ينظر العالم هذه الأيام بعين المتطلِّع بأمل لما يحمله العام الآتي؛ فما مرَّ على العالم من أحداث خلال عام 2023، وما عانته الكثير من المجتمعات وما زالت تعانيه من تحديات ومشكلات اقتصادية واجتماعية عدة، وما تكبدته من حروب وكوارث طبيعية، أدت إلى ضعف البنى التحتية في العديد منها والقدرة على الصمود في ظل تفاقم التحديات البيئية والجيوسياسية والاقتصادية.
ولعل ذلك كله أدى إلى ترقب انتهاء هذا العام وبداية عام 2024 باعتباره بداية جديدة متفائلة بانتهاء العديد من تلك التحديات أو على الأقل التخفيف منها؛ فالمتتبع لما ترصده المنظمات والمؤسسات الدولية من تقارير استشرافية خاصة بالعام المقبل، سيجد حجم التفاؤل المرتقب المرتبط به، وهو تفاؤل يأتي في شكل مجموعة من المنهجيات التي تعتمدها سواء أكانت وفقا للاستطلاعات أو تلك البيانات والنتائج المتخصصة في مجال بعينه أو حتى آراء الخبراء ومستشرفي المستقبل.
إن تلك التقارير تُبنى على آفاق واسعة من التطلُّع، وتقدِّم رؤى استشرافية مبنية على ما تم خلال الأعوام الماضية خاصة الأشهر الأخيرة من هذا العام، ولذلك فإن الكثير منها يستعرض توجهات العام المقبل ضمن مجموعة من الآفاق المتخصصة؛ فهناك توجهات في المجالات الصحيِّة، وفي المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بل هناك توجهات في مجالات الإبداع والابتكار، وتنمية الموارد البشرية، وغير ذلك وفقا للقطاعات وبناء على ما يتوفَّر من بيانات أو رؤى.
إن ترقُّب عام 2024 يحمل مجموعة من الرؤى التي اتخذت بعضها التفاؤل قاعدة لها، بينما تنظر أخرى بعكس ذلك خاصة بعد تفاقم المشكلات الجيوسياسية التي أدت إلى العديد من الحروب السياسية والاقتصادية بين كبرى دول العالم، الأمر الذي يكشف صعوبة إيجاد حلول سريعة وناجعة في القريب، إضافة إلى التحديات البيئية التي تحتاج إلى عشرات السنوات حتى يتحقَّق للعالم الحياد الصفري، وغير ذلك من القضايا والإشكالات التي تجعل من التفاؤل ممكنَّا يخضع للكثير من الرؤى التي قد تحوِّله إلى مجرد حلم.
وعلى الرغم من التحديات بل والمخاطر التي تواجه العالم خلال العام المقبل وما بعده بحسب التقارير والاستطلاعات، فإن هناك الكثير من الفرص التي يمكن للمجتمعات العمل وفقها لتحقيق المزيد من التنمية في القطاعات المختلفة، ولهذا فإن التقارير المتفائلة ركَّزت على تلك الفرص من حيث قدرتها على إيجاد أنماط جديدة للعيش، وفرص عمل قائمة على الإبداع والابتكار، إضافة إلى ما تمثِّله من إمكانات لتطوير الاتجاهات السابقة وإعادة إنتاجها في أشكال جديدة.
يخبرنا تقرير توجهات 2024، أن أهم الأسس التي يعتمد عليها العام المقبل هو الذكاء الاصطناعي؛ إذ يقدِّم نفسه باعتباره مرتكزا أساسيا في تطوير أنماط العيش، حيث يصل إلى أفراد المجتمع في منازلهم وعبر أنظمة الأدوات المستخدمة وأنماط الحياة اليومية، وذلك وفق تلك التطورات التي طرأت على الذكاء الاصطناعي خاصة خلال العامين الماضيين، وسوف يكون لذلك أساسا قويا في تنمية آفاقه وتغيُّر أشكاله وتوسعتها بناء على مقتضيات الحياة المتسارعة.
ويتطلَّع العالم -حسب التقرير- إلى جعل الذكاء الاصطناعي (مساعدا عالي الجودة للإنسان)؛ فلن يكون في أجهزة الحاسوب وحسب، بل سيخرج في أشكال وأنماط مختلفة، فتطوُّر الذكاء الاصطناعي التوليدي أو ما يسمى بإعادة تطويره وفقا لأنماط وأشكال جديدة سيكون الخطوة القادمة، وسنراه أكثر تطورا وأسرع في الحضور الفعلي خلال حياتنا اليومية، وفي معظم الأنشطة التي نمارسها.
