مرفأ قراءة... تأملات إبراهيم عبد المجيد الإبداعية!
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
- 1 -
كنت ممن أسعدهم الحظ بصداقة الكاتب والمبدع الكبير إبراهيم عبدالمجيد، الاسم صاحب التاريخ والإنجاز المشرف، وأحد أركان مشهد السرد العربي المعاصر في نصف القرن الأخير. وإن كانت العلاقة بين قارئ وكاتب قد بدأت قبل ذلك بكثير، إذ إنني قرأت روايته الأولى «في الصيف السابع والستين» وأنا في المرحلة الثانوية في تسعينيات القرن الماضي، ولم أفوت بعدها كتابا أو رواية له لم أقرأها!
ولا أظن أن المكانة الرفيعة التي حصل عليها إبراهيم عبدالمجيد في تاريخ الرواية العربية المعاصرة تعود فقط إلى غزارة إنتاجه (صدر له اثنتان وعشرون رواية، وأكثر من خمس مجموعات قصصية، جمعت في مجلد واحد صدر عن دار الشروق بالقاهرة تحت عنوان «أشجار السراب»، فضلًا عن الكتب غير الروائية والقصصية، وبعضها محل حديثنا اليوم في مرفأ قراءة)، ولا إلى إجادته وجرأته الإبداعية ومغامراته السردية المدهشة فقط، إنما تعود أيضًا -وفيما أظن- إلى اختلاف مسار إبراهيم عبدالمجيد عن نظرائه من الكتاب، ذلك المسار الذي جمع بين متناقضات لا تجتمع! وإلى طبيعة تكوينه الفكري والثقافي والأدبي التي استقت من روافد متعددة، ومصادر شتى، وخبرات وتجارب هائلة جمعت بين الدراسة النظرية والارتحال والتنقل والعمل المبكر في الترسانة البحرية بالإسكندرية، والتعرف على نماذج وشخصيات إنسانية أفاد منها واستلهمها فيما بعد في أعماله الكبرى (ثلاثية الإسكندرية، على سبيل المثال).
- 2 -
وبين آونةٍ وأخرى، أسعد بلقاء مباشر وحديث فياض مع الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد، إما في زيارات دورية له في منزله بحدائق الأهرام (بصحبة الناقد الكبير والقدير محمود عبدالشكور)، حيث نجلس في حجرة مكتبه الهادئة الأنيقة نتحدث لساعات، ويفيض علينا من حكاياته وذكرياته، ما يمتعنا ويسعدنا ويفيدنا، وإما في لقاءات منظمة أو "ندوات" يُدعى إليها ونُدعى إليها معه، وهي في العموم ليست كثيرة، فقد تكون مرة أو مرتين بالكثير على مدار العام.
وكانت الندوة الأخيرة التي دُعينا إليها برفقة الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد في (مركز جامعة القاهرة للغة والثقافة العربية) الأسبوع الماضي، واحدة من أهم وأمتع اللقاءات التي جمعت إبراهيم عبدالمجيد بقرائه ومحبيه، وكذلك من أكثر الندوات التي لخص فيها الكاتب الكبير ببراعة تأملات نفاذة ودقيقة وعميقة حول عملية الإبداع عموما والكتابة الأدبية بشكل خاص، وتحدث عن الرواية والقصة والنقد وما نشهده الآن من ظواهر مستحدثة طفت على سطح المشهد وأربكته وسببت وما تزال تسبب الكثير من الفوضى و"الشوشرة" والإزعاج!
لكن أهم ما دار في هذه الندوة الثرية جدًّا والتي شرفت بإدارة النقاش فيها ومحاورة صاحب «لا أحد ينام في الإسكندرية»، فضلا عن حضور عدد من الأصدقاء من الكتاب والمبدعين والنقاد والمثقفين الذين أثروا اللقاء بمداخلاتهم وتعليقاتهم وأسئلتهم على السواء، أقول: إن أهم ما في دار هذه الندوة هو تلك المكاشفات "الإبداعية" الرائقة الرائعة التي تألق بها وأفاض بها علينا إبراهيم عبدالمجيد.
