من إيجابيات طوفان الأقصى، أنه عرّى كثيرًا من الأنظمة والشخصيات العربية، وكذلك الدول الغربية والمنظمات التي تتشدق بحُريّة الإنسان وحقوقه ليل نهار. والواقع أنّ بعض هذه الأنظمة وهذه الشخصيات، وكذلك مواقف الدول الغربية كانت معروفة، إلا أنّ البعض كان على بصره غشاوة؛ فما فعله طوفان الأقصى هو أنه أزاح الغبار عن البعض فأصبح مكشوفًا للكل على حقيقته، ومن ذلك مواقف الدول الغربية بالذات، التي تتحمّل المسؤولية الكاملة عن الجرائم التي ارتُكبت في غزة، فما حدث ما كان ليتم لولا الدعم الأمريكي والغربي وتواطؤ عربي معيب، مع صمت دولي مريب.
لقد فضح أسامة حمدان، عضو المكتب السياسي لحركة حماس وممثلها في لبنان، المواقف الغربية العدوانية تجاه غزة، في أحد مؤتمراته الصحفية التي يعقدها في بيروت بصفة شبه يومية منذ السابع من أكتوبر الماضي، وحمّل فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن، المسؤولية الكاملة في المشاركة في عملية الإبادة التي تجري في غزة، كما اتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحشد الدعم ضد المقاومة الفلسطينية، مقابل دعم الاحتلال الصهيوني في جرائمه. ومن أبرز ما جاء في هذا المؤتمر الصحفي مطالبة أسامة حمدان، الرئيس الفرنسي أن يعيد جماجم المقاتلين الجزائريين، التي تحتفظ بها فرنسا في متاحفها، قبل التحدث عن الحرية وحقوق الإنسان، وأنه «لا يتصور أن تحتفظ دولةٌ تدّعي احترام حقوق الإنسان بجماجم بشر في متاحفها»، في إشارة لتناقض مواقف هذه الدولة مع سلوكها.
أعاد أسامة حمدان، قصة الجماجم البشرية إلى الواجهة، ولم يتجن على فرنسا؛ فالقصةُ حقيقية وليست ضربًا من الخيال؛ إذ أنشأت فرنسا متحفًا أسمته «متحف الإنسان» أو «متحف التاريخ الطبيعي»، ولكنه في الواقع يسيء إلى الإنسان قبل أن يسيء لفرنسا نفسها، إذ وصفه البعض -حسب تقرير قناة «الغد» التلفزيونية- بـ«متحف العار»، حيث بنى شهرته على جماجم المقاومين الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي لبلادهم، ويضم فيه 18 ألف جمجمة للثوار المسلمين، الذين قطَعت رؤوسهم، وكانت تلك الجماجم تزيّن قصور حكام فرنسا، ومنها قصر الإمبراطور نابليون الثالث، الذي شيّده بالأموال التي نهبها الجيش الفرنسي من الجزائر، ووضع رؤوس الثوار الجزائريين الذين حاربوا مع الأمير عبد القادر الجزائري في مدخله، زينة يتفاخر بها على ملوك أوروبا. وإمعانًا في إهانة الجزائريين الذين قدّموا أكثر من مليون شهيد في سبيل تحرير بلادهم، استخدم قادة الجيش الفرنسي جماجم قادة المقاومة الجزائرية لتزيين قصورهم أيضًا، كأدلة على الانتصارات التي حققوها.
لم تختلف النظرة الفرنسية لشعوب الشرق عن النظرة الغربية عمومًا، إذ كان الهدف من تجميع هذه الجماجم في هذا المتحف، إثبات أنّ العنصر الفرنسي هو الأرقى والأفضل، وأنّ له الحق في أن يحكم العالم، وأن يحصل على كلّ الثروات. وما فعلته فرنسا هو ما فعله الاستعمار البريطاني البغيض في كلّ بقعة وصل إليها، وما فعله الألمان والبلجيك والهولنديون والبرتغاليون والإسبان وغيرهم.
