عام جديد.. «الإنسانية» في مربعها الأول
تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT
تأتي الأعوام تباعا متتالية، دفعات من الزمن المتواصلة بلا توقف، تحمل بين ثنياتها الكثير من الأحداث كبيرها وصغيرها، المؤلم منها؛ وهي الأكثر؛ والمبهج منها وهي قليلة شحيحة؛ لا تكاد تذكر؛ وأغلبها على المستوى الفردي، حيث إنها لا تحمل عالمية قد تفضي إلى شيء من الانفراج يمكن التقييم من خلاله على أنه تطور نوعي للشأن الإنساني، لربما تكون هناك أحداث مبهجة؛ مع قلتها؛ تمثل بعض الانفراجات الإنسانية، ولكنها يقينا؛ لن تتساوى مع الأحداث المحزنة؛ لأن وطأة الأحداث المحزنة، وثقلها على النفس، تكاد تطغو على ضديتها، ولذلك تأتي الأعوام باهتة المنظر، قاحلة العطاء، مكفهرة الوجه، تبعث على السأم، فما الجديد؛ إذن؟ ولعل في بيت أبو الطيب المتنبي ما يذهب إلى هذا المعنى: «عيد بأية حال عدت يا عيد.
تسود العالم صور من التقاطعات المتعفنة (إما أن تكون؛ أو لا تكون) ولا خيار ثالث متاح، وبهذه الوتيرة يجري الزمن المستقطع من أعمار الإنسانية؛ فمجموع العلاقات التشابكية بين الناس، لها دور كبير في هذه الصورة المرتبكة، وأصفها بالمرتبكة؛ لأن كل واحد يريد أن يحقق ما يريده في أقرب فرصة ممكنة، وبالوسيلة الفاعلة الحاسمة، ولو كانت هذه الوسيلة فيها مخاطرة تمس الآخرين الذين تتشابك مصالحه مع مصالحهم، فالمهم أن يكسب الرهان، ولا عليه بالمآلات التي سوف تتم فيما بعد، وإن تضرر بها الآخرون، فهذه ليس إشكاليته، بل بالعكس؛ قد يرى في تصدع المواقف الناتجة عن تحقيق مصالحه، عمرا آخر للإمعان في نهجه، وفي القدرة على الاستحواذ الأكثر مما يسعى إليه، وهل هذه الصورة حديثة؛ بمعنى مرتبطة بزمن دون آخر؟ إطلاقا، فموقف الصدام الذي حدث بين ابني آدم -عليه السلام- حيث النشأة الأولى، لا تزال تراوح مكانها، والذي تغير فقط؛ هو تعاظمها ككرة ثلجية، عبر مجموعة من الوسائل التي حفزت البشرية على الإمعان أكثر في الإساءة، وتحقيق المزيد من المكاسب المادية، ولذلك تظل الإنسانية التي تشرئب الأعناق إلى الوصول إليها؛ مجرد حلم تتماهى صوره شيئا فشيئا حتى تقتنع النفس أن لا أمل إلى تحقيق ذلك، وهذه ليست صورة تشاؤمية، ولكنها حقيقة، أدمنتها النفس البشرية، فتتعامل معها وكأنها شيئا طبيعيا في نسق حيواتها اليومية.
لا تزال معوقات التنمية في كل بلدان العالم؛ إلا الاستثناء؛ -وهذا دليل آخر- تتموضع في مربعها الأول: الفقر يتعاظم، وتتراكم أعداده البشرية، الظلم يتعاظم، وتختزل الإنسانية حضورها اللافت كمخلوق يحق له العدالة، والأمان، والترقي في الحياة، الجهل يتعاظم، وتنسحب المعرفة خجلا؛ لأنها لم تؤثر في البنيوية الفكرية للإنسان؛ حيث ظل على جاهليته الأولى؛ قاطع طريق، وموغل في القسوة على أخيه الذي يتقاسم معه الحياة اليومية، وإن تعاظمت هذه المعرفة في التراكم المادي الصرف، الذي هُيئ أغلبه للقضاء على الآخر، وتدميره، وتشتيته، وجعله قبائل وأفرادا لا يجمع بينهم إلا القوة الصرفة التي تدمر كل ما يقع أمامها من مناخات إنسانية لعل لها أن تعيد إلى البشرية شيئا من إنسانيتها المترهلة بين حمى المصالح، الأمراض تتحول من مستوياتها البسيطة المعتادة إلى تصنيعها وتعقيدها، بغية توظيفها للربح والخسارة، وكذبوا في تسويقها من أنهم يريدون أن يقلصوا من حجم السكان، بل ليراكموا من ثرواتهم، التي لم تلجم أفواههم آلات الحرب المادية المصنعة، فأردوا أن يصلوا لكل فرد داخل بيته، فأي إنسانية هذه التي نعيشها، وسط هذه الغوغاء من اللصوص، وقطاع الطرق، وأعداء الإنسانية.
