لجريدة عمان:
2025-01-23@17:22:47 GMT

غزَّة.. المجتمعُ يقاوِم

تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT

منذ بداية العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، في السابع من أكتوبر الماضي، والمجتمع الفلسطيني في القطاع يضرب لمن يتفرجون عليه طيلة ثلاثة أشهر أبلغَ الأمثلة على المقاومة والنضال المجتمعي المتلاحم والفريد، متمسكًا بحقه الأول: الحياة، الحياة على الأرض التي نبتَ من جرح ترابها، على الأرض التي بات يعلم يقينا أنه لا تاريخ له ولا جغرافيا خارج تخومها.

فعلى الرغم من حجم الكارثة الإنسانية والتدمير المنهجي المتواصل لمقومات الحياة، وعلى الرغم مما تخلفه عملية الإبادة والتدمير المستمرة من صدوع وتمزقات في النسيج الاجتماعي للسكان، شمال القطاع وجنوبه على حد سواء؛ لم يزل الإنسان الفلسطيني المحاصر والأعزل هناك هو معقل الصمود ومرتكز هذه المقاومة العنيدة، التي تدل بحد ذاتها على قوة الحق والحقيقة مقابل تهافت الأكذوبة والخرافة الإسرائيلية، ولم يزل نفَس المقاومة المتصاعد من تحت الأنقاض محرضًا كافيًا للبربرية الصهيونية على المزيد من البطش.

لم تبدأ حكاية المجتمع الفلسطيني المقاوم في غزة منذ يوم السابع من أكتوبر فقط، كما يحاول كتَبَةُ التاريخ منزوعِ السياق أن يدونوا. ولم تكن مجرد تراكم لخبرة السكان في التكيف والبحث عن الخيارات البديلة بكافة السُّبل خلال زمن الحصار المستمر منذ 17 عاما، بما تخلل تلك الأعوام من سبع جولات عنيفة مع آلة الحرب الإسرائيلية، بل هي في الواقع امتداد متعاقب لحكاية شعب من اللاجئين وجدوا أنفسهم في هذا الخندق المشترك، بمعزلٍ جغرافي واجتماعي مصمم باحترافية استعمارية لفصل سكان القطاع عن المكوِنين الأساسيين الآخرين من المكونات الديموغرافية الفلسطينية الباقية على أرض فلسطين، سكان الضفة الغربية، أولًا، والمجتمع الفلسطيني العصي على الذوبان في الداخل، ثانيًا. حيث يقوم مشروع الاستعمار الصهيوني على تكريس هذا التوزيع الثلاثي للشعب الفلسطيني من أجل صناعة 3 مجتمعات منفصلة الأقاليم، سعيا لفصلها ثقافيًّا وهوياتيًّا عن بعضها البعض على المدى الطويل، وفقًا لسياسة عنصرية تتدرج من التذويب، إلى التهجير، إلى الإبادة.

وبالعودة إلى غزة، فإن أحدث البيانات الإحصائية تصف القطاع المحاصر كواحد من بين المناطق الأعلى كثافة سكانية في العالم؛ إذ يتوزع حوالي 2.4 مليون نسمة على مساحة تبلغ 360 كيلومترًا مربعًا، في غياب مهول ومخيف لأي تناسب منطقي بين عدد السكان ومساحة الأرض! إننا نتحدث عن مجتمع مُحتل ومحاصر في الوقت نفسه، غالبيته من اللاجئين، مجتمع لم تتوفر له -على مدى تاريخه المعاصر- أي من الظروف السياسية والاقتصادية للنمو نموًّا طبيعيًّا كأي مجتمع آخر. وإضافة إلى تأسسه الديموغرافي والاجتماعي بناءً على حالة اللجوء، يتعرّض هذا المجتمع لمحاولات متلاحقة من قبل المستعمر الصهيوني لنسف لبناته الاجتماعية التي أخذت تتشكل تحت شروط الحكم العسكري سابقا ثم تحت الحصار.

