الصداقة التي لا تموت
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
حمد الحضرمي **
تسهم الصداقة بدور مهم في حياة الناس، لما للصديق من أهمية بالغة في علاقته ومواقفه مع أصدقائه، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، فإخوان الصدق زينة في الرخاء وعصمة في نوائب الحياة، ورؤيتهم تفرح القلب وتزيل الهم، وبهم تذلل الصعاب وتخفف المشاق وتهون الشدائد. والإنسان في كل مراحل حياته تكون الألفة مطلبًا ملازمًا له ليعيش في سعادة وسرور، فيتخذ أخًا له صديقًا يشاركه أفراحه وأحزانه، فالصديق الصالح له أكبر الأثر في التأثير على صديقه في الالتزام بالطاعات وترك المعصيات، والوقوف بجانبه وقت العثرات، وجبر كسره وقت الإنكسار، والدفاع عنه في غيابه.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "عليكم بإخوان الصفاء، فإنهم زينة في الرخاء وعصمة في البلاء". ولذلك حثَّ الإسلام على الصداقة النقية ورغب المؤمنين في إخلاصها لله وإبقائها لوجهه، وجعل لها الأجر والفضل العظيم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "قال الله عز وجل: المتحابون بجلالي في ظل عرشي، يوم لا ظل إلا ظلي". فالصداقة كانت وما زالت سببًا لجلاء الأحزان، وعونًا وقت المحن والشدائد، والصديق تجده دائمًا منك قريب، يشعر بهمومك وقلقك ومخاوفك، لأنه بك متجانس متألف، فبالتجانس الأرواح متعارفة، وبفقد التجانس الأرواح متناكرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" وقيل في منثور الحكم: "الأضداد لا تتفق، والأشكال لا تفترق".
الصداقة أولها التجانس بين شخصين، ثم المواصلة لوجود توافق بينهما، ويأتي بعدها الانبساط، ويحدث بعدها المصافاة لخلوص النية بينهما، ومن هذه المصافاة تنتج الثقة التي توصل إلى المودة، ومن المودة تكون المحبة، وقد قيل: "الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك". فما أعظمها من صداقة عندما تكون صادقة، تجمع بينهما الألفة والمحبة والعمل الصالح، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله"، قالوا: يا رسول الله، فأخبرنا من هم: قال: "هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس".
وإذا وفقك الله بوجود صديق أمين، صاحب دين متين، ورأي سديد، وقلب رحيم، وأخلاق كريمة، ومواقف نبيلة، فحافظ عليه وعمِّق علاقتك به؛ لأنه سيكون لك السند والعزوة في المصائب، وركنًا حصينًا في الشدائد، والمؤنس عند الهموم والكروب، وسيكون معك في الحلوة والمرة، ولن يؤذيك، ولن يجرحك، ولن يضايقك، ولن يظلمك، فلا تصاحب إلا مؤمنًا صديقًا لك محبًا، كي تعيش طوال حياتك في سعادة وسرور وأمن وأمان وسلام. وحتى تدوم الصداق يتوجب أن تكون على قاعدة صلبة من المبادئ والقيم والأخلاق، والحرص على الاحترام والتقدير والاعتناء والاهتمام بأمور الصديق، والحرص عليه في غيابه وحضوره، والإخلاص في المودة والنصح للصديق في الخطأ والزلة، ومساعدته ومواساته في أشجانه وأحزانه، والحرص على ذكر محاسنه، ونشر فضائله، والعفو عن زلاته وستر هفواته وحفظ أسراره، وتفقد أحواله.
ومن أعظم دواعي بقاء الصداقة، أن تكون هذه المبادئ والقيم والأخلاق متبادلة بين الصديقين بلا تكلف ولا تصنع، كلها ألفة وصفاء وود ووئام ومحبة وسلام، حتى تدوم الصداقة وتزداد بينهما الألفة والمحبة. وصدق الشاعر أبو العتاهية عندما قال:
صديقي من يقاسمني همومي // ويرمي بالعداوة من رماني
ويحفظني إذا ما غبت عنه // وأرجوه لنائبة الزمان
ونصيحتي إلى الأبناء والبنات الطلبة منهم والطالبات في المدارس والكليات والجامعات والموظفين والموظفات، الحرص كل الحرص على اختيار الصديق المناسب، لأن الصديق يؤثر على صديقه تأثيرًا كبيرًا في الإصلاح أو الإفساد ويقال: الصاحب ساحب وخاصة في سن المراهقة، حيث يكون الشاب قد اختلط بالزملاء في الحارة والمدرسة والنادي، فاختيار الرفقة الصالحة والابتعاد عن قرناء السوء، حتى لا يخسر نفسه وتخسره أسرته ومجتمعه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
فعليكم أيها الشباب والشابات اختيار الأصدقاء الصالحين، أصحاب الخلق الكريم، والأدب الرفيع، والعادات الفاضلة، أصحاب العقول الكبيرة والنفوس السليمة، وتجنب أصحاب العقول الصغيرة والنفوس المريضة، وخلطاء الشر ورفقاء السوء، حتى لا تقعوا في شباك ضلالهم وانحرافهم، وقد بينت الكثير من الدراسات أن معظم مرتكبي الجرائم والانحرافات يرتبطون بأصدقاء سوء منحرفين، وتكون النتيجة وقوع الشباب من الجنسين في المشاكل والجرائم، كتعاطي الخمور والمخدرات، والانحرافات الأخلاقية بشتى أنواعها وأشكالها، أم الصديق الصالح فهو كالشمعة ينير دربك بالصدق والوفاء، ويمنحك والثقة والطمأنينة.