غير أن التقرير نفسه يؤكد أنه لا يمكن التنبؤ بالابتكار الحقيقي؛ فغالبا ما يكون الابتكار الرائد غير متوقع فهو جديد تماما، وينحرف عن التوجهات السابقة بدلا من اتباعها، حيث ينتج عن (الإبداع الإنساني والصدفة، والقدرة على تحقيق قفزات بديهية)، لذا فإن الذكاء الاصطناعي بتطوره المستمر والمتسارع يعمل على تحفيز ابتكار منتجات وقوائم جديدة من السلاسل المعرفية بمعدلات غير مسبوقة، مما سيؤدي إلى إنتاج مفاهيم جديدة متطورة أكثر دقة.
إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتطورة التي يمكن أن تشكِّل فرصا حقيقية في العام المقبل، تلك التي تنطلق من خوارزمياته نفسها، والتي تضمن الابتكار الأكثر قدرة على إنتاج فرص الاستثمار والإبداع والعمل المستدام، ولهذا سنجد أن تلك الفرص تقوم على أولويات المجتمع وقدرته على استيعاب إمكانات الذكاء الاصطناعي، وطرائق الإبداع والابتكار التي يتضمنها، وانعكاس ذلك على فرص الإنتاج في القطاعات المختلفة.
قدَّمت شركة (WGSN) تصوَّرا لافتا في تقرير لها بعنوان (المستهلك المستقبلي لعام 2024)؛ تحدثنا فيه عن أنماط المستهلك وأولوياته للعام المقبل، لمساعدة الشركات على فهم متطلبات الأشخاص الذين يشترون منتجاتهم، بغية مواكبة التغيرات المتوقعة في أنماط الأسواق في العالم وبالتالي توجهات المستهلكين أنفسهم. إن هذه الأنماط التي اعتمدها التقرير تقوم أيضا على إعادة إنتاج أنماط الذكاء الاصطناعي التوليدي، وقدرته على تجاوز العديد من التحديات التقنية التي وقفت في الأعوام الماضية أمام عمليات الابتكار.
ولهذا فإن ما أطلق عليه التقرير (صدمة المستقبل)، يتمثَّل في قدرة المستويات المتقدِّمة من أنماط الذكاء الاصطناعي على تخطي التحديات، وانفتاح المجتمعات على معارفها وإمكاناتها التي تتطوَّر بشكل متسارع، عليه فإن ذلك سنعكس على العديد من مناحي الحياة؛ ففي عام 2024 -حسب التقرير- (سيتم تسريع إدراكنا للوقت بسبب تدفق البيانات المتناقضة، وسيكون الوقت سريعا وفقا للتأثير المعرفي حيث يمر بسرعة أكثر مما يعتقد المرء)، وسيؤثر بالتالي على مستويات ذلك الإدراك وقدرتنا على مواكبته.
إنه تصوير بالغ الأهمية بما يتضمنه تدفق البيانات مع تسارع الرقمنة واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والتجارة الإلكترونية والترفيه والألعاب، وتقنيات بث الفيديو وغير ذلك، ولهذا فإن تدفق البيانات إما أن يكون فرصة لنمو الابتكار وتطوير آفاقه، وإما مجالا خصبا للمغالطات وزيادة التحديات المعرفية التي تواجهها المجتمعات، خاصة مع تسارع الذكاء الاصطناعي وقدرته على بناء سلاسل وفقا لتوفُّر تلك البيانات دون النظر إلى مصداقيتها.
إن عام 2024 يحمل الكثير من التفاؤل والفرص من حيث تطوُّر الإمكانات والتقنيات المتسارعة التي يرى الكثير من مستشرفي المستقبل بأنها ستُسهم في انتعاش الصناعات خاصة الإبداعية؛ حيث يؤكد تقرير (WGSN) أن التجارة المرتبطة بالصناعات المرئية والصوتية سيكون لها شأن كبير ضمن تطوُّر الإبداع والابتكار في المجالات الثقافية والإعلامية، فقد بدأ انتعاش هذه الصناعات في عام 2023، إذ بلغت الصناعات الصوتية وحدها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة ما يقدَّر بـ40 مليار دولار)، الأمر الذي مهَّد للتطوُّر المتوقَّع لهذه الصناعات وغيرها من الصناعات الإبداعية، خاصة مع تنامي التقنيات الحديثة وتسارعها.