الأهم من ذلك هو كيف نقرأ هذا الوصف الإحصائي بالنظر إلى تاريخ المكان وسجلاته بعد عام 1967؟ وكيف نعالج هذه الحقيقة الديموغرافية لفهم طبيعة هذا المجتمع وشبكة علاقاته المعقدة التي كشفت عن مستوى عالٍ من الصمود والتماسك والمناعة المجتمعية لحظة الكارثة التي تميزت هذه المرة بشموليتها العمياء، الأمر الذي عزز لدى المجتمع عقيدة المعركة الواحدة والخندق المشترك، انطلاقا من الاعتقاد العام بأن الجميع مستهدف في هذه الحرب، دون تحييد المدني عن المسلَّح، وبلا تمايز مناطقي أو طبقي، وبلا أي ضمانات قد تُستثنى بها شريحة المهنيين الذي يعملون في قطاعات عادةً ما تكون مُحيَّدة أثناء العمليات العسكرية في الحروب، كالصحفيين والأطباء وطواقم الإسعاف الذين وجدوا أنفسهم مع عائلاتهم هدفًا نوعيًّا مقصودًا بطريقة انتقائية من قبل سلاح العدو خلال هذه الحرب. لذا، وعن طريق مراقبة الحرب من هذه الزاوية الاجتماعية، يمكننا أن نقبض على تفسير واضح لطبيعة علاقة المقاومة المجتمعية في غزة بالمقاومة المسلحة طيلة الأشهر الماضية من الحرب، تلك العلاقة المتداخلة والمتناوبة، بصورة تبدو شديدة التعقيد والتناغم في آن معًا، والتي كان من أبرز انتصاراتها إحباط محاولات الداعية الحربية الإسرائيلية والإعلام الغربي الرديف لطرق المفاصل والروابط المتينة بين الفصائل الفلسطينية المسلحة والمجتمع نفسه الذي أنجب مقاتلي تلك الفصائل في حاضنته الشعبية، وذلك قبل أن يقدمهم كتعبير مسلَّح عنه في مواجهة الاحتلال.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

حصاد حرب غزة ومآلها

لا تزال حرب غزة تثير النقاش والجدال حتى بعد توقفها من خلال توقيع الاتفاق الأخير بين إسرائيل وحماس على إيقاف إطلاق النار، وانسحاب الجيش الإسرائيلي خارج الحدود الفلسطينية الكائنة قبل العدوان، وتبادل الأسرى لدى الطرفين؛ على أن يتم ذلك على مراحل زمنية محددة. يدور الجدال حول حصاد هذه الحرب، ويشمل ذلك الخلاف حول الانتصار والهزيمة (أي: مَن المنتصر ومَن المهزوم)، وما آلت إليه الحرب، وما يمكن أن تؤول إليه (أي: نتائجها المتوقعة مستقبليًّا). هذا الجدال يدور يوميًّا بين الخبراء السياسيين والمثقفين في أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بل حتى بين الناس العاديين الذين يشغلهم الشأن السياسي: يؤكد البعض أن المقاومة الفلسطينية التي تتزعمها حماس هي التي انتصرت في هذه الحرب، بينما يرى آخرون أن إسرائيل خرجت من الحرب منتصرة بعد أن سحقت غزة وهدمت بنيتها التحتية تمامًا وتركتها مجرد خرائب، كما أنها قتلت وجرحت ما يزيد كثيرًا على المائة ألف. ولكن هذا الجدال لا يمكن حسمه إلا من خلال التأويل الذي يستند إلى الوقائع ونتائجها المتحققة، وهذا ما سأحاول رصده في النقاط التالية:

* من الخطأ النظر إلى مسألة الانتصار والهزيمة من الناحية العسكرية فقط؛ لأن الانتصار العسكري قد يقترن بخسائر عديدة، سوف أشير إليها بعد قليل. وحتى على المستوى العسكري البحت، لا يمكن القول بأن إسرائيل قد حققت انتصارًا بلا خسائر؛ إذ تكبدت خسارة عدد هائل من الدبابات والمعدات الحربية المتطورة، كما تم قتل وجرح المئات العديدة من أفراد جيشها. حقًّا إن السلاح الإسرائيلي/ الأمريكي بالغ التطور قد جعل ميزان القوة العسكرية يميل بوضوح وبشكل فائق إلى جانب إسرائيل في مقابل سلاح حماس والمقاومة عمومًا في فلسطين وغيرها؛ ولكن هذا السلاح لم يحقق نصرًا عسكريًّا لإسرائيل؛ لأن هذا السلاح ذاته لم يحقق الغاية من الحرب على غزة كما حددها نتنياهو وحكومته، وهي القضاء على حماس وتحرير الأسرى الإسرائيليين على مدى سنة وأربعة أشهر: فلا حماس قد انتهت، ولا الأسرى قد عادوا، إلا بعد التوقيع على اتفاقية مع حماس.

* كشفت هذه الحرب عن زيف أسطورة الجيش الإسرائيلي التي تزعم أنه «الجيش الذي لا يُقهر»: تبين ذلك عندما استطاعت المقاومة الفلسطينية بأدوات بدائية تخطي الجدار العازل وأسر الكثير من المجندين والمجندات الإسرائيليين؛ وتبين أيضًا من خلال بسالة رجال المقاومة في تصديهم لآليات الجيش الإسرائيلي وتدميرها، وفي قدرتهم على إصابة أهداف ومنشآت عسكرية وغير عسكرية، وفي القدرة على قنص الجنود الإسرائيليين (وهذا كله على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي الواضح).

