عند ملاحظة الحياة الثقافية داخل المجتمع المغربي، يبدو أن الأسرة هي الموضوع الذي يكثف أكثر من غيره اهتمام المغاربة بمجتمعهم، ويحمسهم أكثر من غيره للمناقشة وإبداء الرأي والموقف تجاه قضاياه ومشاكله.

ففي كل مرة تطرح عملية اصلاح مدونة الاسرة منذ سنة 2004 الا ويحتد النقاش العمومي سواء في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أو في أوساط المجتمع المدني أو في الصالونات العمومية.

بل ويأخذ النقاش خلفيات ايدولوجية وسياسية تجعله موضوعا تصطف حوله التيارات والاتجاهات.

والمتتبع للشأن المجتمعي المغربي يلمس بسهولة أن الاهتمام الكبير للمغاربة بالأسرة عند كل إصلاح لمدونتها يترافق بمخاوف وتوجسات تحول هذا الاهتمام، بشكل من الأشكال، إلى التعامل مع الإصلاح بالكثير من الحذر والحيطة وأحيانا بالتشكيك في مراميه بل إلى رفضه.

وعندما نقول إن اهتمام المغاربة أو أغلبيتهم بموضوع الأسرة يظل اهتماما كبيرا بالمقارنة مع مواضيع أخرى يطرح فيها الإصلاح في مسار تطور البلاد، ولا تقل أهمية في تطور المجتمع المغربي، مثل موضوع الشغل والمقاولة، إصلاح الإدارة والقضاء، إصلاح المدرسة العمومية…. فإن الأمر يدعونا للتساؤل أولا عن سبب الاهتمام الكبير بهذا الموضوع دون سواه، ثم ثانيا عن الدوافع التي تجعل جل عموم المغاربة يعبرون من خلال هذا الاهتمام عن مخاوف وشكوك إزاء إصلاح مدونة الأسرة. فبالقدر الذي يتفق الجميع على أن واقع الأسرة المغربية اليوم محفوف باختلالات ومشاكل واضطرابات مما يجعله يحتاج إلى إصلاح جدي وعميق، بالقدر الذي نجد أن النقاش العام عند أغلب المغاربة يتضمن مخاوف وقلق على ما قد يسفر عنه إصلاح المدونة.

فيما يخص ظاهرة الاهتمام الكبير الذي يوليه أغلبية المغاربة لموضوع إصلاح مدونة الأسرة، أكثر من اهتمامهم بمواضيع الإصلاح في العديد من القطاعات مثل المقاولة مثلا، التي هي إحدى الدعائم الكبرى لاستقرار الأسرة وازدهارها، لكونها توفر مناصب شغل، نعتقد أنها ظاهرة، نستطيع تفسيرها عبر الفرضية التالية: فبعيدا على التفسير الثقافوي الذي يعتمد ثنائية الحداثة/ التقليد التي  تسقط خطاطة تفسيرية تبسيطية لتاريخ براني/غربي على تاريخ خاص بالمجتمع المغربي، فإننا نرى أن اهتمام المغاربة الكبير بالأسرة وكل ما يتعلق بها من قوانين وقيم  أخلاقية يعود مرده أساسا الى اعتبارهم أن الأسرة هي الموضوع الوحيد الذي لا زالوا يعرفونه ويعيشونه. إنه موضوعهم العيني الذي يباشرون فيه حياتهم الخاصة اليومية والحميمية ويثقون في الرهان عليه مستقبلا. إن الأسرة لديهم هو ذلك الواقع الذي لازالوا يتحكمون فيه أكثر، ويحظى فضاءه بثقتهم أكثر عكس المواضيع الأخرى التي تعد مجالاتها تبتعد عنهم أكثر وغامضة، وأدوارهم فيها ضعيفة إلى منعدمة. فالأسرة ومع قدرتها على التكيف والمرونة مع ظروف العيش المتبدلة باستمرار والتي خلقتها مقتضيات سيطرة الاقتصاد والمال على كل المناحي الأخرى للحياة، ظلت هي الفضاء المحبب أكثر لدى المغاربة. لأن الجميع فيه يجد ذاته، وهو الفضاء الذي نثق في أفراده ونعول عليهم عند الحاجة ونطمع في تحقيق راحتنا داخله. على عكس المجالات الأخرى كالمقاولة أو الإدارة أو الحزب الذي تسيطر عليهم العلاقات العمودية وتطغى المنافسة والجهد والاجتهاد لا يضمن دائما النجاح والاعتراف.

