الموازنة بين اللفظ والمعنى في لغة العرب
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
وقفتُ أقلِّبُ المعاني، لعلَّها تثمرُ في بيانِي، فما رأيتُها إلا يتيمة ضائعة في أزقَّتة الخيال، دون أنْ تسلُك طريقها بدقَّةٍ واعتدال، فما أكثرها من حولنا، إلا أنَّها تحتاجُ لحليةٍ تُزِينُها، حتى تعْظُمَ في مظْهرِها، وتُبْهرُ في إصابةِ الوصفِ بكمالها، فإنَّ جوهرها ليس في ذاتِها فحسب، بل في دقَّةِ الألفاظ التي تصفها، فقد تجتمعُ في غير الشاعر والأديب، ولكن الفحل هو من يكسوها بزينة الألفاظ، فتخرج منه بكامل حلْيتها وبريق رونقها، وترى هذا واضحًا جليًا في إداراك أبي الطيب عندما وصف أبي العشائرَ بقوله «شاعِر المَجْدِ خِدنُه شاعِرُ اللفظِ.
فمن أراد ركوبَ المعاني فهي بحرٌ تتلاطمُ أمواجه مع الخيالِ والتصوير، ولا بدَّ له من مهارةٍ في التعاملِ مع تلك الأمواج، ليُخرِجَ الكنوزَ من أعماقها، فإنَّ اللَّفظَ والمعنى بمثابةِ جسدٍ وأعضاء لا ينفَصِلان إلا بهلاكِهما معًا، وإنَّ اجتماعِ الزوجينِ دونَ تفاضلٍ بينهما، يُثري البيان، فتستقيمُ في فهْمِهِ الأذْهان، فما كبُرَ معنٍى بغيرِ لفظٍ يشرحه بأصِلهِ ودقْتِه، وما عُرِف لفظ بغيرِ معنٍى يزيدُ في أصالتِهِ وروعَته، ومهما اختلف النقاد فيهما أيَّهما أوْلى بالتفضيلِ، فإنَّ الحقيقة واضحةٌ لا يغفلها إلا من جهِل العربية التي أثرت اللفظ وجعلته جُنديًا أصِيْلاً في حمايةِ المعنى، فلا تكتملُ سلطته إلا بدقةِ اختيار جيوشهِ لإدارةِ الصراع المعنوي في نفسه، فتخرج متراصةٌ منسجمةٌ متكاملةٌ في مظهرها كاشِفةٌ عن مكنونها، بلا تعقيدٍ في الصنعةِ، ولا هزالةٍ في المبنى.
ولها الفضلُ الكبير في نغْمةِ كلِّ حرفٍ بتفصيلٍ تعبيريٍّ ذاتِ دلالةٍ إيقاعية واضحة في نصوصنا القديمة، فالعربي، كما هو معروفٌ عنه، يعتمد على سمعهِ في الحكم على النصوص، فينسابُ مع انسيابِ الحرفِ الذي يستريحُ له، وينفرُ من آخرٍ لنبو جرسهِ ونشوزه، كما أنَّه يفصِّلُ كلَّ لفظٍ بمعنى آخر، فكلمتا (سَعد) و(صعَد) كِلاهُمَا يعبِّران عن الارْتِقاء، إلا أنَّ (سعد) تعني الارتِقاء غير المَحسوس، أمَّا (صعَد) فهي للارتقاء الحسي الذي يتمثل به صاحبه، وهذا لأنَّ الصاد أقوى في الوقعِ من السين لضعف جرسها، ومثل (خَضَم) و(قَضَم) فإنَّ الأولى لكلِ شيء لين يسير في الأكل كالرطبِ، والقضم في أكل كلِّ خشنٍ يابس مثل الشعير، وذلك لرخاوة الخاء وصلابة القاف، أو مثل (نَضَحَ) للماء الضَعيف، و(نَضَخَ) للماءِ الغزير مثل قوله جلَّ وعلا: «فِيْهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ»، فلو قال نضَّاحتان لما بلغ المعنى غايته وإن اطنب في شرح وفرتها، وذلك لرقَّةِ الحاء وغلظةِ الخاء.
