صحيفة أثير:
2025-03-11@01:12:48 GMT

وفاء امرأة عُمانية: العجوز شُنُونة

تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT

وفاء امرأة عُمانية: العجوز شُنُونة

أثير- مكتب أثير في تونس
وضّب القصّة وأعدّها للنشر: محمد الهادي الجزيري

نعود إلى تسعينات القرن الماضي ..وذكريات الأستاذ صالح البلعزي عن عُمان التي قضّى فيها ثلاث عشرة سنة ..، وسنكتشف خلال هذه الحكاية موهبته الاستثنائية .. “الراوي” التي يمتاز بها ..إلى جانب مهمّته التدريسية ..، اليوم وهو في سنّ التقاعد .

.يحدّثنا عن “شُنُونة” هذه المرأة العجوز العُمانية التي كانت أوّل عاطفة فيّاضة ..ألهمته هذه القصة المؤثرة ..الطافحة بعزّة النفس وقوّة الكرامة والقناعة التّامة ..:
يا الله اخترتَ لي و لأسرتي قرية ” بُعد ” في أوّل رحلتي الى سلطنة عُمان، أستاذا يشحنه العزم للأخذ بعقول أطفال طيبين يؤُمون مدرسة هذه القرية الوديعة …، لم أكن أتوقع أن أنسجم بسرعة مع جبالها السوداء الصلعاء و مسالكها الخشنة و واحة نخيلها الساحرة، يعبرها فلج غزير ماؤه حنون ..،هناك مع آخر سطر نخل يلامس الأرض الصخرية البور، يقعُ كوخ صغير تآكلت جدرانه الطينية بفعل الزمن..، كوخ بنافذة صغيرة واحدة و بقايا باب من جذوع النخيل وسعفها، تصدر من داخله أصوات همهمات أو قلْ ما يشبه بكاءَ من لم يجد طاقة لرفع الصوت ..، كنت أنا و زوجتي نمرّ من أمامه، فلا طريق آخر يأخذنا إلى منزلنا المعزول هناك مقابل هذا الكوخ الغريب ..، كانت زوجتي أكثر مني إصرارا على فكّ رموز هذه الأصوات المترعة معاناةً، تخرج من شقوق الكوخ وكان لها ذلك..، ذات يوم عندما وجدت أمامها فجأة وهي مارّة .. عجوزا سمراء البشرة قصيرة القامة، غائرة العينين كأنّ بها عمًى وهي في أوج الابصار ..، ترتدي الزيّ العُماني التقليدي:سروال أخضر و فستان قصير تجمّعت عليه جلّ الألوان من أحمر و أخضر و أزرق وعلى رأسها لحاف من قماش خفيف من القطن يتدلى خلف ظهرها …

إنّها الأمّ شُنُونة.. ما يزيد عن ثمانية عقود من العمر، أذبلت نظارة وجهها و قوّست ظهرها، و لم تجن منها سوى عدوّين: الوحدة و الأحزان..، كيف لا وهى من إذا بكت يقف كل ذي كبد رطبة عن الحركة، تعاطفا معها دون قدرة على طرح السؤال عن سبب هذا الشجن و هذا البؤس ..، شُنُونة يا من تَماهيت بقسوة أحجار الوادي و هذه الغرابيب السود( الجبال)، سيأتي اليوم الذي أعرف فيه طوفان حزنك، هربتِ به عن أعين الناس في هذا الكوخ كأنه شيخ يلفظ آخر أنفاسه …شُنُونة رنّة في الاسم و أنّة تلو أنّة في صدر صاحبة الاسم …

تفطّنتْ إلى وجودنا أنا و زوجتي، لم تكلمنا اكتفت بإيصالنا بنظراتها إلى منزلنا ..، آه منك شُنُونة عرفت المنزل.. و في يوم من الأيام وجدتْكِ زوجتي في غفلة منها داخل المنزل جالسة القرفصاء أمام ابنتها الرضيعة رؤى، وأنتِ ترددين كلاما غريبا كالتراتيل أو بعض المراثي ..،اضطربتْ زوجتي و لم تخفْ..، نداء جاءها من أعماقها قال لها :”لا تسيئي الظن بشُنُونة ” فصدّقت النداء ..، حيّتْ صاحبة البيت ضيفتها فانشرح قلب هذه الأخيرة، وبكت.. أعادت على مسامعنا كل الهمهمات و الأنّات التي كنّا نلتقطها من فتحات الكوخ فنستغرب و نحزن …