ولأننا في زمن صعب كثر فيه الكذب والنفاق والمكر والخداع والتضليل والنصب والتحايل وأصحاب المصالح الشخصية، وأصحاب الأهواء والاغواء، فتجنبوا هؤلاء وابتعدوا عن مصاحبة الأحمق فمصاحبته كمصاحبة الأفعى، لا تدري متى تؤذيك، وتجنبوا مصاحبة من تصدأ عقله وقلبه بفكر أو ثقافة أو فن بعيدًا كل البعد عن مبادئنا وقيمنا وأخلاقنا الإسلامية الحميدة. وكونوا على حذر وفي يقظة ودراية، وبثقة عالية بأنفسكم، لأنكم أصحاب عزة وكرامة، فلا تصاحبوا إلا الأخيار المتقين، لأن مثل هذه الصداقة هي التي لا تموت.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
شروط صلاة الجنازة على الميت الغائب
قالت دار الإفتاء المصرية إن صلاة الجنازة من فروض الكفاية عند جماهير الفقهاء؛ وقد رَغَّب الشرع الشريف فيها، وندب اتباع الجنازة حتى تدفن؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّي، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ»، قيل: وما القيراطان؟ قال: «مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ» متفق عليه. وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ، إِلَّا شُفِّعُوا فِيه».
بيان شروط صلاة الجنازة على الغائب
وأضافت الإفتاء أن فقهاء الشافعية، والحنابلة ذهبوا في المعتمد، وهو المختار للفتوى جواز الصلاة على الميت الغائب؛ يقول الإمام النووي في "روضة الطالبين" (2/ 130، ط. المكتب الإسلامي): [تجوز الصلاة على الغائب بالنية، وإن كان في غير جهة القبلة، والمصلي يستقبل القبلة، وسواء كان بينهما مسافة القصر، أم لا] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 121، ط. دار الكتب العلمية): [(ويُصَلِّي إمام) أعظم (وغيره على غائب عن البلد ولو كان دون مسافة قصر أو) كان (في غير جهة القبلة) أي قبلة المصلي (بالنية إلى شهر) كالصلاة على القبر لكن يكون الشهر هنا من موته] اهـ.
وقد اشترط الشافعيةُ والحنابلةُ لجواز الصلاة على الميت الغائب شرطين:
أولهما: أَنْ تَبْعُد بلد المُتَوفَّى عن بلد الصلاة عليه، ولو كانت المسافة بين البلدين دون مسافة القصر، فإن كان المصلون والمُتَوفَّى في بلدٍ واحد؛ فلا تجوز الصلاة إلَّا بحضور المُتَوفَّى والمصلون في مكان واحدٍ ولو كَبُرت البلد، إلا إذا تَعذَّر حضور المصلين لمكان الصلاة على الميت؛ وذلك كما هو حاصلٌ في وقتنا هذا من تَعذُّر حضور بعض المصلين للصلاة على الجنازة لا سيما في أوقات حظر حركة التَّنَقُّل، ولا يشترط في جواز الصلاة على الميت الغائب عندهم أن يكون الميت في ناحية القِبْلة التي يُصَلِّي إليها المُصَلِّي.
والثاني: اعتبار الوقت، فالشافعية لا يقيِّدون صحة الصلاة على الميت الغائب بوقتٍ مُعيَّن، بل تصح عندهم الصلاة على الميت الغائب ولو بَعُدَ تاريخ وفاته، بنيما قيَّد الحنابلة الوقت بشهرٍ مِن حين وفاته؛ وعلَّلوا بأنَّه لا يعلم بقاء الميت من غير تلاش أكثر من ذلك. انظر: "تحفة المحتاج" لشيخ الإسلام ابن حجر (3/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"شرح المنهج" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (2/ 277، ط. دار الفكر)، و"شرح المنتهى" للعلامة البهوتي (1/ 363، ط. عالم الكتب).
وقد زاد الشافعية وحدهم شرطًا آخر، وهو تقييد صحة الصلاة على الميت الغائب بمَنْ كان مِن أهل فرضها وقت الموت، بأن كان مُكَلَّفًا؛ لأنه يؤدِّي فرضًا خوطب به، بخلاف مَن لم يكن كذلك. انظر: "تحفة المحتاج" (3/ 149).
واستدلال الشافعية والحنابلة حديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النجاشي مَلَكِ الحبشة؛ فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث.
وروى البخاري ومسلم أيضًا بسندهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم النجاشي ثُمَّ تَقدَّم، فصفوا خلفه، فكَبَّر أربعًا.
قال الشمس الرملي في "نهاية المحتاج" (2/ 485-486، ط. دار الفكر): [(ويصلى على الغائب عن البلد) ولو في مسافةٍ قريبةٍ دون مسافة القصر وفي غير جهة القبلة والمصلي مستقبلها؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى على النجاشي بالمدينة يوم موته بالحبشة. رواه الشيخان، وذلك في رجب سنة تسع] اهـ.