- 3 -
تجلت الحكمة في أصفى ينابيعها التي تقطرت وتكثفت، وامتزجت بخبرات السنين، وفائض المعرفة والتجارب الإبداعية والمغامرات السردية والمتابعات التي لا تكل ولا تمل للواقع المصري والعربي والإنساني على السواء. أصبح إبراهيم عبدالمجيد قادرًا على التحدث ببساطة وسلاسة وانسيابية، ودون أي "فذلكة" أو تحذلق في أصعب القضايا، وأكثرها التباسًا وخطورة!
بسخريته اللاذعة والمحببة يصول ويجول بين رياض وأزاهير الأدب والرواية والقصة وقضايانا السياسية والاجتماعية الشائكة المعاصرة، يرصد ازدهار كتابة الرواية في الخليج عمومًا، وفي عمان خصوصًا ويدهشنا بمتابعته الدؤوبة لحركة الكتابة والإبداع الروائي والقصصي في ذلك البلد الطيب الهادئ الوادع وإن صار من بين الأكثر نشاطا وتدفقا وحركة وإبداعا في السنوات الأخيرة، تحدث بوعي عن الرواية العمانية المعاصرة، وعن الطفرة الإبداعية التي تشهدها عمان في القراءة والكتابة والثقافة عمومًا، مرجعا ذلك إلى الاهتمام بالتعليم والشغف بالمعرفة فضلا عن الاشتغال بها.
على أن من بين أهم الأفكار التي يمكن أن نقف عليها في حدود المساحة المتاحة، على أن نستكمل في الحلقات التالية عرض أهم الأفكار التي أثارها الكاتب الكبير وتفتح مجالا واسعا لنقاش حر ومستفيض، فكرة المفاضلة بين الأنواع الأدبية، على سبيل المثال. يقول إبراهيم عبدالمجيد: إن إبداعه الروائي قد طغا على ما عداه في نظر الجمهور وقراء أدبه. بحسرة مبطنة قليلا قال: حزين بعض الشيء على أن قصصي لم تنل ما نالته الرواية التي كتبتها من شهرة وذيوع وانتشار، وكان ذلك الاستدعاء هو المدخل لعرض رؤيته حول قضية المفاضلة بين الأنواع الأدبية التي لم تعد تشغل أحدا فيما يبدو بعد أن طغت الرواية واكتسحت واجتاحت العالم كله في نصف القرن الأخير باعتبارها النوع الأدبي المهيمن والمسيطر تماما على ما عداه من الفنون والأنواع الأدبية.
- 4 -
ولا شك فيما يرى إبراهيم عبدالمجيد أن فن الرواية يتسيّد الآن المشهد الإبداعي الأدبي في العالم أجمع. وذلك لا يعني غياب الشعر مثلاً، لكن فكرة "التسيّد" هذه فيما يرى عبدالمجيد صارت ملتصقة بالرواية في العالم كله. كما أن الشعر اختار له مكانا خاصا بعيدًا عن فكرة الجماهيرية، منذ أن انتقل من "الشفاهية" والإلقاء الإنشادي في التجمعات البشرية، إلى "قصيدة النثر" التي تحتاج متلقيًا ينفرد بها على مهل في بيته، أو في أيّ مكان يقرأ فيه متأملاً بعيدًا عن التلقي الجماعي.
