لجريدة عمان:
2024-12-28@02:18:16 GMT

السقوط المدوي للقانون الدولي في غزة

تاريخ النشر: 1st, January 2024 GMT

تُعد معاهدة «صلح» ويستفاليا، والتي تم توقيعها في 24 أكتوبر 1648 في ويستفاليا بألمانيا، والتي بموجبها انتهت حرب الثلاثين عام 1618-1648، التي نشبت بين مؤيدي الكنيسة ومعارضيها من الدول الأوروبية، وهي الحرب الدينية التي أصبحت فيما بعد ذات ملامح سياسية، شاركت فيها كل من أسبانيا، والنمسا، والسويد والدنمارك، إلى جانب الدويلات الألمانية المختلفة، حيث أنهكت هذه الحرب أوروبا ودمرت مناطق واسعة، أولها الأراضي الألمانية التي كانت المسرح الأساسي للمعارك الطاحنة خلال هذه الحرب، وتسببت في خسائر بشرية كبيرة، تُعد فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية وأول تدوين لقواعد القانون الدولي.

ويرجع الفضل في استحداث اصطلاح «القانون الدولي العام» إلى الفقيه الإنجليزي بينتهام في مؤلفه الشهير «مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع»، المنشور في العام 1780، ويعد مصطلح القانون الدولي العام هو الاصطلاح الوريث «لقانون الشعوب» أو «قانون الأمم»، وهو «مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقة بين الدول»، ولاحقًا بين أشخاص القانون الدولي من دول ومنظمات دولية وغيرها. أي أن القانون الدولي بمفهومه الحالي هو غربي النشأة، وأخذ القانون الدولي بعد ذلك مسارات عدة من التطور والتوسع في أفرعه المختلفة إلى أن وصل إلى شكله الحالي.

ونظرًا للحروب والفظاعات التي عانت منها البشرية من قتل ودمار وتعذيب عبر القرون والعقود، خاصة، بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في العام 1945، بذل المجتمع الدولي بكل مكوناته جهودا مضنية، لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، بهدف معاقبة الأفراد المجرمين الذين يتسببون في هذه الجرائم، حيث انتهت هذه الجهود، بعقد مؤتمر في روما خلال الفترة من 15 يونيو إلى 17 يوليو من العام 1998، في تجمع دولي كبير، بمشاركة 160 دولة و 16 منظمة دولية و280 منظمة غير حكومية وبعدد مشاركين يصل إلى 5000 شخص، والذي في نهايته تم اعتماد نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية في 17 يوليو 1998، ودخل حيز النفاذ في الأول من يوليو 2002 بعد تصديق 60 دولة عليه. وتم اتخاذ مدينة لاهاي بهولندا مقرًا للمحكمة، حيث تختص المحكمة في محاكمة الأفراد وليس الدول، وفق إجراءات محددة، بغض النظر عن مكانتهم الرسمية أو الوظيفية، في الجرائم الأشد خطورة، وهي جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان التي تم تعريفها لاحقا في العام 2010 في مؤتمر كمبالا في أوغندا. واستبشر العالم أخيرًا خيرًا بوجود هذه المحكمة التي تُعد الملاذ الأخير للقصاص من المجرمين المرتكبين للجرائم المبينة أعلاه بعد عقود وسنوات طويلة من إفلات المجرمين من العقاب، بالرغم من العقبات والعراقيل التي تمارسها بعض الدول العظمى في تغيير مسارها وتسييس أعمالها إلى أن صُدم العالم منذ أكتوبر الماضي بجرائم الحرب والأفعال المشينة التي ارتكبها المحتل «الكيان الصهيوني» في قطاع غزة، والتي يندى لها جبين الإنسانية، وسط صمت رهيب من معظم حكومات العالم، ودعم صريح وعلني من الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم الدول الغربية الفاعلة. فكما هو معلوم إن الكيان الصهيوني ضرب عرض الحائط بكل القوانين الدولية وبالأخص «القانون الدولي الإنساني» الذي يشمل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولاتها الإضافية لعام 1977، إضافة إلى اتفاقيات أخرى سابقة لهذه الاتفاقيات المعنية «بالحروب والنزاعات المسلحة»، والتي تلزم أطراف النزاع المسلح بحماية المدنيين والبنى التحتية المدنية، وتحظر الهجمات العشوائية ضدهم، كما تحظر التجويع والحصار واستهداف المستشفيات والأطقم الطبية والعاملين في المجال الإنساني، وكذلك استهداف أماكن العبادة كالمساجد والكنائس، والمؤسسات التعليمية كالجامعات والمدارس، بالإضافة إلى حظر العقاب الجماعي ومنه: قطع المياه والكهرباء والاتصالات والوقود، والقتل العشوائي، والفصل العنصري واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، والتي تعد كما هو معلوم «قانون دولي عرفي»، بمعنى، أنه ملزم لكافة دول العالم سواء كانت طرفا في هذه الاتفاقيات أو لم تكن، وهذه كلها قام بها المعتدي الإسرائيلي، بكل عنجهية واستخفاف بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.

