التغيرات المناخية وحوكمة الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT
العمانية: تابعت وكالة الأنباء العمانية بعضا من الآراء حول قضايا مختلفة أوردتها الصحف العالمية عبر مقالات نشرت في صفحاتها وتتعلق بالتوجه نحو الاستدامة وجهود العمل المناخي وأهداف حوكمة الذكاء الاصطناعي عالميا.
فنشرت صحيفة «ديلي الصباح» التركية مقالا بعنوان «التوجه المهم نحو الاستدامة والجهود العاجلة للعمل المناخي» بقلم الكاتب «محمد أمين بيربينار».
وشدّد الكاتب في مستهل مقاله على أهمية الاستجابة للتحديات المتشابكة لتغير المناخ وعملية التنمية، والدعوة العاجلة لاتخاذ إجراءات شاملة وفورية لتمهيد الطريق لمستقبل مستدام للعالم.
وفي هذا الصدد، أشار إلى أن تغير المناخ قد أصبح عاملا مهما يؤثر على عمليات التنمية في جميع البلدان وفي الآونة الأخيرة، شهدنا المزيد من الظواهر الجوية المتطرفة مثل العواصف والفيضانات والأعاصير وحرائق الغابات وتواتر موجات الجفاف.
وأضاف الكاتب إن هذه التطورات، التي كانت نادرة في الماضي، أصبحت عنوانا يوميا على جدول الأعمال. وفي هذا السياق، من الدقة أن نقول إن تأثيرات تغير المناخ أصبحت محسوسة على نطاق عالمي، حيث أصبحت المجتمعات الأكثر ضعفا في البلدان النامية هي الأكثر تضررا من هذه الأحداث.
وبين أن القطاعات الحيوية الأساسية للتنمية، مثل الزراعة والمياه والصحة والبنية الأساسية، تعاني بشدة من الآثار السلبية لتغير المناخ، كما أن الآثار المدمّرة على الأمن الغذائي والموارد المائية وصحة الإنسان وسلامة البنية الأساسية تركز بشكل متزايد على الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات شاملة لمكافحة تغير المناخ والتكيف معه، ومن هنا بات ضروريا تحديد الأطر التي توفر دعما ماليا قويا لتخطيط الاستثمار في هذا السياق.
في حين أن المخاطر الناجمة عن تغير المناخ قد لا تؤثر على كل قطاع بنفس القدر أو بنفس الطريقة، فإن الطبيعة المترابطة للأنشطة الاقتصادية تسبب تأثيرها في كل مكان تقريبا وعلى جميع القطاعات.
ولفت الكاتب إلى أن أحد القطاعات التي تتبادر إلى الذهن على الفور عند مناقشة تغير المناخ هي الزراعة، التي تحمل أهمية حيوية بالنسبة للاقتصادات النامية وهي حساسة للغاية لتأثيرات تغير المناخ، حيث تؤثر التغيرات في درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار، إلى جانب الظواهر الجوية المتطرفة سلبا على غلات المحاصيل، ما يشكل تهديدات خطيرة للأمن الغذائي.
وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وسوء التغذية والمجاعات المحتملة في المستقبل ووفقا لبيانات البنك الدولي، فمن المتوقع أن يدفع تغير المناخ 132 مليون شخص إضافي إلى الفقر المدقع بحلول عام 2030، مع تحديد السبب الرئيس على أنه آثار لتغير المناخ على قطاع الزراعة.
وذكر الكاتب أن الشرائح الأشد فقرا والأكثر ضعفا في البلدان النامية تتأثر بشكل غير متناسب بانعدام الأمن الغذائي، وتفتقر إلى إمكانية الوصول إلى الموارد اللازمة لمواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتمتد هذه القضية إلى ما هو أبعد من إطار النظم الغذائية، ولها أهمية في سياق أنماط الهجرة والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
وأضاف إنه مع اشتداد تأثيرات تغير المناخ، تصبح معالجة سياسات المياه عبر الحدود أمرا ضروريا في السياسات الخارجية للبلدان، وأصبحت إدارة الموارد المائية تشكل تحديا متزايدا، وسوف يصبح التقاسم العادل لمصادر المياه الحالية بين البلدان المجاورة قضية دولية أكثر حساسية.