وفي تقديره أن الأمر يختلف في المسرح مثلًا أو السينما، فعدم شيوعهما في بلادنا بقدر شيوع الرواية يرجع إلى ظروف وتحولات في حاجة إلى تحليل خاص ومستفيض ليس هذا أوانه، وإن كان على رأس هذه العوامل أن الأمر ليس في يد الكاتب وحده، بل تتدخل فيه ظروف الإنتاج المسرحي أو السينمائي، فضلًا عن الرقابة التي تزداد قيودها، وغياب الإعلام عن فن المسرح بالذات، فلقد انتهى الزمن الذي كان فيه التليفزيون في مصر مثلاً ينقل المسرحية المعروضة مرة كل أسبوع على شاشته، رغم أننا نقرأ على صفحات "الميديا" عن مسرحيات جميلة تعرضها مسارح مثل مسرح الطليعة أو غيره.
ويصل عبدالمجيد في نهاية التحليل إلى أن تسيّد الرواية جاء بالسلب على القصة القصيرة، وهي فتنة الكتّاب الغائبة الآن. يقول وصوته ينضح أسى: "كلما تذكرت سنوات الستينيات وكيف كانت القصة القصيرة هي فتنتها، وكيف تحول الأمر باندفاع كبير للرواية منذ السبعينيات أشعر بالحنين، لكنه صار أقرب إلى الوهم. كما أن البعض راح وبتأثير "الميديا" ينحو إلى كتابة القصة القصيرة جدًا والتي لا تزيد على عشرة أسطر، حين تتأملها تجدها أقرب إلى الخبر منها إلى بنية فنية جديدة. ولم يبقَ لنا إلا القصة البيضاء، أي الخالية من الحديث، لكن كم قصة يمكن أن يكتبها الكاتب بيضاء خالية من الكلام في عالمنا العربي الظالم للكلام؟".
- 5 -
هذا مجرد نموذج من الأفكار والقضايا والموضوعات التي طرحت للنقاش في ندوة إبراهيم عبدالمجيد التي تحدث فيها متدفقا ومتحررا من كل القيود وملقيا بتأملاته الإبداعية والنظرية حول الفنون عموما والآداب بشكل خاص والتي أراها لا تقل أهمية في قيمتها وضرورتها للأدباء الشبان عن كتب النقد النظري والتطبيقي، ولا زلت مؤمنا بأن أفضل من يتحدثون عن أسرار الكتابة والإبداع هم مبدعوها أنفسهم، شريطة أن يحسنوا هذا الحديث، وهو ما أرى أنه ليس شائعا ولا منتشرا بين كتابنا وأدبائنا في مصر والعالم العربي..
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إبراهیم عبدالمجید
إقرأ أيضاً:
قراءة تحليلية فيما ورد في الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان 2025
الحلقة (الثانية)
إن أهم ما ورد في الباب الأول لدستور السودان الانتقالي في مادته السابعة الفقرة الثانية تحت عنوان المبادئ فوق الدستورية والدستور حيث تم تعريف هذه المبادئ ب ( هي مجموعة المبادئ والقواعد والقيم الأساسية الدائمة والملزمة والمحصنة التي يمنع إلغائها أو تعديلها أو مخالفتها بأي إجراء أيا كان وتشمل العلمانية والديمقراطية التعددية الخ ... )
ما يهمنا هنا ذكر العلمانية صراحة كأول مرة ينص عليها في دستور من دساتير السودان منذ الاستقلال ، فالتساءل المطروح لماذا نص الدستور الإنتقالي على مبدأ العلمانية ؟
نحن نعلم أن السبب الرئيسي في إنفصال جنوب السودان هو إصرار حزب المؤتمر الوطني الحاكم في تطبيق الشريعة الإسلامية ليس من أجل الدين ولكن رغبة في الإنفراد بحكم شمال السودان ( راجع ما ورد على لسان غازي صلاح الدين في تسريبات ويكيليكس ) فكان إصرارهم تطبيق الشريعة في عموم السودان رغم التباين الديني والتعدد الثقافي الذي يزخر به البلاد فجاء الخيار في نصوص اتفاقية السلام الشامل ( نيفاشا ) بين تطبيق الشريعة أو حق تقرير المصير لجنوب السودان ، فأختار شعب الجنوب الإنفصال لما رأؤوه إستحالة التعايش في دولة لا تساوي بين مواطنيها في الشأن العام .