فرحتْ شُنُونة بما وجدتْ من عطف من الأستاذة زوجتي، فأصبحت تحضر إليها كل يوم مجلسها عند رؤى وفي يدها منسج و كمّة رأس رجالية صغيرة كأنها تطرّزها بإتقان لطفل لم نره..، لم يحدث يوما أن وجدتُ شُنُونة في البيت، هي تعرف وقت عودتي من العمل في المدرسة الوحيدة بالقرية ..، يا لها من عزة نفسٍ فيك شُنُونة تأتي البيت لا تأكل شيئا ولا تشرب..، تجهدُ زوجتي نفسها لإقناعها بذلك فلا تسمع منها غير :” ما ريد ما ريد ” .. هي لا تريد شيئا من هذه الدنيا.. زاهدة مخشوشنة .. نعيمها في إلجام شهواتها… كأنّ شيئا ما مُرٌّ مَرَّ على حياتها.. فاقتلع كلّ رغبة و نسف بكلّ بهجة و حوّل انبهار العين بما وهبنا الله من خيرات نفورا و عزوفا…

أسأل زوجتي :”ماذا كان اليوم من شُنُونة ؟”فتردّ :” عندما تدخل شُنُونة البيت ينتفي أمامها العالم و يبقى منه فقط ابنتي الرضيعة رؤى ..، تجلس أمامها وهي في كرسيّها الورديّ… شُنُونة لا تملّ النظر إلى الرضيعة ورؤى كأنّ بداخلها فرحة أنْ وجدتْ رفيقة لها تمنحها فسحة اطمئنان ..، يا الله طفلتان تتبادلان ضربا من ضروب البراءة وهل بعد براءة شُنُونة براءة تبكي بلا موعد كالأطفال وتبتسم بلا مقدمات مثلهم.. يسكتها أي شيء تمسك به مثل أي رضيع ينبهر بما يمسك و شُنُونة دائمة الانبهار بهذه الكُمّة لا تفارق يديها تلاعبها بإبرة التطريز …كأنّها ترسم خرائط و طرقا ملتوية لا تستقيم أبدا …

طلبتُ من زوجتي فكّ لغز الكُمّة لا تفارق يد شُنُونة قالت لي : وكيف الوصول إلى ذلك و حديثها مبهم و قاموسها العُماني القديم عصيٌّ عن الفهم، تجلس الساعة تلو الساعة بين حديث حزين النبرة وبكاءٍ يعصرُ القلب فيشقى..، فهمت عنها بعد عظيم اجتهاد أنّ لها زوج قد مات ولها ولد تقول عنه “راح بيجي مرّة” وتتركني ورؤى، لتقف أمام المنزل عيناها نحو الآفاق مشدودة تضع يدها على جبينها علّها تتبيّن قادما ثم تعود إلى مجلسها أمام رؤى وهي تردّد:”ماشي ماشي” أي لا شيء لا شيء و ينحدر شبه دمعٍ من بقايا عينين …

وجاء اليوم الذي انكشف لي وزوجتي فيه لغز أحزان شُنُونة حدّثني به أحدهم: مات زوجها من زمان و ترك لها ولدا بلغ سنّ الصبى..، وفجأة سافر إلى دولة الإمارات العربية كبقية العمانيين في بداية سبعينيات القرن الماضي بحثا عن العمل ولم يعد ..، وبقيت شُنُونة تتوقع عودته و لم يعد ..،تسأل عنه شباب القرية فتتضارب الأخبار بين من يعلمها بوفاته ومن يخبرها بوجوده على قيد الحياة..، و بين اليأس والأمل قضّت شُنُونة عقودا من عمرها بين أنّات اليأس يسمعها من يمرّ بجانب كوخها، وشبعت من سماعها زوجتي والرضيعة رؤى..، وبين التحديق في الآفاق عسى يعود صاحب الكُمّة …، لم تفارق لسنين يديها.. تمسك بها كأنّها تحتضن ذاك الطفل/الابن الذي غادر ولم يعد…

