مصر «بلد النكتة الأول» فى العالم العربى، والمجتمع المصرى بالتبعية «ابن نكتة»، كما يذهب المهتمون بتاريخ الفكاهة، لذا كان من الطبيعى أن يكون من بين المهتمين بالسياسة وحتى رجال الدين فى هذا المجتمع، من لهم باع طويل فى «الفكاهة والنكتة» ومنهم من كان يؤلف النكات ولا يكتفى بمجرد حكيها أو تداولها.

«السعدنى»: حافظ إبراهيم شاعر النيل كان أحد ظرفاء عصره.

. هجا خاله بالشعر ولجأ للمقاهى بدون عمل بعد أن ترك الدراسة

تحدث الكاتب محمود السعدنى فى كتابه «الظرفاء»، عن عبدالله النديم، الذى شارك فى الثورة العرابية وكان خطيبها، وعمل بالصحافة وأسس عدداً من المجلات الشهيرة فى تاريخ مصر، من بينها «التنكيت والتبكيت»، وأصبح مغضوباً عليه بطبيعة الحال من السلطة بعد فشل الثورة، كيف أن «النديم» اشتهر فى المقاهى المنتشرة فى مدينة الإسكندرية وما حولها.. وذاع صيته حتى لم تعد هناك نكتة جديدة إلا وينسب أمرها للنديم.

وأشار «السعدنى» إلى أن ما بقى من النكات التى ألفها النديم، ورغم أنه نذر يسير مقارنة بإجمالى ما ألف، إلا أنها تدل دلالة قاطعة على أن النديم لم يكن محترف نكتة لوجه النكتة فقط، بل كان يعنى من ورائها أموراً عظيمة، بل هى كانت بداية الثورة على كل الأوضاع المهتزة، وعلى سبيل المثال كان الخواجات فى هذا العصر فوق القانون ولم يكن يجرؤ أحد على سجن خواجة أو حتى إدانته، وكانت هذه الحقيقة المرة.

يقول النديم فى هذه النكتة: إن خواجة وقف أمام القاضى فسأله: - أنت قتلت الراجل ده يا خواجة؟ ورد الخواجة: - لا يا خبيبى.. هو «كتل روخه»! فهتف القاضى منشرحاً: براءة.. وعندما جاء دور أحد أبناء البلد، فسأله القاضى: أنت ضربت الراجل ده بالسكين؟ ورد ابن البلد فى ضراعة: لا والنبى يا سيدى القاضى.. وسأله القاضى من جديد: أمال يعنى هو اللى ضرب نفسه؟ وأجاب ابن البلد: أيوه يا سيدى.. وعاد القاضى يقول: غريبة فيه حد يضرب نفسه.. انت اسمك إيه؟.. ورد ابن البلد الذكى فى سرعة: اسمى.. مخمد خسين»، فى إشارة إلى أنه «خواجة» هو الآخر.

وحكى مؤلف كتاب «الظرفاء» عن نماذج أخرى من بين أعلام مصر، كان من بينها «شاعر النيل» أو «شاعر الوطنية»، كما عُرف حافظ إبراهيم، الذى عاصر ثورة 1919 وعبر عنها، لافتاً إلى أنه كان أحد الظرفاء الذين تمتعوا بالفكاهة.

بدأت روح الفكاهة تتضح عند حافظ إبراهيم فيما نظمه من شعر يهجو به خاله الذى تعهد بتربيته ورعايته بعد أن مات أبوه وهو فى الرابعة فعندما ضاق به خاله بعد أن ترك الدراسة، وأصبح يقضى أيامه بدون عمل أو مصدر للكسب، ويقضى يومه على المقاهى، وقرر إبراهيم أن يهجر خاله تاركاً له ورقة صغيرة تحوى بيتين من الشعر يقول فيهما: «ثقلت عليك مؤونتى.. إنى أراها واهية.. فافرح فإنى ذاهب.. متوجهاً فى داهية».

