«فيتنام القرن 21»: غزة تسرّع الانحدار الأميركي
تاريخ النشر: 2nd, January 2024 GMT
«فيتنام القرن 21»: غزة تسرّع الانحدار الأميركي
سقط «النظام الليبرالي الدولي»، وهو الاسم الحركي لمنظومة الهيمنة الغربية، في غزة.
مستقبل إدارة بايدن لن يكون واعداً، وثمن دماء شهداء غزة سيكون باهظاً بالنسبة إليها وإلى طموحاتها في منطقتنا، وفي نواحي العالم الأخرى.
تعاني منظومة الهيمنة الغربية أزمة مستعصية نتيجة تراجع قدرتها على السيطرة العسكرية بفعل الهزائم التي مُنيت بها في العراق وأفغانستان ويمكن إضافة لبنان وغزة.
يأتي تورط الغرب في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ أهل غزة لينسف كل المبررات «القيمية/ الأخلاقية» من أساسها. قد يستخف البعض بهذا الأمر لكنهم مخطئون.
مشاركة «الغرب الجماعي» في حرب الإبادة الصهيونية ضد شعب فلسطين في غزة، وجّهت ضربة قاضية لمحاولات تجديد سردية «النظام الليبرالي الدولي»، ومزاعم «التفوق الأخلاقي» للديموقراطيات.
* * *
لقد سقط «النظام الليبرالي الدولي»، وهو الاسم الحركي لمنظومة الهيمنة الغربية، في غزة. لم يكُن سرّاً أن هذه المنظومة تعاني منذ أكثر من عقد، من أزمة مستعصية نتيجة تراجع قدرتها على السيطرة العسكرية بفعل الهزائم التي مُنيت بها في العراق وأفغانستان - ومن الممكن إضافة لبنان وغزة هنا.
وكذلك انحسار نفوذها الاقتصادي والسياسي مع صعود دور المنافسين غير الغربيين الكبار، كالصين وروسيا والهند، والمتوسّطين، كبقية دول «بريكس».
غير أن مشاركة «الغرب الجماعي» في حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وجّهت ضربة قاضية على الأرجح لمحاولات تجديد صدقية سردية «النظام الليبرالي الدولي» عن نفسه، ومزاعم «التفوق الأخلاقي» للديموقراطيات على ما عداها من الأنظمة السياسية.
سعت إدارة جو بايدن إلى تجديد تلك الصدقية المترنحة نتيجة لسياسات إدارة دونالد ترامب، وما سبقها من حروب أميركية تلازمت مع ممارسات إجرامية بحق شعوب بأكملها، أضحت السجون - المسالخ في أبو غريب وغوانتانامو رموزاً لها، لكنها لن تتمكن من ذلك بعد محرقة غزة.
فمشاهد جثث الأبرياء المتكدسة أو المتحلّلة أو المبعثرة إلى أشلاء، في شوارع القطاع وأزقته، وفي مستشفياته ومدارسه، وصيرورته أكواماً من الركام، ستحفر عميقاً في وجدان أغلبية وازنة من شعوب العالم، بما فيها الشعوب الغربية، وتكشف الوجه الحقيقي لـ«تحالف الديموقراطيات» العتيد.
نحن في الواقع أمام منعطف فكري - سياسي حاسم، بالنسبة إلى نظرة قطاعات معتبرة من تلك الشعوب للولايات المتحدة وأتباعها، لا يقلّ أهمية عن ذلك الذي مثّلته حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.
فقد أوضحت هذه الأخيرة، آنذاك، الطبيعة الإمبريالية العاتية لـ«الديموقراطية الأعرق»، ما أسهم في تشكل حركة معارضة شعبية عالمية وازنة لسياساتها، أدّت دوراً في تغيّر ميزان القوى الإجمالي لغير مصلحتها، وبقية القصة معروفة للجميع.
صحيح أن «جثث الجنود العائدة بالأكياس» وفقاً للتعبير المستخدم حينها، كانت عاملاً أساسياً في انقلاب موقف الرأي العام الأميركي حيال الحرب.
غير أن الصحيح أيضاً هو أن جلاء زيف المبررات الرسمية لواشنطن لخوضها دفاعاً عن «الديموقراطية وحقوق الإنسان في مواجهة الشيوعية ومشروعها الشمولي»، بسبب هول الجرائم التي ارتكبها جيشها ضدّ الشعب الفيتنامي، كان بدوره عاملاً مؤثراً في اتساع المعارضة وتجذّرها.