فمنذ انطلاق معركة «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر والعدوان الإسرائيلي على غزة، كشفت الحكومات الغربية عن وجهها الحقيقي وسقطت المساحيق التي يتجمل بها الغرب لعقود طويلة لأكثر من سبعين عاما في الحفاظ على حقوق الإنسان وعلى سيادة القانون وحرية الرأي والتعبير، من خلال دعمها وانحيازها المطلق لإسرائيل، واستخفافها بكافة القوانين والأعراف الدولية، بما فيها ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، الذي عهد إلى «مجلس الأمن» مهمة «حفظ السلم والأمن الدوليين» بموجب المادة 1 /24، وتفويض المجلس في هذا الشأن بالعمل نائبا عن أعضاء الأمم المتحدة، وهذا ما تجاوزه مجلس الأمن مؤخرًا في حالة العدوان على غزة، بمنعه إصدار قرار بإيقاف الحرب على غزة، مما يوضح بكل جلاء السقوط القانوني والأخلاقي لبعض الدول المتحكمة بمجلس الأمن، ويضع مستقبل هذه الهيئة الدولية العتيدة، الجامعة لكل دول العالم على المحك التاريخي. وفي هذا السياق، وفي سقوط مشابه للعدالة الجنائية الدولية، وبالمقارنة مع ما قامت به المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 17 مارس من العام الحالي 2023، من خلال الدائرة التمهيدية الثانية، بإصدار مذكرة توقيف «اعتقال» بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رئيس الدولة العظمى الثانية في العالم، بشأن مزاعم متعلقة بترحيل عدد من الأطفال «ونقلهم بصورة غير قانونية من أوكرانيا إلى روسيا». فكما هو معلوم، أن نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية يخول المدعي العام بالتحقيق ومقاضاة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن مراكزهم الرسمية وفقًا للمادة 27، وتخول المادة 58 من ذات النظام المدعي العام، صلاحية إصدار أمر بإلقاء القبض على أشخاص يشتبه بارتكابهم جرائم داخلة في اختصاص المحكمة، حيث إنه يجوز له، المدعي العام، وفق المادة 58 من النظام، أن يتقدم إلى الدائرة التمهيدية بطلب لإصدار أمر بإلقاء القبض على شخص وتقديمه للمحكمة، وبالتالي فإن المدعي العام للمحكمة مخول بموجب نظام روما بإصدار مذكرات توقيف بحق مجرمي الحرب.

فالمادة 6 من نظام روما المعنية «بالإبادة الجماعية» نصت من ضمن عدد من بنودها على: أن «إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية كليًا أو جزئيًا» وكذلك «قتل أفراد الجماعة». والمادة 7 المعنية بالجرائم «ضد الإنسانية» نصت من ضمن عدد من بنودها على: «القتل العمد» و«الإبادة» و«إبعاد السكان» أو «النقل القسري للسكان» و«جريمة الفصل العنصري». والمادة 8 المعنية «بجرائم الحرب»، نصت من ضمن عدد من بنودها على: «توجيه الهجمات عمدًا ضد السكان المدنيين» و«تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية، والآثار التاريخية والمستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى»، كلها تحققت بوضوح في العدوان على غزة، لكن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يبدو أنه لا يرغب في رؤية هذه الأفعال كلها، من القتل الوحشي للآلاف من النساء والأطفال والمرضى والجرحى والعجزة وغيرهم والتدمير الممنهج لكل مظاهر الحياة والذي بلغ حتى تاريخ كتابة هذا المقال، أكثر من 22 ألف شهيد و57 ألف جريح و4 آلاف معتقل ومليون وتسعمائة ألف نازح وتهديم 65 ألف وحدة سكنية بشكل كلي في غزة وحدها، بالإضافة إلى أرقام مخيفة أخرى في الضفة الغربية، لكنه رأى «ترحيل عدد من الأطفال بصورة غير قانونية» من أوكرانيا إلى روسيا، أمرا يستحق تدخله الفوري. الأمر، الذي حسب تقديري، يدق مسمارًا خطيرًا في نعش هذه المحكمة، إذا لم يتم تدارك وضعها وتصحيح مسارها، لتقوم بما هو واجب عليها، وفق الهدف من إنشائها، علمًا، بأن الأراضي الفلسطينية هي في الأصل أراضٍ محتلة من قبل الكيان الصهيوني، وهنالك التزامات قانونية وعرفية على دولة الاحتلال بتوفير الحماية للمواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لا قتلهم. والجدير بالذكر، أن الدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة الجنائية الدولية توصلت إلى ثلاثة استنتاجات مهمة، في القضايا المرفوعة لديها، والتي تشمل العدوان على غزة 2014 وسياسة الاستيطان الإسرائيلية والاشتباكات الحدودية مع غزة في الفترة 2018 - 2019، في حكمها الصادر في 5 فبراير 2021 :

• إن فلسطين دولة طرف في نظام روما الأساسي.

