(1)
لعلّ خسـائر الحــروب المـادية واضحـة وضوح الشمس، ترصد العـيـونُ انهـيـاراتها المروّعــة وسقوط الأبرياء قتلى بالألوف، ثمّ الدمـار الماثل والحرائـق الملتهبة، بلا أفق وبلا نهاية. هي خسائر وثقتها الفضائيات في غزة وفي السودان في الشهور الدامية مؤخراً .
لكن لن تقتصر تلك الخسائر على ما نرى من هدرٍ للأنفــس وللكرامة الإنسانية ، بل إن الخســائر قد لحـقـتْ بالـبني التحتية ، بل الفوقية أيضا بما يشمل التلوّث في كافـة مناحي الحياة تداعياتها في الحين.
(2)
لك ان تتصوّرفي السودان إنْ هجم أناسٌ هم التتار عينهم في لبوسٍ جـديد، على متحـف البـلاد القومي يدمّرون محتـوياته من منحوتاتٍ وتماثيل وجداريات فرعونية عمرها آلاف السنين، ثمَّ لا يستنكف أولئك التتار الغرباء بعد نهـبـه، من فتح أبواب ذلك المتحف لجوعى يبيعون محتوياته لقـاء رغـيف خبـزٍ أو جرعات ماء . ترى ما الهـدف من ذلك الهجـوم إن لم يضمر اســتخفافاً بهوية تلك الأمّـة السودانية، بل إذلالاً لها ومسعىً لمحو إرثها التاريخي وغي خاتمة الأمر القضاء على نظامه الأخلاقي والقيمي. . تحقيقا لمقولة الجوع كافر. .؟
لك أن تتصوَّر إنْ أقدم أولئـك التـتـار- وهم قد أقدموا بالفعل- على اقتحــام دور العــلم من جامعات ومعاهد ومراكز دراسـات ، وعاثوا فسادا وتخريبـاً وإحراقاً للكتب والوثائق والدراسات، أليس ذلك مما استبطنت أجنداتهم إيقاف عجلة التعليم ، وتعمّد القضاء على الإرث الثقافي وإعادة مجتمعات السودانيين لسنوات إلى الوراء ؟
لك أن تتصور إقدام بدائيين قادمين من سنوات ما قبل القــرون الوسطى، للدخول إلى كلية للفنون الجـمـيلـة والتشكيلية في قلـب العاصمة السـودانية فيحرقون معارض ومقـتـنيات أعـمال إبداعــية لا تقدر بثمـن، أنجزها أساتذة وطلاب تشكيليون منـذ السّـنوات الوسيطة من القـرن العشرين ، أليس في ذلك إيقافٌ لمسيرة الحياة وشروعٌ في طمس الهوية . . ؟
ألا تعني هذه التجاوزات المريعة التي أوردت نماذج منها، أنّ تلك مؤامرة تتقاصر نظرية المؤامرة نفسها عن تفسيرها. . ؟
(3)
في نظرة من زاوية أخرى نجيلها على أداء الجهاز الدبلوماسي لدولة السودان التي يتقاتل فيها طرفان قتالا مريراً ، كلّ طرف منهما يتأبط أجنـدا يخفيها عن الطرف الآخر، لكنها لا تخفى على الناظرين بعمق للوقائع الماثلة، نرى فشلاً ذريعا للدبلوماسية ولجهـود الوســاطات الدائرة بلا مردود . طرف أول طامعون من بقـايا إسـلامويين حكموا الســودان من عام 1989 إلى عـام 2019 ، ولم يقتنعوا بعد أن شباب السودان الذي شهد فساد نظامهم، قد انتفض ضدهم في ثورة ظافرة قذفت بهم إلى مزابل التاريخ. هم يوالون الآن جنرال تولى السلطة عنوة بوعد حقيقي لإعادتهم لكراسي الحكم من جديد ، فيما الجنرال نفسه له مطامع في حكم البلاد بنسخة جديدة من حكم الانقاذ الذي شارك هو في إسقاط نسخته القديمة عام 2019.