وقال الكاتب في ختام مقاله: «إن تغير المناخ أزمة عالمية تتطلب التدخل الفوري، وإعادة تشكيل عملية التنمية في جميع أنحاء العالم، وتركز قمة الميثاق المالي العالمي الجديد التي عقدت أخيرا على الوعي العالمي بالحاجة إلى الدعم المالي ولا ينبغي للتوترات الجيوسياسية أن تلقي بظلالها على الجهود الرامية إلى إعادة هيكلة تمويل المناخ، إذا لم نتصدّ لتغير المناخ اليوم، فإن آثاره ستكون عميقة مثل الحروب على الأجيال القادمة؛ لذلك يأتي العمل العاجل والتعاوني والحازم ليؤكد المسؤولية المشتركة لجميع البلدان لضمان مستقبل مستدام وعالم مرن».
من جانب آخر، نشرت مؤسسة «بروجيكت سينديكيت» مقالا كان عبارة عن تساؤل عن الهدف الذي يجب أن تحققه حوكمة الذكاء الاصطناعي العالمية بقلم أربعة من الكُتاب المختصين في مجال التقنية، وهم (كارمي أرتيجاس، وجيمس مانيكا، وإيان بريمر، وماريتا شاك) وهم مقررو الهيئة الاستشارية رفيعة المستوى التابعة للأمم المتحدة المعنية بالذكاء الاصطناعي.
وقال الكُتّاب في مستهل مقالهم: «إذا كان للذكاء الاصطناعي أن يحقق إمكاناته العالمية، فهناك حاجة إلى هياكل وحواجز حماية جديدة لمساعدة البشرية جمعاء على الازدهار في الوقت الذي تشهده هذه التقنية من تطور وتحولها على نحو متزايد إلى جزء من الحياة اليومية».
وأشاروا إلى أنه على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي كان يساعدنا بهدوء لعقود من الزمن، إلا أنه مع تسارع التقدم في السنوات الأخيرة، فسوف نتذكر العام (2023) باعتباره لحظة «الانفجار الأعظم».
وحذر الكُتّاب من ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي وهي تقنية تخترق الوعي الشعبي وأصبحت تشكل الخطاب العام، وتؤثر على الاستثمار والنشاط الاقتصادي، وتشعل شرارة المنافسة الجيوسياسية، كما غيرت جميع أنواع الأنشطة البشرية بشكل متسارع، بدءا من التعليم والرعاية الصحية وانتهاء بالفنون.
وأضافوا إنه على الرغم من أن المخاطر والتحديات تختلف باختلاف المناطق والسياقات، فإن خمسة مبادئ أساسية ينبغي أن توجه عملية صنع السياسات:
أولا، بما أن المخاطر تختلف باختلاف السياقات العالمية المتنوعة، فإن كُلًّا منها سوف يتطلب حلولا مصمّمة وفقا لذلك كما أن الفشل في تطبيق الذكاء الاصطناعي بشكل بنّاء من الممكن أن يؤدي بلا داع إلى تفاقم المشاكل وأوجه التفاوت القائمة.
ثانيا، بما أن الذكاء الاصطناعي أداة للتنمية الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، وبما أنه يساعد الناس بالفعل في الحياة اليومية، فلا بد أن تتم إدارته بما يخدم المصلحة العامة وهذا يعني أن نضع في الاعتبار الأهداف المرتبطة بالمساواة، والاستدامة، والرفاهية المجتمعية والفردية، فضلا عن قضايا بنيوية أوسع مثل الأسواق التنافسية والأنظمة البيئية السليمة للإبداع.
