ينظر العالم هذه الأيام بعين المتطلِّع بأمل لما يحمله العام الآتي؛ فما مرَّ على العالم من أحداث خلال عام 2023، وما عانته الكثير من المجتمعات وما زالت تعانيه من تحديات ومشكلات اقتصادية واجتماعية عدة، وما تكبدته من حروب وكوارث طبيعية، أدت إلى ضعف البنى التحتية في العديد منها والقدرة على الصمود في ظل تفاقم التحديات البيئية والجيوسياسية والاقتصادية.
ولعل ذلك كله أدى إلى ترقب انتهاء هذا العام وبداية عام 2024 باعتباره بداية جديدة متفائلة بانتهاء العديد من تلك التحديات أو على الأقل التخفيف منها؛ فالمتتبع لما ترصده المنظمات والمؤسسات الدولية من تقارير استشرافية خاصة بالعام المقبل، سيجد حجم التفاؤل المرتقب المرتبط به، وهو تفاؤل يأتي في شكل مجموعة من المنهجيات التي تعتمدها سواء أكانت وفقا للاستطلاعات أو تلك البيانات والنتائج المتخصصة في مجال بعينه أو حتى آراء الخبراء ومستشرفي المستقبل.
إن تلك التقارير تُبنى على آفاق واسعة من التطلُّع، وتقدِّم رؤى استشرافية مبنية على ما تم خلال الأعوام الماضية خاصة الأشهر الأخيرة من هذا العام، ولذلك فإن الكثير منها يستعرض توجهات العام المقبل ضمن مجموعة من الآفاق المتخصصة؛ فهناك توجهات في المجالات الصحيِّة، وفي المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بل هناك توجهات في مجالات الإبداع والابتكار، وتنمية الموارد البشرية، وغير ذلك وفقا للقطاعات وبناء على ما يتوفَّر من بيانات أو رؤى.
إن ترقُّب عام 2024 يحمل مجموعة من الرؤى التي اتخذت بعضها التفاؤل قاعدة لها، بينما تنظر أخرى بعكس ذلك خاصة بعد تفاقم المشكلات الجيوسياسية التي أدت إلى العديد من الحروب السياسية والاقتصادية بين كبرى دول العالم، الأمر الذي يكشف صعوبة إيجاد حلول سريعة وناجعة في القريب، إضافة إلى التحديات البيئية التي تحتاج إلى عشرات السنوات حتى يتحقَّق للعالم الحياد الصفري، وغير ذلك من القضايا والإشكالات التي تجعل من التفاؤل ممكنَّا يخضع للكثير من الرؤى التي قد تحوِّله إلى مجرد حلم.
وعلى الرغم من التحديات بل والمخاطر التي تواجه العالم خلال العام المقبل وما بعده بحسب التقارير والاستطلاعات، فإن هناك الكثير من الفرص التي يمكن للمجتمعات العمل وفقها لتحقيق المزيد من التنمية في القطاعات المختلفة، ولهذا فإن التقارير المتفائلة ركَّزت على تلك الفرص من حيث قدرتها على إيجاد أنماط جديدة للعيش، وفرص عمل قائمة على الإبداع والابتكار، إضافة إلى ما تمثِّله من إمكانات لتطوير الاتجاهات السابقة وإعادة إنتاجها في أشكال جديدة.
يخبرنا تقرير توجهات 2024، أن أهم الأسس التي يعتمد عليها العام المقبل هو الذكاء الاصطناعي؛ إذ يقدِّم نفسه باعتباره مرتكزا أساسيا في تطوير أنماط العيش، حيث يصل إلى أفراد المجتمع في منازلهم وعبر أنظمة الأدوات المستخدمة وأنماط الحياة اليومية، وذلك وفق تلك التطورات التي طرأت على الذكاء الاصطناعي خاصة خلال العامين الماضيين، وسوف يكون لذلك أساسا قويا في تنمية آفاقه وتغيُّر أشكاله وتوسعتها بناء على مقتضيات الحياة المتسارعة.