وقد عقد ابن جني بابًا في خصائصه أسماه «بابٌ في قوةِ اللفظِ لقوةِ المعنى»، وأتى بأمثلةٍ تشفي غليل الباحث في قوةِ اللفظ الذي تتكرر حروفه لزيادةٍ في قوةِ المعنى المراد تفخيمهُ، مثل (خَشِنَ) و(اخشَوْشَنَ) و(أعَشَب) و(أعشوشب) وغيرها، فإن في تكرارالحرف وإضافةِ الواو تكثيثٌ للمعنى يجعل الكاتب يستغني بها عن جملٍ بأكملها بزيادة حرفين فقط.
فلأبي الفتح الفضلُ الكبير والعلم الغزير في عظمةِ خصائصهِ التي درست الدلالة الصوتية من جهرٍ وهمسِ ورخاوةٍ وشدة وانطباق وانفتاح واستعلاء وانخفاض وتصفير واستطالة وتفشي ومد ولين وانحراف وتكرير، ولو أردنا مناقشة أبوابه الممتعةِ لطالَ بنا المقام، ولم ينتهِ في تفسير إبداعه قول وبيان، وذلك لجهدهِ الذي لم يسبقه إليه سابق، ولم يخطرْ فيما أورده حاذِق، حتى قال معتقدًا فيه إنَّه أشْرفُ ما صنّف في علمِ العرب، وأذهبه في طريقِ القياسِ والنظر، وأعوده عليه بالحيطةِ والصَون.
وما زال الصراعُ النقدي الأشهر بين النقاد قائمًا يحتاجُ الى إنصافٍ حقيقيٍّ للنصوص الإبداعية، فلا معنى بلا لفظٍ يليقُ به، ولا لفظًا بلا معنى شريفٍ يشرحه، فكلاهما جناحان لكيانٍ واحدٍ، ومن استغنى عن واحدٍ منهما سقط في العيّ والابتذال وآل جهده إلى زوال، فهما البناءِ الذي يشيَّدُ بعضه في الإنتاج الإبداعي، فاللفظ يعني أعضاء الجسد المتمثلةِ في المعنى الشريفِ الصحيح الواضح في السبك، الكامل في التصوير.
وهذا ما أبدع في تفصيلهِ ابن قتيبة في كتابهِ الأشهر «الشعر والشعراء» بتقسيم الشعر إلى أربعة أقسامٍ منطقيةٍ تتمثل في ما حسن لفظه وجاد معناه، وما حسُنَ لفظه وحلا ولا فائدة في معناه، وماجاد معناه وقصُرت ألفاظه، وما تاخَّر معناه وتأخَّرلفظه، فمن البديهي لكلِ عاقلٍ منصفٍ حصيفٍ أن يختار المعنى واللفظ، وإنَّ التفاضل بينهما عند العلماء لا يعني إغفال واحد دون الآخر، بل هي اجتهادات، على من ركب العمل الأدبي أن يتخذها مرجعًا له ويوافق المدارس في عقله وروحِه، فيحلق بجناحيهما دون ميلٍ وتحزبٍ، حتى لا يتعثر في أرضِه، ويتهاوى في الضياع هدفه، وبالابتذال أدبه.
وبهذا نستطيع فهم كلمة الجاحظ الذي انتقد فيها أبو عمر الشيباني لاستحْسانِه أبياتًا لمحمود الوراق قال فيها: «لا تَحسبنَّ الموتَ موتُ البلى... فإنما الموتُ سؤالُ الرجال / كِلاهُما موتٌ ولكنَّ ذا... أَشَدُّ مِن ذاكَ لِذُلِّ السُؤال»، معلقًا بقوله الشهير «إنَّ المعاني مَطروحةٌ في الطَّريقِ يَعرِفُها العَجَميُّ والعَرَبيُّ والبَدَويُّ والقُرَويُّ والمَدَنيُّ، وإنَّما الشَّأنُ في إقامةِ الوَزنِ وتخيُّرِ اللَّفْظِ، وسُهولةِ المَخْرَجِ وكَثرةِ الماءِ، وفي صِحَّةِ الطَّبعِ وجَودةِ السَّبْكِ؛ فإنَّما الشِّعْرُ صِناعةٌ وضَرْبٌ مِنَ النَّسْجِ، وجِنسٌ مِنَ التَّصوير».
