ماذا بعد زوال الهيمنة الأميركية الأحادية؟!
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
بقلم / سامي عطا
بعض الناس يتخوفون من زوال هيمنة أمريكا الأحادية! وبعضهم يساوون بين الهيمنة الأمريكية والهيمنة الصينية ويعتبرونهما وجهين لعملة واحدة، ولا يستطيعون أن يمايزوا بينهما. وهناك من يعتبر الأخيرة شراً مطلقاً، ولسان حالهم: “جني نعرفه ولا إنسي ما نعرفه”!
وكلنا يعرف أن الهيمنة الأمريكية قامت على معيار القوة والنهب الاستعماري للدول والشعوب الأخرى، ووضعت مصالحها دائماً فوق كل اعتبار، ولا تتورع أمريكا عن استخدام كل وسائل البطش والغطرسة لكي تحقق أعلى قدر من المصالح، حتى لو كانت هذه المصالح تتطلب القبول بحكام مستبدين ودكتاتوريين للدول المنهوبة أو حتى شن حروب عدوانية أو التخطيط لدسائس وانقلابات.
ولقد استخدمت قضية حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية الرأي ضد حكام دكتاتوريين مستبدين عندما تعارضت مصالحها مع وجودهم في سدة الحكم وأضحى عقبة كأداء أمامها، أو عندما تشعر بأنهم قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وحينها ترتفع لديها نبرة قيم الديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الإنسان كوسيلة ضغط وابتزاز، ولم تتورع أمريكا عن استخدام كل وسيلة ممكنة للإطاحة بأي نظام يعارض مصالحها، حتى لو كان بشن عدوان عليه أو بالانقلاب في أحسن الحالات؛ ألم تدعم انقلاب الجنرال الإندونيسي سوهارتو في منتصف الستينيات؟! ألم يخطط جهاز مخابراتها المركزية (سي آي إيه) لانقلاب الجنرال بينوشيه على الرئيس التشيلي المنتخب ديمقراطياً عام 1973؟! ألم ترفض نتائج الانتخابات التشريعية التي حازت فيها حركة حماس على الأغلبية عام 2009؟! ألم تدعم الثورة المضادة في نيكاراجوا الكونتراس، كما دعمت وتآمرت على كوبا وفنزويلا؟!… هذا غيض من فيض.
بالمختصر: أمريكا ليست حارسة للقيم الإنسانية وأمينة عليها. أمريكا تتعامل مع هذه القيم الإنسانية بصورة براغماتية، حينما تتعارض مع مصالحها فإنها تركلها من دون أن يرف لها جفن، وتشرع في استخدامها للخلاص من قادة وزعماء وأنظمة لا يسيرون على هوى مصالحها.
ولا غرابة في ذلك، لأن أمريكا نشأت ككيان سياسي على ثقافة القراصنة المكتشفين لها كقارة، وهذه النشأة حكمت ثقافتها السياسية، وعليه فإن البراجماتية السياسية هي سليلة ثقافة القراصنة، القراصنة الذين لم يتورعوا عن تأسيس وجودهم وسيطرتهم على هذه القارة بالوسائل اللاإنسانية المنحطة حتى لو أدت إلى إبادة السكان الأصليين، وما هذه البوارج والأساطيل والغواصات الحربية إلّا قوة قراصنة حداثية وامتداد لثقافة القراصنة المكتشفين.
والرجل الأوروبي «الأبيض» الذي مارس كل أنواع الجرائم في هذه القارة حاول من خلال فتح الهجرات من مختلف دول العالم إلى هذه القارة بحثاً عن غفران لخطيئته، وكأن الرجل الأبيض أراد أن يقول: صحيح أننا أقمنا هذا الكيان على المجازر والإبادة الجماعية، لكن جميع شعوب الأرض صارت شريكةً بخيراتها وثمارها.