ثالثا، سوف تحتاج الأطر التنظيمية الناشئة في مختلف المناطق إلى المواءمة من أجل معالجة تحديات الحوكمة العالمية التي يواجهها الذكاء الاصطناعي بشكل فعال.
رابعا، يجب أن تسير حوكمة الذكاء الاصطناعي جنبا إلى جنب مع التدابير اللازمة لدعم المؤسسات وحماية الخصوصية وأمن البيانات الشخصية.
وخامسا، ينبغي للحوكمة أن ترتكز على ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وغير ذلك من الالتزامات الدولية حيث يوجد إجماع عالمي واسع، مثل أهداف التنمية المستدامة.
واختتم الكُتّاب بالقول إن التحديات الفريدة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي تتطلب نهجا عالميا منسقا في التعامل مع الحوكمة، وإن هناك مؤسسة واحدة فقط تتمتع بالشرعية الشاملة اللازمة لتنظيم مثل هذه الاستجابة: ألا وهي الأمم المتحدة، وعليه يتعين علينا أن نعمل على تحسين حوكمة الذكاء الاصطناعي إذا أردنا تسخير إمكاناته والتخفيف من مخاطره في إطار هذه المؤسسة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حوکمة الذکاء الاصطناعی لتغیر المناخ تغیر المناخ
إقرأ أيضاً:
قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي
يمانيون ـ كامل المعمري
بمراجعة الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة العربية على الأقل خلال العقود الأخيرة، وتحديدًا منذ الخمسينيات نجد أن مشروعًا واحدًا، بتفرده وبنائه العميق، قد خرج من الركام كحالة استثنائية، لا تشبه في تكوينها ولا في مسارها أي مشروع آخر، إنه المشروع الذي انطلق من أعماق جبال مرّان، في محافظة صعدة شمالي اليمن، لكن حاملًا رؤية قرآنية عادت من جديد، متجاوزةً للإطار التقليدي الذي حدّدته أيديولوجيات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
لقد كان العام 2003 نقطة تحول فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الهيمنة الأمريكية تخترق العالم العربي والإسلامي تحت مظلة “الحرب على الإرهاب”، خرج الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي برؤية قرآنية حادة الملامح وواضحة المقاصد، تقلب المعادلة.
رفع شعارًا أدهش الجميع بجرأته وبساطته في آن واحد: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، لم يكن هذا الشعار مُجَـرّد صياغة خطابية، بل كان إعلانًا عن مسار سياسي وثقافي جديد، يهدف إلى إعادة تشكيل وعي الإنسان اليمني وإحياء روحه النضالية المفقودة في ظل سنوات من التبعية والضياع السياسي.
مميزات المشروع القرآني:
ما يميِّزُ المشروعُ القرآني منذ انطلاقته، أنه لم يكن مُجَـرّد رد فعل محلي على أزمة سياسية أَو اجتماعية داخلية، بل كان جزءًا من رؤية أوسعَ تستهدف إعادة توجيه بُوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة: الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، كانت هذه الرؤية ضرورية في وقت اختلطت فيه الأوراق، وتداخلت فيه التحالفات بين أنظمة عربية خاضعة تمامًا للإملاءات الأمريكية وأُخرى غارقة في مستنقع التطبيع مع “إسرائيل”.
جاء المشروع القرآني ليعيد صياغة وعي الفرد والجماعة، متجاوزًا حدود الجغرافيا اليمنية، ليطرح نفسه كبديلٍ حضاري شامل للأُمَّـة العربية والإسلامية، هذه الرؤية لم تكن معزولةً عن الواقع، بل كانت استجابة واعية للمخاطر التي بدأت تلوح في الأفق مع احتلال العراق وتفكيك بنية الدولة الفلسطينية ومحاولة الهيمنة الكاملة على مقدرات المنطقة.