إن موافقة المجموعات السياسية والعسكرية التي وقعت على دستور السودان الانتقالي 2025 على مبدأ العلمانية كأحد المبادئ فوق الدستورية المحصنة من الٱلغاء ، كانوا حريصين بأن لا يضحوا بأي شبر من أرض الوطن بسبب دغمسات أهل الهوس الديني كما وصفها الرئس المعزول عمر البشير والذي قال ( أن ما تم تطبيقه شريعة مدغمسة ) ، أضف إلي ذلك الممارسات الكارثية بإسم الاسلام أثناء حكم المؤتمر الوطني طيلة الثلاثين عاما وفق إعترافات الٱسلاميين أنفسهم والتي لا تمت إلي صحيح الإسلام بصلة .
السؤال الثاني ما هو الضرر من تطبيق مبدأ العلمانية في السودان المتنوع والمتعدد ليشارك كل طوائف وشعوب السودان في إدارة شؤون البلاد بمساواة ومواطنة كاملة دون فرض أي طرف أيديولوجيته على طرف آخر مختلف دينيا وثقافيا وهذا الطرف له الحق الاصيل في تراب هذا الوطن ؟ وما الفائدة من التقسيم والتضحية بوحدة البلاد ومواردها من أجل إرضاء مجموعة مهووسة تم تجربتها ثلاثون عاما عجافا وأسقطهم الشعب بكلمة واحدة .
إنه لعين العقل أن أختار عقلاء السياسة السودانيين في نيروبي وحدة البلاد وازالوا كل مسببات التقسيم مستقبلا .
أما كلمتنا في العلمانية كمبدأ وهي كلمة ومن وحي الممارسات الدولية فلها مفاهيم ومعاني متعددة ومرنة وهناك اختلافات كبيرة بين الدول في تطبيق العلمانية فمنها المتطرفة ومنها المرنة وهناك نماذج متعددة فعلمانية فرنسا تختلف عن الولايات المتحدة وكذلك بريطانيا وعلمانية نيجيريا تختلف عن نموذج السنغال ذات الأغلبية المسلمة أضف إلي ذلك علمانية تركية وماليزيا واندونيسيا ، فهناك براح في الاختيار بما يتلائم وظروفنا التاريخية والثقافية ، وبالتالي ليس الأمر جامدا يتعارض مع عقائد وقيم السودانيين إذا أحسنوا الاختيار .
خاتمة :
إن تضمين مبدأ العلمانية كإحدى المبادئ فوق الدستورية في دستور السودان الانتقالي 2025 يعكس تحولًا جوهريًا في الفكر السياسي السوداني، ويؤكد رغبة الموقعين على هذا الدستور في بناء دولة تقوم على أسس المواطنة والمساواة، بعيدًا عن الإقصاء والتمييز الديني أو الثقافي. فالتجارب السابقة أثبتت أن استخدام الدين كأداة للحكم أدى إلى تقسيم البلاد وإقصاء فئات واسعة من المجتمع، وهو ما يسعى هذا الدستور لتجاوزه .
إن اعتماد العلمانية لا يعني استيراد نموذج واحد جامد ، بل يمكن تكييفها بما يتناسب مع الواقع السوداني المتعدد ثقافيًا ودينيًا ، كما أثبتت تجارب دول أخرى ذات أغلبية مسلمة . فالهدف الأسمى يظل تحقيق وحدة السودان واستقراره ، وضمان مشاركة جميع مكوناته في إدارة شؤونه دون تمييز. وبذلك ، فإن خيار العلمانية لا يجب أن يُنظر إليه كتهديد ، بل كوسيلة لحماية التنوع وضمان مستقبل أكثر عدلًا وانسجامًا للبلاد .
مها طبيق
18/مارس/2025
hafchee@gmail.com