ويتخوف البعض من فراغ الهيمنة في حال سقوط الهيمنة الأمريكية الأحادية، ويبرر مخاوفه بسيادة الفوضى. مع أن فوضى هيمنة أمريكا الأحادية أبشع وأقذر وأجرم هيمنة عاشتها البشرية وبلغت أمريكا فيها مرحلة النازية. ولا خوف من التحولات التي يشهدها النظام العالمي، وبالتأكيد سيعد ترتيب نفسه، ويلوح في الأفق نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهذا العالم المتعدد الهيمنات سيعيد ترتيب توازن العالم المختل الذي نعيشه. وهناك قوى هيمنة صاعدة كالصين والهند وروسيا، منفردة أو عبر تكتلات اقتصادية كالبركس. وبعد أن تنتهي هيمنة أمريكا الأحادية قد تعيد أوروبا ترتيب حالها وتتعافى من تبعيتها لأمريكا وتغدو أحد الأقطاب، ونهاية هيمنة أمريكا الأحادية ستنكفئ تلملم جراحها لكي تغدو قطباً ضمن الأقطاب العديدة الناشئة.
وإذا كانت هيمنة أمريكا تأسست على فائض قوة راكمتها وعبر سياساتها العدوانية، فإن الهيمنة الصينية تأسست على وسيلة ناعمة، وذلك عبر التقدم الاقتصادي ومراكمة أسباب قوتها الاقتصادية الناعمة، ولم تكن الصين في يوم من الأيام دولة استعمارية، فلقد عانت من الاحتلال الياباني والبريطاني والأمريكي، واليوم تقدم نفسها لدول العالم كشريك وتدعو إلى تحقيق منافع مشتركة، وتدخل في مشروعات برأسمال مشترك لك وعليك، وتذهب إلى تقديم قروض وتعطيك خيار أن تمتلك مشروعك فوق أرضك في حال تصرفت بمسؤولية وسددت التزاماتك. وأبسط مثال الاتفاق الصيني السوداني في اكتشاف واستغلال النفط، حيث صار ملكية للدولة السودانية 100% بعد أن سددت القرض والشرط الوحيد الذي كان يهم الصين، وهو أن نفط السودان حق تصديره للصين بسعر الزمان.
وعليه فهناك بون شاسع بين الهيمنتين الأمريكية والصينية، الأولى تتخذ من صراع الحضارات والعدوان عليها وسيلة لإخضاعها، بينما الثانية تتخذ من حوار الثقافات والحضارات والتكامل الاقتصادي أساساً لها.
النهب الاستعماري والاستئثار بمقدرات الدول والشعوب لا يؤسس للسلام والأمن الدوليين الدائمين، بل يكون بيئة للحروب الدائمة. والسلام والأمن الدائمان يتطلبان ركيزتي تنمية متوازنة بين الدولة وتنمية متوازنة داخل الدول. ومن ينظر إلى سلام وأمن دوليين دائمين عليه أن يؤسس لنظام عالمي يتسم بالعدالة والإنصاف ويقوم على فلسفة سياسية تعتمد على فكرة الشراكة في تحقيق المنافع للإنسانية جمعاء.
نقلاً عن صحيفة” لا”
المصدر: موقع حيروت الإخباري
إقرأ أيضاً:
ترامب والرسوم الجمركية.. نهاية الهيمنة الأمريكية وبداية لعالم متعدد الأقطاب
يمانيون../
منذ صعود دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة عام 2017، تغيرت نغمة الخطاب السياسي والاقتصادي في واشنطن بصورة جذرية. فبدلًا من الدفاع عن النظام الليبرالي الاقتصادي العالمي الذي أسسته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ ترامب يروج لما يسميه “القومية الاقتصادية”، وهي فلسفة تقوم على إعادة الاعتبار للمصالح الاقتصادية الوطنية، حتى لو كان ذلك على حساب شركاء التحالف الغربي أو تقاليد التجارة الحرة.
ولم تكن هذه الفلسفة مجرد شعار انتخابي، بل تحولت إلى إجراءات وسياسات فعلية تركت آثارًا عميقة ليس فقط على الاقتصاد الأمريكي، بل وعلى النظام الاقتصادي العالمي ككل. وكانت الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على أكثر من مئة دولة في العالم، أبرز تجليات هذا التحول.
لكن السؤال المحوري الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل كانت هذه السياسات الاقتصادية مدخلاً لتراجع الهيمنة الأمريكية فعلاً؟ وهل فتحت الأبواب أمام ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب؟ هذا التقرير يحاول الإجابة على ذلك من خلال تتبع المسارات الاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية لهذه السياسات.