منذ البداية، أدرك أنصار هذا المشروعِ أن معركتهم ليست ظرفية، بل وجودية لذلك، كانت المواجهة مع النظام السابق تتجاوز البعد العسكري لتصل إلى حرب قيم ومعانٍ، فبينما كان النظامُ اليمني السابق يسعى بكل أدواته إلى إخضاع المشروع، مدفوعًا بإملاءات أمريكية وسعوديّة، كان هذا المشروع يزداد صلابة، مستمدًا قوته من رؤية إيمانية جعلت من التضحية عنوانًا للصمود.
لقد أرادت أمريكا أن تقضيَ على هذا المشروع في بداياته الأولى وذلك عبر دعم النظام الذي شن حربًا ظالمة عام 2004 انتهت تلك الحملات العسكرية الكبيرة باستشهاد القائد المؤسّس الشهيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي أراد أن يقدم للأُمَّـة تجربة يمنية في إطار المشروع القرآني، وباستشهاده ظلت فكرة المشروع حية في قلوب ثلة من المؤمنين الذين واصلوا تحمُّل المسؤولية تحت قيادة السيد العلم القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي “حفظه الله”.
لقد خاض النظام السابقُ سِتَّ حروب متتالية ضد هذا المشروع حتى نهاية عام2009، حَيثُ استُخدمت كُـلُّ أدوات القمع والتدمير لإخماد هذه الحركة في مهدها، لكن وكما يحدث دائمًا مع الحركات ذات الطابع القرآني، كانت كُـلّ ضربة توجّـه إليها سببًا في اتساعها وانتشارها.
الثورة التحرّرية تزيدُ قوة وصلابة التحَرّك:
جاءت ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014 كتتويج لمسار طويل من الصمود والمقاومة، ومثلت الثورة لحظة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، حَيثُ بدأت مرحلة الخروج من التبعية الكاملة للوصاية السعوديّة والأمريكية، حينها أدركت القوى الكبرى أن المشروع القرآني لم يعد مُجَـرّد تهديد سياسي أَو عسكري، بل تحول إلى نموذج يلهم الشعوب الأُخرى في المنطقة.
شن التحالف بقيادة السعوديّة، والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، وبمشاركة 17 دولة حربًا عدوانية على اليمن في مارس 2015، استهدفت كُـلّ مقومات الحياة تجاوزت الحرب 350 ألف غارة جوية، وخلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ناهيك عن الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي لم يشهد له اليمن مثيلًا في تاريخه الحديث وحصاراً خانقاً، لكن وعلى الرغم من وحشية العدوان، الذي استمر لقرابة عشر سنوات، خرج الشعب اليمني من هذه الحرب أكثر صلابة وإصراراً على التمسك بمشروعه.
كان سر هذا الصمود يكمن في قدرة المشروع القرآني على توظيف كُـلّ التحديات كأدَاة لبناء وعي جديد، يجعل من المعاناة وقودًا للصمود ومن التضحيات أَسَاسًا للنصر.
وما يجعل هذا المشروع حالة استثنائية هو شموليته، فهو ليس مشروعاً سياسيًّا محدودًا بظرف أَو مرحلة، بل هو رؤية حضارية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الواعي بمسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه وأمته.
كما أن الثقافة القرآنية التي يقوم عليها المشروع ليست مُجَـرّد شعارات أَو نصوص نظرية، بل هي أدَاة لإعادة تشكيل القيم والسلوكيات، بما يتناسب مع التحديات الراهنة.
إن هذه الرؤية هي التي مكنت الشعب اليمني من تحويل الحرب إلى فرصة للنهوض، فبينما كان العالم يتوقع انهيار اليمن تحت وطأة الحصار والعدوان، ظهر الجيش اليمني كقوة تمتلك رؤية واستراتيجية، قادرةً على تغيير المعادلات، وكانت الرؤية القرآنية بمثابة خارطة طريق لإعادة توجيه بوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة، بعيدًا عن التبعية والانهزامية التي سيطرت على الكثير من الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية.