أما الطرف الثاني وإنْ كان سوداني الانتماء ظاهراً، لكن له امتدادات إثنية معقدة في أقاليم غربي أفريقـيا، تضم مجموعات من الأفارقة المستعربين ممّن اسـتعصى عليهم الاندماج مع المجتمعات الأفريقية أهل الـقـارة . لقد بلغ الوعـي بهـوية أولئـك المسـتعربيـن المخالفة ، مبلغاً دفعـهم لاعتماد أجـنـدا تســعى لتمييز أنفسـهم باســتعلاءٍ عنصـريٍّ خـفـيٍّ، للإستيلاء على مساحات شاسعة من إقليم دارفور، وهو إقليم سوداني مأهول تأريخيـا بعناصر أفريقـية عـريـقــة . .
(4)
منحتْ حرب السودان الداخلية ، سانحة لأولئك المستعربين الأفارقة للإرتزاق عســكرياً والقتال ضمن قوات الدعم السـريع الـذين قادهـم الجنـرال الـمزيف "حميــدتي"، في مواجـهة الجـيش الرسمي للدولة السودانية. إنخرط الطرفان في حرب قال عنها الطـرف الأول الذي يقوده قائد الجيش الجنرال البرهان إنها عبثية، فيما كانت للطرف الثاني الذي يقوده "حميدتي" نظرة أخرى . إنها حرب تبنّى عبرها الجنرال الأخير خطة لإحلال مستعربي غرب أفريقيا في إقليم دارفور، بعد التخلص مـن العناصر الأفريقـيـة الصرفة من سـكانه المستقرين فيه منذ مئات السنين، إما بالتـرويع أو بالإبادة الجماعية. ذلك ما وقع بيد مستعربي مرتزقة قوات الدعم السريع، من قتل وإحراق لمنسوبي قبائل سـلطنة المساليت في عاصمتهم "الجنينة".
تلك حرب لو رآها الجنرال قائد الجيش السـوداني حرباً عـبثـية ، فـلـه أن يسـتيقظ من حلمٍ مُربـك. إنّ جنـرال المرتزقة يريد من حربه مع الجنرال قائد الجيش السوداني، إنهـاك قــوات خصمه الرّسمية التي تقاتل بإسم الدولـة السودانية ، فينال ما خطط له من اســتيلاء على إقـلــيم دارفور بأكمله، بمـا يتـيح له بعد ذلـك إحـلال مشــايعيه مـن شتات مستعربي الغرب الأفريقي وتسـكينهم في أقليم دارفور السّـوداني، فإن لم تكن ثمّة دولة جديدة يُعـدّ لهـا في رحم الغيـب القريب ، فإنها "فيــدرالـيـة" يفاوض على إدارتها واســتقلالها - على أقـلّ تقـديـر- الجنـرال المزيّف "حميـدتي" ومشايعيه.
(5)
أما الإنهاك الذي قصد أن يصيب الجيش الرسمي للدولة السودانية ، فهو قـد استهدف بداهــة الجهاز الذي مهمته الدفاع عن العدو الخارجي ، أما الجهاز المناط به الدفاع الخارجي الناعم عن مصالح البلاد، فهو جهاز الدبلوماسية السودانية . والذي يدعو للأسف أنَّ كـلا الطرفيــن المتقاتلين عملا على تعمّـد تهمـيش الجهاز الدبلوماسي الرسمي للدولة والذي من مهامه ليس فقط الدفاع عن المصالح ، بل الســعي لوضع الأطر السـليمة للتعاون مع أطــراف المجتمع الدولـي، وعلى جميع المستويات، بدءا بمحور العــلاقات مع الجـوارالمشترك، وامتــداداً للمحـور وهـو التواصل مع الجوار الإقليمي، ثم المحور الثالث المتصل بتفعيل التعاونمع المجتمع الدولي من بعد. .
(6)
عن الجوار المشترك القريب لا تجـد دفئا في علاقة السـودان الحالي بدولة تشــاد أو إثيوبيا أو إريتريا أو حتى دولة الإمارات وإن كانت بعيدة جغرافية لكن يجمعها مع السودان الإنتماء للأخوة العربية . نشهد توتراً دبلوماسيا متصاعدا مع البلدان التي جئنا على ذكرها وتكاد أن تنقطع الوشائج الدبلوماسية بيتها والسودان الحالي.