وإذا كانت هذه الرؤية للأسرة عند المغاربة ليست دائما واقعية ولا هي متحققة بالكامل، فإن ما يعزز اهتمامهم بالأسرة وخوفهم عليها أحيانا هو كونها مجالا للعلاقات التي تعيد إنتاج النسل وتضمن بقاءه وتنظيم نسبه. وبهذا الاعتبار فإن المغاربة مثلهم مثل باقي شعوب العالم، حيث ما فتئت تتمتع عندهم بمكانة بارزة رغم كل المحاولات الإيديولوجية التي عرفتها بعض مناطق العالم كالشيوعية بالأمس والنيوليبرالية اليوم.

إن الاهتمام الكبير للمغاربة بالأسرة، وميلهم الدائم إلى تمجيد ماضيها والتعبير عن حنين جامح له مما يجعلهم يعبرون بهذا الشكل أو ذاك عن مخاوفهم وشكوكهم إزاء عملية إصلاح واقعها، هو ليس تعبيرا عن تشبثهم بتقليد أو بمحافظة، بل هو في العمق تحصن بما يعتبر أخر قلاع الخصوصية المغربية، وأخر جذوة دفء عاطفي تبعث الشعور بالاستقرار والاستمرارية. فمع انتشار تقنيات التواصل الاجتماعي وزحف النموذج الغربي في فهم الفرد والمجتمع، وما ترتب عن سيطرة السوق على كل المناحي الاجتماعية والثقافية، أصبح التشبث بما يعتبر أسرة مغربية نوعا من الدفاع عن النفس ضد انجراف ثقافي تغريبي. فالأسرة المغربية بالنسبة للمغاربة أو على الأقل بالنسبة للأغلبية الشعبية هي المؤسسة الاجتماعية المعاشة بوضوح رغم الصعوبات والمشاكل، عكس المؤسسات الأخرى التي تبدو لهم غير مستقرة، وتخضع باستمرار بفعل الاكراهات الخارجية إلى ما يسمى بال فرنسيةLA désinstitutionalisation.

أما فيما يخص كون اهتمام المغاربة بالأسرة المغربية يأتي مطبوعا في مجمله بتعبيرات تشير إلى ظاهرة الخوف من إصلاح مدونتها رغم الوعي بضرورته. فإننا نعتقد أن العوامل التي تخلق هذا الخوف من إصلاح مدونة الأسرة قد يصل أحيانا إلى مقاومته أو التشكيك في مراميه، هي التي تحملها خصائص خطاب الإصلاح نفسه الذي يتبناه مختلف الفاعلين داخل المجتمع المدني المغربي. إن طبيعة هذا الخطاب في كل مرة تطرح فيه الدولة الدعوة للنقاش العمومي حول إصلاح مدونة الأسرة، هي التي تجعل هذا الأخير محط نزاع حاد وتحوله إلى موضوع إيديولوجي سياسي يصعب تحقيق توافق حوله بالنقاش العقلاني الديمقراطي.

إننا نرى أن عوائق خطاب الفاعلين المدنيين والسياسيين حول إصلاح مدونة الأسرة يمكن تلخيصها في ثلاثة عوائق أساسية مترابطة.