التجربة اليمنية في إطار المشروع القرآني:
وفي لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، حَيثُ الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على أوجها، وحيثُ الأنظمة العربية تتهاوى واحدة تلو الأُخرى في مستنقعات التطبيع أَو التبعية، كان المشروع القرآني كحالة استثنائية غير مؤطرة، هذا المشروع الذي تعرض حاملوه لأبشع أنواع الحروب في العصر الحديث حاضراً وبقوة في الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على غزة التي استمرت قرابة خمسة عشر شهرًا؛ ليخوض مواجهة مباشرة مع أعداء الأُمَّــة بدءًا من فرض الحظر البحري على الكيان الإسرائيلي؛ الأمر الذي أَدَّى إلى دخول اليمن في معركة بحرية استمرت قرابة العام في مواجهة البحرية الأمريكية والبريطانية التي حاولت حماية سفن العدوّ الإسرائيلي، حَيثُ تم شن عدوان جوي على اليمن إلَّا أن الجيش اليمني سجل موقفًا قويًّا وشجاعاً ليتفاجأ الأمريكي كيف يمكن لقوة صاعدة أن تعطل قدرات الأسطول البحري الأمريكي وتنتصر في معركة على قدرات دول كبرى عسكريًّا.
إلى جانب ذلك استطاعت اليمن إطلاق الصواريخ الفرط صوتية والمسيّرات على المدن الفلسطينية المحتلّة وهو ما أذهل الأعداء والعالم، ويكاد المرء لا يصدق أن شعباً يرزح تحت وطأة الحصار والحرب منذ ما يزيد عن عقد، يستطيع أن يقوم بكل ذلك بل والسؤال الأهم كيف يمكن لشعب فقير ومحاصر أن يصنع صواريخ فرط صوتية وبالستية تضرب أهدافاً متحَرّكة ومسيّرات متطورة، متناسين أن المشروع القرآني لا يقف عند حدود بل يتجاوز ذلك إلى التصنيع العسكري وبناء القدرات العسكرية وفي كُـلّ المجالات، وأنه مشروع إرادَة وإيمَـان.
لقد سجل الشعب اليمني حالة فريدة واستثنائية على مستوى العالم والمنطقة رغم إمْكَانياته البسيطة في إسناده لغزة بالموقف العسكري الذي كان غير مسبوق، سواءً في المعركة البحرية ضد العدوان الثلاثي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني، والهجمات البرية بالصواريخ والمسيّرات التي لم تتوقف طوال عام ونيف باتّجاه المدن الفلسطينية المحتلّة.
على الجانب الآخر نفير عسكري غير مسبوق، مسيرات راجله عسكرية، ودورات تأهيل وتدريب لمقاتلين جدد تجاوز عددهم قرابة 600 ألف مقاتل، ومئات المناورات العسكرية، وفي المسار الشعبي حشود مليونية أسبوعيه في كُـلّ المحافظات المحكومة من المجلس السياسي الأعلى وحكومة التغيير والبناء، ناهيك عن الوقفات والنكف القبلي الذي كان بشكل يومي، والتبرعات لغزة والفعاليات والندوات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وفي الجبهة الإعلامية حراك غير مسبوق، رافق انتصارات كبيرة في البحر والبر والجو، إضافة إنجازات تمثلت في إزاحة الستار عن أسلحة نوعية صاروخية ومسيّرات وغير ذلك.
هكذا هو المشروع القرآني يفرض على كُـلّ منتمٍ إليه التحَرّك الجاد والعمل والثقة بالله وعدم الاستكانة، وبهذا الوعي والنفير استطاع اليمن أن يبرز كقوة إقليمية مؤثرة وفاعلة لا يمكن تجاوزها، تفرض معادلات كبرى أمام أقوى جيوش العالم.