استعارة للسادية الإجرامية؛ بشكل غير مسبوق؛ لدى البشرية، تتجاوز كل التقديرات التي تتوقع أن تعيد للنفس حساباتها، وتعود إلى شيء من إنسانيتها، فعالمها يتحرك بجنون غير مُسْتَوْعَبٌ له، ليس لشيء، سوى الإمعان أكثر في هذه السادية المتوحشة للدماء، فعلى امتداد التاريخ البشري، وكما تؤكد كتب التاريخ، وما وصل إلينا منها، وما نقرأه من قصص، وما يتناقل من أحداث، فكل الصور المسوقة منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم، وحتى هذه اللحظة، لا تزال الصور تتناسخ الواحدة تلو الأخرى، ويأتي المنسوخ أكثر قتامة من سابقتها، هل لأن الدماء تخثرت، فأصبحت وأمست داكنة اللون أكثر؟ قد يكون ذلك؛ نعم؛ وقد لا يكون؛ وإنما كانت الصورة لا تنقل بكامل تفاصيلها كما يحدث اليوم، حيث تطور وسائل التواصل، لم تبق شيئا مكنونا، أو مخفيا، ولذلك صعقت الأنفس التي لم تتعود على هذه المشاهد، وإن كانت مجتمعاتها لا تختلف كثيرا من وجود درجات للعنف، ويوجد في مجتمعات أخرى أكثر تعقيدا؛ للعنف المركب، لأنها مجتمعات معقدة، بتعقيد تكوينها النفسي، حيث تعيش مأساتها طوال الدهر، ولم يشفع لها الزمن بتجاربه المأساوية أن تعيش نفسا آمنا، تتلمس فيه نفسها التواقة للأمن بكافة أشكاله وتنوعاته.
لم تستطع الإنسانية أن تتحرر من ذاتها المتعطشة للدماء والنهب والسرقة والاعتداء غير المبرر، وتنتبه لشيء يمكن أن يعيد لها توازنها الذي تدعو إليه الفطر السليمة، مع أن كل نفس أول ما ولدت؛ ولدت على الفطرة، ولكن لأن المجتمع من حولها متضخم بكل ما من شأنه أن يصنف أو يذهب به إلى الإساءة، وبالتالي انعكس ذلك على الأنفس التي تأتي للتو لتبحث لها عن موطئ قدم بين هذا الركام المتعفن من الإساءات إلى النفس، فماذا يتوقع أن تكون النفوس بعد حين من الدهر، إلا بهذا الواقع المخيف، والذي يتحرك بأجندات كلها قتل، وسرقة، وترهيب، والمخيف أكثر أن هناك من له القدرة على شيوع الصورة المثالية «الاحتفالية» التي تتوزع بين جنباتها مظاهر الود، والوئام والسلام، بينما الحقيقة غير ذلك تماما، فهناك إقصاء لكل ما ممكن أن يعيد للإنسانية أمنها واستقرارها، هل هي معضلة موضوعية، أو نوعية، أو فطرية، كل ذلك حاضر عند التدقيق في حقيقة الأمر القائم، وهذا من شأنه أن يعقد العلاقة الإنسانية مع ذاتها، ولا يتوقع أية بارقة للأمل يمكن أن تحل في الغد القريب. التاريخ؛ كما هو معلوم بالضرورة؛ يكتبه الأقوياء من الأمة، والقوة هنا هي القوة المادية الصرفة، ولذلك فعبر التاريخ الإنساني الموغل في القدم، لم يأت التاريخ على ذكر أناس عاشوا على الهامش، وإن كانت لهم مآثر خالدة، ظلت في نطاقها الفردي فقط، بل سطر خطوطه العريضة الأقوياء، والأقوياء هنا ليسوا أولئك الذين انحازوا نحو إنسانيتهم، فهؤلاء من الضعفاء، ولكن الأقوياء أولئك الذين كان لهم سوء إراقة دماء الضعفاء على الأرصفة، الأقوياء الذين انتهكوا الحرمات، وقتلوا الأطفال والنساء، وراكموا من أعداد الأرامل والفقراء، والضعفاء، والجياع، والمساكين، الأقوياء الذين أشعلوها نيرانا متوقدة لم تنطفئ بعد، ويبدو أن الأمر كذلك حتى قيام الساعة، الأقوياء -لم يشترط في تصنيفهم- أن يكونوا جماعات، بل يكفي أن تكون لنرجسياتهم، وساديتهم، وتعاليهم، وبطرهم، عناوين لقوتهم، حتى ولو مارسوا هذه القوة على أضعف خلق الله، هؤلاء لا يخلو منهم مجتمع من المجتمعات، ولا أنظمة سياسية، أو اجتماعية، ولا ثقافية، ولا دينية، متوغلون في كل مفاصل الحياة اليومية للبشرية، وإلا لما أطلق عليهم أقوياء، وفوق كل هذا هم الآمنون في أحضان مناصريهم، الآمنون في أوساط منافقيهم، الآمنون في أوساط منتفعيهم، وحتى تدور الدائرة عليهم، يكون للتاريخ «الزمن» دورة أخرى، فيها نوع آخر من الأقوياء.
