يمن مونيتور:
2024-11-25@22:27:41 GMT

الولايات المتحدة.. سياسة كابوسية

تاريخ النشر: 31st, December 2023 GMT

الولايات المتحدة.. سياسة كابوسية

في عام 1796، حذر جورج واشنطن مواطنيه من مخاطر السماح “للارتباط العاطفي” بدولة أخرى بالتأثير على السياسة. لكن يبدو أن إدارة بايدن تذهب بعيداً عن هذا التحذير!

في اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أعلن البيت الأبيض دعماً “أعمى” وغير مشروط للإسرائيليين ضد الفلسطينيين في قطاع غزة؛ بعث بايدن وزير خارجتيه “بلينكن” إلى إسرائيل ليقول إنه وصلها كيهودي وليس كوزير خارجية للولايات المتحدة.

بايدن خرج يقول “أنا صهيوني ودعمي لليهود لا يتزعزع”. لقد تبنى بايدن المسؤولون والصحافة الأمريكية كل الأكاذيب والدعاية الإسرائيلية. بالتزامن مع سلسلة من ردود الفعل السلبية التي تفتح الطريق بشكل مؤلم “أمام توسيع حرب واشنطن التي لا تنتهي التي بدأت في أعقاب 11 سبتمبر”- كما أوضح أندرو باسيفيتش عالم السياسة الأمريكي في مقاله الأخير.

وطول عقود سعت الولايات المتحدة إلى عدم ربط سياساتها الخارجية بالصراع “العربي-الإسرائيلي”. ففي حين مدّت إسرائيل بالأسلحة والغطاء الدبلوماسي سعت واشنطن إلى وضع نفسها باعتبارها “وسيط نزيها” ملتزم بتعزيز الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، وتبنت “عملية السلام”، وهي عملية مثيرة للسخرية أصبحت مقترنة بفشل الدبلوماسية والمؤسسات الدولية، وأفول نجم تزعم العالم رغم حالة الانكار في دوائر واشنطن.

ولإبقاء تربعها على رأس الهيمنة كانت أمريكا قد حوّلت استراتيجيتها باتجاه المحيطين الهندي والهادئ، ولم يكن الشرق الأوسط ضمن أولوياتها. حتى السابع من أكتوبر مع العدوان الإسرائيلي على غزة دفعت بالقوات والقطع البحرية بشكل مستغرب، وسيرت جسر جوي عسكري لا يتوقف من الولايات المتحدة إلى إسرائيل. وهي تعتقد أنها ستمنح النجاح لدبلوماسية بلينكن وكأنه كسينجر الجديد!

ولا يمكن مقارنة الدبلوماسية الخرقاء الأمريكية الحالية، بالدور الذي لعبه كيسنجر لصالح بلاده رغم أنه لم يكن لصالح العرب. إذ كان ينظر للخريطة الاستراتيجية الأكبر، بينما ينظر بايدن إلى صهيونيته وبلينكن إلى يهوديته. بل إن البيت الأبيض يستخدم سياسة السوفييت في الحرب الباردة، حيث استبعدوا أنفسهم كوسطاء محتملين لقضايا الشرق الأوسط بسبب ردود فعلهم السلبية. وهي أخطاء استخدمها كسينجر لإيهام الزعماء العرب أن الولايات المتحدة وحدها القادرة على تقديم التنازلات الإسرائيلية، وأن الثمن ــ السلام مع إسرائيل والانفصال عن الفلك السوفييتي ــ يستحق العناء لأجل الاستقرار والتنمية في المنطقة! وأخرج مصر من الفلك السوفيتي وانتج اتفاق “كام ديفيد” ثم أوسلو الذي دفن الوعود الأمريكية بمنح الفلسطينيين بلداً مقابل اعترافهم بإسرائيل!

لذلك لم يعد لدى الأمريكيين ما يقدمونه للعرب، ودعاية واشنطن لم تعد صالحة، فليست وسيطاً نزيها، ولم تعد تستطيع تقديم “التنازلات الإسرائيلية” بل أصبحت طرفاً في الحرب. فلم يكن مستغرباً ظهور العرب بعيداً عن واشنطن، وهي نتاج تحوّلات سبعة عقود من علاقاتها مع دول المنطقة.