* كشفت هذه الحرب عن زيف الادعاءات التي روجتها إسرائيل عن نفسها، من قبيل: أنها ضحية «معاداة السامية» وضحية للأعمال الإرهابية التي يقوم بها رجال المقاومة الذين تسميهم الإرهابيين والأشرار؛ فضلًا عن ترويجها لمقولة أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ولكن هذه الصورة الذهنية التي طالما رسمتها إسرائيل لنفسها عبر العالم قد تبدلت الآن: فمشاهد الفيديو التي روجتها عن اغتصاب النساء وحرق الإسرائيليين في أثناء السابع من أكتوبر، قد تبين فيما بعد أنها مزيفة، وراجت بدلًا منها المَشاهد الحقيقية لوحشية العدوان الإسرائيلي في إبادة الشعب الفلسطيني نفسه بأسلحة تحرق البشر وتقطِّع أجسادهم إلى أشلاء، بل يذيب بعضها الجسد نفسه. وهذا نفسه يدحض مقولة «الديمقراطية الإسرائيلية» في الوقت ذاته؛ لأن الديمقراطية لا يمكن اختزالها في مجرد صناديق الانتخاب لحكومة ما، خاصةً إذا كانت هذه الحكومة تعتمد سياسة القتل والإبادة للآخر. وقد أدى كل هذا إلى اندلاع تظاهرات الشعوب عبر العالم ضد إسرائيل بدافع من الضمير الإنساني والتنديد بوحشية العدوان الإسرائيلي والمطالبة بوقف هذا العدوان وعدم دعمه بالمال والسلاح. وكل هذا قد أفضى إلى إدانة نتنياهو بجرائم حرب وإبادة من قِبل محكمة العدل الدولية، بعد أن تقدمت جنوب إفريقيا ودول أخرى بهذه الدعوى القضائية.

* أما بخصوص مآلات هذه الحرب، فأولها أنها ستؤدي إلى تفكيك الكيان الصهيوني من الداخل، وإلى تفكيك الحكومة الإسرائيلية أيضًا، وهو ما بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق منذ شهور، وأصبح أكثر احتمالًا بعد توقيع الاتفاقية مع حماس. وأما بخصوص مصير الحرب نفسها بعد توقفها بفعل الاتفاقية، وإمكانية تجدد الحرب بخرق الاتفاقية، فهو أمر لا يمكن توقع أي سيناريو له بشكل مؤكد: حقًّا أن التجربة تشهد بأن بني إسرائيل لا يحفظون عهدًا أو اتفاقًا. ومع ذلك، فإن السيناريو الأكثر احتمالًا في ضوء الوقائع الراهنة هو أن إسرائيل قد تقوم بخرق الهدنة أحيانًا، ولكنها لن تستطيع مواصلة الحرب إلى ما لا نهاية؛ لأنها قد تعلمت درسًا قاسيًا وهو أنه لا يمكن القضاء على حماس أو على روح المقاومة ذاتها لدى شعب فلسطين؛ ولأنها قد أدركت أن الدعم الأمريكي لحربها لا يمكن أن يستمر بنفس القوة والوتيرة، خاصة بعد تزايد اعتراض دافعي الضرائب الأمريكيين.

* كشفت هذه الحرب في النهاية عن تفرد الشعب الفلسطيني في القدرة على المقاومة والصمود، وأنا هنا لا أقصد حماس وغيرها من جماعات المقاومة الفلسطينية، وإنما أقصد فعليًّا الشعب الفلسطيني الذي صمد إلى جانب المقاومة، رغم كل ما عاناه يوميًّا من إبادة ودمار بشكل يفوق الوصف؛ ولقد ضربت نساء فلسطين بوجه خاص أروع الأمثلة في الصمود والصبر والإيمان بشكل مُذهل. وهذا يعني أو يثبت أنه ما ضاع حق وراءه مطالب أو مقاوم.

مقالات مشابهة

  • رئيس المجلس الوطني الفلسطيني يطالب المجتمع الدولي بالتدخل لوقف عدوان الاحتلال على جنين
  • المجلس الوطني الفلسطيني يحذر من مخطط الاحتلال للتطهير العرقي في الضفة
  • معركة غزة وعقيدة كلاوزفيتر
  • مشايخ اليمن يهنئون الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة بالنصر التاريخي على كيان الاحتلال الصهيوني
  • حصاد حرب غزة ومآلها
  • مؤشرات النصر الفلسطيني وما قد تحمله المرحلة الثانية من طوفان الأقصى
  • تأكيدا لموقف أُعلن منذ بداية الحرب.. ما قصة قرارات الإفراج التي سلمتها المقاومة للأسيرات؟
  • تأكيدا لموقف أُعلن من بداية الحرب.. ما قصة قرارات الإفراج التي سلمتها المقاومة للأسيرات؟
  • وقف إطلاق النار في غزة: انتصار الصمود الفلسطيني
  • بارك نصر غزة وحيا موقف اليمن ودور جبهات الاسناد في دعم الشعب الفلسطيني