شَرَّعَ الإنسان قوانين كثيرة: من الأعراف الاجتماعية، ومن القوانين الوضعية، ومن الشرعة الدولية، ولأنهم تجاوزا الشرعة الدينية الصحيحة والتي هي من عند الله عز وجل، لذلك لا يزالون يعانون، فكل هذه الشرائع لم تجد نفعا، حيث ظلت الأنفس تواقة نحو هلاكها، حيث أغمضت عين العقل، واستسلمت للعاطفة، وظل التاريخ مزلزلا بكوارث البشرية، منها وإليها.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ذوبان الجليد يكشف عن نمر يعود لحقبة ما قبل التاريخ
مرة جديدة، كشف الذوبان الجليدي في روسيا عن حدث نادر، حيث عثر العلماء على جيفة متجمّدة لنمر صغير من ذوي الأنياب الشبيهة بالسيوف، والذي يعود وجوده إلى ما قبل التاريخ.
وبحسب صحيفة "إندبندنت" البريطانية، يأتي هذا الاكتشاف بعد أشهر من عثور العلماء من معهد ياكوتسك الروسي على ذئب متحجر عمره 44 ألف عام تحت الجليد في منطقة التندرا القطبية الشمالية.
وأدى ارتفاع درجات الحرارة العالمية الناجم عن تغير المناخ، إلى ذوبان جزء كبير من التربة الجليدية في روسيا، ما أتاح الكشف عن بقايا حيوانات وآثار قديمة أخرى.
ما زال بحالة سليمةتحدث باحثون من "أكاديمية العلوم في ياقوتيا" بالشرق الأقصى لروسيا عن أهمية هذا الاكتشاف، معتبرين أنه يتفوّق بقيمته على الاكتشافات السابقة التي كشف عنها ذوبان الجليد.
وشرح البروفيسور آيسن كليموفسكي المشارك في البحث، أن النمر ما زال محفوظاً بحالة جيدة تحت الجليد، ويحتفظ بفروه البني الداكن.
وعثر عليه أثناء التنقيب عن أنياب الماموث بالقرب من نهر بادياريخا في ياقوتيا، وهي أكبر جمهوريات روسيا الاتحادية، لكن فشلوا على مدى السنوات الأربع من تحديد ماهيته.
واعتبر أن هذا الاكتشاف سيكشف سراً جديداً عن الطبيعة، وهو الشكل الحقيقي لـ "شبل القط ذي الأسنان السيفية"، الذي كان موجوداً قبل 32 ألف عام في الطبيعة.
حجم غريب
أعرب عن استغرابه لحجم جيفة الشبل، التي يمكن حملها براحة يد واحدة، مرجعاً الأمر إلى إمكانية أن عمره كان حوالى 3 أسابيع عندما نفق في ما يعرف اليوم بـ"شمال شرق روسيا"، وقد حافظت عليه التربة الجليدية بشكل جيد منذ ذلك الحين.
والشبل المكتشف جزء من جنس "هوموثيريوم"، الذي عاش في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وأوراسيا وإفريقيا منذ حوالى 4 ملايين، حيث كانت الحيوانات بحجم الأسود تقريباً عند اكتمال نموها، وهي معروفة بقواطعها العلوية المسننة.