ولقد كشفت العديد من تلك التقارير الإمكانات والفرص التي تنتظرنا في عام 2024، فإذا ما نظرنا إليها باعتبارها قدرات ممكِّنة، فإنها ستفتح أمام مجتمعنا آفاق واسعة في المجالات الاقتصادية وستوجد فرص عمل ووظائف جديدة؛ فالتقنيات وخاصة الذكاء الاصطناعي يمثِّل ممكِّنا مهما لتطوير آفاق سوق الأعمال خلال الأشهر القادمة، وبالتالي فإن الاستفادة من هذه الفرص سيقدِّم أنماطا جديدة، وستنعكس آثارها على مهارات التنمية البشرية في الدولة وخاصة لفئة الشباب.
إن النظر إلى عام 2024 بتفاؤل وإيجابية يعني قدرتنا على تجاوز التحديات التي واجهتنا خاصة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية على المستوى المحلي، إضافة إلى النظر إلى التحديات الإقليمية بل والعالمية بأهمية باعتبارنا جزءا من هذا العالم، وما يحدث فيه سيؤثر علينا بشكل مباشر أو غير مباشر، ووفقا لذلك علينا النظر إلى تنمية الوطن بتطوير مهاراتنا وقدراتنا بما يُسهم في تحقيق الأهداف والرؤى الوطنية.
إننا إذ نستقبل عاما جديدا فإن علينا أن نكون قوة عمل وتطوير وتنمية لوطننا الغالي، وأن نكون يدا معطاءة متفانية مشاركة بإيجابية ومؤثرة محليا وإقليميا.
عائشة الدرمكية: باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإبداع والابتکار الذکاء الاصطناعی العام المقبل فی المجالات الکثیر من العدید من النظر إلى عام 2024
إقرأ أيضاً:
فاطمة سعيد سالم.. متخصصة في تقنيات الذكاء الاصطناعي
خولة علي (أبوظبي)
تسعى فاطمة سعيد سالم إلى استكشاف أحدث الاتجاهات في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، والأمن السيبراني، حيث تمثل هذه المجالات جوهر الابتكار والتطور في القرن الحادي والعشرين. بالرغم من أن مسيرتها المهنية كمهندسة معمارية، لم تتوقف عند حدود مجالها الأول، بل اتخذت خطوات جريئة نحو تطوير نفسها وتوسيع خبراتها عبر الانضمام إلى قطاعات متعددة، وقد تتميز رحلتها الأكاديمية بمثابرتها على التعلم المستمر، حيث حصلت على عدة درجات علمية في مجالات الإدارة الهندسية، القيادة الاستراتيجية، وتحليل البيانات. وتمكنت من تحقيق إنجازات بارزة، مثل إصدار أول كتاب إماراتي في مجال البيانات الضخمة، وتخصصها في مشاريع التحول الرقمي في عدة قطاعات حيوية.
عن بداية مسيرتها وخطواتها نحو التميز المهني تقول فاطمة سعيد سالم: بدأت مسيرتي المهنية مباشرة بعد تخرجي في الجامعة بتخصص بكالوريوس هندسة معمارية، حيث انضممت إلى شركات استشارة هندسية، وكنت أؤمن بأن النجاح الحقيقي يبدأ من العمل الجاد والتحدي مع الذات، فطورت عملي من مهندس معماري لمدير مشاريع هندسية، ثم التحقت بالقطاع العسكري الأمني لأعمل كمدير مشاريع التطوير، وبعدها انتقلت إلى العمل في القطاع الحكومي حيث شغلت مناصب عدة. وبعد التخصص الأكاديمي في مجالات تحليل البيانات والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي قررت أن التحق بمجالات جديدة مثل العمل في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي كمدير مشاريع الذكاء الاصطناعي.
وأثبت فاطمة جدارتها في إدارة بعض المشاريع المهمة، ولم تكتف بهذه الرحلة إنما قررت أن تضع خبرتها في مجالات وقطاعات جديدة، ومنها عملها في القطاعات المالية المهمة كمدير منتجات البيانات والذكاء الاصطناعي وعلاقات الأعمال، وهي مازالت مستمرة في رحلة التحدي والعطاء بلا حدود في كل مجال تلتحق به.