نجح اليمن انطلاقًا من المشروع القرآني في إيصال رسالة قوية مفادها أن الشعوب العربية قادرة على المواجهة رغم كُـلّ التحديات، وأن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية للأُمَّـة العربية والإسلامية، بل وأعاد تعريف دور الشعوب في الصراعات الكبرى.
وبكل هذه المعطيات، فَــإنَّ ما حدث في البحر الأحمر يعكس بوضوح كيف تحول المشروع القرآني إلى لاعب رئيسي في معادلات القوة الإقليمية، من هنا، من هذا الشريط المائي الاستراتيجي، تتحدى اليمن الهيمنة الأمريكية بشكل مباشر، وتعيد صياغة مفاهيم السيادة التي حاولت القوى الكبرى طمسها، إنهم يدركون في تل أبيب وواشنطن، أنهم لا يواجهون جيشًا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يواجهون حركة متكاملة، عمقها وعي شعبي يستمد جذوره من مشروع رسخ في أذهان الناس، وأن كرامتهم ليست قابلة للمساومة.
لقد فشلت محاولات احتواء هذا المشروع، ليس لأَنَّ القوة العسكرية عاجزة عن ذلك، بل لأَنَّهم يقفون أمام سد منيع من الوعي الذي لا يتزعزع، والصمود الذي لا ينكسر.
المشروعُ القرآني في اليمن حالة استثناء:
وما يثير الاهتمام أكثر هو هذه القدرة الفريدة للمشروع على الاستمرار والنمو وسط التحديات، فكل حرب شُنت عليه كانت بمثابة وقود جديد يدفعه إلى الأمام، وكلّ محاولة لإخماده لم تكن إلا خطوة جديدة في مسار ترسيخ حضوره، نحن أمام حالة استثنائية، حَيثُ يتحول القمع إلى سبب للاستمرار، والحصار إلى مصدر للقوة.
إن القوة التي تُهمل بناء الوعي، مهما عظمت أدواتها العسكرية والسياسية، تسقط أمام أول اختبار حقيقي، هذه العبارة التي تعكس جوهر الصراع بين المشاريع العربية التي تعثرت، والمشروع القرآني في اليمن الذي ظل شامخاً رغم كُـلّ الحروب والتحالفات الدولية.
إن التجارب العربية في مواجهة الهيمنة الغربية، بدءًا من القومية الناصرية مُرورًا بالاشتراكية البعثية وُصُـولًا إلى حركات الإسلام السياسي، تكشف عن نمط متكرّر من الإخفاقات، حَيثُ ظلت الشعارات تضج على السطح بينما كان الأَسَاس هشًّا لا يصمد أمام التحديات.
المشروع الناصري بقيادة جمال عبدالناصر كان رمزًا للتحرّر في الخمسينيات، لكنه اصطدم بواقعه في نكسة 1967، واعتمد على تحالفات خارجية مع الاتّحاد السوفيتي وأهمل بناءَ وعي شعبي مسلح بالحرية والمسؤولية.
النظام البعثي في العراق كذلك، رغم هيمنته على المشهد لعقود، انهار سريعًا في مواجهة الغزو الأمريكي عام 2003، إذ كان يعتمد على حزب أوحد منفصل عن تطلعات الجماهير.
حتى المشاريع الثورية التي ظهرت مع موجة التغييرات الحاصلة منذ مطلع العام 2011، مثل تجربة الإخوان المسلمين في مصر، تعاملت مع السلطة كغنيمة سياسية بدلًا من كونها أدَاة لتحرير الإرادَة الوطنية.
على النقيض، المشروع القرآني في اليمن يمثل استثناءً جذريًّا لهذه الحلقة من الإخفاقات، لقد أسس هذا المشروع دعائمه على منظومة إيمانية عميقة تستند إلى نصوص القرآن الكريم كمصدر للتشريع والحركة؛ مما جعله قويًّا لا يتأثر بأية مؤامرات، بينما كانت المشاريع العربية تستورد الأيديولوجيات من الخارج وتبني عليها سياساتها.