أولا: الرؤية المتمركزة على الذات الممجدة. بفعل الطبيعة السوسيوثقافية لانتماء جل الفاعلين المدنيين والسياسيين لأوساط الطبقات الوسطى، يأتي خطابهم حول قضايا الأسرة المغربية محملا بالعديد من تأثيرات وسطهم الاجتماعي، خاصة مواقفهم الثقافية التي تنطلق من وضعهم العائلي الخاص كوضع نموذجي للتعامل مع أي واقع أسري في المجتمع المغربي. فرغم التعدد والاختلاف اللذان يخترقان الطبقات الوسطى، فإن قواسم مشتركة عامة تجعل مواقف هؤلاء الفاعلين الذين ينتمون لها يشتركون في خطاب واحد إزاء واقع الأسرة المغربية. فكون أفراد الطبقات الوسطى بالمغرب توحدهم خصائص تتمثل أولا في استقرار مهني عبر شغل ذي طابع ذهني في الغالب يذر أجرا قارا ومحترما إلى هذا الحد أو ذاك. ثانيا، عيشهم داخل الأسرة النووية وفي المدن الكبرى. ثم ثالثا مستوى من الاستهلاك للبضائع الغربية مرتفع ومرفوق بطموحات لحياة شبيهة بالحياة في المجتمعات الغربية. هذه الخصائص تجعلهم يرون جل مشاكل الأسرة المغربية تعود إلى أسباب ثقافية (الأمية، ضعف التمدرس، عقلية قروية، ضعف تطبيق تعاليم الدين، غياب العقلانية…. الخ). تنتج نمطا من العيش الاجتماعي لا يتلاءم مع مقتضيات الحداثة والتمدن (كثرة الولادات، غياب تنظيم بالعلاقة مع المدرسة، سيادة الأسرة الممتدة والمختلطة…. الخ).

على هذا الأساس يتم فهم وتفسير واقع الأسرة لعامة المجتمع المغربي بمقياس ثقافة خاصة بنموذج الأسرة التي تسود في الفئات المتوسطة والعليا للطبقات الوسطى، وهو المقياس الذي يرى مشاكل الوسط العائلي لعموم المغاربة ناجمة إما عن بعدها عن القيم والمبادئ التدينية كما يفهمها الفاعلون الذين يبحثون عن الحلول في الماضي، أو ناجمة عن بعدها عن القيم الكونية الحداثية التي جاء بها الغرب الصناعي كما يفهمها الفاعلون الذين يبحثون عن الحلول في المجتمع الغربي. وتصبح مشكلة الأسرة المغربية بالنتيجة هي مشكلة ثقافية أخلاقية.

بناء على هذه الرؤية المتمركزة على الذات يتم فرض حلول معينة على واقع ومشاكل الأسرة المغربية. حلول هي في الغالب تلائم مشاكل الفئات الحضرية للطبقات الوسطى التي تسقط مشاكلها الخاصة على واقع الأسرة المغربية برمته. وبالتالي يتم اختزال واقع هذه الأسرة في جانب واحد محدد دون الجوانب الأخرى.

ثانيا: الإخلاص الأعمى للمرجعية على حساب الواقع. عائق التمركز على الذات الاجتماعية في رؤية واقع الأسرة المغربية بما انه يغيب التعدد والاختلاف الاجتماعيين اللذان يطبعان المجتمع المغربي، ينتج تغييبا آخر هو تغييب الواقع كتركيبة معقدة من العلاقات الاجتماعية والثقافية تبنى وفق إكراهات سوسيو اقتصادية تحدد أوضاع الأسرة المغربية. فالمهم والأساسي عند جل خطابات الفاعلين السياسيين والمدنيين التي تشتغل على موضوع الأسرة هو المرجعية الأيديولوجية التي يتم اعتبارها مرجعية قادرة وحدها على تقديم الحلول. فالأساسي هو أن نبقى حداثيين مخلصين للمواثيق الدولية، أو أن الأساسي هو أن نبقى متشبثين بماض ما. وفي الحالتينّ، لا يتم بذل أي جهد بحثي تاريخي للتأصيل وفق أوضاع خاصة وثقافة متميزة، هما وليدا حاضر مغربي يتشكل وفق تاريخه الخاص. رغم أن كلا المصدرين لهما أهميتهما النظرية التي تحتاج إلى اجتهاد لاستلهام ما يفيد واقع حي له تفاعلاته المتميزة مع ماضيه كما مع المعطيات العصرية المتاحة للبشرية.