ومع حرب غزة ظهر الحزم الدبلوماسي الإيجابي لدول الخليج –السعودية وقطر على وجه خاص- وتأثيره في العالم الإسلامي، والتوسط في القضايا ذات التأثير الكبير على المنطقة بعد عقود من تأثير غربي منفرد على السياسات الإقليمية. وهو يأتي ضمن موقف عربي أظهر أنه لا يقف على الهامش ويستطيع التأثير في مجلس الأمن وقيادة الدول الإسلامية للتوحد حول مبادئ واحدة تدعم القضايا العربية. وتم تجريد البيت الأبيض من نفوذه في الأمم المتحدة، فلم تجد واشنطن بجانبها في تصويت الجمعية العمومية إلا دولاً مجهرية مثل ميكرونيسيا وتونغا؛ والتفت المجتمع الدولي مع العالم الإسلامي وروسيا والصين التي يروج بايدن أنها تسعى لإنهاء “النظام القائم على القواعد”.

ولتأكيد السخرية من “النظام القائم على القواعد” ردت إدارة بايدن منذ السابع من أكتوبر بإرسال المزيد من القوات والقطع البحرية إلى البحر الأحمر وشرق المتوسط، في عمل عسكري أحادي دون اعتبار لمجلس الأمن ولدول المنطقة وحلفاءها التقليديين بما في ذلك الأوروبيين؛ في وقت تجرف المزيد من الأسلحة إلى إسرائيل. فرفضت الدول المطلة على البحر الأحمر الانضمام إلى “عملية حارس الازدهار” فيما رأى الأوروبيون أنهم لم يعودوا قادرين على الانخراط في حماقة حرب جديدة في الشرق الأوسط بعد الهزائم بقيادة الولايات المتحدة من العراق وحتى أفغانستان؛ فرد الفعل السلبي دون ملاحظة الفروق الدقيقة يجد العواقب أمامه.

 وكما أوضح جورك كينان في “نقد الديناصورات”، فإن الولايات المتحدة تتخذ قراراتها في فورة غضب وعاطفة دون تمييز في الفروق الدقيقة بما فيها مصالحها، “ديناصورات تتجاهل كل شيء لفترة طويلة بشكل خطير”. وتقدم السياسة الكابوسية في غزة، مع موزانة جديدة للدفاع وقعت الأسبوع الماضي بقيمة 886 مليار دولار، أي قرابة التريليون، خيالاً لديناصور الحرب الأمريكي وهو يتجاهل كل شيء عائداً إلى الشرق الأوسط.

ونظرياً فإن جر الولايات المتحدة إلى حملة صليبية جديدة في الشرق الأوسط سوف يكون قمة الحماقة. إلا أنه وفي ظل قدر ضئيل من الاهتمام العام وإشراف أقل من جانب الكونجرس، فإن هذا هو على وجه التحديد ما قد يحدث. ففي محاولتها لاستيعاب حرب غزة، وفقدان ثقة المنطقة والعالم بها في حرب غزة، تبدو أمريكا مع عودة للحرب في الشرق الأوسط بطريقة جديدة يحتمل أن تكون كارثية، وهي طريقة قد تساعد في حملة إعادة انتخاب دونالد ترامب، الجمهوري الشعبوي الأكثر غروراً بـ”أمريكا أولاً” وأسهل قراراته هي الحرب، لكنها لن تخدم إلا ظهور عالم متعدد الأقطاب.

تؤكد سياسات الولايات المتحدة خلال العقد الأخير أن الإمبراطورية المهيمنة تتحول إلى اللون البني مثل رأس خس قديم، فهي منهكة سياسياً، ومنقسمة للغاية، ومختلة وظيفياً، وفاشلة في الاحتفاظ بالحلفاء، إلى حد لا يسمح لها بالازدهار في عالم تنافسي.

