الولايات المتحدة.. سياسة كابوسية
تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT
في عام 1796، حذر جورج واشنطن مواطنيه من مخاطر السماح “للارتباط العاطفي” بدولة أخرى بالتأثير على السياسة. لكن يبدو أن إدارة بايدن تذهب بعيداً عن هذا التحذير!
في اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أعلن البيت الأبيض دعماً “أعمى” وغير مشروط للإسرائيليين ضد الفلسطينيين في قطاع غزة؛ بعث بايدن وزير خارجتيه “بلينكن” إلى إسرائيل ليقول إنه وصلها كيهودي وليس كوزير خارجية للولايات المتحدة.
وطول عقود سعت الولايات المتحدة إلى عدم ربط سياساتها الخارجية بالصراع “العربي-الإسرائيلي”. ففي حين مدّت إسرائيل بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي سعت واشنطن إلى وضع نفسها باعتبارها “وسيط نزيها” ملتزم بتعزيز الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، وتبنت “عملية السلام”، وهي عملية مثيرة للسخرية أصبحت مقترنة بفشل الدبلوماسية والمؤسسات الدولية، وأفول نجم تزعم العالم رغم حالة الانكار في دوائر واشنطن.
ولإبقاء تربعها على رأس الهيمنة كانت أمريكا قد حوّلت استراتيجيتها باتجاه المحيطين الهندي والهادئ، ولم يكن الشرق الأوسط ضمن أولوياتها. حتى السابع من أكتوبر مع العدوان الإسرائيلي على غزة دفعت بالقوات والقطع البحرية بشكل مستغرب، وسيرت جسر جوي عسكري لا يتوقف من الولايات المتحدة إلى إسرائيل. وهي تعتقد أنها ستمنح النجاح لدبلوماسية بلينكن وكأنه كسينجر الجديد!
ولا يمكن مقارنة الدبلوماسية الخرقاء الأمريكية الحالية، بالدور الذي لعبه كيسنجر لصالح بلاده رغم أنه لم يكن لصالح العرب. إذ كان ينظر للخريطة الاستراتيجية الأكبر، بينما ينظر بايدن إلى صهيونيته وبلينكن إلى يهوديته. بل إن البيت الأبيض يستخدم سياسة السوفييت في الحرب الباردة، حيث استبعدوا أنفسهم كوسطاء محتملين لقضايا الشرق الأوسط بسبب ردود فعلهم السلبية. وهي أخطاء استخدمها كسينجر لإيهام الزعماء العرب أن الولايات المتحدة وحدها القادرة على تقديم التنازلات الإسرائيلية، وأن الثمن ــ السلام مع إسرائيل والانفصال عن الفلك السوفييتي ــ يستحق العناء لأجل الاستقرار والتنمية في المنطقة! وأخرج مصر من الفلك السوفيتي وانتج اتفاق “كام ديفيد” ثم أوسلو الذي دفن الوعود الأمريكية بمنح الفلسطينيين بلداً مقابل اعترافهم بإسرائيل!
لذلك لم يعد لدى الأمريكيين ما يقدمونه للعرب، ودعاية واشنطن لم تعد صالحة، فليست وسيطاً نزيها، ولم تعد تستطيع تقديم “التنازلات الإسرائيلية” بل أصبحت طرفاً في الحرب. فلم يكن مستغرباً ظهور العرب بعيداً عن واشنطن، وهي نتاج تحوّلات سبعة عقود من علاقاتها مع دول المنطقة.
ومع حرب غزة ظهر الحزم الدبلوماسي الإيجابي لدول الخليج –السعودية وقطر على وجه خاص- وتأثيره في العالم الإسلامي، والتوسط في القضايا ذات التأثير الكبير على المنطقة بعد عقود من تأثير غربي منفرد على السياسات الإقليمية. وهو يأتي ضمن موقف عربي أظهر أنه لا يقف على الهامش ويستطيع التأثير في مجلس الأمن وقيادة الدول الإسلامية للتوحد حول مبادئ واحدة تدعم القضايا العربية. وتم تجريد البيت الأبيض من نفوذه في الأمم المتحدة، فلم تجد واشنطن بجانبها في تصويت الجمعية العمومية إلا دولاً مجهرية مثل ميكرونيسيا وتونغا؛ والتفت المجتمع الدولي مع العالم الإسلامي وروسيا والصين التي يروج بايدن أنها تسعى لإنهاء “النظام القائم على القواعد”.