فخطاب الفاعلين المدنيين والسياسيين حول الأسرة يتمحور أساسا حول مطالب قانونية جاهزة، ولا يستحضر الواقع الثقافي الحي الا كمعطيات إحصائية خالية من كل دلالات تاريخية. صحيح أن للقانون دور مهم في تحقيق الإصلاحات، وأن الإحصائيات معطيات تفيد التقرب للواقع، لكن الاستعمالات الأيديولوجية للقانون وللإحصاء هي التي تسيء لهما.

إن الارتكان لثنائية حداثة / تقليد في التعاطي مع قضايا الأسرة المغربية هو الذي يقود إلى مصادرة الواقع المحلي للمواطنين كتجربة ثقافية واجتماعية تتفاعل وتتنازع مع معطيات العصر، وكعلاقات اجتماعية تعبر عن صراع من أجل تحسين الأوضاع وإيجاد حلول واقعية لتقلبات الحياة اليومية.

ثالثا: الرؤية الاختزالية لواقع الأسرة المغربية. يترتب عن العائقين السابقين، عائق ثالث مرتبط بهما هو عائق اختزال الرؤية لإصلاح واقع الأسرة المغربية في أحد العناصر المكونة لها. فالفاعلون المدنيون والسياسيون الذين يدعون احتكار خطاب الحداثة يركزون أشد التركيز على الوضعية القانونية للمرأة داخل هذه الأسرة. وكأنها المفتاح الوحيد لما يسمونه التأخر التاريخي. والفاعلون المدنيون والسياسيون الذين يدعون احتكار خطاب التقليد يركزون أشد التركيز على بقاء الأسرة الأبوية كضمانة لاستمرار النمط الثقافي الماضوي للأسرة. وفي كلا الحالتين، يبرز نقاش مغلوط هو عبارة عن نزاع بين الرجل والمرأة داخل الأسرة المغربية بين من له حقوق أكثر وواجبات أقل، ويبقى واقع الترابطات بينهما دون اهتمام. والمؤلم أكثر هو عدم الاهتمام بالطفل الا بشكل ملحق بأحد هذين العنصرين: المرأة والرجل اللذان يتم التعامل معهما وكأنهما معلقان في الهواء، دون أرضية تاريخية واقتصادية تتحكم في مسار أوضاعهما وطريقة تفاعلهما الواقعية مع الحقوق والواجبات. والدليل على أن الطفل ظل ثانويا في خطاب إصلاح المدونة سواء عند دعاة الحداثة أو دعاة التقليد، هو ان الزيادات في التعويض على الأطفال تحقق بفضل الحوار الاجتماعي بين النقابات والحكومة سنة 2022، وليس مع إصلاح مدونة الأسرة سنة 2004. وظل الأب، في حالة الطلاق، غير مسؤول عن تربية الأطفال إلا ما يفرض عليه كنفقة مالية، مما جعله في كثير من الأحيان أب يوم الأحد فقط.

إن الطبيعة السوسيوثقافية لانتماءات الفاعلين المدنيين والسياسيين المشتغلين على موضوع إصلاح مدونة الأسرة داخل المجتمع المدني المغربي، هي التي تتحكم في بناء أفق مطالبهم للإصلاح. هذه الطبيعة السوسيوثقافية التي تجعل أطفالهم لا يحتاجون إلى تعويضات أو مساعدات من طرف الدولة، هي التي منعتهم من رؤية أهمية هذا الجانب في استقرار الاسرة المغربية ومستقبل أبناءها. فالا مفكر فيه في خطاب اصلاح مدونة الأسرة هو عائق أساسي أمام جعل هذا الإصلاح رافعة حقيقية لإنجاز التنمية البشرية والاقتصادية التي يطمح لها الشعب لمغربي بمن فيهم دعاة هذا الإصلاح.