بداية التحول: من العولمة إلى الانكفاء
عندما تولّى ترامب الحكم، كان العالم يعيش عصر العولمة الكاملة، حيث تتكامل الأسواق وسلاسل التوريد بين القارات، وتُدار التجارة بقواعد وضعتها المؤسسات التي تدعمها واشنطن مثل منظمة التجارة العالمية. لكن ترامب رأى في ذلك تقويضًا للاقتصاد الأمريكي، واعتبر أن بلاده كانت “تُستغل” من قبل حلفائها ومنافسيها على حد سواء.
فرض الرسوم الجمركية لم يكن مقتصرًا على الصين – العدو الاقتصادي الأول – بل طال دولًا حليفة مثل ألمانيا وفرنسا وكندا، وحتى دولًا تعتبر أسواقًا صغيرة مقارنة بالاقتصاد الأمريكي. لقد أراد ترامب أن يُعيد التوازن للميزان التجاري الأمريكي، لكنه في الحقيقة أطلق حربًا تجارية عالمية كان لها ارتدادات عميقة على دور أمريكا في العالم.
الصين… رأس الحربة في المواجهة
أبرز المواجهات التي فجّرها ترامب كانت مع الصين، وفرض عليها رسوماً جمركية بمئات المليارات من الدولارات على منتجاتها. الصين، بدورها، ردت بفرض رسوم مماثلة على المنتجات الأمريكية، وركزت على القطاعات الزراعية الحساسة بالنسبة لترامب، كفول الصويا والذرة، مستهدفة قواعده الانتخابية في الولايات الزراعية.
لكن ما حدث كان أبعد من مجرد “ضربات متبادلة”، فالصين استغلت الفرصة لتسريع فك الارتباط عن الدولار، وزيادة شراكاتها الاستراتيجية مع روسيا ودول الجنوب العالمي. كما وقّعت على اتفاقيات كبرى مثل “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” مع دول آسيا والمحيط الهادئ، بدون الولايات المتحدة، وكرّست دورها كقوة اقتصادية لا يُستهان بها.
الحمائية تعني العزلة
الحمائية الاقتصادية ليست ظاهرة جديدة، بل عرفها العالم في مراحل عدة، أبرزها في ثلاثينيات القرن الماضي بعد قانون “سموت-هاولي” الذي أدى إلى حرب تجارية عالمية عمّقت الكساد الكبير. واليوم، يعيد ترامب – ولو بشكل مختلف – هذا النمط إلى الواجهة، في وقت يحتاج فيه العالم إلى مزيد من التكامل بعد جائحة كورونا وأزمات الطاقة وسلاسل الإمداد.
السياسات الحمائية قلّصت فرص التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة والدول الأخرى. تراجعت صادرات الشركات الأمريكية، واضطرت بعضها إلى نقل مصانعها للخارج لتجنب الضرائب، وهو عكس ما وعد به ترامب. كما تعرضت القطاعات الصناعية لضغوط مزدوجة: من الداخل نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج، ومن الخارج بسبب فقدان الأسواق.
الحلفاء يُعيدون الحسابات
سياسات ترامب لم تكن موجهة فقط ضد الخصوم، بل شملت الحلفاء الأوروبيين أيضًا. فرض الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم المستورد من الاتحاد الأوروبي دفع العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة توتر لم تشهدها منذ عقود. كما تراجعت الثقة في التزامات واشنطن تجاه الناتو والمنظمات الدولية، وهو ما حفّز الدول الأوروبية لإعادة النظر في سياساتها الدفاعية والاقتصادية بشكل مستقل.
فرنسا وألمانيا، على سبيل المثال، دفعتا بقوة باتجاه تعزيز العملة الأوروبية كبديل للدولار في بعض المعاملات، وازداد الحديث عن “استقلال استراتيجي” أوروبي بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية.
صعود نظام متعدد الأقطاب
في خضم هذه التحولات، بدأت ملامح نظام عالمي جديد تتشكل. التحالفات لم تعد تُبنى على أسس الولاء للولايات المتحدة، بل على المصالح المتبادلة ومشاريع التنمية المشتركة. مجموعة “بريكس”، التي تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، بدأت تتحرك بفعالية أكبر، وأسست بنكًا خاصًا بها، وتوسعت لتشمل دولًا من الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.