ويقول أندرو باسيفيتش إن تحذير جورج واشنطن -الذي ابتدأنا به المقال- “لا يزال صالحا حتى يومنا هذا. إن حرب غزة ليست ولا ينبغي أن تصبح حرب أمريكا”؛ واتخاذ مسار حرب جديدة في الشرق الأوسط يفقدها الحلفاء التقليديين، ولم تكن الولايات المتحدة قوية إلا بتحالفاتها، عندما تفقد ذلك ينتهي احتكارها قيادة العالم، لصالح عالم تنافسي متعدد الأقطاب!

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: البحر الأحمر السياسة الدولية الولايات المتحدة اليمن غزة الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط حرب غزة

إقرأ أيضاً:

أي شرق نريد؟

الدكتور إياد البرغوثي*

ذروة الأهداف التي وضعها نتنياهو للحرب الاسرائيلية الدائرة الآن على غزة ولبنان، إنشاء "شرق أوسط جديد". قبل مئة وثمانية أعوام أنشأ (لنا) أسلاف نتنياهو سايكس وبيكو "شرق أوسط" كان جديدا في حينه، قسم العالم العربي، ووضع أسس قيام "اسرائيل"، وخلق الدولة العربية "الوطنية" متطلبا لذلك، حيث أكتملت عملية ذلك التجديد في العام 1948 بقيامها فعليا.

لكن الذي اعتقدناه بأن انشاء إسرائيل كان ذروة عملية "تجديد" المنطقة أو اكتمالها، تبين لنا فيما بعد أنه ما هو إلا "قص الشريط" لعملية تجديد لا تنتهي، فأخذت اسرائيل منذ لحظة انشائها بتغيير الخارطة الجيواستراتيجة والديموغرافية للمنطقة، فاحتلت مزيدا من الأراضي الفلسطينية والعربية وصل ذروته في العام 1967، وضاعفت من جهودها في تهجير الفلسطينيين و"استحضار" يهود مكانهم، وبدأت بعملية "تطبيع" حثيثة مع الدول "الوطنية" العربية.

ومع كل ما جرى واثنائه، لم يتوقف الحديث (والسعي) حول انشاء شرق أوسط جديد، منذ بدأ بذلك برنارد لويس في سبعينات القرن الماضي، مرورا بشمعون بيرس وكتابه "الشرق الأوسط الجديد" في العام 1992، وغونداليزا رايس في العام 2006 الى نتنياهو هذه الأيام.

من البديهي أن يكون الغرب وإسرائيل (الامبريالية والصهيونية) الأكثر سعيا وإلحاحا ودراية بأهمية "التجديد" المستمر للشرق الأوسط، فهما اكثر من "يستخدمه" ويسيء ذلك الاستخدام، ويحمله أكثر من طاقته. وهما التي ترتبط اهدافهما ارتباطا وثيقا بعملية التجديد تلك وباستمرارها وديمومتها، لضمان "استخدام" اكثر سهولة وأكثر نجاعة. التجديد في حالة الشرق الأوسط مرتبط بالاستخدام لا اكثر.

ماذا يعني تجديد الشرق الأوسط؟.

ارتبط الحديث عن الشرق الأوسط الجديد بالغرب وباسرائيل، فالقاء نظرة سريعة على الكلمات والدراسات والأفعال المرتبطة بذلك، تشير (غربيا) الى الحرص على تعميق تبعية المنطقة للغرب. أما اسرائيليا فيعني السعي الى مزيد من التوسع، وضرورة "تكبير" الدولة الصغيرة كما صرح الرئيس ترامب، وزيادة نفوذ اسرائيل في المنطقة وهيمنتها عليها. لقد تلازم الحديث عن تجديد الشرق الأوسط مع كل حروب اسرائيل التي هدفت الى إضعاف العرب وإنهاكهم ودفعهم نحو اختيار التطبيع الذي لم يعن سوى المزيد من الضعف والتبعية.