ويتطلَّع العالم -حسب التقرير- إلى جعل الذكاء الاصطناعي (مساعدا عالي الجودة للإنسان)؛ فلن يكون في أجهزة الحاسوب وحسب، بل سيخرج في أشكال وأنماط مختلفة، فتطوُّر الذكاء الاصطناعي التوليدي أو ما يسمى بإعادة تطويره وفقا لأنماط وأشكال جديدة سيكون الخطوة القادمة، وسنراه أكثر تطورا وأسرع في الحضور الفعلي خلال حياتنا اليومية، وفي معظم الأنشطة التي نمارسها.
غير أن التقرير نفسه يؤكد أنه لا يمكن التنبؤ بالابتكار الحقيقي؛ فغالبا ما يكون الابتكار الرائد غير متوقع فهو جديد تماما، وينحرف عن التوجهات السابقة بدلا من اتباعها، حيث ينتج عن (الإبداع الإنساني والصدفة، والقدرة على تحقيق قفزات بديهية)، لذا فإن الذكاء الاصطناعي بتطوره المستمر والمتسارع يعمل على تحفيز ابتكار منتجات وقوائم جديدة من السلاسل المعرفية بمعدلات غير مسبوقة، مما سيؤدي إلى إنتاج مفاهيم جديدة متطورة أكثر دقة.
إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتطورة التي يمكن أن تشكِّل فرصا حقيقية في العام المقبل، تلك التي تنطلق من خوارزمياته نفسها، والتي تضمن الابتكار الأكثر قدرة على إنتاج فرص الاستثمار والإبداع والعمل المستدام، ولهذا سنجد أن تلك الفرص تقوم على أولويات المجتمع وقدرته على استيعاب إمكانات الذكاء الاصطناعي، وطرائق الإبداع والابتكار التي يتضمنها، وانعكاس ذلك على فرص الإنتاج في القطاعات المختلفة.
قدَّمت شركة (WGSN) تصوَّرا لافتا في تقرير لها بعنوان (المستهلك المستقبلي لعام 2024)؛ تحدثنا فيه عن أنماط المستهلك وأولوياته للعام المقبل، لمساعدة الشركات على فهم متطلبات الأشخاص الذين يشترون منتجاتهم، بغية مواكبة التغيرات المتوقعة في أنماط الأسواق في العالم وبالتالي توجهات المستهلكين أنفسهم. إن هذه الأنماط التي اعتمدها التقرير تقوم أيضا على إعادة إنتاج أنماط الذكاء الاصطناعي التوليدي، وقدرته على تجاوز العديد من التحديات التقنية التي وقفت في الأعوام الماضية أمام عمليات الابتكار.
ولهذا فإن ما أطلق عليه التقرير (صدمة المستقبل)، يتمثَّل في قدرة المستويات المتقدِّمة من أنماط الذكاء الاصطناعي على تخطي التحديات، وانفتاح المجتمعات على معارفها وإمكاناتها التي تتطوَّر بشكل متسارع، عليه فإن ذلك سنعكس على العديد من مناحي الحياة؛ ففي عام 2024 -حسب التقرير- (سيتم تسريع إدراكنا للوقت بسبب تدفق البيانات المتناقضة، وسيكون الوقت سريعا وفقا للتأثير المعرفي حيث يمر بسرعة أكثر مما يعتقد المرء)، وسيؤثر بالتالي على مستويات ذلك الإدراك وقدرتنا على مواكبته.
إنه تصوير بالغ الأهمية بما يتضمنه تدفق البيانات مع تسارع الرقمنة واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والتجارة الإلكترونية والترفيه والألعاب، وتقنيات بث الفيديو وغير ذلك، ولهذا فإن تدفق البيانات إما أن يكون فرصة لنمو الابتكار وتطوير آفاقه، وإما مجالا خصبا للمغالطات وزيادة التحديات المعرفية التي تواجهها المجتمعات، خاصة مع تسارع الذكاء الاصطناعي وقدرته على بناء سلاسل وفقا لتوفُّر تلك البيانات دون النظر إلى مصداقيتها.
