موقع 24:
2025-04-17@03:24:36 GMT

وفضائل الكلام أكثر يا صديقي

تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT

وفضائل الكلام أكثر يا صديقي

-        «ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» (سورة إبراهيم: الآية 24).
-        «فَقَالَ الرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فِي اللَّيْلِ: لاَ تَخَفْ بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ» (العهد الجديد، سفر أعمال الرسل 18:9)
                                                                                                 ****
استوقفني مقال «الرجل الصامت» لسعادة الأخ والصديق العزيز تركي الدخيل، في صحيفة «الشرق الأوسط»، الجمعة 29 ديسمبر، وقد امتدح فيه الصمت ببلاغة آسرة، وجال فيه الصديق الكريم صاحب الثقافة الأصيلة بين حدائق كتب التراث الغناء، وحكايات الأقدمين، التي تغنت بفضائل الصمت، ورفعته مكاناً علياً، وأحلّته مكانة فوق مكانة الكلام.


وإذا كانت مقالات الصديق العزيز تركي الدخيل تستوقفني دوماً، فإن لتوقفي عند مقاله المذكور سبباً إضافيّاً، أو ذاتيّاً إذا شئنا الدقة، فقد استقر في ذاكرتي منذ مطلع الصبا حديث دار بين جدي، رحمه الله، وعدد من أحفاده، في واحد من اللقاءات التي يظللها الدفء والمحبة والحنو، وكان الجد اللطيف يحب أن يجعل من جلساتنا ساحة للمتعة والتعلم معاً، فسألنا - نحن الأحفاد - وكنا نتحدث حول القراءة، قائلاً: لماذا نقرأ؟ فأجابه أحد أبناء عمومتي: لنتعلم، وقال ثان: لنعرف أشياء جديدة، وقال ثالث: لنتفوق دراسيّاً، فقال لنا جدي: نحن نقرأ لنتحدث، ونفيد غيرنا بما قرأنه وتعلمناه، ونستفيد مما يضيفونه. واقتنعت لحظتها بمال قال، وزادتني تجارب العمر بعد ذلك اقتناعاً.
وبذلك، فإنني أعتبر نفسي، منذ الصغر، ممن يُقدِّرون الكلمة والكلام، ويستمتعون بهما أيما استمتاع، ويُعلون فضائل الكلام على فضائل الصمت التي يزدحم بها الموروث العربي والعالمي. وكيف لا أُقدِّر الكلام وأجلُّه، وقد كان مدخلنا إلى معرفة العالم، وزينة مجالسنا العامرة بطيب الحديث وعذوبة الحكايات وبهجة الحكمة التي تجري بها ألسنة رجال خبروا الحياة واستصفوا من تجاربها الدروس والعبر، كما يُستصفى من التبر والصخر الذهب خالصاً.
وشاء الله لي أن أبدأ مسيرتي المهنية وأواصلها في مجالات تتصل بالفكر والثقافة والأدب، فأدركت أكثر قيمة الكلمة ودورها، ولطالما بحثنا في فعالياتنا وأنشطتنا عمن يملكون زمام الكلمة ويضعونها مواضعها، لتتصل رسالة المعرفة بينهم وبين جمهور متعطش إلى ما يقولون، ولا تلبث الكلمات أن تفتح الطريق أمام حوارات تتصل أسبابها، ونقاشات توضح وتضيف وتثري وترتاد أراضي جديدة في عالم المعرفة الممتد دون حدود.
أنا - إذن - عضو عريق من أعضاء حزب الكلام، يتحمس له، ويُروِّج لفوائده، وينافح عنه. وكان مما يخطر ببالي: كيف كان لي أن أتعلم ما تعلمته لو انتصر حزب الصمت وسادت كلمته (أو صمته). ماذا لو لم يتحدث أبي وعمي وجارنا الوقور وزميلي في الصف الدراسي ورفيقي في رحلة السفر، أكنت أعرف عن الحياة ما أعرفه الآن؟ وماذا لو اقتنع أساتذتنا في المدرسة الابتدائية بفضيلة الصمت، وأساتذتنا في الجامعة، والمحاضرون في الندوات، فصمتوا؟ أكنا نتعلم من صمتهم شيئاً؟ وماذا لو لم يُنشدنا شعراؤنا قصائدهم النبطية؟ أكنا نرتبط بتراثنا وقيم أجدادنا وتنسجم أذاوقنا وتتجانس على نحو ما نرى؟
