محاولة لترتيب العالم من جديد
تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT
نشر الكاتب البرازيلى «باولو كويلو» قصة قصيرة يقول فيها: كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، ولكن ابنه الصغير لم يكفّ عن مضايقته، وحين تعب الأب من ابنه قام بقطع ورقة فى الصحيفة كانت تحوى خريطة العالم، ومزقها إلى قطع صغيرة، وقدمها لابنه، وطلب منه إعادة تجميع الخريطة، ثم عاد لقراءة صحيفته ظنًا أن الطفل سيبقى مشغولًا بقية اليوم، إلا أنه لم تمر خمس عشرة دقيقة حتى عاد الابن إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة، فتساءل الأب مذهولًا: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟! رد الطفل قائلًا: لا؛ لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم.
أشعر بأننى كطفل «كويلو»، أبدأ حينما توشك صباحات عام على الرحيل فى ترتيب العالم من جديد.. تتوالى المشاهد أمام عينى مربكة ومختلطة، تتصدرها مشاهد العدوان الصهيونى السافر على أهل غزة العزل، وصور لسقوط عشرات الضحايا الأبرياء تحت القصف، الكل يعرف تفاصيل جريمة إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، صمت العالم على ما يحدث يرعبنى ويجعل ترتيب العالم أمرًا مزعجًا وغير قابل للتلوين بلون آخر غير اللون الأحمر كرمزية حزينة على دماء الشهداء.
فى أعلى الخريطة أرسم براويز بحجم القلب الذى يخترقه سهم نافذ، أضع فى أحد البراويز صورة الكاتبة والشاعرة الفلسطينية الشهيدة هبة كمال أبو ندى التى رحلت عن دنيانا وهى لم تتجاوز عامها الثانى والثلاثين، كتبت ندى على الرغم من سنوات عمرها القليلة القصة والرواية والشعر، تنتمى هبة أبوندى إلى عائلة لاجئة من بيت جرجا المهجّرة والمدمرة فى العام 1948، درست الكيمياء الحيوية والتأهيل التربوي، وعملت فى التعليم، حصلت على عدة جوائز أهمها المركز الأول فى القصة القصيرة على مستوى فلسطين، والمركز الثانى على مستوى الوطن العربى بجائزة الشارقة للابداع، ولديها كتابات شعرية ونثرية منشورة ورقيًّا وإلكترونيًّا.
أما آخر ما سطرته هبة أبوندى قبل استشهادها بساعات قليلة إثر غارة جوية صهيونية على منزلها: «نحن فى غزة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير وكلنا ننتظر أين سنكون.. كلنا ننتظر، اللهم وعدك الحق».
تتزاحم وتختلط الصور الموضوعة داخل أطر البراويز أعلى الخريطة التى أحاول جاهدة لرسمها لترتيب العالم من جديد ليكون أكثر إنسانية ورحمة.. أتوقف أمام أحدث صورة وضعتها وهى لعالم اللسانيات المغربى عبد القادر الفاسى الفهرى ودعوته فى رأس السنة الجديدة 2024 إلى تضامن يجمع الشعوب والدول “مع أبطال غزة وفلسطين”، مناديا بحداد رمزى.
ففى رسالة مفتوحة كتبها قبل أيام قليلة، قال الفاسى الفهري: “لن نحتفل برأس السنة الجديدة”، داعيًا ألا تشتعل الأضواء، وألا تزهو الفضاءات أو تزخرف المحلات، «حتى يُعاد الضوء والأمل والبسمة إلى غزة العزة، وإلى شعبها الحر البطل، وينعم بالماء والكهرباء والغذاء والدِّفء والوقود والكرامة والحرية».
وبعد تذكيره بأن «اليهود والنصارى والمسلمين وشعوب العالم قد تنكروا ونددوا وصرخوا لما يرتكب من مجازر واغتيالات وإعدامات، وتطاير أشلاء الأطفال والنساء والعجزة والمدنيين، وجرائم حرب، وتربص المجرمين النازيين، وإبادة شعب فى غزة وفلسطين»، أردف الأكاديمى قائلا: «لن نحتفل حتى نحتفل بتحرير فلسطين»، خاصة بعدما «انْفَضح الصهاينة بوحشيتهم، ودهسهم للأخلاق، والحقوق، والقوانين الإنسانية الدولية».
تأتى المساءات الأخيرة من عام 2023 مشحونة بالأمل فى خريطة إنسانية محكومة بقوانين الحق والعدل والحرية.. أبحث عن صورة للشيخ الجليل والمنشد العبقرى المصرى «سيد النقشبندي» وهو فى عنفوان شبابه ووجهه يكسوه مسحة من الإيمان واليقين بنصر الله، أضعها فى برواز يتصدر منتصف الخريطة، أجلس على مقعدى المفضل فى مقهى الحياة منحنية الظهر من هول ما عشنا عامنا الماضي، بفنجان القهوة الساخن أستمع إلى تسجيل صوتى نادر للنقشبندى لعله يبث فى قلبى الطمأنية وهو يبتهل قائلًا : قم يا فتى العُرب.. قم يا فتى العُرب حيّ فتية الحرم.. حيّ فلسطين مهد الوحى فى القدم.. وانقش على صفحات الخلد قصتها.. وأنها لم تلن يوما لملتهم.. وانشر على مسمع التاريخ.. مهزلة قامت بها عصبة فى هيئة الأمم.. جاء القرار وشرع الغاب مصدره.. فيه تجلى خداع الخصم والحكم.. الحق أبلج لا يخفى على أحد.. لكنه عن نداء الحق فى صمم.. لا يرهبنك لالالالالا.. لا يرهبنك يا ابن العرب جمعهم.. فالحق مهما أعدوا غير منهزم.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ابنه الصغير
إقرأ أيضاً:
“لقاء الأربعاء”
– عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، بتعدد مذاهبكم وأطيافكم وبلدانكم، وحتى دياناتكم! فلم تكن شخصية المجاهد، والبطل، حكرًا على مكوّن دون غيره، تمامًا كما لم تكن شخصية الخائن حكرًا على مكون دون غيره.