لا يبذل المسؤولون الاسرائيليون أي جهد لإخفاء اهدافهم في توسيع "حدود" اسرائيل وتجسيد قيادتها للمنطقة. فقبل إعلان نتنياهو مؤخرا عن سعيه لتغيير خارطة الشرق الأوسط، كان شمعون بيرس قد قال بصريح العبارة أن "العرب قد جربوا قيادة مصر للمنطقة لمدة نصف قرن، فليجربوا قيادة اسرائيل".

"الشرق الأوسط الجديد" في ذهن اصحابه، يعني جغرافيا جديدة، وديموغرافيا جديدة، وعلاقات دولية جديدة، وسياسات جديدة، ومسَلمات جديدة، وثقافة سائدة جديدة، ومناهج تعليمية جديدة. انه إعادة ترتيب للمنطقة تكون فيها اسرائيل الوحيدة المرشحة للتوسع، في حين تنقسم الدول العربية الموجودة، وتظهر دول جديدة، ويتم نقل (تهجير) شعوب أو أجزاء منها من مكان الى آخر، ويجري العبث بالتركيبة الثقافية والاثنية لبعض الشعوب، ويُعمل على تغيير وعيها بذاتها وباسرائيل وببعضها البعض وبتاريخها ومعتقداتها وقيمها ورموزها. كل ذلك من أجل تسيد اسرائيل للمشهد، واعتبارها مركز الاقليم ورابط علاقاته وبوابته الى العالم. انه باختصار تدشين فعلي "للامبراطورية" الاسرائيلية في المنطقة.

هنا أجد من الضروري التذكير بكلام كنت قد كتبته قبل اربعة أعوام في مقدمة كتابي "تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية" وهو.... "ما زال أمام مثقفي شعوب المنطقة وشبابها متسع من الوقت للعمل على خلق (الامبراطورية) (الشرقية) المفترضة، خاصة اذا ما أدرك هؤلاء، واكثرهم بالتأكيد يدرك، أنه إن لم يقم بذلك، فإن اسرائيل ستعمل- وهي تعمل فعلا - على انشاء امبراطوريتها في المنطقة، تلك التي تزيد شعوبها الحاقا وتهميشا".

العرب و"الشرق الأوسط الجديد"

رغم ارتباط مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بإضعاف العرب وتمزيق دولهم، إلا أنهم الأقل اكتراثا به في المنطقة. فالعالم العربي الرسمي بمجمله يبدو إما متجاهلا للموضوع أو متماهيا معه. ومن الواضح أن أحدا من العرب لا يجابه هذا المشروع باستثناء "قوتين" من خارج "الدولة"؛ ما بقي من نخبة مثقفة  قومية عربية، ترفضه من خلال التمسك بالوضع الحالي الذي هو في حقيقة الأمر، النسخة الأقدم من الشرق الأوسط الذي كان جديدا (سايكس بيكو)، أو قوى "المقاومة" في بعض البلدان، وهي الوحيدة التي تتصدى له وتقف في مواجهته.

بعد تآكل المشروع القومي العربي بعد العام 1967، ذلك الذي حدث أساسا بفعل التحرك الاسرائيلي الامبريالي لخلق "شرق أوسط جديد"، لم يبرز أي مشروع عربي يفكر بمستقبل المنطقة، ويتعامل معها كوحدة اقليمية واحدة، مما أفقد "الأمة" معظم "إن لم يكن كل" عناصر مناعتها.

فبعد عبد الناصر، لم يعد للعالم العربي قيادة ولا يبدو أنها ستكون في المستقبل المنظور. ومن سخرية القدر، أن دولا تدعي دور القيادة في العالم العربي الآن لم تكن في حياتها قومية، بل كانت مساهما أساسيا في إحباط المشروع القومي العربي الحقيقي من خلال "تحالفها" مع الامبريالية والصهيونية.