إسرائيل هي التي ترتكب الجرائم اليوم في غزة، لكنها تقوم بذلك بشراكة كاملة مع حليفها الأميركي أولاً، الذي لا يزال يرفض الدعوة إلى وقف إطلاق النار، ويمدّها بالسلاح والعتاد ويحشد الأساطيل ذوداً عنها.
هو مدرك بكل تأكيد للتبعات الكارثية لمثل هذه السياسة على صورته ونفوذه على الصعيد الدولي والداخلي الأميركي، ما يفسّر محاولاته التمايز عن ممارسات حليفه الإسرائيلي من خلال حضّه على «احترام القانون الدولي الإنساني»، أو اقتراحه هدناً إنسانية، أو حمله على الانتقال إلى مرحلة جديدة من الحرب، تتخلّلها عمليات خاصة موجّهة ضد تنظيمات المقاومة حصراً.
وهي محاولات لن تجدي نفعاً، لأن مسؤولية واشنطن عمّا وقع حتى الآن لا تخفى على أحد. الأسوأ بالنسبة إليها، هو أن تداعي صدقيّة سرديتها يأتي في سياق تحتاج فيه إلى أوسع إجماع داخلي أميركي وغربي حول استراتيجية المواجهة المحتدمة التي تعتمدها ضدّ روسيا والصين.
ربما ستجِد آراء وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أحد أبرز الدعاة منذ سنوات طويلة لضرورة إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، آذاناً صاغية في أنحاء المعمورة، بما فيه في داخل الغرب، في الظروف الراهنة أكثر بكثير من ذي قبل. فقد حذّر لافروف، في مقابلة مع وكالة «تاس»، من أنه «ليس بإمكان أحد في العالم أن يكون متأكداً من الإفلات سالماً من مكائد الغرب في 2024.
العواصف مستمرة في العالم، وأحد الأسباب هو أن الدوائر الحاكمة في الغرب تثير أزمات على بعد آلاف الكيلومترات من حدودها من أجل حلّ قضاياها على حساب الشعوب الأخرى».
جهدت إدارة بايدن منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، وهي حرب تشنّها بالوكالة على روسيا، لتوحيد المعسكر الغربي وإنتاج إجماع داخلي في بلدانه ضدّها باعتبارها عدواً ليس للأوكرانيين وحدهم، بل لكل القيم الإنسانية والسياسية المشتركة بين الديموقراطيات.
المعركة في عرفها لم تكن جيوسياسية فقط، بل فكرية - عقائدية، ما يسهل إسباغ الطابع الوجودي عليها. وباسم هذا الطابع الوجودي، جرى تبرير ضخ عشرات مليارات الدولارات بصيغة مساعدات عسكرية واقتصادية ومالية لنظام كييف ضد «العدوان الروسي الغاشم»، وإقناع الشعوب الأوروبية باحتمال التداعيات الناجمة عن الحرب، وفي مقدّمتها التضخم المتزايد.
يأتي التورط الغربي في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ أهل غزة لينسف تلك المبررات «القيمية/ الأخلاقية» من أساسها. قد يستخف البعض بهذا الأمر لكنهم مخطئون.
فتبدُّد هذه المبررات، معطوفاً على الفشل الذريع في الميدان للهجوم المضاد الأوكراني، الذي حظي بتطبيل إعلامي - سياسي غربي باعتباره كفيلاً بدحر القوات الروسية، سيفضي بالضرورة إلى مراجعة الحكومات الغربية لحساباتها، وتخفيض سقف توقّعاتها بالنسبة إلى مستقبل النزاع الدائر هناك.
سيكون من الأصعب على الحكومات المشار إليها المضيّ في حرب باهظة الكلفة، ومن دون «إنجازات ميدانية»، وفاقدة للمسوّغات بنظر شعوبها، ما يعزّز فرص البحث عن حلول سياسية تأخذ في الاعتبار المطالب الروسية.
المواجهة الاستراتيجية مع الصين، لكونها المنافس الاستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة، ستبقى أولوية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية الحالية وإلى أيّ إدارة قادمة. لكن المنافسة في ميادين التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا لا تعني اتّباع سياسة الاستفزاز المتعمّد والمستمر، وصولاً إلى التدحرج نحو حافة الحرب.