وهذا ما جعلَ الأساطين من بعدهِ يأخذون من معينهِ ويتابعون بحثهِ، مثل ابن قتيبة وابن المعتز والمبرد وابن عبد ربه وقدامة بن جعفر والرماني وابي هلال العسكري وابن رشيق القيرواني، وحتى صاحب دلائل الإعجاز عبد القاهر الجرجاني، الذي قدَّمَ المعنى على اللفظ، وجعله مجرد أداة لركوبِ المعنى ولاقيمةً له بمعزلٍ عنه، معللاً أنَّ اللفظ يكون في غايةِ الفصاحةِ في موضعٍ، ويكون فقيرًا دون إضافة للمعنى في موضع آخر، وأنَّ ليس الغرضَ بنظمِ الكلم أنَّ توالت ألفاظها في النطق، بل أنْ تناسقت دلالتُها، وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.
ورغم ميلهِ للمعاني التي جعلها القيمةُ البلاغيةِ لكلِّ أديب في نظمِ أفكاره، وتعاقب جمال مقاصده، إلا أنَّه لا يستطيع أن ينكر خدمةِ الألفاظ للمعاني، ولا قيمتها في تحديد الأفكار بدقة ترفعها، وصور في العقول تُزِيْنها، وهذا واضحٌ جلي في منهجهِ بقوله: «إن العِلم بمواقعِ المعاني في النفس، علمٌ بمواقعِ الألفاظ الدَّالة عليْها في النطق».
وهذا ما نراه في قوله سبحانه وتعالى: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»، وذلك لأنَّ اللفظ ما خرج من فمِ الإنسان إلا بعد تدوير المعاني في مخيلتهِ واستحضار الألفاظ على شفته، فما أن يتلفظها إلا وتلقفتها الكتبة منه لتنقل في كتابه الذي يظهر به يوم القيامة.
ذلكَ لأنَّ بلوغِ الغايةِ لا تكون إلا ببلاغةِ اللَّفظِ الَّذي تَحْيَا بدلالةِ تعابيره الصوتيةِ المعاني، فمن عرف البلاغة فهم أنَّها الغاية التي تنفذ إلى قلبِ متلقيها، فيفهمها دون تكلِّفٍ في تحليلها، ومناقشة تأويلها، فكم من معنٍى واحدٍ تأوَّله متَلقيْه فنَشَزَ عنه، وتقبل آخرٍ مثله للفظٍ فيه ارتضاه لنفسِه، مثل القصة المروية عن أحد الملوك حين دعا المفسرين لتأويل حلمٍ أزعجهُ، فلما أتا الأول قال له ستشهد موت أهلك جميعهم، فغضِب عليه وقتله، ولما أتا الثاني قال له إنِّي أراك ترى موت أهلك تِباعًا أمام عينك فما سلمَ من غَضَبِهِ وقَطَع رأسَه، فدعا بالثالث وقد علِمَ ما حصل مع أسلافِه، فجمع الفاظه وقال له، يا أيَّها الملك الجليل أنيّ أراكَ أعزُّ أهلِ الأرضِ ملْكًا واطول أهل بيتِك عمرا، فأستحسن قوله وأعزَّ جانبه وكرمَ مقامه ورفعه إليه، فإنك ترى أنهم اجتمعوا في المعنى فقُتِل من تعثَّر في لفظهُ، وعاش بعز من حسنت في الحديث الفاظه.
المصدر: صحيفة الأيام البحرينية
كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا
إقرأ أيضاً:
عناصر من اليونيفيل وانتشار كثيف للجيش... ما الذي تشهده بعلبك؟
أفادت مندوبة "لبنان 24" أنّ وفداً من قوات "اليونيفيل" يضمّ 8 سيارات جال داخل مدينة بعلبك. وأشارت إلى أنّ آليات للصليب الأحمر رافقت وفد "اليونيفيل"، وسط انتشار كثيف للجيش.