دخل العالم العربي بفعل دولته "الوطنية" ومآلاتها، ونخبه "الحديثة" وتوجهاتها، وعلاقتهما معا بالامبريالية والصهيونية في حالة موت سريري، بل اصبحت تسمية "العالم العربي" موضوعا للجدل، ولم يعد موضوع الأمن القومي العربي مطروحا، بل لم يعد هناك ما يبرر طرحه بعد أن فُتحت أبواب التطبيع مع إسرائيل على مصراعيها، وأصبح "العرب" جزءا من الحالة الصهيونية.

فيما يتعلق بالدولة العربية "الوطنية"، التي أقل ما يُقال فيها أنها نشأت في حالة "ملتبسة" وفي سياق مضاد للأمة إثر سايكس بيكو، ذهبت إلى اعتماد العزلة عن شقيقاتها "عقيدة" لها، وتنصلت من المشاركة "الايجابية" في أية قضية قومية تحررية بما فيها القضية الفلسطينية، باعتبارها "عبئا" لا مبرر له، أو لا علاقة لها به في أحسن الأحوال. ثم أخذت بالانعطاف الواضح والمعلن نحو "العدو"، الاستثناء هنا كان عند البعض في الفترة الناصرية.

لقد كان تأثير البترودولار الذي برز دوره مباشرة بعد هزيمة المشروع القومي في العام 1967، حاسما في رسم طريقٍ باتجاه واحد للدولة "الوطنية" نحو الامبريالية، وذلك من خلال دوره في القضاء على البرجوازية الوطنية في الدولة العربية، والابقاء على الكومبرادور والبرجوازية البيروقراطية ممثلة بأجهزة الدولة الإدارية لقيادة الدولة.

بغياب البرجوازية الوطنية، أو على الأقل بإضعافها، انتهت مقومات الدولة الوطنية الحقيقية، ولم يعد باستطاعة الدولة الموجودة أن تكون حاضنة لأي مشروع وطني نهضوي، فساهمت في تهميش الهويات الجامعة، وغيبت مفهوم الأمن القومي، ولعبت دورا حاسما في التأثير السلبي على نخبها خاصة الثقافية، في موقفها من الاستعمار والصهيونية ومشاريعهما في المنطقة.

أما بالنسبة للنخب المكونة أساسا من الجيش والمثقفين (الانتلجنسيا العسكرية والمدنية)، فقد ساهم البترودولار مباشرة، أو من خلال الدولة "الوطنية"، بأخذهما الى مكان آخر معاكس للمكان الطبيعي الذي كان يجب ان يكونا فيه. فالجيش الذي ينبغي أن يكون رمزا لوحدة "الأمة" واستقلالها وسيادتها وحافظ أمنها القومي، أصبح جزءا من الكومبرادور في شكل علاقته المباشرة و"المثيرة" مع الغرب ومع اسرائيل قبل التطبيع وبعده. الشيء الوحيد الذي يجعله مختلفا عن الكومبرادور التجاري هو اعتماده "البلطجة" في علاقاته مع السوق ومع الناس، بدل "الفهلوة" التي يعتمدها الكومبرادور المدني.

أما المثقفين المدنيين الذين لم تكن نسبة كبيرة منهم بمنآى عن تأثير البترودولار والدولة، فقد ذهب جزء منهم الى التنظير "للدولة" وأولويتها وانعزالها، وإلى "تتفيه" أي عمل وحدوي يفكر في "لملمة" عناصر القوة، ووصل بهم الأمر الى السعي لتبييض صفحة "العدو" وذلك بتحميل الذات عواقب "سوء" التصرف، ووجدوا أنفسهم في نهاية الأمر يصلون الى حيث كان لا بد أن يصلوا وهو الترويج للتطبيع والانخراط فيه. ربما لم يحدث في التاريخ أن "اقتنعت" نخبة "بعدوها" كما فعلت وتفعل بعض النخب العربية هذه الأيام.