بعد تصريح أسامة حمدان، تجولتُ في مواقع الإنترنت المختلفة لمتابعة قصة هذا المتحف، ومن أبرز ما شاهدتُ تقريرا في قناة «الحرة» عن المتحف الذي أنشأه عالم فرنسي متخصص في الأنثروبولوجيا، يدعى بول ريفييه، عام 1937، جمع فيه الجماجم من قصور الملوك والقادة الفرنسيين، واختار لهذا المتحف موقعًا متميزًا بالقرب من برج إيفل، وحصل على دعم كبير من الحكومة الفرنسية، وسوّغ ريفييه إنشاء المتحف بأنه يهدف إلى إثبات أنّ العنصر الأوروبي هو أصل البشرية.
لقد أثار ملف «جماجم المقاومين الجزائريين» جدلًا بين فرنسا والجزائر، إذ رفضت السلطات الفرنسية عرض قانون يسمح بإعادة جماجم المقاومين الجزائريين إلى الجزائر، رغم أنه حظي بموافقة أغلبية النواب، بسبب حساسية القضية في العلاقات الجزائرية الفرنسية، وفي السنوات الأخيرة تحولت قضية الجماجم إلى ما سُمّي بـ «حرب الذاكرة» بين البلدين، في وقت تصر فيه الجزائر على إعادة الجماجم، كخطوة رمزية قد تكون بداية لاعتراف رسمي من فرنسا «بجرائم الاستعمار». وحسب صحيفة «الشروق» الجزائرية، عن النائب الفرنسي، كارلوس مارتنيز بيلونغو، صاحب مقترح مشروع قانون إعادة جماجم المقاومين إلى الجزائر، فإنّ السلطات الفرنسية رفضت عرض المشروع على النواب، رغم أنه حظي بموافقة قرابة ثمانين منهم حتى الآن، وذلك لحساسية الملف وتجنبًا لإعادة التوتر في علاقاتها مع الجزائر بعد عودة الدفء إليها؛ ففرنسا تعتبر طرح قضية تسليم الجماجم حساسة لدرجة أنها قد تعصف بالعلاقات الفرنسية الجزائرية، وهو ما يفسر رفض السلطات الفرنسية مناقشة القانون المقترح، ومع ذلك سلمت فرنسا للجزائر 24 جمجمة، تبين فيما بعد أنها تعود للصوص، وهو ما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية.
كان أسامة حمدان محقًا في معرض كلامه عن الرئيس الفرنسي وتشدقه بالحرية وحقوق الإنسان؛ فالاحتفاظ بتلك الجماجم في ذلك المتحف جريمة عنصرية ضد الإنسانية، ودليل على التاريخ الأسود لتعامل أوروبا مع الشعوب العربية، وظلم فرنسا وهمجيتها وتاريخها وعارها الذي ستظل الشعوب العربية تذكره.. ولكنه بالمقابل فإنّ هذا المتحف -بما ضم من جماجم أولئك الأحرار- يدل على بسالة الشعوب العربية في رفض الاستعمار، وأنّ الأمة قادرة على المقاومة والتحدي وتحقيق الانتصارات؛ وأنّ هذه الانتصارات لا تأتي إلا بالتضحية بالأرواح والدماء، فأصحاب تلك الجماجم هم أبطال تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، الذي جثم على صدور الجزائريين أكثر من مائة وثلاثين سنة، حاول فيها محو كلّ ما هو جزائري وعربي وإسلامي، ولكنه في النهاية استسلم وذهب، ولم يحتفظ إلا بتلك الجماجم.
وما يفعله الفلسطينيون حاليًا من تقديم التضحيات أمرٌ مؤلم، لكنه طريق التحرير؛ فالعبرة تكون في النهاية وإن طال المشوار، وسيأتي يوم نقول فيه: إنّ ما قدّمه الفلسطينيون في غزة من تضحيات كان سببًا في زوال الكيان الصهيوني. ومهما يكن فإنّ المستعمِرين والمحتلِين يعرفون حق المعرفة أنّهم ظلمة، وأنّ أرواح ودماء الشهداء حق، ويصدق على ذلك بيت الشاعر أحمد شوقي:
دم الـــثــوار تــعــرفـه فــرنـسـا
وتــعــلـم أنـــــه نـــــور وحــــق
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم في الشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أسامة حمدان هذا المتحف متحف ا
إقرأ أيضاً:
هذه هي أفضل المشاريع الإنتاجية المربحة عند الجزائريين
هذه هي أفضل المشاريع الإنتاجية المربحة عند الجزائريين
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور