«يا إسحاق،لا تعارضْ أهلَ مصرَ فى نفيسة، فإن الرحمةَ تنزلُ عليهم ببركتِها».
كانت هذه الكلمات هي الأمر النبوي الشريف لاسحاق المؤتمن ابن جعفر الصادق زوج السيده نفيسة _بنت الحسن الأنور_كريمة الدارين وحبيبه المصريين رضي الله تعالى عنها .


حين توفت السيدة نفيسة عزم اسحاق المؤتمن على نقلها إلى مدينة جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي يوراى ثراها إلى جانب الجد الأعظم عليه الصلاة والسلام  .


حاول المصريون يومها أن يعزف اسحاق عن هذا النقل للجثمان الطاهر أملا ورجاء منهم أن تكون السيدة نفيسة بين أظهرهم في حياتها وبعد انتقالها إلى الرفيق الأعلى .


ولم يدخروا جهدا في في ذلك بأن كلموا الوالي كي يتوسط لهم عند زوج السيدة نفيسة لتحقيق هذا المطلب الجماهيري الكبير وعرضوا على زوجها الهدايا ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل!
توشحت المحروسة بالسواد الحالك وبأصوات الأنين والانتحاب من أجل ذلك،وبات الناس في ليلة حزينة بعد أن رضخوا للأمر الواقع على مضض وهم في ألم كبير .


ومع آذان الفجر يستيقظ اسحاق فزعا من رقاده مناديا بجمع الناس فيقبلون عليه من كل جانب بعد أن فارقهم الوسن،آخذا في طريقه ما تبقى من أمل  .


نعم انتبهوا من غفوتهم اليسيرة متعطشين لأمر كبير وحادث جلل قد يغير المسار ويحقق لهم ما يتمنون .


فأخذوا يتناوبون النداء ليعلم الداني القاصي للحضور فور العلم تلبية لدعوة المؤتمن العاجلة!
خرج الرجال كما أن النساء خرجن من خدورهن استطلاعا للخبر،وترقبا بخوف وحيطة وحذر  .


وما هي غير دقائق معدودة حتى ضربت الجماهير العريضة حصار زوج النفيسة وجنود الحاكم من العسس يحيطون بالمكان تحسبا لمظاهرة بشرية أو تصادم قد يغير بالأمور مسارها  ....!


صمت رهيب خيم على المكان وضرب بكل الأرجاء ولم يقطع هذا السكون سوى صوت اسحاق حين نادى في الآفاق وفي إشراقة  الفجر الجديد بعد عتمة الليل البهيم ليقص على أهل مصر رؤياه من الأمر النبوي الصريح بأن تدفن النفيسة في ثرى مصر الطاهر وأن يكون بين المصريين مقامها إلى أن يرث الله الأرض وهو خير الوارثين  .