إن عام 2024 يحمل الكثير من التفاؤل والفرص من حيث تطوُّر الإمكانات والتقنيات المتسارعة التي يرى الكثير من مستشرفي المستقبل بأنها ستُسهم في انتعاش الصناعات خاصة الإبداعية؛ حيث يؤكد تقرير (WGSN) أن التجارة المرتبطة بالصناعات المرئية والصوتية سيكون لها شأن كبير ضمن تطوُّر الإبداع والابتكار في المجالات الثقافية والإعلامية، فقد بدأ انتعاش هذه الصناعات في عام 2023، إذ بلغت الصناعات الصوتية وحدها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة ما يقدَّر بـ40 مليار دولار)، الأمر الذي مهَّد للتطوُّر المتوقَّع لهذه الصناعات وغيرها من الصناعات الإبداعية، خاصة مع تنامي التقنيات الحديثة وتسارعها.
ولقد كشفت العديد من تلك التقارير الإمكانات والفرص التي تنتظرنا في عام 2024، فإذا ما نظرنا إليها باعتبارها قدرات ممكِّنة، فإنها ستفتح أمام مجتمعنا آفاق واسعة في المجالات الاقتصادية وستوجد فرص عمل ووظائف جديدة؛ فالتقنيات وخاصة الذكاء الاصطناعي يمثِّل ممكِّنا مهما لتطوير آفاق سوق الأعمال خلال الأشهر القادمة، وبالتالي فإن الاستفادة من هذه الفرص سيقدِّم أنماطا جديدة، وستنعكس آثارها على مهارات التنمية البشرية في الدولة وخاصة لفئة الشباب.
إن النظر إلى عام 2024 بتفاؤل وإيجابية يعني قدرتنا على تجاوز التحديات التي واجهتنا خاصة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية على المستوى المحلي، إضافة إلى النظر إلى التحديات الإقليمية بل والعالمية بأهمية باعتبارنا جزءا من هذا العالم، وما يحدث فيه سيؤثر علينا بشكل مباشر أو غير مباشر، ووفقا لذلك علينا النظر إلى تنمية الوطن بتطوير مهاراتنا وقدراتنا بما يُسهم في تحقيق الأهداف والرؤى الوطنية.
إننا إذ نستقبل عاما جديدا فإن علينا أن نكون قوة عمل وتطوير وتنمية لوطننا الغالي، وأن نكون يدا معطاءة متفانية مشاركة بإيجابية ومؤثرة محليا وإقليميا.
عائشة الدرمكية: باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإبداع والابتکار الذکاء الاصطناعی العام المقبل فی المجالات الکثیر من العدید من النظر إلى عام 2024
إقرأ أيضاً:
أسلحة الذكاء الاصطناعي ووهم سيطرة البشر
ترجمة - نهى مصطفى -
في عام 1984، وعد أرنولد شوارزنيجر في فيلم الخيال العلمي الشهير «المدمرThe Terminator»، الذي لعب فيه دور قاتل آلي من المستقبل، بـأنه «سيعود». ولم يكن يمزح. في مقابلة أجريت معه عام 2023، أشار الممثل الذي أصبح حاكمًا لولاية كاليفورنيا إلى أن رؤية الفيلم للأسلحة الآلية أصبحت الآن حقيقة واقعة، أو كما قال مخرج الفيلم جيمس كاميرون: «لقد حذرتكم في عام 1984، ولم تستمعوا إلي».