ولقد أعاد المشروع القرآني تعريف المقاومة كواجب ديني ووطني، واستحضر قوة الهوية في معادلة الصراع، فكان أحد أبرز عوامل نجاح المشروع القرآني هو رفضه التبعية لأية قوة خارجية.
لقد اعتمد المشروع القرآني على مبدأ الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي، فتبنى اقتصاد المقاومة من خلال التصنيع العسكري المحلي والاكتفاء الذاتي الزراعي، وهو ما حرّره من هيمنة البنك الدولي وشروط القوى الكبرى، هذا الاستقلال منح المشروع القرآني مرونة عالية في التعامل مع التحديات، حَيثُ لم يعد رهينة لقرارات اللاعبين الدوليين.
المشروع القرآني أَيْـضًا قلب معادلة الجيش والدولة، بينما انهارت جيوش عربية نظامية؛ لأَنَّها قاتلت كجيوش موظفين، نجح المشروع القرآني في تحويل الشعب اليمني إلى جيش شعبي مقاتل يدافع عن قضيته من منطلق عقائدي، والمسيرات المليونية في اليمن لم تكن مُجَـرّد استعراض للقوة، بل كانت مدرسة جماهيرية لصناعة وعي مقاوم يتحدى أدوات الاستعمار والعدوان.
الأهم من ذلك، كُـلّ المؤامرات التي استهدفت المشروع القرآني تحولت إلى وقود يزيد من قوته، اغتيال السيد حسين بدر الدين الحوثي في 2004 لم يكن نهاية المشروع، بل كان بدايةً لمرحلة أوسع، على عكس المشاريع العربية التي كانت تنهار بمقتل قادتها أَو بتغير الظروف الدولية، حَيثُ نجح المشروع القرآني في تحويل رموزه إلى أيقونات نضال تتجاوز الزمان والمكان.
اليوم، تعجز القوى الكبرى عن كسر المشروع القرآني؛ لأَنَّه لا يقبل التفاوض على ثوابته؛ لأَنَّ ما يميزه عن غيره هو فهمه العميق لمعركة الوعي، حَيثُ أدرك أن الصراع مع الهيمنة الغربية ليس على الأرض فقط، بل على شرعية الرواية الحضارية، فالغرب قدم نفسه كحضارة نهائية، والمشروع القرآني رد بإحياء نموذج ديني يثبت قدرة الأُمَّــة على إدارة دولتها بعيدًا عن التبعية، بينما حوَّلت الأنظمة العربية الدين إلى شعارات أَو طقوس فردية، أعاد المشروع القرآني القرآن إلى مركز الحياة كمنهج ودستور حركة.
مشروع لم يؤطر:
قبل عَقدَينِ من الزمن، لم يكن أحد يتوقع أن يقفَ مشروعٌ ناشئ في وجه منظومة دولية تملك أقوى أدوات القمع والسيطرة، ولكن المشروع القرآني، كما أثبتت التجربة، لا يقوم على حسابات القوة التقليدية بل يرتكز على بناء الإنسان الواعي، القادر على مواجهة التحديات بفكر ثاقب وإيمان صلب، لذلك فَــإنَّ أية محاولة لفهم هذا المشروع من خلال عدسات السياسة التقليدية ستخفق في إدراك عمقه وتأثيره.
المثير في تجربة المشروع القرآني هو أنه لم يأتِ من رحم الأنظمة، ولم يُؤطَّر ضمن الأيديولوجيات التقليدية التي أسقطتها الأحداث، إنه مشروع خرج من الناس وإليهم، يتغذى على احتياجاتهم، ويستمد قوته من إيمانهم، لذلك فشلت الولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل” في كسره؛ لأَنَّهم لا يواجهون جيشًا تقليديًّا أَو حركة سياسية عابرة، بل يواجهون حالةَ وعي جماعي راسخة وسدًّا منيعًا من الصمود والإرادَة.