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: ش ن ونة

إقرأ أيضاً:

صدمة قاسية.. القارة العجوز تواجه عدم يقين استراتيجى وسط تحول السياسات الأمريكية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق الزعماء الأوروبيون مع الرئيس الأوكرانى فى اجتماع قمة فى لندن هذا الشهر

تواجه أوروبا شعورا عميقا بالصدمة مع تحول الولايات المتحدة، التى كانت ذات يوم دعامتها، بعيدًا عن التحالفات التقليدية. ففى ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، تواجه أوروبا إعادة توجيه غير مسبوقة للسياسة الخارجية الأمريكية التى تركت القارة تتساءل عن مكانها فى العالم. والواقع أن الخسائر المترتبة على هذا التحول واضحة، حيث تواجه أوروبا ليس فقط التخلى عن حليف بل وأيضا تحدى الإبحار فى عصر جيوسياسى جديد وخطير محتمل.

انفصال مفاجئ 

لعقود من الزمان، كانت الولايات المتحدة حجر الزاوية فى الأمن الأوروبى، وخاصة أثناء الحرب الباردة عندما منع التحالف الغربى التوسع السوفيتى. ومع ذلك، فى الأسابيع الأخيرة، بدأ التحالف الذى كان صامدا ذات يوم فى التفكك. وقد ألقى تجاهل ترامب الواضح للتحالفات الأوروبية القديمة بظلال من الشك على موثوقية الدعم الأمريكى. الآن تجد أوروبا نفسها معزولة، وتواجه الواقع القاسى لعالم حيث لم تعد الولايات المتحدة تضمن سلامتها أو قيمها.

قالت فاليرى هاير، رئيسة مجموعة تجديد أوروبا الوسطية فى البرلمان الأوروبى: "كانت الولايات المتحدة العمود الفقرى الذى يُدار السلام حوله، لكنها غيرت تحالفها". هذا التحول له آثار عاطفية واستراتيجية عميقة، مع تزايد عدم اليقين فى أوروبا بشأن مكانها فى عالم منقسم بين روسيا والصين والولايات المتحدة.

إن مفهوم "الغرب"، الذى كان مرادفًا للديمقراطية الليبرالية والتحالف عبر الأطلسى الموحد، يفقد معناه بسرعة. تقف أوروبا وروسيا والصين والولايات المتحدة الآن ككيانات جيوسياسية منفصلة، كل منها يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة. 

التأثير العاطفى على أوروبا لا يمكن إنكاره. لعقود من الزمان، كانت الولايات المتحدة أكثر من مجرد حليف عسكري؛ لقد كانت الولايات المتحدة رمزًا للحرية والتحرر. فمن خطاب جون ف. كينيدى الأيقونى فى برلين إلى تحدى رونالد ريجان لهدم جدار برلين، كانت الولايات المتحدة جزءا لا يتجزأ من هوية أوروبا بعد الحرب. ولكن مع تغير توجهات البيت الأبيض، يتساءل العديد من الأوروبيين عما إذا كانت المبادئ التى ربطتهم ذات يوم مهددة الآن.

تحدى الاستقلال

مع التشكيك فى الدعم الأمريكى، يسارع القادة الأوروبيون إلى إعادة تأكيد السيطرة على أمنهم ودفاعهم. دعا الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى بذل جهود "تمويل مشترك ضخم" لتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية بسرعة. كما طرح فكرة توسيع المظلة النووية الفرنسية لتغطية أوروبا، مما يشير إلى تحول محتمل فى استراتيجية الدفاع الأوروبية.