مايكل كلير، الخبير في الشؤون الاستراتيجية العسكرية والطاقة، رأى في مقاله الأخير على موقع «توم ديسباتش»، أن قمة سان فرنسيسكو بين الرئيسين الصيني والأميركي مثّلت «خطوة صغيرة إلى الوراء بعيداً عن حافة الهاوية».
يشير كلير إلى أن الهدف من القمة بالنسبة إلى الرئيسين كان وقف الانزلاق نحو صدام كارثي والاتفاق على إدارة الخلافات «بطريقة مسؤولة»، غير أن القضايا الخلافية الأبرز، أي تايوان والجزر المتنازع عليها بين الصين وبعض دول جوارها لم تحظَ بالاهتمام الكافي خلالها.
ستجرى الانتخابات الرئاسية في تايوان في 13 كانون الثاني 2024، وإذا ما انتصر مرشح «الحزب الديموقراطي التقدمي» الحاكم راهناً، وذو التوجهات الانفصالية، فإن هذا التطور سيعني مضاعفة التوتر مع بكين، وضغوطاً متعاظمة من الجمهوريين ومن الصقور الديموقراطيين على إدارة بايدن لزيادة تسليح الجزيرة والوقوف إلى جانبها في حال تدخّل الصين لمنع الانفصال.
وأغلب الظن، فإنّ خيار الدخول في صدام مع الصين سيلاقي معارضة قوية من قطاعات شبابية كبيرة في الولايات المتحدة، في داخل الحزب «الديموقراطي» وفي خارجه، لم تعد مقتنعة بـ«التفوّق الأخلاقي» لحكومة بلادها على منافسيها الخارجيين نظراً إلى تورطها في حرب الإبادة ضد غزة.
مستقبل إدارة بايدن لن يكون واعداً، وثمن دماء شهداء غزة سيكون باهظاً بالنسبة إليها وإلى طموحاتها في منطقتنا، وفي نواحي العالم الأخرى.
*وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية
المصدر | الأخبارالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: غزة فلسطين فيتنام تايوان الصين الهيمنة الغربية الغرب الجماعي حرب الإبادة الصهيونية فی حرب الإبادة إدارة بایدن بالنسبة إلى فی غزة
إقرأ أيضاً:
"تفكك الغرب".. هدية ترامب الكبرى لبكين
هل يُعدّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أسوأ كابوس للصين أم أنه بمثابة حلم تحقق لها؟
الهدف الاستراتيجي لشي هو جعل الصين عظيمة مرة أخرى
الحقيقة أن ترامب يجمع بين الأمرين، ولكن ليس بالتساوي، فعلى المدى القصير ستشكل سياساته التجارية القائمة على فرض الرسوم الجمركية، تحديات كبيرة لبكين، لكن في المقابل، ألحق ترامب خلال أسابيع قليلة ضرراً بالغاً بالنظام الدولي الليبرالي، ووحدة الغرب الديمقراطي، ومكانة الولايات المتحدة عالمياً، أكثر مما تمكنت أي جهود مجتمعة طوال الحرب الباردة، وهو إنجاز يتجاوز حتى أكثر أحلام القادة الصينيين طموحاً.
وكتب ستيف تسانغ في صحيفة "غارديان" البريطانية، أن التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب تشكل تهديداً حقيقياً للصين، ولا يمكن لبكين سوى اعتبارها مؤشراً على المزيد من التحديات المقبلة، كما يبدو ترامب هذه المرة مستعداً لتنفيذ كل تهديداته.
وفي وقت يُظهر فيه الاقتصاد الصيني مؤشرات تباطؤ، فإن الدخول في حرب تجارية مكثفة سيكون آخر ما تريده بكين، رغم التصريحات المتشددة لدبلوماسييها.
ومع ذلك، فإن هذه الضغوط التجارية، حتى لو تحولت إلى حرب اقتصادية شاملة، تبقى تحديات قصيرة إلى متوسطة الأمد. إذ من المتوقع أن يأمر الرئيس الصيني شي جين بينغ بلاده بالصمود، وهو ما ستفعله بكين، رغم التكلفة الباهظة التي ستدفعها، لكن هذه الخسائر ستتلاشى على المدى البعيد أمام المكاسب التي يقدمها ترامب، دون قصد، للصين.