ويرد على الناس هداياهم لتكون كريمة الدارين هي أكبر هدية من الجناب النبوي الشريف لمصر المأمنه بالكوكبة الفريدة من الأشراف سادتنا آل البيت عليهم السلام  فتهتف الجموع الحاضرة بالذكر والصلوات على صاحب البشارة من أوتي جوامع القول والعباره شاكرين لرسول الإنسانية صنيعه وأنهم على العهد مودة منهم لقرباه  .
كان يوماً مشهودا يوم تشييع الجثمان الطاهر إلى مثواه الأخير ...
عشرات الآلاف تزاحموا حول النعش محاولين لمسه تبركا وحبا إلى أن دفنت أم المصريين وحبيبتهم في خلوتها في حالة من الزحام البشري اهتزت لها الدنيا بأسرها وكأن هذا اليوم هو يوم الحشر !
وورد أنهم اقتسموا ماء غسلها في زجاجات كأنها الطيب لشفاء مرضاهم  .
وأقول:ان التبرك بمثل هذا له سند في التشريع الإسلامي والنصوص كثيرة في هذا الأمر_  وهناك  القول الأمجد في تبرك الشافعي بقميص أحمد_ 
حيث غسل الشافعي قميص الإمام أحمد بن حنبل وأخذ ماء غسل القميص متبركا به وشاربا له .
وقد حقق ذلك في التبرك حديثا العالم الكبير الراحل الدكتور جوده محمد ابو اليزيد المهدي رحمه الله في مؤلفه الكبير" اعلام الولاية المحمدية" وفي معرض حديثه في مؤلف منفرد عن القطب الصوفي الكبير سيدي احمد البدوي قدس الله سره الشريف  .
و بالأمس القريب كانت ذكرى إحتفال المصريين بمولد السيدة نفيسة رضي الله عنها كعهد المصريين بهذا الحب في كل عام محتفلين ومطعمين الطعام في ديار مصر العامرة بالكرم والجود أبد الدهر  .
ذهبت إلى صاحبة الذكرى والشوق يدفعني لتقبيل أعتابها ،كيف لا وهي أحد أصول الشجرة النبوية الضاربة بجذورها في شتى أرجاء المعمورة علما وخلقا سلوكاً وحبا واقتداء .
فحين أذهب إلى هذا المقام الشريف فإنما أذهب إلى تاريخ طويل وكبير حافل بالعطاء والعلم والمعرفه .
أذهب إلى تلك الديار راجعا إلى قديم الزمان وكاني اعيش أحداثه مسافراً عبر نافذة الروح مستنشقا عبير الذكريات  .
في ساحة مسجدها العريق وفي بهوه الملكي و وسط زحام الناس الشديد وروائح المسك تفوح من كل جانب وجدتني وكأني أشاهد الإمام الشافعي حين كان يجئ إلى الكريمة زائرا طالباً من الدعاء وواقفا على ما أشكل لديه من علم وفقه !
و كان الإمام الشافعي رضي الله عنه إذا مرِض يرسِلُ لها رسولاً من عندِه، كالربيع الجِيزي أو الربيع المُرادِيّ، فيقرئها سلامَه، ويقول لها: إن ابن عمّك الشافعي مَرِيض، ويسألُك الدّعاء فتَدعو له، فلا يرجِعُ إليه رسولُه إلا وقد عُوفي مِن مَرضِه.فلمّا مَرض الشافعيُّ مرضَه الأخير، أرسلَ لها على عادتِه رسولَه يسألها الدعاءَ له، فقالت لرسولهِ: متّعَه الله بالنظَر إلى وجهِه الكريم .
ولما مات الشافعي الإمام صلت عليه الجنازة وما إن فرغت من صلاتها عليه حتى قالت قولتها الشهيرة:"لله در الشافعي فقد كان يحسن الوضوء"
وأقول: ان الوضوء هو أصل العبادات فإذا صلح صلحت سائر العبادات،وقد يكون الوضوء هنا اشاره الى الطهارة القلبية كما أنه عنوان للطهارة البدنية أي أن الإمام الشافعي بقولها هذا قد نال طهارة الظاهر مع طهارة الباطن،فلله درهما،فهذه شهادة الفحول للفحول .
وسط هذا السيل البشري المنسال كأمواج البحر الهادرة نحو مسجدها ومقامها المنيف وجدت صفحات تاريخها المشرق تعرض على عيناي مشهداً آخر من مشاهد شجاعتها وبطولتها وهي تستوقف موكب أحمد بن طولون حين مر أمام خلوتها مترجلة الخطوات نحوه غير هيابة من حرسه وجنده، وتنزله من فوق جواده طالبة منه النظرة إلى الناس بعين الرحمة مذكرة إياه بموقفه أمام الله جل في علاه يوم العرض الأكبر، فترتعد فرائصه ويستجيب ويأمر رجالات دولته بحالة الاستنفار القصوى وتفقد أحوال الرعية والسؤال عنهم لا سيما المحتاج منهم والضعيف!
رأيتها فقيهة تلتف الجموع حول دارها طلبا للعلم والفقه والحديث عن جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
رأيت خلوتها مهبطا للوفود لقضاء حوائجهم الروحانية والدنيوية .
فلم تك صاحبة الذكرى في معزل عن أمتها وقضاياها  ولا عن الناس ومشاكلهم بل كانت تعين هذا وتنصح ذاك مما جعل المصريين لصدقها وقربها من خالقها يتعلقون بها في حياتها وبعد انتقالها إلى الرفيق الأعلى جيلا بعد جيل .
إنها جينات المصريين حين تتوارث الحب وكأنه لقاح في الأرواح لا ينضب معينه مهما توالت وتعاقبت الدهور .
إن المواقف لا تدفن بموت الرجال وسيدتنا فاقت رجال عصرها ولاية ورحمة،علما ودراية فتربعت على عرش القلوب المنصفة فعاشت مخلده بين صفحات التاريخ،ومثلها لا يموت .
على أعتاب دارها حيث مرقدها الشريف وجدتني اهتف في أعماق روحي وطيات قلبي بدين هؤلاء وبدين جدهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفت الحق....
ومن ثم اهتديت .
لحظات من الوقت مضت بي وكأنها سنوات من الزمان أفقت فيها من رحلتي النورانيه عائدا  قابضا على مسبحتي الخشبية مستترا خلف حباتها المتراصة والتي أهداني إياها أحد الدراويش بلا سابق إعداد أو معرفة!