إن ترابط هذه العوائق الثلاث هو الذي يجعل خطاب إصلاح المدونة في المجتمع المغربي، يخلق نقاشات مطبوعة بتقاطبات أيديولوجية على خلفية مصالح فئوية تؤدي أولا إلى عدم إدماج كل المكونات الاجتماعية للمجتمع المغربي في عملية الإصلاح، لأن الكثيرين داخل هذا المجتمع لا يجدون واقعهم في هذا الخطاب. ثانيا، تؤدي إلى دفع الدولة الى تبني حلول ترضي فقط منتجي خطاب الإصلاح. وبالتالي حسم النقاش بأنصاف الحلول. فالكثير من القرارات التي تتخذها الدولة في مجال الإصلاح والتي يتبين فيما بعد عند تحققها كقوانين ومؤسسات على أنها إصلاحات منقوصة، يكون سببها ضغط فئات معينة داخل المجتمع في هذا الموضوع أو ذاك. وتصرفها كلولبيات أكثر من تصرفها كقوى اجتماعية داخل تاريخ معين.

إن اصلاح مدونة الاسرة المغربية هو عملية ديمقراطية تؤثر على مسار التنمية الشاملة للبلاد، وتحتاج إلى خطاب عقلاني تاريخي ينطلق من معرفة بالمحلي الوطني في تعدديته واختلافه من جهة، وفي راهنيته وحاضره من جهة ثانية حتى يجترح حلولا من داخل مقتضيات تناقض هذا الحاضر، وباعتماد دعامات ملموسة تدفع أبناءه إلى الانخراط الثقافي لإنجاحه على أرض اليومي والاجتماعي.

إن واقع الاسرة المغربية هو وضع ناجم عن تاريخ خاص وليد منظومة من علاقات السيطرة واللامساواة المهيكلة للمجتمع المغربي برمته. وعملية إصلاحه وتنميته في أفق التقدم الاجتماعي، تحتاج إلى رؤية شمولية تتمتع بأقصى درجات الموضوعية، وبإرادة وطنية تحلم بمستقبل أفضل وعينها على الواقع العيني.

 

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: إصلاح مدونة الأسرة المجتمع المغربی داخل المجتمع فی المجتمع هی التی أکثر من

إقرأ أيضاً:

لماذا ترفض الجزائر الحكم الذاتي للصحراء المغربية؟

بقلم: نزار بولحية

وهل هناك ما يضطرها أصلا لأن تبرر قرارا من قراراتها السيادية؟ أليس لها مطلق الحرية في أن تأخذ الموقف الذي تراه مناسبا؟ قد يحاجج البعض. لكن هل يمكن أن تكون لدولة ما حرية أخذ موقف قد لا يمس فقط بدولة جارة، بل يؤثر أيضا حتى على الإقليم بأسره؟ الإشكال هو أن الجزائر التي ما فتئت تكرر في كل مناسبة بأنها ليست طرفا من أطراف النزاع الصحراوي، وأنها تقبل بما يقبل به أصحاب الشأن، ما زالت ترفض وبشدة طرح العرض المغربي بالحكم الذاتي للصحراء على طاولة النقاش. وقد يقول قائل وهل قبل البوليساريو بذلك العرض حتى ترفضه الجزائر؟ والسؤال هو، هل فعلت ذلك فقط بناء على رفض الجبهة للمقترح المغربي، ولأنه قد يتعارض جذريا مع فهمها لمبدأ تقرير المصير، الذي يعد حجر الزاوية في سياستها الخارجية؟ أم لأنها رأت أن القبول بذلك المشروع قد يشكل تهديدا قويا لأمنها الخارجي، وقد يسبب لها وبشكل ما ضررا أو مسا بمصالحها في المنطقة؟

من المؤكد أن هناك جدارا عاليا وسميكا يفصل بين الجزائريين، والمقترح الذي قدمته الرباط إلى الأمم المتحدة منذ ما يقرب من عشرين عاما، لكن ماذا لو حدثت ثغرة غير منتظرة في ذلك الجدار، وخرج غدا، على سبيل المثال، زعيم البوليساريو إبراهيم غالي مع مجموعة من رفاقه من قادة الجبهة، ليقرأ على الصحافيين البيان التالي: بعد تجربة طويلة امتدت لأكثر من خمسة عقود حاولنا فيها بشتى الأساليب العسكرية والدبلوماسية أن نصل لهدفنا، استنتجنا اليوم أنه لا مفر لنا من أن نحكم العقل بدلا من القوة والتهديد، ونراجع أنفسنا قبل كل شيء ونقوم بنقدنا الذاتي ونعترف بالاخطاء التي ارتكبناها على مدى السنوات الماضية، ونقر، ومن باب الحرص على مصلحة الصحراويين أولا، والرغبة في حقن الدماء، وإزالة كل العقبات والعوائق التي تقف أمام تحقيق وحدة ورفاه واستقرار دول وشعوب المنطقة المغاربية، بأن المقترح المغربي للحكم الذاتي للصحراء بات يمثل بالنسبة لنا الحل العملي والواقعي والتوافقي والنهائي الأفضل لمشكل الصحراء؟