ولفت «السعدنى» النظر هنا إلى أن «الفكاهة» لم تنعكس فى شعر حافظ إبراهيم بقدر ما انعكست فى أحاديثه ومجالسه، مشيراً إلى أنه رغم البؤس والخوف والقلق فى حياته، فقد كان ظريفاً، وكان يضحك من الأعماق، ويسخر من كل شىء حتى من وجوده، وكان يقول إن الحياة محنة، وإن من الواجب أن نستعين عليها بالابتسام، لافتاً إلى أنه لم يكن يبتسم فقط، بل كان يقهقه، ويحرك نفوس الناس ليضحكوا هم الآخرون.. ومن نوادره أنه عندما كان يحضر حفلة موسيقية، وكان العزف رديئاً والآلات عتيقة بالية، وطلب حافظ من قائد الفرقة أن يسمعهم لحناً معيناً، فأجاب المايسترو بأن اللحن الذى يعنيه سبق لهم عزفه منذ دقائق، فصاح حافظ على الفور: يا سلام.. على كده يبقى انبسطنا.

ومن حافظ إبراهيم إلى الشيخ عبدالعزيز البشرى، ذلك «المُعمم»، صاحب السخرية اللاذعة التى تدمى ولا تجرح، وبديهته حاضرة، ولسانه كسيف الله المسلول حتى على نفسه.

ومن نوادر الشيخ البشرى التى تدل على سخريته اللاذعة وروح الفكاهة لديه، أنه عندما قابله رجل فى الطريق وطلب منه أن يقرأ خطاباً. وكان الخط رديئاً إلى درجة لم تمكنه من القراءة فاعتذر للرجل، وظن الرجل أن الاعتذار لجهل الشيخ فصرخ فى وجهه متعجباً، أمال لابس عمة ليه؟ فنزع البشرى عمامته من فوق رأسه وألبسها للرجل وصاح فيه: طيب لما الحكاية حكاية عمة، اقرأ انت الجواب.

وكتب الشيخ عبدالعزيز البشرى عن زيور باشا، الذى كان رئيساً لوزراء مصر، يقول: «وأهل مصر يأخذون على زيور «كله» ما لا يحصى من الجرائم على القضية الوطنية، وأنهم ليعدون عليه بأموال الدولة واستهتاره بمصالحها ولكن من الظلم أن يؤخذ البرىء بجريرة الآثم، وأن يعاقب المظلوم بجريمة الظالم. فقد يكون الذى اقترف كل هذه الآثام هو كوع زيور الأيسر، أو القسم الأسفل من «لغده» أو المنطقة الوسطى من فخذه اليمنى». ويضيف البشرى: إن الحق والعدل ليقضيان بتأليف لجنة تقوم بعمل تحقيق مع صاحب الدولة فتسأل أعضاءه عضواً عضواً وتحقق مع أشلائه شلواً شلواً.. ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور، فما أحسبه شارك ولا دخل فى شىء من كل ما حصل».

وفى تفسيره لروح الفكاهة والنكتة التى انتشرت بين مشاهير مصر من سياسيين أو رجال دين أو مبدعين بشكل عام، قال الدكتور طريف شوقى، أستاذ علم النفس الاجتماعى، ونائب رئيس جامعة بنى سويف السابق، إن النكتة تعكس مستوى عالياً من الذكاء والإبداع، ومثلما أن الشعوب والحضارات العظيمة لها حكمة، فإنها أيضاً لها نكتة، لذلك تجد العظماء والمشاهير فى هذه الحضارات يتمتعون بالسخرية، أى إن لديهم قدر من الإبداع الذى يعبرون عنه بصورة لطيفة، كما هو الحال لدينا مع عبدالعزيز البشرى، وعبدالله النديم، وغيرهم.

وأضاف «شوقى»: أول معنى للنكتة أنها تعبر عن إبداع وحضارة الشعب الذى يبدعها أو يقولها، ولذلك دائماً يقولون إن الشعب المصرى ابن نكتة (بما يعنى أنه ابن حضارة مبدعة)، وهذا شىء يسعدنا، ودائماً الناس المبدعون يحلون صراعاتهم من خلال نكتة.

وتابع: «الشىء الثانى المهم جداً فى النكتة أنها وسيلة للعلاج النفسى، فنحن نفرغ بها توتراتنا وهمومنا، ودائماً فى الأوقات العصيبة تظهر النكتة باعتبارها وسيلة للعلاج النفسى والتنفيس عن الضغوط النفسية، لكى يستريح الناس، ولذلك تجد النكتة تزيد فى الأيام التى بها «كبت وضغوط»، فليس من الضرورى أن يقاطعوا كما فعل غاندى أو يحاربوا مثلما فعل جيفارا، ولكن يلجأون للنكتة كوسيلة لطيفة يخففون بها عن أنفسهم ويقللون من قيمة الشخص الذى يقولون عليه النكتة».

