بعد شلل الزراعة والاستيراد.. كيف تهدد الحرب في غزة الأمن الغذائي لإسرائيل؟
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
آفي تشيفيفيان هو مزارع إسرائيلي، يعيش في إحدى قرى جنوب الأراضي المحتلة، خلال هذا الوقت من العام، عادة ما يكون آفي مستغرقا بالكامل في زراعة البطاطس في مزرعته الموجودة في منطقة قرب الحدود مع غزة تطلق عليها وزارة الزراعة الإسرائيلية اسم "حظيرة الخضراوات"، لأنها توفر ما لا يقل عن ثلث إمدادات دولة الاحتلال من الخضراوات.
ما يحدث مع تشيفيفيان هو مجرد نموذج لما يحدث مع أمثاله من مزارعي دولة الاحتلال الذين يمارسون مهنتهم في الأراضي الخصبة حول قطاع غزة. ففي أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، لم يعد بإمكان هؤلاء ممارسة الزراعة بسبب المخاوف من تكرار هجمات المقاومة، والأهم بسبب العملية العسكرية الإسرائيلية على القطاع (2). وقد تسببت الظروف ذاتها في فرار ما يصل إلى 7000 عامل أجنبي من أماكن عملهم شمال دولة الاحتلال، الذين يُشكِّلون الجزء الأكبر من القوى العاملة الزراعية الأجنبية في إسرائيل والمقدرة بنحو 30 ألف شخص قبل عملية "طوفان الأقصى" (3).
لا تقف الأمور عند هذا الحد، حيث تؤكد وزارة الزراعة أن المزارعين الإسرائيليين المتبقين للعمل في المزارع لم يعودوا متاحين أيضا، بعد أن قام جيش الاحتلال باستدعاء 360 ألف جندي احتياطي للخدمة العسكرية، ما تسبب في ترك العمال في القطاع الزراعي لأشغالهم، سواء كان هؤلاء الأشخاص يعملون في جني المحاصيل أو جمع الأخشاب أو قيادة الشاحنات، ما دفع دولة الاحتلال لاستقدام 5000 آلاف عامل أجنبي للعمل في الوظائف الزراعية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
تحدي الأمن الغذائي للاحتلال
في هذا السياق، أصبحت المناطق الزراعية الواقعة حول قطاع غزة وفي الشمال بالقرب من الحدود اللبنانية غارقة في أزمة عميقة. وبحسب وزارة الزراعة الإسرائيلية، كانت المزارع في الشمال، التي أُخليت نسبة كبيرة منها، تنتج 40% من الفاكهة شبه الاستوائية في إسرائيل، و70% من البيض. أما الآن فقد صارت هذه المناطق، وحتى في الجنوب قرب حدود لبنان، مناطق لاحتشاد الجيش، وصارت مكدسة بالخيام الخضراء والدبابات، ولم يعد هناك مكان للمزارعين.
في غضون ذلك، بدأت إسرائيل في استيراد المزيد من الخضراوات بمقدار يفوق بكثير ما اعتادت عليه سابقا. ورغم ذلك، فإن الأمن الغذائي الإسرائيلي لا يزال يواجه خطرا حقيقيا، ليس فقط بسبب التكلفة المرتفعة للاستيراد، لكن الأهم أن هذه العملية تواجه بدورها صعوبات أثناء الحرب. فمثلا، خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن خط شحن رئيسي من تايوان إلى إسرائيل حالة "القوة القاهرة"، إعلان هذه الحالة هو شرط تعاقدي يحرر الأطراف من المسؤولية والالتزام لتوصيل البضائع والسلع المتفق عليها في حالة وقوع أحداث غير عادية مثل الحروب والكوارث الطبيعية.
أوقف الخط أعماله أثناء محاولة إيصال إحدى سفنه إلى ميناء أشدود الإسرائيلي، مشيرا إلى استمرار "الوضع غير الآمن"، ما تسبب في تحويل مسار السفينة شمالا إلى ميناء حيفا في أقصى شمال إسرائيل، حيث كان يجب أن تقوم السفينة بتسليم حمولتها إلى المستلمين المقصودين (4).
يقع ميناء أشدود على بُعد نحو 40 كيلومترا جنوب تل أبيب، وهو يتعامل مع أكبر عدد من حاويات البضائع سنويا. تحيط بالميناء شركات الخدمات اللوجستية والمستودعات المتقدمة التي يوجد مثلها فقط في الموانئ الرائدة حول العالم. لكن الميناء يقع أيضا بالقرب من حدود غزة، على بُعد نحو 31 ميلا، ومع انتشار القنابل والصواريخ، قررت بعض شركات الشحن أنه لم يعد من الآمن الوصول إلى أشدود (5).
ولا يقف الأمر عند ميناء أشدود فقط، حيث تقوم أيضا خطوط الشحن الأخرى وشركات التأمين الخاصة بها بمراجعة مدى صواب وصول سفنها إلى الموانئ الإسرائيلية المختلفة في الوقت الحالي بسبب الصراع، وهي حالة تفاقمت مع تجنب الكثير من الشركات للإبحار عبر البحر الأحمر بسبب استهداف جماعة الحوثي اليمنية للسفن الإسرائيلية أو السفن المتجهة إلى إسرائيل، وهو ما يرفع مخاطر التأمين على الشحنات.
كانت هذه المخاطر مرتفعة بالفعل حتى قبل الحرب، ما يعني أن خطوط الشحن تحتاج إلى موافقة شركات التأمين الخاصة بها للتعامل مع الموانئ في إسرائيل ودفع علاوة مخاطر الحرب للقيام بذلك. الآن، وفي ظل الحرب على غزة، أصبح الوضع أكثر خطورة، وأصبحت رحلات السفن التجارية من وإلى الموانئ الإسرائيلية أكثر خطورة وأكثر تكلفة.
تضيف مشكلات الاستيراد المزيد من الصعوبات للوضع الغذائي الداخلي المتأزم بالفعل في دولة الاحتلال. فقد سبق أن أشارت وزارة الزراعة الأميركية، في تقرير صدر عام 2022، إلى أن إسرائيل تعتمد بشكل شبه حصري على الاستيراد لتوفير استهلاكها من السكر والزيوت النباتية والبذور الزيتية والأعلاف والحبوب والمواد الخام الأخرى لصناعة الأغذية، وتعتمد أيضا صناعة اللحوم على واردات اللحوم والحيوانات الحية (6).
في السياق ذاته، كانت ورقة بحثية نُشرت في شهر فبراير/شباط من العام الجاري، أي قبل أشهر من "طوفان الأقصى"، قد حذرت من المخاطر التي قد يتعرض لها الأمن الغذائي الإسرائيلي التي تنتج بشكل أساسي عن تغير المناخ والصراعات الدولية والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية. وأوضحت الورقة أن النمو السكاني في إسرائيل وتباطؤ معدل نمو إنتاجها الزراعي يؤدي بشكل أساسي إلى زيادة اعتماد البلاد على الواردات الغذائية، ومثل هذا الاعتماد يعرض إسرائيل لمخاطر عالمية كبيرة. نصح الباحثون أن هذا الأمر يتطلب بشكل خاص إنشاء هيئة حكومية للإشراف على صياغة إستراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي، وتقسيمها إلى أهداف وتدابير سياسية قابلة للتنفيذ، والإشراف على تنفيذها (7).
تستورد إسرائيل ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما تصدره من المنتجات الغذائية والزراعية، وتنتقل هذه البضائع عبر موانئ أشدود وحيفا. هذا المعدل يتطور بدرجة كبيرة ويزيد الاعتماد على الاستيراد، في ظل الشلل الذي أصاب القطاع الزراعي في إسرائيل وعدم قدرته على الاستمرار في تقديم ما كان يُقدِّمه سابقا. فوفقا لموقع وزارة الزراعة الإسرائيلي، ازداد دخول المنتجات الزراعية الطازجة من الفواكه والخضراوات إلى إسرائيل في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، وأضافت وزارة الزراعة أنها مستعدة لتقديم المساعدات لسلسلة التوريد قدر الإمكان، من أجل جعل الغذاء في متناول سكان دولة الاحتلال (8).
مخاطر اقتصادية
لا تقتصر المشكلات التي ألقتها الحرب فوق عاتق دولة الاحتلال على مشكلة الزراعة وأزمة الأمن الغذائي، حيث تلوح في الأفق بوادر أزمة اقتصادية أكبر مع استمرار أمد الحرب. دخلت إسرائيل الحرب باحتياطيات نقدية بقيمة 200 مليار دولار ومساعدات بقيمة 14 مليار دولار، معظمها للتمويل العسكري، من الولايات المتحدة. ومع ذلك، يقول الخبراء إن الصراع المستمر سيكلف الاقتصاد الإسرائيلي مليارات إضافية وسيستغرق وقتا أطول بكثير للتعافي ربما بشكل يفوق أي أزمة سابقة.
يقول ميشيل سترافشينسكي، الخبير الاقتصادي في الجامعة العبرية في القدس والمدير السابق لقسم الأبحاث في البنك المركزي الإسرائيلي، إن تكلفة مواجهتين عسكريتين سابقتين، وهما حرب لبنان في عام 2006، وحماس في عام 2014، وصلت ما يصل إلى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وأثَّرتا بشكل رئيسي على قطاع السياحة. لكن هذه المرة، تشير التقديرات إلى تأثير كبير يتراوح بين 3.5% إلى 15% على أساس سنوي في الربع الأخير من هذا العام، وهو ما يضع إسرائيل على مشارف أزمة اقتصادية ربما تكون أوسع من تقديراتها الحالية (9).
———————————————————————————-
المصادر:1- War plunged Israel’s agricultural heartlands into crisis
2- Israel’s Wartime Economy Can’t Hold Up Forever
3- The Government has now approved the entry of 5,000 foreign workers in agriculture under a new track
4- The War With Hamas Could Threaten Israel’s Imports
5- Port of Ashdod
6- Report Name:Israeli Food Supply Chain
7- Food Security in Israel: Challenges and Policies
8- Import data of fresh agricultural produce to Israel
9- Israel’s Wartime Economy Can’t Hold Up Forever
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الأمن الغذائی وزارة الزراعة دولة الاحتلال طوفان الأقصى فی إسرائیل لم یعد
إقرأ أيضاً:
بعد الحرب.. وزير الزراعة يكشف حجم الأضرار الزراعية
قام وزير الزراعة نزار هاني، يرافقه المدير العام للوزارة المهندس لويس لحود، على رأس وفد من مديري ورؤساء المصالح والدوائر والخبراء في الوزارة، بزيارة تفقدية إلى مدينة النبطية والمناطق المجاورة، في إطار جولاته الميدانية لمتابعة الأوضاع الزراعية.واطلع عن كثب على حجم الأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي، والتقى عدداً من المزارعين والتعاونيات الزراعية ورؤساء البلديات واتحادات البلديات.
استهل هاني جولته بزيارة المصلحة الإقليمية لوزارة الزراعة في النبطية، حيث التقى برئيس المصلحة ورؤساء الدوائر والأقسام والموظفين، وشارك في ندوة بعنوان "إعادة تأهيل القطاع الزراعي ودعم المزارع"، واستمع إلى أبرز التحديات التي تواجه المزارعين ومتطلباتهم.
بعد ذلك، توجه إلى السرايا الحكومية، والتقى محافظ النبطية الدكتورة هويدا الترك، قبل أن يستكمل جولته في عدد من البلدات، منها الخيام، ومرجعيون، والماري، وحاصبيا، حيث أجرى لقاءات مباشرة مع المزارعين والمتضررين، واطلع على تداعيات الاعتداءات التي طالت المنطقة، لا سيما الأراضي الزراعية.
وفي هذا السياق، أعلن هاني "إطلاق عملية مسح شاملة للأضرار الزراعية قريباً، وفق آلية أعدتها الوزارة، بالتنسيق مع المزارعين وفرق العمل المختصة، بهدف جمع البيانات وتوثيقها بدقة"، لافتا إلى أن "هذا المسح يأتي استنادا إلى دراسة تقنية موسعة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية، بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، وبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، وعدد من الشركاء الدوليين".
وأوضح هاني أن "الأضرار الزراعية تنقسم إلى قسمين رئيسيين:
1. الأضرار المباشرة التي لحقت بالبنية التحتية الزراعية، بما في ذلك تجريف الأراضي، وقطع الأشجار المثمرة، لا سيما الزيتون والحمضيات، وتدمير البيوت البلاستيكية.
2. الخسائر الموسمية التي تكبدها المزارعون خلال عامي 2023 و2024، حيث حالت الظروف دون تمكنهم من الوصول إلى أراضيهم، مما أدى إلى خسائر فادحة في المواسم الزراعية وحرمانهم من جني محاصيلهم".
وكشف هاني أن "حجم الأضرار الزراعية في المنطقة يناهز 900 مليون دولار"، مؤكدا أن "الوزارة تعمل، ضمن خطتها لإعادة الإعمار، على تأمين التمويل اللازم لتعويض المزارعين عن خسائرهم".
كما شدد على أن "الوزارة باشرت فعليا بتنفيذ إجراءات عملية لدعم القطاع الزراعي، عبر برامج الإرشاد الزراعي والمشاريع القائمة، بهدف إعادة تأهيل الأراضي المتضررة وإنقاذ الموسم الزراعي الحالي".
وأكد هاني "الأهمية الاستراتيجية للجنوب في تحقيق الأمن الغذائي الوطني"، مشيرا إلى أن "إنتاجه الزراعي لا يقتصر على تلبية حاجات السوق المحلية، بل يمتد إلى الأسواق الخارجية، مما يتطلب تكثيف الجهود لدعم المزارعين وتعزيز الإنتاج الزراعي، بما يضمن استدامة القطاع وازدهاره".
واعتبر أن "الجنوب ليس مجرد منطقة زراعية، بل هو العمود الفقري للإنتاج الزراعي في لبنان، إذ تشكل أراضيه الخصبة مصدر رزق لآلاف العائلات، ومحاصيله الزراعية عنصرًا أساسياً في تأمين الأمن الغذائي الوطني".
وختم: "الجنوب هو الأساس، الجنوب هو الأرض الطيبة، الجنوب هو الأرض المنتجة والمعطاءة لكل لبنان، منه تنبع خيرات الوطن التي تغذي الأسواق المحلية والعالمية، الأمر الذي يحتم علينا جميعا دعم المزارعين وتأمين استمرارية القطاع الزراعي، الذي يشكل ركيزة أساسية لاقتصادنا الوطني".