ربما قد لا تبدو تلك الفرضية واقعية بنظر البعض، وربما قد يقول عنها آخرون إنها ليست منطقية بالمرة، فلن يكون من الممكن بالنسبة لأفراد قضوا ردحا كبيرا من أعمارهم في الدفاع عن فكرة الانفصال، أو الاستقلال، أن يحيدوا عنها بسهولة وبعد سنوات طويلة من تشبثهم بها، لأن ذلك سوف يعني وببساطة، أنهم سيحفرون قبورهم بأيديهم، ولن يكون مستبعدا ساعتها النظر إلى تصرفهم على أنه نوع من الخيانة، ويكونون بالتالي عرضة لانقلاب داخلي يعصف بهم، لتوجه إليهم وعلى الفور تهم العمالة للمخزن، وهو المصطلح الذي درجت أدبيات البوليساريو على استخدامه باستمرار، في إشارة إلى النظام المغربي، لكن إن حدث ذلك فهل سيحصل فقط بعد تلقي ضوء أخضر من الجزائر؟ أم أنه سيأتي في سياق مبادرة ذاتية من شق ما داخل البوليساريو؟ ثم كيف سيكون رد فعل الجزائريين في ذلك الوقت؟ وهل أنهم سيتقبلون وبسهولة ما قد يترتب على ذلك الوضع من نتائج؟ لقد بعث رئيسهم الخميس الماضي رسالة إلى غالي بمناسبة عيد الأضحى، جدد له فيها دعم بلاده «الكامل» لما وصفه «بكفاح الشعب الصحراوي الشقيق، وتمسكه بحقه المشروع في تقرير المصير، الذي تقره الشرعية الدولية ويتطلع إليه الشعب الصحراوي الشقيق التواق إلى الحرية والكرامة»، وفقا لما أوردته وكالة الأنباء الرسمية، لكنه قال في مارس الماضي، وفي مقابلة مع وسائل إعلام محلية أن «الشيء الذي يمكن أن أقوله حول القضية في حد ذاتها – أي الصحراوية- إنها قضية عادلة وهي موجودة على طاولة تصفية الاستعمار في الأمم المتحدة، ونتمنى أن تصل إلى نهايتها.. وهي ليست موجهة لا ضد أشقائنا المغاربة، ولا ضد أي طرف آخر. وبالنسبة لنا فهذه القضية هي قضية تصفية استعمار، ويوجد حلها إن شاء الله، لأنه لو نستخدم العقل عوض أن نستخدم التهديد والقوة، فإنه سيوجد هناك حل»، وهنا مربط الفرس، فالإشكال الحقيقي يبقى في تحديد طبيعة ذلك الحل. ومن ثم فهل سيكون التأكيد الدائم على الدعم الكامل لما يعتبره الجزائريون حقا للصحراويين في تقرير المصير، بمثابة السيف المسلط على رقاب قادة البوليساريو الذي يمنعهم من الحركة، ويجعلهم غير قادرين على التراجع عن مواقفهم المعروفة من تلك القضية، بغض النظر عن التطورات الإقليمية والدولية التي يعرفها الملف الصحراوي؟ ربما قد يقول البعض إن هناك مبالغة ما، ومن الجهتين وإن هناك تهوينا وتقزيما لدور الجبهة وتصويرا لقادتها، وكأنهم دمى تحركها الجزائر مقابل تضخيم دور الأخيرة، وتقديمها على أنها صاحبة القرار الأول والأخير، في المسألة الصحراوية، لكن ألا توفر الجزائر لذلك التنظيم المسلح كل شيء تقريبا، بدءا بالارض التي يستقر عليها وصولا إلى أبسط الحاجيات والمتطلبات التموينية، وانتهاء بالدعم العسكري والدبلوماسي الواسع وغير المحدود؟ فهل سيكون من الوارد في تلك الحالة أن يملك قادة البوليساريو قرارا منفصلا، أو مستقلا عن القرار الجزائري، وأن تكون لهم خياراتهم وتصوراتهم للمشكل الصحراوي منفصلة عن خيارات وتصورات الجزائر؟ وقد يرد آخرون وما المطلوب من الجانبين فعله حتى تثبت استقلالية الجبهة؟ هل على البوليساريو أن يغادروا الجزائر مثلا ويرفضوا الدعم والمساعدات التي تقدمها لهم؟ وفي تلك الحالة ما البدائل والخيارات التي ستكون موجودة أمامها في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الحالية؟ وما الأطراف أو القوى التي يمكن أن تدخل على الخط تبعا لذلك؟ ثم ما الذي يتعين على الجزائر أن تقوم به، وهي التي كانت توصف في وقت من الأوقات بانها كعبة الثوار، وبنت خطابها الرسمي على دعم الشعوب والحركات الثورية؟ هل عليها مثلا أن تقطع الصلة نهائيا بالبوليساريو؟ لعل الأمر أبسط من ذلك بكثير فبوسع الجزائر والجبهة إن أرادتا ذلك بالطبع أن تجريا استفتاء شفافا وحقيقيا داخل مخيمات تندوف حول الخيار الذي يفضله السكان، وتعرفا بالتالي إن كان مقترح الحكم الذاتي يبدو مقبولا بنظر هؤلاء أم لا. وربما لن ينطبق هنا على الجانبين مثل البيضة والدجاجة وأيهما سبقت الأخرى، لكن من الواضح جدا أن مشروع الحكم الذاتي يتعارض إلى حد كبير مع مصالحهما، ولنتخيل فقط مغربا أغلق ملفا ظل يستنزف لعقود طويلة جل ثرواته وموارده، ألن يشكل في ذلك الوقت تحديا بالنسبة للدول المغاربية؟ ثم ألا تلتقي مثل تلك الهواجس مع مصالح بعض الفئات داخل الجزائر وداخل البوليساريو، التي ترى أن حفاظها على مواقعها وامتيازاتها يرتبط إلى حد كبير ببقاء ذلك الملف مفتوحا من دون التوصل إلى أي حل واقعي ونهائي له؟ قطعا لن يعد رضوخا للمغرب أن يعدل الجزائريون من موقفهم من الصحراء لان الخاسر الوحيد حينها لن يكون غير أعداء البلدين.

