- 1 -

كنت ممن أسعدهم الحظ بصداقة الكاتب والمبدع الكبير إبراهيم عبدالمجيد، الاسم صاحب التاريخ والإنجاز المشرف، وأحد أركان مشهد السرد العربي المعاصر في نصف القرن الأخير. وإن كانت العلاقة بين قارئ وكاتب قد بدأت قبل ذلك بكثير، إذ إنني قرأت روايته الأولى «في الصيف السابع والستين» وأنا في المرحلة الثانوية في تسعينيات القرن الماضي، ولم أفوت بعدها كتابا أو رواية له لم أقرأها!

ولا أظن أن المكانة الرفيعة التي حصل عليها إبراهيم عبدالمجيد في تاريخ الرواية العربية المعاصرة تعود فقط إلى غزارة إنتاجه (صدر له اثنتان وعشرون رواية، وأكثر من خمس مجموعات قصصية، جمعت في مجلد واحد صدر عن دار الشروق بالقاهرة تحت عنوان «أشجار السراب»، فضلًا عن الكتب غير الروائية والقصصية، وبعضها محل حديثنا اليوم في مرفأ قراءة)، ولا إلى إجادته وجرأته الإبداعية ومغامراته السردية المدهشة فقط، إنما تعود أيضًا -وفيما أظن- إلى اختلاف مسار إبراهيم عبدالمجيد عن نظرائه من الكتاب، ذلك المسار الذي جمع بين متناقضات لا تجتمع! وإلى طبيعة تكوينه الفكري والثقافي والأدبي التي استقت من روافد متعددة، ومصادر شتى، وخبرات وتجارب هائلة جمعت بين الدراسة النظرية والارتحال والتنقل والعمل المبكر في الترسانة البحرية بالإسكندرية، والتعرف على نماذج وشخصيات إنسانية أفاد منها واستلهمها فيما بعد في أعماله الكبرى (ثلاثية الإسكندرية، على سبيل المثال).

- 2 -

وبين آونةٍ وأخرى، أسعد بلقاء مباشر وحديث فياض مع الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد، إما في زيارات دورية له في منزله بحدائق الأهرام (بصحبة الناقد الكبير والقدير محمود عبدالشكور)، حيث نجلس في حجرة مكتبه الهادئة الأنيقة نتحدث لساعات، ويفيض علينا من حكاياته وذكرياته، ما يمتعنا ويسعدنا ويفيدنا، وإما في لقاءات منظمة أو "ندوات" يُدعى إليها ونُدعى إليها معه، وهي في العموم ليست كثيرة، فقد تكون مرة أو مرتين بالكثير على مدار العام.

وكانت الندوة الأخيرة التي دُعينا إليها برفقة الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد في (مركز جامعة القاهرة للغة والثقافة العربية) الأسبوع الماضي، واحدة من أهم وأمتع اللقاءات التي جمعت إبراهيم عبدالمجيد بقرائه ومحبيه، وكذلك من أكثر الندوات التي لخص فيها الكاتب الكبير ببراعة تأملات نفاذة ودقيقة وعميقة حول عملية الإبداع عموما والكتابة الأدبية بشكل خاص، وتحدث عن الرواية والقصة والنقد وما نشهده الآن من ظواهر مستحدثة طفت على سطح المشهد وأربكته وسببت وما تزال تسبب الكثير من الفوضى و"الشوشرة" والإزعاج!

لكن أهم ما دار في هذه الندوة الثرية جدًّا والتي شرفت بإدارة النقاش فيها ومحاورة صاحب «لا أحد ينام في الإسكندرية»، فضلا عن حضور عدد من الأصدقاء من الكتاب والمبدعين والنقاد والمثقفين الذين أثروا اللقاء بمداخلاتهم وتعليقاتهم وأسئلتهم على السواء، أقول: إن أهم ما في دار هذه الندوة هو تلك المكاشفات "الإبداعية" الرائقة الرائعة التي تألق بها وأفاض بها علينا إبراهيم عبدالمجيد.

- 3 -

تجلت الحكمة في أصفى ينابيعها التي تقطرت وتكثفت، وامتزجت بخبرات السنين، وفائض المعرفة والتجارب الإبداعية والمغامرات السردية والمتابعات التي لا تكل ولا تمل للواقع المصري والعربي والإنساني على السواء. أصبح إبراهيم عبدالمجيد قادرًا على التحدث ببساطة وسلاسة وانسيابية، ودون أي "فذلكة" أو تحذلق في أصعب القضايا، وأكثرها التباسًا وخطورة!

بسخريته اللاذعة والمحببة يصول ويجول بين رياض وأزاهير الأدب والرواية والقصة وقضايانا السياسية والاجتماعية الشائكة المعاصرة، يرصد ازدهار كتابة الرواية في الخليج عمومًا، وفي عمان خصوصًا ويدهشنا بمتابعته الدؤوبة لحركة الكتابة والإبداع الروائي والقصصي في ذلك البلد الطيب الهادئ الوادع وإن صار من بين الأكثر نشاطا وتدفقا وحركة وإبداعا في السنوات الأخيرة، تحدث بوعي عن الرواية العمانية المعاصرة، وعن الطفرة الإبداعية التي تشهدها عمان في القراءة والكتابة والثقافة عمومًا، مرجعا ذلك إلى الاهتمام بالتعليم والشغف بالمعرفة فضلا عن الاشتغال بها.

على أن من بين أهم الأفكار التي يمكن أن نقف عليها في حدود المساحة المتاحة، على أن نستكمل في الحلقات التالية عرض أهم الأفكار التي أثارها الكاتب الكبير وتفتح مجالا واسعا لنقاش حر ومستفيض، فكرة المفاضلة بين الأنواع الأدبية، على سبيل المثال. يقول إبراهيم عبدالمجيد: إن إبداعه الروائي قد طغا على ما عداه في نظر الجمهور وقراء أدبه. بحسرة مبطنة قليلا قال: حزين بعض الشيء على أن قصصي لم تنل ما نالته الرواية التي كتبتها من شهرة وذيوع وانتشار، وكان ذلك الاستدعاء هو المدخل لعرض رؤيته حول قضية المفاضلة بين الأنواع الأدبية التي لم تعد تشغل أحدا فيما يبدو بعد أن طغت الرواية واكتسحت واجتاحت العالم كله في نصف القرن الأخير باعتبارها النوع الأدبي المهيمن والمسيطر تماما على ما عداه من الفنون والأنواع الأدبية.

- 4 -

ولا شك فيما يرى إبراهيم عبدالمجيد أن فن الرواية يتسيّد الآن المشهد الإبداعي الأدبي في العالم أجمع. وذلك لا يعني غياب الشعر مثلاً، لكن فكرة "التسيّد" هذه فيما يرى عبدالمجيد صارت ملتصقة بالرواية في العالم كله. كما أن الشعر اختار له مكانا خاصا بعيدًا عن فكرة الجماهيرية، منذ أن انتقل من "الشفاهية" والإلقاء الإنشادي في التجمعات البشرية، إلى "قصيدة النثر" التي تحتاج متلقيًا ينفرد بها على مهل في بيته، أو في أيّ مكان يقرأ فيه متأملاً بعيدًا عن التلقي الجماعي.

وفي تقديره أن الأمر يختلف في المسرح مثلًا أو السينما، فعدم شيوعهما في بلادنا بقدر شيوع الرواية يرجع إلى ظروف وتحولات في حاجة إلى تحليل خاص ومستفيض ليس هذا أوانه، وإن كان على رأس هذه العوامل أن الأمر ليس في يد الكاتب وحده، بل تتدخل فيه ظروف الإنتاج المسرحي أو السينمائي، فضلًا عن الرقابة التي تزداد قيودها، وغياب الإعلام عن فن المسرح بالذات، فلقد انتهى الزمن الذي كان فيه التليفزيون في مصر مثلاً ينقل المسرحية المعروضة مرة كل أسبوع على شاشته، رغم أننا نقرأ على صفحات "الميديا" عن مسرحيات جميلة تعرضها مسارح مثل مسرح الطليعة أو غيره.

ويصل عبدالمجيد في نهاية التحليل إلى أن تسيّد الرواية جاء بالسلب على القصة القصيرة، وهي فتنة الكتّاب الغائبة الآن. يقول وصوته ينضح أسى: "كلما تذكرت سنوات الستينيات وكيف كانت القصة القصيرة هي فتنتها، وكيف تحول الأمر باندفاع كبير للرواية منذ السبعينيات أشعر بالحنين، لكنه صار أقرب إلى الوهم. كما أن البعض راح وبتأثير "الميديا" ينحو إلى كتابة القصة القصيرة جدًا والتي لا تزيد على عشرة أسطر، حين تتأملها تجدها أقرب إلى الخبر منها إلى بنية فنية جديدة. ولم يبقَ لنا إلا القصة البيضاء، أي الخالية من الحديث، لكن كم قصة يمكن أن يكتبها الكاتب بيضاء خالية من الكلام في عالمنا العربي الظالم للكلام؟".

- 5 -

هذا مجرد نموذج من الأفكار والقضايا والموضوعات التي طرحت للنقاش في ندوة إبراهيم عبدالمجيد التي تحدث فيها متدفقا ومتحررا من كل القيود وملقيا بتأملاته الإبداعية والنظرية حول الفنون عموما والآداب بشكل خاص والتي أراها لا تقل أهمية في قيمتها وضرورتها للأدباء الشبان عن كتب النقد النظري والتطبيقي، ولا زلت مؤمنا بأن أفضل من يتحدثون عن أسرار الكتابة والإبداع هم مبدعوها أنفسهم، شريطة أن يحسنوا هذا الحديث، وهو ما أرى أنه ليس شائعا ولا منتشرا بين كتابنا وأدبائنا في مصر والعالم العربي..

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إبراهیم عبدالمجید

إقرأ أيضاً:

ليوم.. الإعلان عن الرواية الفائزة بجائزة البوكر 2025

كتب- محمد شاكر:

ساعات قليلة تفصلنا عن إعلان الرواية الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) بدورتها الثامنة عشرة لعام 2025، والمقرر لها اليوم الخميس 24 أبريل 2025، أثناء احتفالية في أبو ظبي سيتم بثها افتراضيا.

وذلك بعد أن تم الإعلان عن القائمة القصيرة في مؤتمر صحافي عُقد في مكتبة الإسكندرية، حيث كشفت منى بيكر، رئيسة لجنة التحكيم، عن العناوين المرشحة للقائمة، وهي "دانشمند" لأحمد فال الدين، و"وادي الفراشات" لأزهر جرجيس، و"المسيح الأندلسي" لتيسير خلف، و"ميثاق النساء" لحنين الصايغ، و"صلاة القلق" لمحمد سمير ندا و"ملمس الضوء" لنادية النجار.

معلومات عن جائزة البوكر للرواية العربية..

الجائزة العالمية للرواية العربية جائزة سنوية تختص بمجال الإبداع الروائي باللغة العربية، وتبلغ قيمة الجائزة التي تُمنح للرواية الفائزة خمسين ألف دولار أمريكي.

يرعى الجائزة مركز أبو ظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي.

تهدف الجائزة العالمية للرواية العربية إلى مكافأة التميّز في الأدب العربي المعاصر، ورفع مستوى الإقبال على قراءة هذا الأدب عالمياً من خلال ترجمة الروايات الفائزة والتي وصلت إلى القائمة القصيرة إلى لغات رئيسية أخرى ونشرها.

من جانبه، قال ياسر سليمان، رئيس مجلس الأمناء: "تدعو روايات هذه القائمة القصيرة القارئ إلى التذوق والاستمتاع بها؛ لتنوّع ثيماتها، وبراعة أساليبها، وتعدد أصواتها، فضلاً عن سعة رقعتها ديموغرافيًا.. ويأخذ النفس الأنثروبولوجي الذي يميز بعض هذه الروايات القارئ في رحلات استكشاف يتجاوز فيها السرد المسارات التقليدية إلى جوانب من الحياة الثقافية العربية لا يسهل الولوج إليها إلّا من الداخل".

وأضاف: "يلعب العنصر النسائي دورًا بارزًا في بعض الأعمال، فيكشف السرد أحيانًا عن الوتيرة البطيئة والمتعثرة للتغيير الاجتماعي.. وتسيطر أمّهات الكوارث السياسية الأخيرة في العالم العربي على بعض هذه الروايات، لتكشف لنا عن عوالم من الديستوبيا ترزح تحت وطأة الفقدان والتفكك الاجتماعي والمخاوف المستَعِرة، لا شك أن هذه القائمة ستجذب إليها شريحة واسعة من القراء العرب، وأنّها ستُدهش القرّاء الأجانب بما تحمله من ثراء وإبداع حين ترجمتها".

ومن بين الروايات الفائزة بالجائزة التي صدرت أو ستصدر بالإنجليزية، رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" لمحمد النعّاس (الفائزة بالجائزة عام 2022 والتي ستصدر في 2026 عن دار هاربر فيا)، و"قناع بلون السماء" لباسم خندقجي (الفائزة بالجائزة عام 2024 والتي ستصدر عن منشورات أوروبا في 2026). كما صدرت "قناع بلون السماء" بالإيطالية (دار إيديزيوني/إي) واليونانية (دار سالتو)، وستنشر بالأسبانية والبرتغالية.

اقرأ أيضًا:

الحكومة توافق على 13 قرارًا جديدًا.. أبرزها لائحة تنظيم حيازة الحيوانات الخطرة وتأشيرة الترانزيت

ستفرز الأصلح.. مجدي الجلاد: انتخابات نقابة الصحفيين "الأهم والأكثر سخونة"

بيان مهم من وزارة الكهرباء بشأن استعدادات القطاع لفصل الصيف

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

الرواية الفائزة بجائزة البوكر 2025 الجائزة العالمية للرواية العربية معلومات عن جائزة البوكر

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الخبر التالى: عبد المحسن سلامة يكشف تفاصيل مشروع "الـ 20 ألف فدان" للصحفيين الأخبار المتعلقة تضم مصري.. تعرف على القائمة القصيرة لجائزة البوكر أخبار

إعلان

إعلان

أخبار

ليوم.. الإعلان عن الرواية الفائزة بجائزة البوكر 2025

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

فرصة أخيرة.. كيف تشتري شهادة الـ27% في الإجازة قبل وقفها الأحد؟ مع تذبذب السعر.. هل الوقت مناسب لشراء الذهب؟ شعبة الذهب تجيب 27

القاهرة - مصر

27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • تأملات قرآنية
  • اليوم.. الإعلان عن الرواية الفائزة بجائزة البوكر 2025
  • ليوم.. الإعلان عن الرواية الفائزة بجائزة البوكر 2025
  • الأرض المباركة في خطبة الجمعة.. تأملات في تاريخ وتجليات سيناء
  • الجمعة.. الموسيقار أمير عبدالمجيد ضيف إيمان أبوطالب على الحياة
  • وصول باخرة إلى مرفأ طرطوس تحمل 93 حاوية بينها مساعدات إنسانية
  • من الرجل الذي كافأه المأمون؟ وما قصة المثل: ربّ مملول لا يستطاع فراقه؟
  • جامعة حلوان تناقش كيفية تحويل الأفكار الإبداعية إلى مشروعات حقيقية
  • يوسا وأسئلة الرواية
  • جامعة حلوان تناقش كيفية تحويل الأفكار الإبداعية إلى مشروعات ضمن مبادرة «بداية»