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: السیدة نفیسة

إقرأ أيضاً:

كل كلام يقوله الإنسان محسوب عليه إلا 3 أمور فما هي؟.. علي جمعة يوضح

قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن سيدنا النبي ﷺ:  يقول: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”، إنه أدب رفيع لا نراه في حياتنا اليومية، حيث نجد الناس يتدخلون في أمور ليست من شأنهم، فيتحدثون بما لا يعلمون، ويقولون بما لا يتقنون، وكل ذلك محسوب عليهم لا لهم. وقد قال رسول الله ﷺ: «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله».

وأضاف جمعة، فى منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، أنه قد تعجب قوم من هذا الحديث عند الإمام سفيان الثوري رحمه الله ورضي عنه، فقال لهم: "لِمَ العجب؟" واستدل بقول الله تعالى: "لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ"، وبقوله تعالى: "يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا".

كان سفيان يستشهد بالقرآن على صحة الحديث ليزيل عنهم العجب، لأن كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا في الأمور الثلاثة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذكر الله، وعندما يقول النبي ﷺ: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فهي كلمة جامعة تدعو الإنسان إلى أدب عظيم مع الله.

وكما ورد عن أبي ذر رضي الله عنه، عندما سئل رسول الله ﷺ عما ورد في صحف إبراهيم عليه السلام، قال ﷺ: "عَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ" [رواه ابن حبان].

هذا هو العاقل الذي يشغل نفسه بما يعنيه من أمور دينه، وليس بما لا ينفعه من أمور دنياه. هذا هو العاقل الذي يستحي من الله. وقد قال رسول الله ﷺ: "الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ".

هذه هي حقيقة الحياء من الله سبحانه وتعالى: أن تحفظ الرأس وما وعى. فانظر إلى بلاغة النبي ﷺ، حيث لم يذكر العين وحدها لحفظها من النظر الحرام، أو اللسان من القول الحرام، أو الأذن من السمع الحرام، بل قال: "الرأس وما وعى"، وهذا يشمل الفكر الحرام أيضًا.

وينبغي عليك أيها المسلم أن تنزه باطنك وتطهره لله حياءً منه، وأن تأكل الحلال لتحفظ البطن وما حوى، وقد قال ﷺ: "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء".

كما ينبغي عليك أن تذكر الموت دائمًا، فمن ذكر الموت امتنع عن الفسوق، وداوم على ذكر الله، وتذكر البلى، حيث لا شيء يبقى في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ".

عودوا إلى أدب الإسلام، فإن الإسلام كله حلاوة، يأمر بالمعروف، والجمال، والنظافة، وينهى عن القبح، وقلة الحياء، وقلة الأدب.

مقالات مشابهة

  • د.حماد عبدالله يكتب: وما نيلُ المطالب بالتمنى !!
  • خالد عامر يكتب: مصر والتحديات الإقليمية
  • حضور جماهيري بندوة خالد النبوي بمهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير | صور
  • «اللهم رب الناس أذهب البأس».. دعاء المريض كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
  • المراد بالنصيحة في حديث النبي عليه السلام "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"
  • كل كلام يقوله الإنسان محسوب عليه إلا 3 أمور فما هي؟.. علي جمعة يوضح
  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • خالد البلشي: الصحفيين المصريين كان لهم دورًا كبيرًا في وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
  • د.حماد عبدالله يكتب: لماذا سميت "مصر" بالمحروسة !!
  • كريم خالد عبد العزيز يكتب: فن إدارة ردود الأفعال.. بين الحق والسمو الإنساني