في المستقبل البائس الذي يصوره الفيلم، يصمم البشر نظامًا عسكريًا مدعومًا بالذكاء الاصطناعي يخرج عن السيطرة ويدمر البشرية، وهو ما لم يحدث بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن في الوقت نفسه، تغيرت الحرب بلا شك في الأربعين عامًا الماضية منذ عرض فيلم «المدمر» في دور السينما، وأصبح يتم نشر الأسلحة المدعومة بالذكاء الاصطناعي بنشاط في ساحات القتال من أوكرانيا إلى غزة، ومن المرجح أن تلعب دورًا حاسمًا في أي صراع بين الولايات المتحدة والصين.
لا تزال تحذيرات فيلم «المدمر» من أن الآلات لا يمكن الوثوق بها في اتخاذ القرارات المهمة، مثل متى ومن يجب إطلاق النار عليه، قائمة في النفس البشرية الجماعية. ومع ذلك، الخطر الحقيقي قد لا يكمن في ضعف السيطرة البشرية على هذه الأنظمة، بل في الاعتقاد الواهم بأنه يمكن السيطرة على هذه الأسلحة على الإطلاق. يوفر هذا الوهم راحة زائفة للحكومات والجيوش والمجتمعات الديمقراطية من خلال تغذية الأمل الساذج في أنها يمكن تصميم أنظمة أفضل -أو أكثر أمانًا- بوجود البشر في حلقة اتخاذ القرار، أنظمة يمكن أن تتفوق على أنظمة الخصوم الاستبداديين الذين لديهم تحفظات أقل بشأن جعل كل شيء أوتوماتيكيًا.
ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالسيطرة البشرية على أنظمة الأسلحة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، فإن الرأي السائد يظل أن المزيد أفضل. على سبيل المثال، تتطلب سياسة الحكومة الأمريكية صراحة أن يتم تصميم الأسلحة القاتلة المستقلة مع القدرة على التدخل البشري المناسب، ويؤكد كبار المسؤولين بانتظام على هذه الحقيقة. في أواخر عام 2023، بعد أن أطلقت وزارة الدفاع مبادرة Replicator، وهي محاولة لنشر آلاف الأنظمة المستقلة في جميع الخدمات العسكرية بحلول أغسطس 2025، صرحت نائبة وزير الدفاع كاثلين هيكس: «هناك دائمًا إنسان مسؤول عن استخدام القوة، نقطة». تسعى الأمم المتحدة إلى حظر الأسلحة المستقلة بالكامل واقترحت قواعد ملزمة دوليًا تتطلب من مثل هذه الأنظمة أن يكون هناك إنسان في حلقة إتخاذ القرار. تبنت العديد من المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك Stop Killer Robots، ومعهد مستقبل الحياة Future of Life Institute، ومنظمة العفو الدولية، قضية السيطرة البشرية على الأسلحة المستقلة.
من غير الواقعي الاعتقاد بأن البشر يمكنهم التحكم في الخوارزميات المتطورة للأسلحة المستقلة أثناء القتال. فأنظمة الذكاء الاصطناعي المعاصرة غالبًا ما تكون معقدة لدرجة تجعل الإشراف البشري مستحيلًا، خاصة في ظروف الحرب التي تتسم بالتوتر والسرعة والانقطاع في التواصل. لذا، يجب على الجيوش استثمار الوقت والجهد خلال فترات السلم لبناء الثقة في نماذج الأسلحة المستقلة، وضمان جاهزيتها للعمل بفعالية ودون تدخل بشري مفرط عند اندلاع النزاعات.
تجعل المنافسة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين تطوير ونشر أنظمة الأسلحة المستقلة أمرًا لا مفر منه، حيث تقدم الحرب في أوكرانيا دليلًا مبكرًا على هذا التحول في النموذج. وفي الوقت نفسه، تلتزم حكومة الولايات المتحدة بنشر الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع وعلى الفور لمجموعة متنوعة من الأغراض الأمنية - تحليل الاستخبارات، والسلامة البيولوجية، والأمن السيبراني، وغيرها.
