءً هي إجهاض كل محاولة عربية للنهوض لضمان هيمنة الغرب على مصادر الطاقة. وسواء اعتبر العرب أنفسهم معنيين بالقضية الفلسطينية أو رفعوا الأيادي عنها يظلون مستهدفين من قبل الأهداف البعيدة لهذا المشروع. هذا ما على العرب استقراؤه من السياسات الإسرائيلية ومن التعاطي الغربي مع مجريات الحرب على غزة هذه الأيام.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب نتنياهو فلسطينية فلسطين نتنياهو كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المشروع الصهیونی بنیامین نتنیاهو
إقرأ أيضاً:
هذه هي المخططات الخفية التي تُدبّرها إسرائيل لتركيا
لم يعد اليمين الأكثر تطرفًا في إسرائيل، يبدي أي قدرٍ من الحياء أو التحسب والحذر، وهو يبوح بما يختزنه في عقله الأسود، من مخططات ومشاريع، تكاد تطال مختلف دول المنطقة ومجتمعاتها، وتمسّ بالعمق، أمنها واستقرارها وسيادتها وسلامة أراضيها ووحدة شعوبها.
آخر الصيحات التي خرجت من أفواه قادته، جاءت على لسان الوزير جدعون ساعر، ودعوته لتشكيل "حلف أقليات" في الإقليم، تستند إليه إسرائيل في استهداف أعدائها من شرقي المتوسط إلى ضفاف قزوين.
لم يكن الرجل قد قضى سوى أيام قلائل، في منصبه على رأس وزارة الخارجية، إثر انقلاب نتنياهو على وزير دفاعه، حتى بدأ يُلقي على مسامعنا، بعضًا من فصول "نظرته الإستراتيجية" للإقليم، الذي تشكل إسرائيل فيه، "أقلية وسط أغلبية معادية"، مُقترحًا البحث عن "مُشتركات" مع أقليات أخرى، بدءًا بدروز سوريا ولبنان، وليس انتهاء بأكراد سوريا، والعراق، وتركيا، وإيران، فاللعب على ورقة "المكونات"، كفيل بجعل إسرائيل، "أكبر الأقليات وأقواها"، في فسيفساء المشرق العربي وهلاله الخصيب ودول الجوار الإقليمي للأمة العربية.
الأمر الذي يدفع على الاعتقاد الجازم، بأن ساعر لم يعرض سوى رأس جبل الجليد من مشروعه لـ "تجزئة المجزَّأ"، في حين ظل الجزء الأكبر منه، غاطسًا تحت السطح، وهو بالقطع، يشمل مختلف "المكونات" الاجتماعية في دول المشرق وجوارها الإقليمي.
وبالنظر إلى السياق الذي طُرح فيه، "حلف الأقليات" وتوقيت هذا الطرح، يمكن الافتراض، بأن تركيا، قبل غيرها، وأكثر من غيرها من الدول المستهدفة، هي الحلقة الأولى في إستراتيجية التفكيك المنهجي المنظم، لبنية هذه المجتمعات ووحدة وسلامة أراضي هذه الدول.
فأنقرة، رفعت وتيرة انتقاداتها لحرب إسرائيل البربرية على غزة ولبنان، وهي تقدم حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية، بوصفها حركات تحرر وطني مشروعة، في مواجهة "طوفان الشيطنة" و"حرب الإلغاء" اللذين تتعرض له من قبل آلة "البروباغندا" الإسرائيلية، المدعومة من قبل أوساط غربية وإقليمية وازنة.
ولعلّ هذا ما تنبهت إليه القيادة التركية، مبكرًا وقبل أن يُخرج ساعر ما في جوفه، عندما بدأت التحذير من مغبة تطاير شرارات الحرب إلى سوريا، وعلى مقربة من حدودها، بل وإبداء الاستعداد لمواجهة تركية – إسرائيلية إن تدحرجت كرة النار، وعجز المجتمع الدولي عن وقفها.
وفي كل مرة صدرت فيها عن أنقرة، تحذيرات من هذا النوع، كانت أنظار المسؤولين والناطقين باسمها، تتجه إلى لعبة "المكونات" التي تريد إسرائيل فرضها على الإقليم، بدعم وإسناد من دوائر غربية عديدة، وتحت حجج وذرائع ومزاعم شتى.