China can live with Trump’s tariffs – his bullish foreign policy will help Beijing in the long term | Op-ed by Steve Tsang (#SOAS) for The Guardianhttps://t.co/DGIYpI6TC4
— SOAS China Institute (@SOAS_CI) March 12, 2025 تفكك الغربفمثلاً يأتي اقتراح ترامب لحل الأزمة الأوكرانية متوافقاً إلى حد كبير مع شروط روسيا، كما أن طموحاته الصادمة بشأن كندا وغرينلاند تخدم الصين بشكل غير مباشر.
وأدى نهجه العدائي إلى تدمير علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها في أمريكا الشمالية وأوروبا، كما أشار بوضوح إلى أن بلاده لم تعد مهتمة بالمشاركة في المشاريع الدولية، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومنظمة الصحة العالمية.
ويتساءل الكاتب لماذا يُعدّ هذا مكسباً للصين؟ مجيباً أن أن بكين وضعت استراتيجية عالمية تقوم على "فكر شي جين بينغ"، وتهدف إلى تحقيق "حلم الصين" بإعادة إحياء عظمتها بحلول عام 2049، الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وقد جعل ترامب هذا الحلم أقرب إلى التحقق.
The U.S. will emerge stronger with Trump's tariffs as China struggles to counter with meaningful economic boosts. Xi will prioritize industry over domestic demand. Tariffs shield American businesses from China’s overproduction and price-slashing, while Beijing’s reluctance to… pic.twitter.com/EDnZHQtukW
— JThomasLaw (@JasonTLaw) March 4, 2025 نظام عالمي جديد.. يتمحور حول بكينالهدف الاستراتيجي للرئيس شي هو "إعادة الصين إلى عظمتها"، وفق شروطها الخاصة. ويسعى إلى "استعادة" المكانة العالمية التي يعتقد أن الصين تمتعت بها عبر التاريخ، عندما كانت أكثر تقدماً وثراءً وابتكاراً.
ويمر تحقيق هذا الطموح عبر ما يسميه شي "دمقرطة العلاقات الدولية"، بحيث تصبح الصين القوة المهيمنة في تشكيل مستقبل العالم، مسترشدة بثلاث مبادرات رئيسية: التنمية، الأمن، والحضارة.
لكن الأمر لا يتعلق بإنشاء نظام عالمي جديد كلياً ليحل محل النظام الليبرالي، الذي قادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل بتحويل النظام القائم ليتمحور حول الصين، مدعوماً بدول الجنوب العالمي. أي ضمان منح الأمم المتحدة الأولوية لمصالح هذه الدول، ممثلة في زعيمتها الصين، على حساب مصالح الغرب.
وفي حين أن هذا الطرح يلقى قبولاً في دول الجنوب العالمي، إلا أنه يواجه صعوبة في اختراق الديمقراطيات الغنية. فقد حافظت هذه الدول على ولائها للولايات المتحدة، رغم الأزمات التي مرت بها العلاقات عبر العقود.
حتى الآن، كانت جهود الصين لإقناع دول الجنوب العالمي بتبني رؤيتها لتعديل النظام الدولي تسير ببطء. لكن ترامب سرّع هذه العملية، من دون قصد.
ترامب بلا ضغوط انتخابية.. كيف سيُغير أمريكا؟ - موقع 24ساهم جيل الألفية في الثقافة المعاصرة بمصطلح "تأقلم"، الذي يصفه الصحافي جنان غانيش بأنه محاولة للتخفيف من قسوة الواقع وجعله يبدو أقل بؤساً مما هو عليه، ويتجلى هذا المفهوم في العديد من العبارات المنتشرة اليوم، مثل: "على الأقل سيكون دونالد ترامب جيداً للاقتصاد"، أو "إذا كان ...فمع تراجع المساعدات الإنسانية الأمريكية، بدأت الدول الأضعف في الجنوب العالمي تشعر بوطأة هذا القرار، ما عزز الدعوات الصينية لـ"دمقرطة العلاقات الدولية". ولم يكن أحد ليخدم المشروع الصيني بهذه الفعالية كما فعل ترامب، إذ ساعد، من خلال سياساته الانعزالية، على منح الصين فرصة ذهبية لتعزيز نفوذها عالمياً.
الصين تحقق قفزة كبرىوبسياسة "أمريكا أولاً"، قدّم ترامب للصين ما لم يتمكن شي من تحقيقه بنفسه. صحيح أن "حلم الصين" لم يتحقق بالكامل بعد، لكنه قطع خطوات هائلة بفضل ترامب، الذي وفر له دفعاً غير مسبوق.