من المهم هنا ايضا الإشارة الى "الخدمة" الكبيرة التي قدمتها مجموعة من المثقفين الحداثيين للمشروع الغربي الصهيوني والشرق الأوسط الجديد دون قصد على الأغلب وبشكل غير مباشر، إذ في خضم قيام هؤلاء بعملهم "الثوري" ضد الثقافة "الرجعية" التي يصنفون "الدين" كأحد أهم عناصرها، اقتربوا اكثر من "الدولة" (الرهينة والمرتهنة)، وساهموا في تفكيك المجتمع من خلال" تعففهم" في التعاطي مع "الإسلام" الذي اعتبروه "حاضنة" للتخلف فسهلوا تقديمه للامبريالية والصهيونية لاستخدامه ضد "الأمة" على شكل داعش احيانا ومشروع ابراهيمي احيانا أخرى.

إيران.. مشروع آخر لشرق مختلف

لا نحتاج لكثير من العناء للإقرار بأن ايران (وحلفائها) هي القوة "الأساسية" التي تقف أمام النسخة الامبريالية الصهيونية من مشروع الشرق الأوسط الجديد، ليس فقط لأن لديها تصورا مختلفا حول مستقبل المنطقة، بل لأنها الوحيدة التي تملك مشروعا متكاملا مضادا له.

المشروع الايراني مبني على مسألتين رسخهما الخميني منذ بداية الثورة الإسلامية؛ حتمية تحرير فلسطين على اعتبار أن اسرائيل "غدة سرطانية" غريبة في المنطقة، وضرورة انسحاب كل القوات والأساطيل والقواعد الأجنبية من المنطقة وتركها لأصحابها لتحديد شكل وجودهم وعلاقاتهم البينية. هو يعتبر اسرائيل والقواعد الأجنبية تهديدا مباشرا للأمن القومي الايراني. لذلك ينبغي أن نفهم أن تخلي ايران، أو بشكل أدق تخلي (الثورة الإسلامية في ايران) عن فلسطين هو تخليها عن مشروعها هي قبل أن يكون موقفا عقائديا أو اخلاقيا تضامنا مع الشعب الفلسطيني.

من المهم خاصة للنخب السياسية والثقافية العربية معرفة أن المشروع الايراني يتكيء على "ضلعين" هما الدولة والثورة. هذان الضلعان ليسا متعارضين لكنهما ليسا متماثلين تماما، والغرب في توجهاته نحو ايران يفترض وجود فجوة بين الدولة والثورة يسعى لتعميقها واسقاط الثورة من خلال ذلك.  انه يراهن من خلال الحصار والضغط على ايران تأليب الدولة على الثورة، وإظهار أن ما يعانيه الشعب الايراني والدولة الايرانية ما هو إلا بسبب التصرف "غير المسؤول" لها، وهو يعتبر أن "تخليص" الدولة من الثورة هو الطريق الأمثل لها للإنخراط في مشروعه للشرق الأوسط الجديد.

مما تقدم، يمكن الحكم على المشروع الايراني أنه مشروع شرقي تحرري، شرقي بمعنى أنه ليس مصمما للتموضع ضمن مصالح أي من القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة، هو مشروع ذاتي ايراني تماما. وهو مشروع تحرري بمعنى أن أهدافه المعلنة تتلخص في "تطهير" المنطقة (الشرق) أو (غرب آسيا) من كل القوى الأجنبية المتواجدة فيه والمتحكمة بمصيره. هذا هو ببساطة، والأمر لا يحتاج للذهاب كثيرا في "زواريب" الايديولوجيا و"مؤامرات" التاريخ.

العرب.. بين مشروعين

أصبح واضحا أن العرب، رسميون وغير رسميين، لا يملكوا أي مشروع ولا حتى أي تصور خاص لمستقبل المنطقة (الشرق)، وهم أساسا وبناء على ما تقدم، ليسوا في وضع يتيح لهم التفكير في أي مشروع كهذا لا الآن ولا في المستقبل المنظور، لذلك فإن دورهم ينحصر في أحسن الأحوال في اختيار كيفية التموضع مع ما هو مطروح أمامهم، رغم أن ذلك مشكوك فيه ايضا لأنهم على الأغلب لا يملكون حرية الاختيار، ويذهبوا صاغرين الى حيث تريد لهم القوى المتنفذة الذهاب.