– في سقوط الأندلس أو سقوط بغداد، القدس أو القاهرة، فقد كان السقوط عاقبة التشرذم، والفتنة، والانشغال عن العدو الحقيقي بالعداوات الجانبية التي لا تفعل شيئًا، باستثناء تفتيت وإضعاف مجموع المستهدفين، الذين لا يمكنهم أن يواجهوا العدو إلا بالوحدة صفًّا، لا الفُرقة أشتاتا؛
فكيف إذا أضافوا إلى ضعف التشتت والانقسام، غباء التناحر البيني الذي يقزّم المنتصر، وينهكه، ويدفع المهزوم لأن يستنصر العدو الحقيقيّ على أخيه، ليتناوب المهزومون عار العمالة، وكلٌّ يعتقد أن الآخر هو الخائن، وأنّ لعمالته- في المقابل- ما يبررها.
– العدو- في المقابل- يستهدف كل مقاوم، بمنأى عن تصنيفاتنا؛ الفصائل الفلسطينية السنية كما حزب الله الشيعي، وتمامًا كما حركة أنصار الله التي لا يمكن تصنيفها مذهبيًّا، إذ تجمع الشافعي مع الزيدي، وحتى مع بعض الأقليات اليمنية الأخرى.
– ليبقى المؤكد أن العدو يستهدف الكافة، وحتى من رحبوا به، وفتحوا له الأبواب، وقدموا له فروض الطاعة، فإنه يستخدمهم أحذيةً إلى حين، ويتخلص بعدها من كلّ من استوفى مهمته.
– من هذه الناحية فكل انتصارٍ للعدو المركزي على الأمة مؤلم، وأما صراعاتنا البينية فمهما بلغت، فلا تبرر الخيانة. ليبقى كل انتصار على العدو المركزي انتصارٌ لكلّ الأمة.
– مصلحتنا في الوحدة، في المقابل، تجسّد روح الإسلام الحقيقي، لا العكس.
ودولة الإسلام عبر تاريخها لم تكن دولةً للمسلمين فقط، وإنما جمعت غير المسلمين أيضًا، وكفلت حقوقهم، وفقهيًّا فقد كفلت لكلّ ملةٍ قوانين ملّتها، وليمتد الأمان حتى للمستأمنين.
– وأما من يتم التغرير عليه بأحكام الردة، على اختلاف الفقهاء عبر التاريخ بشأنه، فهي من حيث المبدأ لا تنطبق على مخالفيك في المذهب، لأنهم لم يبدّلوا في الأصل دينهم، والغالب الآن أن الشيعي (على اختلاف فرق الشيعة) نشأ على فهمٍ بأنه على الدين الحق، تمامًا كما أن السّني (على اختلاف فرق السنة) نشأ على فهمٍ بأنه على الدين الحق!
ولم يتسنى لكل الأطراف قراءة حتى كتب المذاهب التي تخالفهم ويخالفونها! وحتى لو تصورت بأن مذهبك هو الحق، فأنت لم تستكمل واجب البلاغ! وحتى بعد واجب البلاغ فتبقى قاعدة:
« وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا»!
وإذا كنت لا تملك الحق على إجبار أهل الكتاب، وهم الأبعدين عن دينك، باعتناق الإسلام! فأنت لا تملك الحق بإجبار الأقربين إليك على اعتناق مذهبك، ومن باب أولى.
– وبشأن أهلنا في سوريا، على سبيل المثال:
لقد كان أن تحالف العلوي صالح العلي، مع السني عزالدين القاسم، في مواجهة عدوٍّ مركزي واحد.
– وقد سمعت من يقول بأن سوريا منهكة، وأقول فوقها: كل الأمة منهكة. وكلها لا تستطيع مواجهة الكيان القذر، ما لم تتجاوز الخلافات إلى الوحدة! وشئت أم أبيت فإضعاف حزب الله يجرّ على فصائل المقاومة في فلسطين ضعفًا مؤكدا، وضعفهم جميعًا يضعف سوريا، والعكس صحيح!
تمامًا كما أن التوغل الصهيوني في سوريا يُضعف الأردن والسعودية والعراق وإيران ومصر وتركيا، فيما لن يصمد أحدٌ منكم في مواجهة الكيان الملعون وحده!
يا أيها النعاج الذين تنتظرون دوركم بغباء ماشية، ولعلكم تمارسون الشماتة بمن طالته السّكين قبل أن تطالكم، فإذا ما حان دوركم أسلمتم الرقبة، بلا حراكٍ لأنكم المخزيّون؛
ولأنّكم تشعرون بالإنهاك،
إذ استهلكتم في المناطحات البينية كل عوامل القوة،
فها أنتم؛ إذ حان وقت المواجهة الأحق، والأصدق، والأولى: قلتم لا طاقة لكم اليوم بنتنياهو وجنوده!
ويا له من عذرٍ أقبح من ذنب!
وفي صبيحة الأربعاء القادم، في الزاوية ذاتها بإذن الله.
يبقى لنا حديث.