مبادرتان استباقيتانفي هذا السياق، يمكن النظر إلى المبادرات الاستباقية الأخيرة التي صدرت عن أنقرة، وأهمها اثنتان: الأولى؛ داخلية، وصدرت عن دولت بهتشلي، حليف أردوغان وزعيم الحركة القومية و"ذئابها الرمادية"، الرامية لإغلاق ملف المصالحة بين أتراك تركيا وكردها، وهي مبادرة كانت مفاجئة لجهة توقيتها والجهة التي صدرت عنها، وسط قناعة عامة بأنها لم تأتِ منبتّة عن السياق الإقليمي، وانفلات "التوحش" الإسرائيلي من كل عقال، وأنها لم تأتِ من دون تنسيق مسبق بين الحليفين: بهتشلي وأردوغان.
صحيح أن المبادرة، فجّرت قلق خصومها الداخليين، بالذات على "ضفتي التطرف القومي" الكردي – التركي، وأنها أثارت انقسامًا بين "تيار قنديل" داخل أكراد المنطقة، وتيار المصالحة والاعتدال، الذي يُعتقد أن عبدالله أوجلان، يقف على رأسه، من مَحبَسه على جزيرة "إمرالي".
وصحيح أن خصوم المصالحة عملوا على تفجير مركبها قبل إبحاره وسط تلاطم أمواج المواقف والمصالح المتناقضة، بدلالة الهجوم على شركة "توساش" في قلب العاصمة التركية في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما أعقبه من تصعيد في العمليات طال مناطق داخل تركيا وخارجها (سوريا والعراق).. لكن الصحيح كذلك، أن قطار المبادرة ما زال على سكته، رغم العرقلة، وأنه قد يواصل مسيره، ما دام أن وجهته النهائية، تحصين الداخل التركي في مواجهة مؤامرات التفكيك.
أما المبادرة الثانية؛ فسابقة على تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وإن كانت اكتسبت زخمًا إضافيًا في الأسابيع الأخيرة، والمقصود بها، الرغبة التركية الجارفة بالمصالحة مع دمشق، وعروض الرئيس التركي المتكررة، للقاء الأسد، وإغلاق صفحات الخلاف (الصراع) بين البلدين.. وهي المبادرة، المدفوعة بجملة من الحسابات والاعتبارات التركية، من بينها قضية اللاجئين السوريين، وأهمها "المسألة الكردية".
والحقيقة أن أنقرة، لم تكن بحاجة لأن تنتظر جدعون ساعر ليخرج ما في "صندوقه الأسود" من مشاريع طافحة بالعدائية لتركيا، حتى تبدأ بالتحرك المضاد، وتشرع في العمل على إحباط مراميها وأهدافها، والمؤكد أنها كانت تدرك، أن "النجاحات" التي سجلتها إسرائيل على الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي مواجهة حزب الله، وتكثيفها العمليات ضد حزب الله وإيران في سوريا، فيما يشبه الاستباحة الكاملة للأجواء والسيادة السوريتين، من شأنها إحياء النزعات الانفصالية لدى بعض تيارات الحركة الكردية في المنطقة، ما دام أن هذه النزعات كانت قد تغذّت تاريخيًا وتضخمت، على جذع "الغطرسة" و"الاستعلاء" الإسرائيلي.
كما أن التطاول الإسرائيلي المتكرر على إيران، سواء في عمقها أو مناطق نفوذها، وعدم نجاح الأخيرة في بناء معادلة ردع صارمة في مواجهة التهديدات باستهداف برنامجَيها النووي والصاروخي – من ضمن أهداف إستراتيجية أخرى – ساهم بدوره في زيادة المخاوف التركية، من تضخم الدور الإقليمي لإسرائيل، ولجوء تل أبيب لاستخدام أسلحة وأدوات من النوع الذي تحدث عنه ساعر: "حلف الأقليات".