الهدف المعلن لمجموعة بريكس هو كسر هيمنة الدولار، وهو ما كان يُعد ضربًا من الخيال قبل سنوات، لكنه اليوم يتحول إلى سياسة واقعية تتبناها أكثر من 20 دولة. في المقابل، تبدو الولايات المتحدة في موقف دفاعي، تحاول الحفاظ على مكانتها بينما العالم من حولها يتغير بسرعة.
تراجع الهيمنة = تحرير الإرادة
واحدة من النتائج غير المتوقعة لسياسات ترامب أن تراجع الهيمنة الأمريكية أفسح المجال أمام دول كانت تصنّف “تابعة” أو “هامشية” لأن تتحرك باستقلالية أكبر. لم تعد الدول تخشى التهديد بالعقوبات أو الانعزال من النظام العالمي، لأن البدائل بدأت تتوفر.
في أمريكا اللاتينية، عادت موجة اليسار بقوة، من المكسيك إلى البرازيل وتشيلي، دون أن تتمكن واشنطن من فرض إرادتها كما فعلت في الماضي. في الشرق الأوسط، بدأ تراجع النفوذ الأمريكي يفتح المجال لقوى أخرى كالصين وروسيا، وكذلك لقوى المقاومة، مثل اليمن ولبنان والعراق، لإعادة رسم قواعد اللعبة الإقليمية بعيدًا عن الإملاءات الأمريكية.
بين الشعار والواقع
القومية الاقتصادية التي روّج لها ترامب كانت تهدف ظاهريًا إلى “جعل أمريكا عظيمة من جديد”، لكنها فعليًا أسهمت في تقويض قواعد اللعبة التي كانت تمنح أمريكا هذه العظمة. الرهان على الانكفاء أثبت أنه لا يمكن لدولة عظمى أن تعيش في عزلة عن العالم، خاصة في عصر الاقتصاد الرقمي والتجارة العابرة للقارات.
وبينما يعتقد البعض أن هذه السياسات تخدم الولايات المتحدة على المدى القصير، فإن المؤشرات الاقتصادية والجيوسياسية تشير إلى أن العالم يتغير بطريقة لم تعد تسمح بقيادة أمريكية أحادية.
ما بعد ترامب: هل هناك عودة؟
حتى لو لم يستمر ترامب في الحكم بعد 2025، فإن سياساته أرست قواعد جديدة في السياسة الأمريكية، لم يعد من السهل التراجع عنها. فحتى بعض خصومه في الحزب الديمقراطي بدأوا يتبنون أجزاءً من خطابه، خاصة في ما يتعلق بالصين وتقليص الاعتماد على الخارج. ويبدو أن الرغبة في حماية الداخل الأمريكي أصبحت أولوية يتفق عليها الجمهوريون والديمقراطيون معًا.
لكن الواقع العالمي لم يعد كما كان. القوة لم تعد تتركز في يد واحدة، والاقتصاد لم يعد يتحرك بإشارة من واشنطن، والنظام العالمي لم يعد يقبل بالهيمنة الأمريكية دون مقاومة.
الخلاصة: العالم يتنفس خارج عباءة واشنطن
ما فعله ترامب لم يكن مجرد تحوّل اقتصادي، بل كان زلزالًا في النظام الدولي. الرسوم الجمركية لم تكن إجراءً عابرًا، بل كانت إعلانًا عن بداية تفكك المنظومة التي حكمت العالم لعقود. ومع تراجع الهيمنة الأمريكية، بدأت دول العالم تتنفس بحرية أكبر، وتخطو خطوات جريئة نحو استقلال القرار.
لقد مهّدت هذه المرحلة لنهاية عالم القطب الواحد، وولادة عالم متعدد الأقطاب، يُبنى على التوازن لا السيطرة، وعلى التعاون لا الإملاء. قد لا تكون هذه التحولات مرئية بالكامل حتى الآن، لكنها تتراكم، يوماً بعد آخر، معلنة بداية فصل جديد في التاريخ العالمي. فصلٌ لا يُكتب في واشنطن وحدها، بل تُشارك في كتابته عواصم العالم كافة، من بكين إلى نيودلهي، ومن موسكو إلى صنعاء، ومن برازيليا إلى جوهانسبرغ.
محمد الجوهري