إننا أمام مشروعين لإعادة صياغة مستقبل المنطقة لا ثالث لهما؛ مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي الاسرائيلي، يقابله المشروع الايراني. ونحن كذلك أمام عرب رسميين يمتثلون دون تردد للانخراط في المشروع الأول رغم إدراك بعضهم لخطورته المباشرة عليهم وعلى انظمتهم. ونخب (مثقفين بالأساس) بعضها غير مبال بحجة أنه لا يرى فرقا بين المشروعين، وبعضها يدعو الله للحفاظ على القديم (الموجود)، وما تبقى هو الذي وجد في المشروع المقابل ما يمكن أن يشكل أساسا لتجديد مختلف.

اذا ما استثنينا الجانب الرسمي الذي لا جدوى من النقاش معه كونه حسم موقعه "غرائزيا" الى جانب الشرق الأوسط (الصهيوني) الجديد، فإن الأكثر خطورة بين النخب هم اولئك الذين يتمترسون حول رأيهم بأن لا فرق بين المشروعين، كونهم يعرفون أن لا وجود لمشروع ثالث، ولا امكانية لوجوده، وهم بذلك إنما يسوقون المشروع الأول (الصهيوني) من باب "الحرص" على الذات وعلى "الاستقلال والسيادة".

هذا لا يعني أنه ليس من حق أحد أن يبدي "ملاحظاته" أو "تحفظاته" على المشروع "الايراني"، لكن التعامل العقلاني مع هذه التحفظات لا يكون بوضعه في خانة التساوي مع المشروع الصهيوني، بل بتقديره كمشروع تحرري للمنطقة والعمل على "تطويره" من خلال التفاعل والحوار بين كل المعنيين ليكون مشروعا "شرقيا" اكثر شمولا وجذرية واستثمارا لطاقات "الأمة"، كما تطمح شعوبها بكافة اثنياتهم وثقافاتهم (عربا وايرانيين وكرد وامازيغ...الخ) وطبقا لمصالحها في التحرر والاستقلال والسيادة والتنمية الحقيقية. مرة أخرى، إن لم تتوحد شعوب الشرق لتصنع "شرقها" على مقاسها، فإن اسرائيل جاهزة لتصنع لها ولهم "الشرق الأوسط الجديد" والقابل للتجديد دائما على المقاس الإسرائيلي.

*باحث وأكاديمي فلسطيني / رام الله

القدس المقدسية


© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com)

محرر البوابة

يتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة

الأحدثترند أي شرق نريد؟ صلاح ينتقد إدارة ليفربول.. ما السبب؟ شذى الأدهمي تهدد أصدقاء طليقها رامي الجابر: "لموا صاحبكم.. وتاريخكم المشرف كله عندي" بريانكا شوبرا تشارك لحظات عائلية خاصة رفقة زوحها نيك جوناس وابنتهما شاهد: ظهور السعودي عبد الحميد الأولى في الدوري الإيطالي Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية اعمل معنا الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • واشنطن: الولايات المتحدة تضغط بكل ما بوسعها للتوصل لحل في لبنان
  • بايدن وماكرون يعلنان وقف الحرب بلبنان |تفاصيل
  • ميقاتي تلقى برقيات بمناسبة عيد الإستقلال.. بايدن: الولايات المتحدة تقف إلى جانب الشعب اللبناني
  • أي شرق نريد؟
  • جلسة لـ مجلس الأمن اليوم حول الوضع في الشرق الأوسط
  • الشرق الأوسط ومذكرة اعتقال نتنياهو على طاولة "مجموعة السبع"
  • ليبيا تختتم رئاستها لمؤتمر «إنشاء منطقة شرق أوسط خالية من الأسلحة النووية»
  • المخمل يعكس رشاقة نجوى كرم (صور)
  • “آسيا تايمز”: الولايات المتحدة و”إسرائيل” تفشلان في إيقاف هجمات أنصار الله اليمنية 
  • واشنطن بين رئيسين.. سياسة بايدن تترك الشرق الأوسط مشتعلًا.. ولا أمل في السلام الأمريكي