لسنوات، استثمرت بكين بكثافة في القدرات التي تهدف إلى تحييد إسقاط القوة الأمريكية في شرق آسيا، مما قد يسمح للصين بفرض أمر واقع على تايوان. وحتى وقت قريب، أعطى الجيش الأمريكي الأولوية للحفاظ على عدد صغير من منصات الأسلحة الكبيرة، مثل حاملات الطائرات والطائرات المقاتلة والقاذفات المتطورة. لكن هذا النهج لم يعد مستدامًا. فقد بنت الصين ووزعت عددًا كبيرًا من أنظمة الأسلحة الرخيصة نسبيًا، مثل: الصواريخ الباليستية المضادة للسفن والغواصات التي تعمل بالديزل والكهرباء، والتي قد تدمر بسهولة المنصات الرائعة للجيش الأمريكي ــ وهي استراتيجية تسمى «الإنكار»، التي تمنع الخصم من اتخاذ إجراء غير مرغوب فيه، ولكنها لا تسعى إلى تغيير رأي الخصم. ومن أجل استعادة ميزة الولايات المتحدة في شرق آسيا، شرع كل فرع من فروع القوات المسلحة في نشر ما يكفي من الأنظمة التي تعمل بدون تدخل بشري مباشر للتغلب على قدرات الإنكار الصينية.
الواقع أن الأسلحة الأوتوماتيكية والذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار بدرجات متفاوتة من الاستقلالية تشكل مكونات أساسية في أحدث مفاهيم العمليات التي تتبناها الخدمات العسكرية الأمريكية: تصميم قوة مشاة البحرية لعام 2030، والعمليات البحرية الموزعة للبحرية، وعمليات القتال واسعة النطاق للجيش، ومفهوم التشغيل المستقبلي للقوات الجوية، كل هذه المفاهيم تعتمد بدورها على مبادرة مستمرة أطلقت في عام 2022 والمعروفة باسم القيادة والسيطرة المشتركة لجميع المجالات، والتي بلغت تكلفتها 1.4 مليار دولار في عام 2024 وحده. ووفقًا لوزارة الدفاع، يهدف البرنامج إلى ربط «كل جهاز استشعار وكل مطلق نار» من أجل «اكتشاف وجمع وربط وتجميع ومعالجة واستغلال البيانات من جميع المجالات والمصادر» وبالتالي إنشاء «نسيج بيانات» موحد. وببساطة، ينبغي أن يكون كل شيء قادر على جمع البيانات، من الأقمار الصناعية إلى الطائرات بدون طيار البحرية إلى الجندي في الميدان، قادرًا على مشاركتها واستخدامها.
الأنظمة التي تعمل بدون تدخل بشري تشكل ركيزة لا غنى عنها في هذا النسيج من البيانات. فعلى الأرض، سوف تعمل هذه الأنظمة على تعزيز القدرة على القتل والحد من الخسائر بين الأصدقاء والمدنيين من خلال توفير قدر أعظم من الدقة. وفي الجو، سوف تتمتع الطائرات بدون طيار بقدرة أكبر على التحمل والقدرة على المناورة، وسوف تنتشر بأعداد أكبر، وتتعاون لتغطية مناطق أكبر، وتعقّد عملية الاستهداف المضاد للعدوان. وفي البحر، سوف تخترق السفن التي تعمل بدون تدخل بشري مناطق كانت من قبل يصعب الوصول إليها.
بطبيعة الحال، ليست التكتيكات والعمليات هي الاعتبارات الوحيدة في الحرب. ومن منظور أخلاقي، يخشى العديد من المراقبين أنه في غياب الرقابة، قد تنطلق الآلات غير المفكرة في فوضى، وتنتهك المبادئ العريقة مثل التناسب (الذي يملي ألا يتجاوز الضرر الذي يفرضه العمل العسكري فوائده) والتمييز (الذي يفرض على الجيوش التمييز بين المقاتلين والمدنيين). ويخشى آخرون أن تستغل الأنظمة المستقلة السكان الضعفاء بسبب التحيزات في بيانات التدريب الخاصة بها أو أن تقوم جهات غير حكومية باختراق أو سرقة الأسلحة المستقلة واستخدامها لأغراض خبيثة.