إن هذا المشروع يقدم للأُمَّـة نموذجًا مختلفًا، ليس لأَنَّه تحدى القوى الكبرى فحسب، بل لأَنَّه أثبت أن النصر لا يتطلب أدوات القوة التقليدية، ويمكن لشعب محاصر أن يصنع معادلة جديدة، يمكن لوعي مستمد من القيم القرآنية أن يتحدى أعتى الإمبراطوريات.
اليوم، عندما ننظر إلى المشهد العربي، لا نجد مشروعاً آخر استطاع أن يصمد أمام الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية بهذا الشكل، فالأنظمة التقليدية إما انهارت أَو استسلمت، والمشاريع الأُخرى تلاشت في زحام المصالح الدولية، وحده المشروع القرآني الذي يحمله اليمنيون استطاع أن يقدّم نموذجًا متكاملًا، يجمع بين المقاومة الشعبيّة، والصمود العسكري، والوعي الثقافي.
إن هذا المشروع لم يظهر من فراغ؛ بل جاء لحكمة ربانية على يد شهيد وقائد ينتمي لمدرسة آل البيت كاستجابة تاريخية لواقع متراكم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الأُمَّــة الإسلامية.
والثقافة القرآنية كانت العمود الفقري الذي أسّس عليه هذا المشروع، حَيثُ عمل على بناء وعي جمعي قادر على مواجهة أعقد المعادلات الإقليمية والدولية وبالتالي تحول هذا الوعي من مُجَـرّد أدَاة دفاعية إلى حالة هجومية تسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الشعوب وقوى الاستكبار العالمي.
في النهاية، يمكن القول بثقة إن المشروع القرآني الذي يمثل تجربة فريدة لليمن، أثبت أنه أكثر من مُجَـرّد حركة مقاومة، إنه نموذج متكامل لإعادة بناء الأُمَّــة على أسس الوعي والإيمان، رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة لتضعَ أُسُساً جديدةً لبناء أُمَّـة إسلامية قوية، تمتلكُ استقلالية القرار، وتحملُ رسالةً إنسانية متجاوزة للهُويات الضيقة والانتماءات العابرة.
هذه الرسالة، المستمدة من القرآن الكريم، تعيد للإنسان مكانته المركزية كفاعل ومسؤول عن تغيير واقعه، وتحمل في طياتها قيم العدل والسلام التي غُيبت طويلًا في ظل الهيمنة الاستعمارية والتبعية.
إنه مشروع يتحدى الهيمنة ليس بالسلاح فقط، بل بفكرة، بفهم عميق لمعنى الحرية والكرامة، وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن للأُمَّـة أن تتعلمه من التجربة اليمنية، فالقوة الحقيقية ليست في السلاح، بل في الوعي والإرادَة والانطلاق من القرآن وما يجب أن يفهمه الجميع أنه ليس مشروعًا يمنيًّا بل قرآنيًّا جامعاً، خارطة طريق للأُمَّـة لمواجهة أعداء الإسلام والإنسانية.
ولا سبيل للأمتين العربية والإسلامية للخروج من حالة الانحطاط والذل والخضوع للهيمنة الأمريكية والصهيونية إلا بهذا المشروع القرآني الذي يواصل حمله السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في محاضراته وخطاباته للأُمَّـة، انطلاقاً من مسؤوليته الدينية، وسيأتي اليوم الذي تصدح فيه كُـلّ الأُمَّــة بالصرخة وتتبناها كشعار للمواجهة، فهذه الصرخة التي صدح بها القائد المؤسّس الشهيد حسين الحوثي، وأرادها لتكون مشروع كُـلّ الأُمَّــة وستكون كذلك.
المصدر: المسيرة