محطات علمية محفزة
أكبر تحد لها كمهندسة معمارية أن تحول ما ترسمه على الورق إلى واقع ملموس يراه البشر ويدونه التاريخ، بعدها وبسبب طبيعة عملها التي تتطلب منها المزيد من المعرفة والعلم بمجال إدارة المشاريع والإرادة الاستراتيجية، خاضت الماجستير الأول في الإدارة الهندسية والمشاريع بالإضافة إلى ماجستير الإدارة الفعالة والقيادة الاستراتيجية. وبعد إدراكها لأهمية تحليل البيانات والأعمال والذكاء الاصطناعي لمواكبة تطورات واحتياجات العصر، قررت التخصص في ماجستير العلوم في تحليل الأعمال والبيانات الضخمة لتثبت جدارتها وتؤكد على مدى قدرة المرأة الإماراتية وتميزها في المجالات الصعبة. وتذكر أن مسيرة التعليم والارتقاء الأكاديمي لا تقف عند حد معين، كما أن موجة علوم البيانات والذكاء الاصطناعي متناهية السرعة والتقدم.
عالم التكنولوجيا
ترى المهندسة فاطمة أن الذكاء الاصطناعي كان ولا يزال يشكل خريطة جديدة في عالم التحول الرقمي والتكنولوجيا المتقدمة والحلول الذكية، فهي مجموعة من التقنيات والأنظمة التي تمكن الآلات من التعلم والتفكير واتخاذ القرارات بشكل مستقل وبدون تدخل الإنسان، وبالتالي فهي تمثل طفرة كبيرة في العالم والتكنولوجيا. وتحقق إنجازات ونجاحات هائلة في مجال الطب والتعليم والصناعة والتجارة والأمن السيبراني و الفلك و البيئة، وذلك من خلال، قوة الإبداع وتوفر الدقة المتناهية في البيانات والتحليلات ودعم عملية صنع القرار إلى جانب تقليل الخطأ البشري. وهذا ما دفعها للمساهمة، وترك بصمتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات والأعمال وأمن البيانات.
الروبوتات
وتقول فاطمة: إن الذكاء الاصطناعي من أهم التكنولوجيات التي تحدث تحولات جذرية في حياتنا اليومية والمجتمعية، وهو من الأدوات التي ستؤثر بشكل كبير على المستقبل القريب والبعيد، وفي الكثير من القطاعات والمجالات. وأجد أن أكثر التطبيقات ذات أثر كبير في المستقبل القريب، هي في القطاعات الطبية والصحية حيث استخدام الروبوتات والأنظمة في بعض الإجراءات لتحسين التجربة الطبية والصناعية، حيث بعض الأنظمة المتخصصة بأعمال التقارير الدقيقة والتنبؤات والتحليلات والرقابة والجودة، وتأثيره في القطاع التعليمي والتربوي من خلال تسهيل العملية التعليمية وإثراء التعليم بإمكانات وأدوات ذات تأثير إيجابي وفعال.
تشكل ملامح المستقبل
وترى فاطمة أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر على نحو 64% من الوظائف حول العالم، فيحل محل بعضها ويكمل بعضها الآخر، حيث يرسم ملامح جديدة مبتكرة متنوعة تتميز بالديناميكية العالية والتجدد المستمر في تمكين الأدوات المستخدمة لرفع مستوى الإنتاجية في كل مجال، و تحسين الأداء في كل مهام، و تعزيز الكوادر لرفع استعداديتها لمواكبة التطورات السريعة و الحاجة الملحة لموجات التكنولوجيات المتقدمة.
إنجازات ومشاريع
من أبرز المشاريع والإنجازات التي حققتها المهندسة فاطمة إصدارها أول كتاب إماراتي في مجال البيانات الضخمة وهو "فضاءات البيانات الضخمة" 2020، وسجِّل من ضمن الكتب العلمية الأكثر مبيعاً في عام 2021. وهي عالمة مستقبل ومحلل طويل الأمد إماراتية معتمدة من معهد المستقبل في أميركا عام 2022، ومتخصصة في مشاريع التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في قطاعات حيوية مختلفة، منها: المالية والأكاديمية والصناعية والطبية، بالإضافة إلى البيئة والمناخ، حيث بلغ عددها نحو 35 مشروعاً.