كاتب وصحافي من تونس

مقالات مشابهة

  • لماذا ترفض الجزائر الحكم الذاتي للصحراء المغربية؟
  • هكذا وضعت الإحالة الملكية لمدونة الأسرة حدا للتأويلات الدينية الفردية
  • الإعلام المغربي يثمّن مشاركة الإمارات بـ «موسم طانطان 2024»
  • في الليلة الثانية لميدفست في وجه بحري.. ميرفت أبو عوف: مناقشة المواضيع وتغيير الواقع يكون أسهل من خلال الأفلام
  • ما الذي تعنيه إحالة الملك محمد السادس بعض مقترحات تعديل مدونة الأسرة على المجلس العلمي الأعلى للفتوى؟
  • هيئة المهندسين التجمعيين: الحكومة مكنت الأسرة المغربية من شروط العيش الكريم
  • ملك المغرب يطلب من المجلس العلمي “فتوى” بشأن مقترحات تعديل مدونة الأسرة
  • ملك المغرب يطلب فتوى بشأن مقترحات تعديل مدونة الأسرة
  • ما هي خلفيات إحالة الملك لمقترحات مدونة الأسرة على المجلس العلمي الأعلى؟
  • الملك محمد السادس يدعو المجلس العلمي الأعلى إلى الإفتاء في مقترحات مدونة الأسرة