ولتأكيد السخرية من “النظام القائم على القواعد” ردت إدارة بايدن منذ السابع من أكتوبر بإرسال المزيد من القوات والقطع البحرية إلى البحر الأحمر وشرق المتوسط، في عمل عسكري أحادي دون اعتبار لمجلس الأمن ولدول المنطقة وحلفاءها التقليديين بما في ذلك الأوروبيين؛ في وقت تجرف المزيد من الأسلحة إلى إسرائيل. فرفضت الدول المطلة على البحر الأحمر الانضمام إلى “عملية حارس الازدهار” فيما رأى الأوروبيون أنهم لم يعودوا قادرين على الانخراط في حماقة حرب جديدة في الشرق الأوسط بعد الهزائم بقيادة الولايات المتحدة من العراق وحتى أفغانستان؛ فرد الفعل السلبي دون ملاحظة الفروق الدقيقة يجد العواقب أمامه.
وكما أوضح جورك كينان في “نقد الديناصورات”، فإن الولايات المتحدة تتخذ قراراتها في فورة غضب وعاطفة دون تمييز في الفروق الدقيقة بما فيها مصالحها، “ديناصورات تتجاهل كل شيء لفترة طويلة بشكل خطير”. وتقدم السياسة الكابوسية في غزة، مع موزانة جديدة للدفاع وقعت الأسبوع الماضي بقيمة 886 مليار دولار، أي قرابة التريليون، خيالاً لديناصور الحرب الأمريكي وهو يتجاهل كل شيء عائداً إلى الشرق الأوسط.
ونظرياً فإن جر الولايات المتحدة إلى حملة صليبية جديدة في الشرق الأوسط سوف يكون قمة الحماقة. إلا أنه وفي ظل قدر ضئيل من الاهتمام العام وإشراف أقل من جانب الكونجرس، فإن هذا هو على وجه التحديد ما قد يحدث. ففي محاولتها لاستيعاب حرب غزة، وفقدان ثقة المنطقة والعالم بها في حرب غزة، تبدو أمريكا مع عودة للحرب في الشرق الأوسط بطريقة جديدة يحتمل أن تكون كارثية، وهي طريقة قد تساعد في حملة إعادة انتخاب دونالد ترامب، الجمهوري الشعبوي الأكثر غروراً بـ”أمريكا أولاً” وأسهل قراراته هي الحرب، لكنها لن تخدم إلا ظهور عالم متعدد الأقطاب.
تؤكد سياسات الولايات المتحدة خلال العقد الأخير أن الإمبراطورية المهيمنة تتحول إلى اللون البني مثل رأس خس قديم، فهي منهكة سياسياً، ومنقسمة للغاية، ومختلة وظيفياً، وفاشلة في الاحتفاظ بالحلفاء، إلى حد لا يسمح لها بالازدهار في عالم تنافسي.
ويقول أندرو باسيفيتش إن تحذير جورج واشنطن -الذي ابتدأنا به المقال- “لا يزال صالحا حتى يومنا هذا. إن حرب غزة ليست ولا ينبغي أن تصبح حرب أمريكا”؛ واتخاذ مسار حرب جديدة في الشرق الأوسط يفقدها الحلفاء التقليديين، ولم تكن الولايات المتحدة قوية إلا بتحالفاتها، عندما تفقد ذلك ينتهي احتكارها قيادة العالم، لصالح عالم تنافسي متعدد الأقطاب!
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: البحر الأحمر السياسة الدولية الولايات المتحدة اليمن غزة الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط حرب غزة
إقرأ أيضاً:
بايدن يخطط لدفعة أخيرة للسلام في الشرق الأوسط فهل يتجاهله الزعماء؟
تعتزم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن القيام بمحاولة أخيرة للتوصل إلى اتفاقات صعبة المنال لإنهاء الحرب في غزة ولبنان، لكن انتخاب دونالد ترامب قد يترك واشنطن دون نفوذ كاف لإخضاع إسرائيل والأطراف الإقليمية الأخرى لإرادتها قبل تنصيبه.