• إن المحكمة الجنائية الدولية تملك ولاية قضائية إقليمية عليها.

• إن هذه الولاية القضائية تمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وبالتحديد غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

مما يجدر ذكره هنا، أن الشريعة الإسلامية وقبل أكثر من 1400 عام، ومن خلال وصية رسول الإنسانية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - للجيوش الإسلامية تقول: «لا تقتلوا صبيًا، ولا امرأة، ولا شيخًا كبيرًا، ولا مريضًا، ولا راهبًا، ولا تقطعوا مُثمرًا، ولا تُخربوا عامرًا، ولا تذبحوا بعيرًا ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تُغرقوا نحلًا ولا تحرقوه». أي أن الحضارة الإسلامية سبقت القانون الدولي الإنساني والحضارة الغربية المزعومة بقرون. وأنا في هذا المقام، أشعر بكثير من الشفقة على أساتذة القانون الدولي، فكيف بإمكانهم بعد هذا السقوط المدوي للقانون الدولي في غزة أن يقنعوا طلابهم في كليات الحقوق أن هنالك قانونا دوليا فعالا وعدالة جنائية دولية تطبق على الجميع، بمبدأ المساواة، وخاصة في الدول الغربية، التي انتفضت شعوبها ومنظمات المجتمع المدني فيها، عندما اكتشفت زيف ما ينطق به قادتها وحكوماتها في وصف ما يحدث في غزة من جرائم. وأرى أنه قد حان الوقت لقيام كبار المشتغلين بالقانون الدولي في العالم، من خلال مؤسساته الحقوقية والقانونية الحرة، بحراكٍ جاد، لتفعيل النظام العقابي للقواعد القانونية الدولية من خلال تطبيق الجزاءات على مخالفيها ومنتهكيها حتى لا يتحول القانون الدولي إلى قواعد أخلاقية لا إلزامية لها.

خالد بن عمر المرهون متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجنائیة الدولیة القانون الدولی المدعی العام نظام روما من خلال على غزة فی غزة عدد من التی ت

إقرأ أيضاً:

الرئاسة الفلسطينية: إحراق مستشفى كمال عدوان جريمة وتجاوز صارخ للقانون الدولي

أدانت الرئاسة الفلسطينية، الجريمة الخطيرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بإحراق مستشفى كمال عدوان والذي يقدم خدماته لأكثر من 400 ألف نسمة، حسبما أفادت قناة «القاهرة الإخبارية»، في خبر عاجل.

وأكدت الرئاسة الفلسطينية، أن الجريمة التي ارتكبها الاحتلال في مستشفى كمال عدوان تأتي في سياق حرب الإبادة والتهجير التي تشنها ضد الشعب الفلسطيني.

وذكرت، أنّ جريمة الاحتلال بحق المستشفيات الفلسطينية تجاوز خطير وصارخ للقانون الدولي والمواثيق التي توفر الحماية للقطاع الطبي والكوادر الطبية أثناء الحروب.

اقرأ أيضاًقطر تدين بأشد العبارات حرق الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان بغزة

قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة

الأونروا: ما يحدث في مستشفى كمال عدوان انتهاك واضح للقوانين الإنسانية

مقالات مشابهة

  • الرئاسة الفلسطينية: إحراق مستشفى كمال عدوان جريمة وتجاوز صارخ للقانون الدولي
  • تعرف على تشكيل الأمانة الفنية للمجلس الوطني للتعليم والبحث والابتكار.. وفقًا للقانون
  • الرئاسة الفلسطينية: إحراق الاحتلال لـ مستشفى كمال عدوان تجاوز صارخ للقانون الدولي
  • ماهي التدابير التي تتخذها الدولة تجاه طالب اللجوء وفقا للقانون؟
  • وزير العدل ينصب أعضاء اللجنة الوطنية للقانون الدولي الإنساني
  • وفقًا للقانون.. تعرف على تشكيل المجلس الوطني للتعليم والبحث والابتكار
  • الأردن: اقتحام المسجد الأقصى وانتهاك حرمته يعد خرقًا فاضحًا للقانون الدولي
  • نحذر من تجاوز المنظمات الدولية للقانون الدولي الإنساني بالعمل على إدخال عناصر أجنبية مجهولة
  • مع اقتراب عام 2025.. تعرف على حالات الحصول على معاش إضافي طبقا للقانون
  • تشكيل اللجنة الدائمة لشئون اللاجئين وفقًا للقانون