يرى منتقدو الأسلحة المستقلة أن التركيز على الفعالية التكتيكية أو التشغيلية يمكن أن يؤدي إلى نتائج استراتيجية كارثية، مثل التصعيد غير المقصود. فهم يجادلون بأن البشر يمتلكون قدرة على دمج سياق أوسع في قراراتهم، مما يجعلهم أكثر مرونة في التعامل مع الفوضى أو الظروف غير المتوقعة مقارنة بالآلات التي تلتزم بالنص المبرمج. ومع ذلك، لا يزال الشك يحيط بفكرة السماح للآلات باتخاذ قرارات خطيرة مثل القتل أو تصعيد النزاعات العسكرية. تستند هذه الشكوك إلى أمثلة ملموسة لأخطاء الذكاء الاصطناعي، مثل حوادث السيارات ذاتية القيادة أو «هلوسات» أنظمة الدردشة. ويظل الاعتقاد السائد أن البشر أقل ميلًا لسفك الدماء دون داعٍ أو تصعيد الصراعات بشكل غير محسوب.
تدعم هذه الحجج الأخلاقية والعملية الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن حتى أكثر الأنظمة المستقلة تقدمًا مع الذكاء الاصطناعي سوف ترتكب أخطاء. ومع ذلك، فقد تقدم الذكاء الاصطناعي إلى النقطة التي أصبح فيها التحكم البشري في كثير من الأحيان اسميًا أكثر من كونه حقيقيًا. والواقع أن الشعور المتضخم بقدرة البشر على التحكم في الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم المخاطر ذاتها التي يخشاها المنتقدون. والوهم بأن البشر سوف يكونون قادرين على التدخل في سيناريوهات قتالية مستقبلية تعد بالتوتر الشديد والسرعة العالية -وخلالها سوف تتدهور الاتصالات أو تتقطع- يمنع صناع السياسات والعسكريين ومصممو الأنظمة من اتخاذ الخطوات اللازمة لابتكار واختبار وتقييم أنظمة مستقلة آمنة.
سوف تكون الحروب المستقبلية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي أسرع وأكثر اعتمادًا على البيانات، حيث يمكن نشر أنظمة الأسلحة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي (على سبيل المثال، أسراب الطائرات بدون طيار) بسرعة وعلى نطاق واسع. ولن يكون لدى البشر الوقت ولا القدرة المعرفية لتقييم هذه البيانات بشكل مستقل عن الآلة. على سبيل المثال، استخدمت إسرائيل نظام توليد أهداف مدعوم بالذكاء الاصطناعي أثناء الحرب في غزة، وهذا النظام، الذي يستخدم مئات الآلاف من التفاصيل لتصنيف الأهداف على أنها معادية، متطور بحيث لا يمكنه التكهن عندما يتعين اتخاذ القرارات في دقائق أو ثوانٍ.
البشر لا يستطيعون تفسير الكميات الهائلة من البيانات التي تجمعها مثل هذه المجموعة من الأنظمة وتحليلها لاتخاذ قرارات سليمة. من الممكن توسيع نطاق الأنظمة المستقلة لاستيعاب عدد أكبر من المهام التفاعلية والمعقدة، لكن القدرات البشرية ثابتة. وسوف يؤدي الضغط لتسريع التفسير والتحليل البشري إلى اتخاذ قرارات أقل تفكيرًا وأكثر عرضة للخطأ. وفي الوقت نفسه، وبدون تسريع عملية اتخاذ القرار، فإن اختيار الإجراءات سوف يصبح عتيقًا في بيئة سريعة الحركة.