وقالت مصادر ومحللون مستقلون إن كبار المسؤولين الأميركيين الذين تنقلوا على مدى شهور بين مناطق الشرق الأوسط لإجراء مفاوضات للسلام سيواجهون على الأرجح الآن نظراء يترددون في اتخاذ خطوات كبيرة، مفضلين بدلا من ذلك انتظار تنصيب ترامب في يناير/كانون الثاني المقبل.
وعود ترامبوعد ترامب بإحلال السلام في الشرق الأوسط لكنه لم يذكر كيفية تحقيق ذلك. وإذا كانت ولايته الأولى تحمل أي مؤشرات، فإنه سيتبنى على الأرجح نهجا مؤيدا لإسرائيل بقوة، متجاوزا حتى الدعم لقوي الذي قدمه بايدن لحليف واشنطن الأول في المنطقة، وذلك حسب تحليل لوكالة رويترز للأنباء.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر أمس الخميس قبيل رئاسة ترامب الثانية "سنواصل السعي إلى إنهاء الحرب في غزة، وإنهاء الحرب في لبنان، وتعزيز المساعدات الإنسانية، ومن واجبنا مواصلة هذه السياسات حتى ظهيرة يوم 20 يناير/كانون الثاني".
لكن بعد أن أصبح بايدن الآن رئيسا محدود الصلاحيات، فمن المرجح ألا يبذل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حليف ترامب الوثيق، والقادة العرب جهدا كبيرا لتحقيق ما يصبو إليه الرئيس الديمقراطي وقد يسترشدون بمواقف خليفته الجمهوري الذي أبقت سياسته الخارجية الغريبة الأطوار في ولايته الأولى المنطقة على حافة الهاوية.
يقول براين فينوكين المستشار الكبير في برنامج الولايات المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية "أصبح نفوذهم أقل كثيرا.. ربما لا يزال الناس يردون على مكالماتهم الهاتفية، لكن الجميع يتطلعون إلى إدارة جديدة، إدارة سوف تتبنى سياسات وأولويات مختلفة".
تجنب المخاطرةمنذ فوز ترامب في الانتخابات التي أجريت يوم الثلاثاء الماضي على نائبة الرئيس كامالا هاريس، بدأ المسؤولون العرب والإسرائيليون بالفعل تجنب المخاطرة.
وقالت مصادر أمنية مصرية إن الوسطاء المصريين الذين يعملون مع نظرائهم الأميركيين والقطريين على مقترحات لوقف إطلاق النار في غزة ينتظرون معرفة كيف ستتشكل خطط ترامب في ما يتعلق بالقطاع الفلسطيني.
وبينما كان العالم يتابع الانتخابات الأميركية، فإن نتنياهو الذي لم يترك مجالا للشك في تفضيله لترامب وأشاد بفوزه باعتباره "تاريخيا" أقال وزير الدفاع يوآف غالانت، فحرم بذلك إدارة بايدن من أحد شركائها الإسرائيليين المفضلين.
أما حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) التي تقاتل إسرائيل منذ أكثر من عام في غزة في أعقاب هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وحزب الله اللبناني الذي يخوض صراعا موازيا مع القوات الإسرائيلية، فيتطلعان -على ما يبدو- إلى إدارة ترامب القادمة. وأثارت الضربات الانتقامية بين إسرائيل وإيران مخاوف من حرب إقليمية أوسع.
فقد حثت حماس ترامب على التعلم من أخطاء بايدن، وقال حزب الله إنه لا يحمل كثيرا من الأمل في تحول سياسة الولايات المتحدة بعيدا عن دعم إسرائيل، غير أن مسؤولي السلطة الفلسطينية يتوقعون أن يعملوا مع مساعدي بايدن لحين تولّي ترامب منصبه.
وسعت واشنطن لدفع محادثات لوقف إطلاق النار في غزة بعد استشهاد رئيس حماس يحيى السنوار في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن دون جدوى. وفي لبنان، قال المسؤولون الأميركيون إنهم حققوا تقدما ولكن دون التوصل إلى اتفاق نهائي.
وعندما سئل عن الرأي القائل إن نفوذ إدارة بايدن قد تآكل بعد الانتخابات، قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض "لن أخوض في فرضيات".