وقد ارتبطت التحولات الكبرى في تاريخ الإنسانية بالكلام، سواء في ذلك الدعوات الدينية، أو الاتجاهات السياسية والفكرية والفلسفية، والمناظرات والمجالس التي تُناقش فيها مصالح الناس وشؤون حياتهم، وكلها مما يمثل فيه الكلام ضرورة لا غنى عنها، وركيزة من ركائز تسيير الحياة والسعي نحو التطور والتقدم.
وكما اقتطف الصديق تركي الدخيل من فواكه التراث اقتباسات تعظِّم من الصمت، فإنني يمكن أن أذكره بقول عليٍّ بن الحسين، حين سئل عن الكلام والسكوت أيُّهما أفضل، فقال: لكلِّ واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت.
ويمكنني كذلك أن أذكِّره بقول الجاحظ: الكلام إنما صار أفضل من الصمت؛ لأن نفع الصمت لا يكاد يعدو الصامت، ونفع الكلام يعم القائل والسامع، الرسائل والغائب والشاهد، والراهن والغابر.
وكان يمكنني أن أستطرد في إيراد شواهد تفضيل الكلام، ومنها الاقتباسات التي صدَّرت بها هذا المقال، وغيرها كثير، لولا أنني حين أعدت قراءة ما كتبه الصديق العزيز تركي الدخيل، وجدتُ أن اقتباساته الكثيرة تؤيد رأيي أصلاً، وأن ما يورده تعزيزاً لإعلاء قيمة الصمت يؤكد في الحقيقة إعلاء قيمة الكلام الجيد، وأن الصمت يكتسب قيمته، ويصبح فضيلة حقاً، إذا لم يمتلك صاحبه القدرة على أن يجد الكلام الملائم.
باختصار شديد، فإن تفضيل الصمت إنما هو تفضيل ناجم عن العجز غالباً، لا عن القدرة، ويعني ذلك أن الصمت ليس مفضلاً لذاته، بل لقصور في الملكات أو القدرات يمنع من الكلام، سواء كان دائماً أو اقتصر على موقف أو مواقف بعينها، وهو ما أوضحه بيت ذكيُّ لأبي العتاهية يقول فيه:
الصمتُ أجمَلُ بالفتى              من مَنطقٍ في غيرِ حِينِه
وليس من شكٍّ في أن الصمت أفضل من الكلام في غير موضعه؛ أي إنه تفضيل «اللافعل» على «الفعل الخاطئ». لكن الدرجة العليا تصبح من نصيب الكلام الذي يعرف قائله كيف يضعه في مواضعه.
وإذا شئت فيمكنك أن ترجع إلى الاقتباسات التي احتج بها الصديق العزيز تركي الدخيل، لتتيقن مما أقول، ومنها قوله إن «من بليغ كلام أكثَم بن صَيفي: الصَّمتُ خيرٌ من عِيِّ المَنطِقِ»، وقوله إن العنتري يشرح بعض مزايا الصمت، قائلاً: من لزم الصمتَ اكتسى هَيبَةً تُخفِي عن الناس مَسَاوِيْهِ، وإشارته إلى أن العرب تقول «رُبَّ كَلامٍ أَورَدَكَ مَوْرِدَ القِتَال»، وكلها مما يفاضل بين الصمت والعيّ أو الكلام السيء أو الذي يورد موارد التهلكة.
وكنت أنوي أن أحاجج صديقي العزيز أيضاً بمأثورات عربية تملأ مجلدات ضخمة، عن سحر البيان، لولا أنني وجدت أنه قد كتب في صحيفة «الشرق الأوسط» نفسها، مقالاً بعنوان «السحر الحلال»، أورد فيه من المقولات والحجج أكثر مما عزمت على إيراده أن أورد، فكفاني بذلك مؤونة البحث والتنقيب. كما أن تركي الدخيل، بثقافته وخبرته وذكائه وشخصيته الآسرة، واحد ممن يمتلكون ناصية القول العذب والمحكم، بحيث يصبح الاستماع إليه متعة خالصة للعقل والوجدان. وحسبي وحسبه أن مقالي هذا "كلام على الكلام"!!

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: حصاد 2023 التغير المناخي أحداث السودان سلطان النيادي غزة وإسرائيل مونديال الأندية الحرب الأوكرانية عام الاستدامة مقالات حفظ التراث

إقرأ أيضاً:

دبلوماسية الصمت

لفت نظري في اللقاء الذي جمع بين رئيس المجلس السيادي الانتقالي .القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان والرئيس التركي رجب طيب أوردغان على هامش أعمال ملتقى أنطاليا ـ النسخة الرابعة ـ ما لفت نظري وبعيدا عن ملخص التصريحات الواضحة والقطعية للرئيس التركي بشأن تطورات الأحداث بالسودان والثوابت التي أقرها .لفت نظري التشكيل الكامل بما يمكن إعتباره (الكابنيت) القيادي للحكومة التركية إذ حضر مع الرئيس التركي هاكان فيدان وزير الخارجية ( المنتقل للوزارة من رئاسة جهاز المخابرات ورجل الشفرة عند اوردغان خاصة في الملفات الخارجية ) وشارك يشار غولار وزير الدفاع ( رئيس الأركان السابق) . وبينهما بروف خلوق جورقون رئيس الصناعات الدفاعية وحضر البارسلان بايركتار وزير الطاقة والموارد . ثم ابراهيم كالن مدير المخابرات (مستشار الرئيس ) وجاء فخرالدين ألتن مدير دائرة الاتصالات ثم عاكف شاتاي وزير الشباب و سفر توران كبير مستشاري الرئيس التركي (خلفيته صحفية وهو عراب التمدد التركي بالإعلام الناطق بالعربية)
2
وحسب ما تابعت وتقصيت بشأن برامج اللقاءات الأخرى للزعيم التركي فقد تميز اللقاء مع البرهان بالتمثيل التركي النوعي وبتشكيلة مسؤولين يتوزعون بين القبعات العسكرية و الاقتصادية ـ وهي مترابطة في النظام التركي ـ مع وجود رمزية التمثيل السياسي لحزب العدالة .وهذا جملة يعني أن اللقاء مع السودان شمل دائرة القرار الأول والفوري فضلا عن كافة المراجع في جلسة واحدة وهي إشارة مهمة للتوقف عندها لأن حتى بقية اللقاءات الأخرى مع الوفود اقتصرت على تمثيل وجهه دبلوماسية وحتى هذه تمت في لقاءات أخرى مع وفود أخرى بمستوى حضور الرئيس التركي في غياب وزير خارجيته . أو التقاء وزير الخارجية منفصلا مع بعض الرؤوساء .
3
تركيبة النظام التركي الصارمة والضابطة للمؤسسات لا يمكن أن تنتج مثل هذا اللقاء مع السودان بهذا التمثيل ثقيل الوزن
لتقديرات المجاملة في بلد يدير مصالحه وفق نهج الواقعية والحسابات الدقيقة الخالية من الكسور والبواقي وهو ما يعزز عندي أن تركيا حزمت أمرها تجاه السودان ضمن مشروع بالضرورة يتعلق بملف أفريقيا ككل والسودان كنقطة مهمة وهو ما يتكامل بالضرورة وتقديرات مماثلة من القيادة السودانية بشأن مصالح السودان على المديين القصير والطويل وأفضلية الخيارات المتاحة من فرص بناء التحالفات على قاعدة Win-win . خاصة أن السودان جملة كروت بحكم موارده ووضعه الجغرافي ووقوعه في نطاق إقليم ومنفتح مياه حيث تمتد تطلعات الأتراك لمشروع خاص لأفريقيا اتجهت له منذ العام 2005
4
قطعا ومؤكد أن جلوس اوردغان إلى البرهان بكامل كروته و(جواكره) وبحملة الأختام وأوراق الإستراتجيات وبجمع يضم أصحاب القرار السياسي والعسكري تم بناء على نقاشات عميقة ومرتبة و(بصبر) وعلى نسق إدارة البرهان لملفاته بالصمت وطولة البال وأهداف الدقيقة 90 . دبلوماسية الصمت ووضع السكون . فما حدث فيما أظن لم يكن لقاء صنعه برتكول لقاء على هامش محفل
محمد حامد جمعة نوار

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • انطلاق معسكر أبي بكر الصديق التثقيفي للطالبات الوافدات بالإسكندرية
  • حسن إسماعيل يكتب: (سلك) تأتاة الكلام وتأتأة الأفهام
  • البطولة الأخيرة في غزة وتهافت الكلام
  • الدخيل ينتقد التحكيم: الشباب دائمًا المتضرر.. فيديو
  • دبلوماسية الصمت
  • الأمير تركي الفيصل: هنيئًا لنا بقيادتنا التي فتحت لنا أبواب الرقي والازدهار.. فيديو
  • الأربعاء.. انطلاق معسكر أبي بكر الصديق التثقيفي للطالبات الوافدات بالإسكندرية
  • نيجيرفان بارزاني: تشرفت بلقاء صديقي ماكرون وعلاقتنا تشهد تطوراً
  • انطلاق معسكر أبي بكر الصديق التثقيفي للطالبات الوافدات الأربعاء المقبل
  • حرب الرسوم.. ما أكثر السلع الصينية التي يعتمد عليها الأميركيون؟