أمّا الجــوار الإقليمي فيكفي أنّ نرى السودان قد خسر عضويته في الاتحاد الأفريقي، كما توترت علائقه مع الهيـئة الحكومـية للتنمية (الإيقاد) التي تضم دولاً نال السودان استقلاله قبلها بسنوات طوال ، وكان حريا لعراقة عضويته أن يجد احتراماً من لدنها، وأن يكون هو الراعي لا الملاحق بالرعاية والمناصحة من أخوته الصغار. .
أمّا الجامعة العربية والســودان من بين قدامى أعضائها منذ اســتقلاله عام 1956، فمثلــها مثل كل الظواهر الصوتية، لا يصدر عنها غير مجاملات كلامية تتبرّع بها اضطراراً.
أما محور التعاون مع المجتمع الدولي، فإنه سظل الكيان المتفرّج الأكبر شاهداً على انتحار دولة فاشلة، إلا إذا قُـدّر له أن يخلخل مرجعيات مواثيقه فيحرّك سـاكناً، وذلك بعيد الوقـوع إذ كبار المجتمع الدولي - ويا للأسـف- قليل بينهم من يحمل جـديّة لإيقـاف الحرب الـدائرة في السّــودان. .
(7)
إنّ الدبلوماسية حكمة وكياسة وحسن تصرف . ترى أين الكياسة في إطلاق مسئول سوداني تصريحات تتناقلها الفضائيات تسيء لبلدان شـقيقة أو صديقة ، ليُطرد بعدها دبلوماسييين من هنا ومن هناك ..؟
وأين الكياسة إن لم يتـدّبر السودانيون مدنييهم وعسكرييهم أمـوربلادهم فيتبعون أسلوبا جاداً للتفاوض والتناصح لحـلِّ الخلافات والاختـلافات بعـيدا عن أنظــار المبالين وغير المبالين من حولهم. .؟
ترى أين حسن التصرف حين تقول الدبلوماسية بمبدأ التعامل بالمثل فإذا نظام السودان الحالي يبادر بطرد دبلوماسيّي دولة طردت دبلوماسييه، والسودان يا هذا، هو المخطيء دبلوماســياً وكان علـيـه المبادرة بالاعـتـذار اللائق لا المكابرة بالذنب. . ؟
لعلّ من نكبات هذه الحرب البائسة، أنها أنهكت الطرفين المتقاتلين ، لـتنال الدبلوماسـية من كليهما إهمالاً متعاظـماً وتغيـيـباً متعمّـداً، شهدتْ عليه جولات التفاوض الفاشلة بينهما في مدينة جدة السعودية. تظل مأساة السودان تتعاظم فيما يقترب مصير دولة هي من أكبر البلدان الأفريقية والعربية من أقدار التفـتت والانقسام. .
القاهرة- 18ديسمبر 2023
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
تاريخنا حروب في حروب وهدن لا تصمد
عكس لنا المؤرخون تاريخ السودان منذ أقدم العصور وحتي قيام الأحزاب الحديثة علي أنه حروب في حروب وهدن لا تصمد واليوم ليس احسن من الامس فالحرب هذه المرة شاركت فيها جميع الدول بما فيها نحن والضحية حصرا هو المواطن السوداني !!..
أتعجب أشد العجب أن اري صورة واحدة للامام محمد احمد المهدي ويبدو فيها صارما لايفتر ثغره عن ابتسامة ولو عابرة ...
مهدي السودان بعد انتصاراته المدوية علي المستعمرين وتطهير البلاد منهم وبصفته الزعيم المستحق ليكون رأس الدولة وهذا الاستحقاق يجعل يومه مزدحما وهو يصرف شؤون البلاد فيستقبل الوفود الأجنبية ولابد من نظام بروتكولي غاية في الدقة لهذه المهمة التي من خلالها يري الزوار مكانة النظام الجديد هذا مقارنة بنظرائه في الخارج ... طبعا كل هذا الجهد يحتاج الي سكرتارية ومكتب صحفي ومشاركة من ذوي اختصاص وخبرة كثيرين حتي يتم الروتين اليومي بتخطيط محكم مع التوثيق له بآلات التصوير والتسجيل ومع وجود ( ارشيف ) وراءه أصحاب كفاءة عالية يتعهدونه بالرعاية والاهتمام والتجديد والتحديث كلما دعا الأمر لذلك خدمة لهذا العمل بالغ الأهمية والخطورة !!..