في الصراعات المستقبلية، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين، قد يؤدي استهداف الأقمار الصناعية والتشويش على الاتصالات إلى عزل القادة والأفراد عن الإشراف والدعم، مثال على ذلك، قوات مشاة البحرية «القوات الاحتياطية» المصممة كوحدات قتالية صغيرة موزعة تعمل ضمن نطاق الأسلحة الصينية. لضمان البقاء، ستقلل هذه القوات توقيعاتها الكهرومغناطيسية بالحد من استخدام أجهزة الاتصالات والرادارات، ما يفرض عليها اتخاذ قرارات مستقلة اعتمادًا على البيانات التي تجمعها فقط، دون سياق خارجي أو دعم إضافي.
اقترح صناع السياسات والقادة العسكريون تقليل استخدام الأنظمة المستقلة لتناسب السرعة البشرية، سيؤدي فقط إلى استجابات أبطأ، كما أن تحسين تدريب المشغلين يحقق مكاسب محدودة نظرًا لتفوق الذكاء الاصطناعي في القوة المعرفية وزيادة حجم البيانات.
رغم تصريحات المسؤولين الأمريكيين بأن أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية يجب أن تقتصر على تقديم اقتراحات، فإن الحرب المدعومة بالذكاء الاصطناعي تُظهر استقلالية أكبر في العمليات. مثال ذلك الطائرات بدون طيار في أوكرانيا، التي تعمل بشكل مستقل بسبب التشويش على اتصالاتها. ولا يمكن بسهولة فصل الاستخدامات الدفاعية عن الهجومية للأسلحة ذاتية التشغيل، حيث يمكن أن يدعم الدفاع التكتيكي الهجوم العملياتي والعكس، وفقاً للاستراتيجيات العسكرية الكلاسيكية.
توصيات السيطرة البشرية على الأسلحة المستقلة ليست سوى مسكنات، تمنح شعورًا زائفًا بالأمان بينما تعرقل قدرة القوات على تحقيق النصر وتضع عبء القرارات الأخلاقية والعملية على الجنود في ظروف حرجة. بدلاً من ذلك، يجب على صناع السياسات تبني نهج واقعي وأكثر أخلاقية لأنظمة الأسلحة المستقلة. يتطلب هذا النهج أن تُتخذ القرارات الحاسمة، مثل تلك المتعلقة بالتناسب والتمييز، في أوقات السلم، حيث يمكن الاعتماد على المدخلات المتخصصة والنقاش الديمقراطي والإشراف الفعّال. الهدف هو ضمان السيطرة البشرية والمساءلة في ظروف مناسبة، بعيدًا عن ضغوط الحرب حيث يمكن أن تؤدي القرارات المتسرعة إلى خسائر جسيمة.
في العقود القادمة، ستعتمد الولايات المتحدة بشكل متزايد على أنظمة الأسلحة المستقلة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. التمسك بفكرة السيطرة البشرية أثناء الحرب سيضع الدول الديمقراطية في موقف ضعف أمام خصوم لا يلتزمون بهذه القيود. كما أن اتخاذ القرارات الحاسمة أثناء الحرب، في ظل الضغوط الشديدة، قد يؤدي إلى نتائج أقل أخلاقية. لذلك، ينبغي للحكومات برمجة المدخلات البشرية في الأنظمة مسبقًا، مع مراقبتها وتحسينها باستمرار، وبناء الثقة بها. الفشل في تحقيق ذلك قد يجعل السيطرة البشرية على الذكاء الاصطناعي العسكري أكثر تكلفة في الأرواح بدلاً من إنقاذها.
سيباستيان إلباوم عالم كمبيوتر أمريكي من أصل أرجنتيني، وأستاذ في جامعة فرجينيا.
جوناثان بانتر زميل ستانتون للأمن النووي في مجلس العلاقات الخارجية (CFR).
المقال نشر في Foreign Affairs