 

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: صناع السعادة إلى أنه إلى أن

إقرأ أيضاً:

أول من عرف حقوق الملكية الفكرية.. كيف حافظ المصري القديم على إرثه الحضاري؟

تميزّ المصري القديم في مختلف المعارف والعلوم، ونجح في وضع بصمته الخاصة بمجالات التعليم والهندسة والفلك والرياضيات والطب، وغيرها من العلوم التي سبق بها جميع حضارات العالم، ونظرا لإدراكه ووعيه الكبير بأهمية العلم والمعرفة ابتدع حقوق الملكية الفكرية للحفاظ على إرثه الحضاري.

تدوين التعاليم على جدران المقابر 

وكان الكاتب في مصر القديمة يشعر بأنه إذا أجاد في نشر تعاليمه القيمة، خلد اسمه وعاشت حكمته على مر الأيام والعصور، وفق ما أكده الباحث الأثري عماد مهدي، عضو جمعية الأثريين المصريين، ومن أجل هذا حرص الحكماء على تدوين تعاليمهم ونقشها على جدران مقابرهم حتى يتوارثها نسله من بعده، وكان ينظر إلى مؤلفاته الأدبية نظرة من يريد لها البقاء؛ لأن كتاباته ستبقى بعد زوال كل شيء، وحتى بعد زوال نسله.

وأوضح الخبير الأثري، خلال حديثه لـ«الوطن»، أنه كان يقع على عاتق الوريث أو تلاميذ المؤلف مسؤولية تدوين المؤلفات، للحفاظ على مؤلفاته وتعاليمه من الضياع والنسيان، مشيرا إلى نص قديم يقول فيه الكتاب والحكماء أمثال أمحوتب ونفري وخيتي: «حقا إنه من الخير أن يكون اسم الإنسان في فم الناس بالجبانة، أي القبر، فالرجل يموت وجثته تصير جيفة وتصبح كل ذريته ترابا، لكن الكتب التي يؤلفها تبقى وتمكث وتجعل اسمه مذكورا في فم من يلقيها».

نقل الإرث الحضاري

كما جاء في نصوص الحكماء: «إن كتابا واحدا أكثر نفعا من بيت مؤسس بأفخر الأساس، ومن قبر في الغرب، وإنه لأجمل من قصر منيف ومن نصب تذكارى في معبد».

وأشار «مهدي» إلى أن هؤلاء الحكماء والكتاب قد منحوا أبناء غيرهم علم وورث، كأنهم أبنائهم الحقيقيون، وقد رحلوا لكن سحرهم قد امتد تأثيره إلى كل الناس الذين قرأوا تعاليمهم.

مقالات مشابهة

  • مُحافظ الخرج يستقبل مجلس إدارة جمعية التنمية الأسرية بالمحافظة
  • قبل مسلسل شهادة معاملة أطفال في رمضان.. كيف ربط محمود حافظ نجاحه بزوجته؟
  • حظك اليوم برج الحوت الأحد 2 فبراير.. حافظ على تركيزك ونظم وقتك
  • أول من عرف حقوق الملكية الفكرية.. كيف حافظ المصري القديم على إرثه الحضاري؟
  • برج الجدي حظك اليوم السبت 1 فبراير 2025.. حافظ على الصدق
  • فعل فاضح في شارع أحمد عرابي.. التحقيق في اتهام سيدة لسائق بخدش حيائها
  • نواف شكرالله ينتقد أداء الحكم في مباراة النصر والرائد.. فيديو
  • برج الأسد| حظك اليوم الجمعة 31 يناير 2025.. حافظ على علاقاتك
  • محمد حافظ رهوان: جزء مهم من حل أزمة الدولار هو زيادة الصادرات وتقليل الواردات
  • جامعة الحديدة تحصد المركز الثالث في المسابقات العلمية للجامعات اليمنية بتخصص الطب البشري