ألمانيا، وهى لاعب رئيسى فى التحالف الأوروبى، متأثرة بشكل خاص بتحول الولايات المتحدة. بالنسبة لأمة تدين بالكثير من استقرارها وازدهارها بعد الحرب للمساعدات الأمريكية، فإن المسافة المتزايدة بين الولايات المتحدة وأوروبا تبدو وكأنها خيانة. لقد أعرب كريستوف هويسجن، رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن، عن انزعاجه من تخلى الولايات المتحدة عن المبادئ الراسخة فى العلاقة مع أوروبا.. ويعكس هذا الشعور إدراكًا أوروبيًا أوسع نطاقًا: فقد حان الوقت لتكثيف الجهود وتحمل المسئولية عن دفاعهم.

تحولات استراتيجية

لقد أدت صدمة إعادة تنظيم أمريكا إلى شعور متزايد بالإلحاح فى أوروبا. وإذا كان للقارة أن تحافظ على أمنها، فيتعين عليها أن تفعل ذلك دون الاعتماد على الولايات المتحدة، وخاصة مع صعود القوى الاستبدادية فى أوروبا وخارجها. ويشير اقتراح ماكرون للتعاون العسكرى الأوروبى، إلى جانب الدعم المتزايد من ألمانيا والمملكة المتحدة، إلى أن الاتحاد الأوروبى قد يكون مستعدًا أخيرًا للاستثمار فى بنيته التحتية الدفاعية الخاصة.

ومع ذلك، فإن هذا التحول ليس خاليًا من التحديات. فالتعاون العسكرى بين القوى الأوروبية، وخاصة بين فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، سوف يتطلب استثمارات كبيرة وإعادة التفكير فى أولويات الدفاع فى القارة. إن تحول أوروبا من مستهلك سلبى للأمن إلى مزود نشط للأمن لن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن أحداث الأسابيع القليلة الماضية أظهرت أنه لا يوجد خيار آخر سوى المضى قدمًا على عجل.

تهديد متزايد 

ومع مواجهة أوروبا لتهديدات متزايدة، يتعين عليها أن تتكيف مع عالم حيث لم تعد التحالفات التقليدية مضمونة. ويحذر الخبراء من أن أوروبا عند مفترق طرق، ويجب على قادتها اتخاذ قرارات صعبة حول كيفية ضمان سلامة القارة وأمنها فى عالم حيث قد لا تلعب الولايات المتحدة دور الحامى.

وتلاحظ نيكول باخاران، عالمة السياسة فى معهد العلوم السياسية، أن الخطر الأكبر الذى يهدد أوروبا هو التقليل من خطورة إعادة تنظيم أمريكا. وتقول: "يعرف ترامب إلى أين يتجه"، مضيفة أن أوروبا لابد أن تبنى قدراتها العسكرية على وجه السرعة لحماية نفسها. إن التهديدات تجعل من الأهمية بمكان بالنسبة لأوروبا أن تتولى السيطرة على مصيرها.

*نيويورك تايمز

مقالات مشابهة

  • دراسة.. تلوث الهواء يقلل قدرة الانسان على التركيز
  • برلمانية: انتصار العاشر من رمضان ملحمة تاريخية أعادت تشكيل وعي الأمة
  • أتالانتا يكتسح السيدة العجوز برباعية نظيفة في الدوري الإيطالي
  • طلبت معاشرة زوجتي فرفضت.. نص أقوال المتهم بالتعدي على طفلة داخل حمام مسجد بالعاشر
  • حسن الرداد: زوجتي متعلقة جدا بالكلاب.. وتعتني بهم لأبعد حد
  • حسن الرداد: زوجتي حامل في الشهر الرابع وكنا حريصين على إخفاء الخبر
  • صدمة قاسية.. القارة العجوز تواجه عدم يقين استراتيجى وسط تحول السياسات الأمريكية
  • برلمانية: كلمة الرئيس السيسي تعكس رؤية مصر لإعداد جيل واعٍ وقادر على مواجهة التحديات
  • تزكية عزان آل سعيد رئيسا للجنة الأولمبية العُمانية .. وعبدالله أمبوسعيدي نائبا
  • إطلاق صفحة إلكترونية متخصصة لمؤشرات المرأة العُمانية