لم نشاهد الامام المهدي في مجلس حرب أو مجلس سلم او مجلس نيابي ولم نراه في زيارة خارجية لدولة بالجوار أو دولة ما وراء البحار ... هنالك اكيد كثير من المناسبات الدينية والقومية والاجتماعية وهنالك موسم الحصاد وعيد الشجرة وعيد التعليم فهل كانت الدولة تحتفل مع الشعب بهذه المناسبات وتؤخذ الصور التذكارية وتحفظ للأجيال المقبلة !!..
لماذا يكتب لنا المؤرخون كل تاريخنا القديم والمعاصر علي أساس أنه أحداث دامية ونزاع يكاد لا ينقضي وكأنه ممنوع علينا أن نري في دولة المهدية فعاليات رياضية وثقافية ومهرجانات وفصول دراسية مكتملة الأركان تقدم المعارف وتتبادل الأفكار مع العلماء والأدباء والمفكرين الذين توفروا في ذاك الزمان ... هل كانت في دولة المهدية لغات متداولة غير اللغة العربية وهل عرف أهل السودان الاغتراب في تلك الحقب سواء كان التغرب من أجل العلم أو التجارة والاقتصاد والعمل ؟!
ونلاحظ أن معظم تاريخ السودان حصروه في المهدية وحتي هذا التاريخ أغفل الحياة الاجتماعية والثقافية وعادات الناس وانشطتهم والتركيز كله كان علي المعارك والغزوات والاستعداد للحرب ولبس المرقع من الثياب علي أساس أن هذا زهد وليس هو كذلك إذ أن الإنسان لابد أن يكون حسن الهندام من غير تكلف ومبالغة ومن غير تقليل لشان الآخرين !!..
هل نحن معشر السودانيين أمة وبما وقع عليها كثير من الظلم خاصة من ذوي القربي أصبح عندنا تحمل الالم شيء طبيعي بتنا نهزج مع اهل الجزيرة العربية القدماء ونقول في تلذذ :
نحن قوم إذا الشر ابدي ناجذيه لنا
طرنا إليه زرافات ووحدانا ........
هذه الحرب التي تستعر فينا الآن ونصطلي جميعا من لهيبها أليست هي مصداقا للاندفاع نحو المحرقة من غير تفكير مثل الفراش الذي يرمي نفسه طائعا مختارا في النار !!..
وحتي خليفة المهدي كانت له صورة واحدة وهو يخوض النيل بحصانه الاسطوري وهو ملوح بسيفه البتار في طريقه الي سرايا غردون !!..
ايها المؤرخون لقد بانت كتاباتكم حمراء قانية علي الدفاتر والصفحات وكانكم عن عمد تغفلون عن اجمل ما في البلاد من صور زاهية وطبيعة ساحرة وخضرة وجمال وعلم ومعرفة وثقافة وتصرون علي أننا شعب ( مبشتن ) خالي من اي ( اتيكيت ) ... ونحن لسنا كذلك وانا متاكد أن الإمام المهدي كان من العلماء ومن الزهاد لكن ليس زهدا يقلل من المكانة لرجل هو في مقام راس دولة سطرت بأحرف من نور مكانا لها بين الأمم لكن المؤرخون طمسوا هذه الأحرف المضيئة وحولوها الي عتمة ومازلنا نعاني من هذه العتمة حتي اليوم بنزاعات ليست من طبعنا ولكنها مفروضة علينا فمتي نكتب التاريخ بأنفسنا ولا نترك للاقلام الشيطانية أن تتصرف في ارثتا وحضارتنا واحترامنا لأنفسنا ولغيرنا !!..
حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .
ghamedalneil@gmail.com