العامل الأميركيلم تكن علاقات تركيا بإدارة بايدن سلسة دائمًا، وغلب عليها التوتر في بعض الأحيان على حساب مقتضيات عضوية البلدين في "الناتو"، ومن بين جملة الأسباب الباعثة على فتور العلاقات وأحيانًا توترها، احتلت "المسألة الكردية" مكانة متميزة في صياغة شكل ومحددات العلاقة مع إدارة بايدن الديمقراطية.
فالرئيس بايدن، عُرِفَ عنه، تاريخيًا، تعاطفه الشخصي مع "الانفصالية" الكردية، وهو كان سبّاقًا من موقعه في مجلس الشيوخ لعرض تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث. ودعم بكل قوة، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأطر والأذرع السياسية والاجتماعية والمالية المنبثقة عنها والموازية لها.
ونافح بقوة أيضًا عن بقاء وحدات من الجيش الأميركي في مناطق شمال شرق سوريا؛ لحماية الحركة الكردية وتدعيمها، إن في مواجهة دمشق وطهران وحلفائهما، أو بالأخص في مواجهة تركيا. وهو أغدق على أكراد سوريا، الأكثر قربًا من "مدرسة أوجلان" والـ "بي كي كي"، السلاح والعتاد، الأمر الذي لطالما قرع نواقيس الخطر في مراكز صنع القرار في الدولة التركية.
وربما لهذا السبب بالذات، سقطت أنباء فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية واكتساح حزبه الجمهوري مقاعد الأغلبية في مجلسَي الشيوخ والنواب، بردًا وسلامًا على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، فالأول نجح في إقامة "علاقات عمل" مثمرة، ونسج بعض خيوط الصداقة مع الأخير، لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة، وهو متحرر من أية صلات أو "مشاعر" حيال كُرد المنطقة، والأهم، أنه بادر في ولايته الأولى إلى الإعلان عن نيته سحب قواته من شمال سوريا، وقد يستكمل في ولايته الثانية، ما كان بدأ به، قبل تدخل مؤسسات "الدولة العميقة" الأميركية لإحباط مساعيه آنذاك.
على أن مشاعر الارتياح للتحولات الأخيرة في الإدارة والكونغرس الأميركيين، لا تكفي لتبديد مخاوف أنقرة مما يمكن لتل أبيب، أن تقدم عليه. فالأتراك، بلا شك، يدركون أتم الإدراك، "مساحات المناورة وحرية الحركة" التي تتمتع بها إسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
ويعرفون تمام المعرفة، أن اليمين الفاشي في تل أبيب، قادر على مغازلة مشاعر اليمين الأميركي المتطرف، ومداعبة أولويات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، وبالضد من إرادة الإدارة في بعض الأحيان، إن تطلب الأمر و"المصلحة العليا" ذلك. ومن هنا يمكن القول إن مشوار تركيا في تعاملها مع "المسألة الكردية"، لن يكون معبدًا وسلسًا.
أنقرة تعوّل أيضًا على قلّة اهتمام ترامب بالقضية السورية، وتلمّست خلال ولايته الأولى، استعداده للتسامح مع دور روسي متنامٍ في سوريا، وتحبيذه تنامي هذا الدور على حساب الدور الإيراني بالأخص، فيما الرجل ربما يكون مقبلًا على فتح صفحة من التعاون مع الكرملين في أوكرانيا، وملفات أخرى، على الساحة الدولية.
وأنقرة تعوّل أيضًا على ما يمكن لموسكو أن تفعله بوحي من مصلحتها في خروج القوات الأميركية من سوريا، إن لجهة حفز جهودها للمصالحة مع دمشق، أو لجهة التوسط بين القامشلي والأسد، فضلًا عن تخفيف احتقانات علاقاتها مع إسرائيل، في ضوء ما يشاع عن جهود روسية للدخول على ملفات الوساطة بين إسرائيل ولبنان، ونوايا لم تتضح بعد، تنمّ على دعم روسي لقيام سوريا، بدور في الحد من قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته العسكرية، حال وضعت الحرب على هذه الجبهة، أوزارها.
هي مرحلة جديدة، تدخلها العلاقات التركية الإسرائيلية، تحكمها ثوابت ومتغيرات لدى الطرفين، في بيئة محلية وإقليمية بالغة التعقيد، والأيام المقبلة، تبدو محمّلة بكل جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية