اختراقات رافقتها انتقادات.. أسباب تقدم الدعم السريع في معارك السودان
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
بعد سيطرتها على أجزاء كبيرة من ولاية الجزيرة، وعاصمتها ود مدني بوسط السودان، تواصل قوات الدعم السريع التقدم نحو الجنوب، فاتحة جبهات جديدة في الحرب الدموية المندلعة منذ منذ أبريل الماضي.
ونجحت القوات التي يقودها الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي" في كسب معارك ضد قوات الجيش النظامية، محرزة تقدما ميدانيا كبيرا؛ فبعد سيطرتها على مناطق واسعة بالعاصمة الخرطوم، وتعزيز حضورها بولاية دارفور والمناطق المجاورة لها، حققت الاختراق الأكبر بسيطرتها على ولاية الجزيرة.
وتتباين قراءات محللين بشأن خلفيات وأسباب النجاحات الميدانية والسريعة لقوات الدعم السريع، بين من يتحدث عن أن تفوقها العسكري واضح ومسنود بدعم مالي ولوجيستي خارجي قوي، ومن يرى أن حالة الضعف والانقسامات التي تسود معسكر الجيش وراء مكاسبها الأخيرة، فيما تذهب تقديرات أخرى نحو التقليل من "أهمية المكاسب المحققة" مع الإشارة إلى "الانتهاكات" التي رافقت توسعها في عدد من مناطق البلاد.
أوجه القوة والقصوريربط المحلل السياسي السوداني، عاطف علي صالح، "الخسارات المتتالية" التي مني بها الجيش السوداني، بما يعتبره "ضعف خبراته القتالية"، مشيرا إلى أنه "لم يخض أي حروب خارجية، وحتى المعارك الداخلية التي شارك فيها، جند فيها قوى أخرى بديلة تخوضها عنه، وهذا ما حدث حتى في دارفور مع قوات الجنجويد التي تطورت لاحقا إلى الدعم السريع".
ويتفق الكاتب الصحفي والمحلل السوداني، أشرف عبد العزيز، مع هذا الطرح، لافتا إلى أن "عناصر الدعم السريع كانوا على مدى سنوات القوة المقاتلة بالجيش السوداني"، مشيرا أيضا إلى قتالها بدارفور "الذي أكسبها خبرة ميدانية كبيرة".
ويتحدث عبد العزيز، أيضا عن عنصري "الرغبة والطموح" لمواصلة القتال وكسب الحرب اللذين يحضران بـ"شكل أقوى" لدى هذه القوات وقادتها، والذي "يغيب" في صفوف الجيش الذي يشهد "تباينا في المواقف بين قياداته التي أظهرت منذ البداية عدم اقتناعها بخوض الحرب".
ويشير علي صالح في حديثه لموقع "الحرة"، إلى أن "التفوق" الذي تحققه قوات الدعم السريع يعود إلى انضمام عدد من قيادات الصف الأول وعناصر بالاستخبارات والوحدات الأمنية بالجيش إلى القوات"، بالتالي يقول إن الجيش كان منذ البداية "مخترقا".
السودان يشهد منذ أبريل الماضي نزاعا على السلطة أسفرت عن سقوط 12 الف قتيلوفي سياق متصل، يشير المحلل السوداني المقيم بباريس، إلى الدعم المالي والعسكري الذي تتفوق فيه قوات الدعم السريع، موضحا "راتب الجندي فيها يعادل ثلاث أضعاف نظيره لدى الجيش".
ويؤكد أن دعم قوى إقليمية ودولية، يساعدها في تحقيق "اختراقات ميدانية مهمة"، وساهم في تحول قوات الدعم السريع، من ميليشيا تضم نحو 10 آلاف مقاتل إلى جيش قائم بذاته يضم مئات الآلاف من العناصر التي تنتشر "من أقصى منطقة في غرب دارفور على الحدود مع تشاد إلى وسط السودان بأقاليم الجزيرة.
وعلى الجهة المقابلة، يقول عبد العزيز، إن الجيش يواجه "إشكالات كبيرة" على مستوى الإمدادات العسكرية، من خلال نقص الأسلحة والذخيرة، لافتا إلى التقارير التي تحدثت عن عجز كتيبة تقاتل مع الجيش في التصدي لهجوم الدعم السريع على واد مدني، "بسبب نقص الذخيرة".
ويوضح أن، هذا الوضع تكرر في "السقوط الدراماتيكي" لعدد من الحاميات العسكرية التابعة للجيش في أيدي قوات الدعم، خلال الأسابيع الأخيرة، كما هو الحال مناطق بالولاية ذاتها، وبديالى أو مناطق بقرب قرطفان وغيرها من المناطقة الأخرى.
وعلاقة بموضوع الدعم الأجنبي لقوات الدعم السريع، كشف تقرير لوكالة فرانس برس، عن استعمال "قوات حميدتي" لتكنولوجيا متقدمة خلال قتالها بالسودان، لافتا إلى حصولها على صور من الأقمار الصناعية التي تحصل عليها من خلال علاقتها بمجموعة فاغنر، التي اشترت قمرين صناعيين للمراقبة عالية الدقة من شركة تشانغ غوانغ الصينية المتخصصة في تكنلوجيا الأقمار الصناعية ( Chang Guang Satellite Technology .
وفي نوفمبر من العام الماضي، نقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، أن الدعم السريع حصلت على تقنيات تجسس إسرائيلية الصنع، كما انتشرت صور حديثة تظهر فيها صواريخ المدفعية "LAR-160" الذكية إسرائيلية الصنع، مستخدمة من طرف قوات الدعم السريع.
وتناول تقرير سابق، نشرته صحيفة "التايمز" البريطانية، تفاصيل عن كيفية حصول حميدتي على صواريخ أرض-جو من قواعد عسكرية في جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة في أبريل ومايو الماضيين، وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن فاغنر وفرت تلك الصواريخ، وقال مسؤولان سودانيان، إن هذه الصواريخ استخدمت لإسقاط عدة طائرات مقاتلة تابعة للجيش.
وتحصل القوات أيضا، على دعم لوجستي عبر الحدود مع تشاد المجاورة، إذ كشف تقرير لنيويورك تايمز، أن الجيش التشادي يسهل تدفق المقاتلين والسلاح النوعي نحو السودان.
واتهم التقرير الإمارات بالتورط في حرب السودان من خلال إمداد الدعم السريع بأسلحة وطائرات بدون طيار تدخل إلى مناطق سيطرتها عبر حدود السودان مع تشاد، فضلا عن تكفلها بمعالجة جرحى قوات الدعم السريع، ونقلها الحالات الأكثر خطورة جوا إلى إحدى مستشفياتها العسكرية.
وذكر تحقيق نشرته "نيويورك تايمز"، في سبتمبر، أن الإمارات زودت قوات الدعم السريع بأسلحة "قوية" ومسيرات لدعم قتالها ضد الجيش السوداني، وهي المزاعم التي نفتها أبوظبي في أغسطس الماضي.
وقالت أبو ظبي إنها "لم تدعم أي من طرفي الصراع في السودان بالسلاح والذخيرة"، وفق بيان لوزارة الخارجية والتعاون أكدت فيه أنها "لا تنحاز إلى أي طرف في الصراع الحالي، وتسعى إلى إنهائه".
View this post on InstagramA post shared by قناة الحرة | Alhurra (@alhurranews)
"أساليب الترويع والتهديد"وتقاسم الجيش وقوات الدعم السريع السلطة بعد الإطاحة بالرئيس السابق، عمر البشير خلال انتفاضة شعبية في عام 2019. وقبل قتالهما نفذا معا انقلابا في عام 2021 أنهى جهودا من أجل دفع السودان نحو الديمقراطية.
وحققت قوات الدعم السريع تقدما في الأسابيع القليلة الماضية، إذ عززت قبضتها على إقليم دارفور الشاسع وسيطرت على أراض جديدة تمتد شرقا نحو العاصمة الخرطوم، قبل أن تسيطر على ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني.
المساليت والقبائل العربية.. صراع التاريخ والجغرافيا في غرب دارفور مع أن ولاية غرب دارفور السودانية، تعد ضمن أقل ولايات الإقليم تأثرا بالحرب الطاحنة، التي اندلعت في عام 2003 وخلّفت أكثر من ثلاثمئة ألف قتيل، بحسب الأمم المتحدة، إلا إنها تبدو الآن أكثر ولايات السودان تضرراً من الحرب المستعرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ منتصف أبريل الماضي.في المقابل، يتحصن أعضاء الحكومة وقادة الجيش في مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر بشرق البلاد، والتي بقيت في منأى عن المعارك.
وتبعد ود مدني نحو 170 كيلومترا جنوب شرقي الخرطوم وهي مركز مساعدات وملجأ للنازحين داخليا. كما أنها عاصمة ولاية الجزيرة، وهي منطقة زراعية مهمة في بلد يواجه تفاقم الجوع، وفقا لرويترز.
الخبير في الشؤون الأمنية والعسكرية بالسودان، خالد عبيد الله، يرفض القول بتفوق قوات الدعم السريع، معتبرا أنها "هزمت نفسها بتمردها على قيادة القوات المسلحة السودانية منذ 15 أبريل وفشلها في المعارك العسكرية داخل الخرطوم"، مؤكدا أن حميدتي لم يحقق "أيا من أهدافه التي أعلنها في بداية الحرب".
وبشأن السيطرة على ولاية الجزيرة، يؤكد العقيد العسكري المتقاعد، أنها "تعكس انحراف بوصلة قوات الدعم السريع عن الأهداف العسكرية"، حيث قلل من أهمية المنطقة عسكريا، قائلا إنها "كسبت معركة بسيطة وليس الحرب".
وفي رده على سؤال بشأن حقيقة تراجع المكاسب العسكرية التي يحققها الجيش مقابل توجه الدعم السريع لبسط سيطرتها على البلاد، يرى عبيد الله، أن "العقيدة القتالية للجيش السوداني دفاعية وغير معتدية"، مشيرا إلى ما اعتبره "الالتزام الأخلاقي" للجيش نحو شعبه والقوانين الإنسانية، عكس "قوات الدعم السريع التي ترتكب جرائم وانتهاكات".
الحرب أدت إلى نزوح وتشريد مئات آلاف السودانيينفي المقابل، يرى الكاتب والباحث السياسي، محيي الدين محمد، أن نجاح قوات الدعم السريع في الدخول إلى ولاية الجزيرة، يمثل "تطورا مهما"، سواء على الناحية الاقتصادية والعسكرية، "إذ سيكون للمنطقة تأثير كبير على مسار النزاع".
غير أن محيي الدين، يلفت في تصريح لموقع الحرة، إلى أن التطورات الأخيرة دفعت إلى "تصاعد دعوات تسليح المدنيين في عدد من الولايات المجاورة لمواجهة تقدم هذه الميليشيات لحماية قراهم".
ويكرر المحلل السياسي من جهته، اتهامات ارتكاب جرائم وانتهاكات من طرف الدعم السريع، قائلا إن"تكتيك الجيش يختلف عن الميليشيات، حيث ينفذ عملياته العسكرية بطريقة احترافية، عكس الانتهاكات والأعمال البربرية التي ترتكبها الدعم السريع تجاه المواطنين"، معتبرا أن نجاحها الميداني يرتبط بـ "أساليب الترويع والتخويف" التي تمارسها ضد السكان.
بينهم "الضبع".. شهود: قادة عسكريون يشنون "حملة تطهير" في السودان السودانورافق سيطرة قوات الدعم السريع على ود مدني، حالات نزوح جماعية من المدينة التي كانت تعد ملاذا آمنا لآلاف النازحين، وسط اتهامات بارتكاب قوات الدعم بـ"أعمال سرقة ونهب واغتصاب وقتل بدوافع عرقية".
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن المعارك الأخيرة وسط البلاد أرغمت 300 ألف شخص على الفرار و"هذه العمليات الجديدة ترفع عدد النازحين إلى 7.1 مليونا"، بينهم 1.5 مليون لجأوا إلى البلدان المجاورة.
وكانت المنظمة الدولية للهجرة حذرت، من أن ما يشهده السودان "مأساة إنسانية ذات أبعاد هائلة، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الرهيبة في الأساس".
وأسفرت الحرب في السودان عن سقوط أكثر من 12 الف قتيل حتى مطلع ديسمبر، وفقا لحصيلة بالغة التحفظ لمنظمة أكلد المتخصصة في احصاء ضحايا النزاعات.
وقالت الأمم المتحدة، إن النظام الصحي في السودان على حافة الانهيار مع خروج 70 بالمئة، من المستشفيات عن الخدمة في مناطق القتال و"اكتظاظ المراكز الصحية في المناطق التي لم يمتد اليها القتال بالنازحين".
وفي بيان أعقب هذه الاتهامات، قالت الدعم السريع، إنها "تشدد على عدم التهاون مع أي انتهاكات أو تفلتات ضد المدنيين الأبرياء وتوفير الحماية لهم بالتنسيق مع اللجان المجتمعية في مناطق سيطرتها"، مؤكدة أنها "رصدت قوة مسلحة تعمل على نهب وإرهاب المواطنين وسرقة ممتلكاتهم جار تتبعها والتعامل معها".
وقالت القوات في بيان، نقلته مراسلة قناة الحرة، "إن قواتها تنشط في مواجهة حقيقية مع العدو والمتفلتين في آن واحد وستقوم بواجبها كاملاً في حماية المدنيين داخل مناطق سيطرتها وتوفير الخدمات الضرورية لهم وإعادة تشغيل المؤسسات الخدمية، لا سيما محطات المياه والكهرباء والمستشفيات وشبكات الاتصال".
وبينما يتبادل الجيش وقوات الدعم السريع الاتهامات بالمسؤولية عن الانتهاكات ارتكبت خلال الحرب. قالت الولايات المتحدة، في وقت سابق، إنها توصلت رسميا إلى أن طرفي الصراع ارتكبا معا جرائم حرب.
دعوات لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان ضد النساء والفتيات في السودان"الحرب لن تحسم بالسلاح"وتعثرت مرارا محادثات غير مباشرة بين الجيش وقوات الدعم السريع بوساطة من السعودية والولايات المتحدة، في ظل مواصلة الجانبين حملاتهما العسكرية.
ورعت الولايات المتحدة والسعودية جولة محادثات في مدينة جدة في أواخر أكتوبر كانت الثانية بين طرفي النزاع بهدف وقف إطلاق النار، لكن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، فيما لم تسفر محاولات الوساطة السابقة إلا عن هدن قصيرة، سرعان ما انتُهكت.
من جهتها، تضاعف الهيئة الحكومة للتنمية في شرق إفريقيا (إيغاد)، جهودها أيضا لحمل دقلو وقائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان على التفاوض المباشر.
في هذا الجانب، يقول المحلل السياسي، عثمان مرغني، إنه لا توجد فرصة للطرفين للتفوق في الحرب وتحقيق انتصار كاسح، سوى عن طريق بالتفاوض للتوصل لاتفاق سلام، يحقن دماء السودانيين ويسمح للبلاد بعودة السلم والأمن إلى البلاد.
وأوضحت أن الصراع الدائر على السلطة في السودان سيظل يلقي بظلاله على تعميق عدم الاستقرار الاجتماعي والضغوط الاقتصادية، في عام 2024، وذلك في مرحلة ما بعد انتشار الأوبئة والمجاعات التي ستؤدي حتما إلى زيادة موجات الهجرة من السودان إلى مختلف أنحاء العالم.
ويوضح مرغيني في تصريح لموقع "الحرة"، أن اختلاف استراتيجيات الطرفين يعقّد من إمكانية حلحلة النزاع بالسلاح والحرب، موضحا أن "الجيش السوداني قوات نظامية تمارس الحرب عبر خطط واستراتيجيات الحرب التقليدية".
وفي المقابل، يقول إن، قوات الدعم السريع التي صممت أساسا كقوة مساندة للجيش عبارة عن "قوات مهام سريعة تكلف بإنجاز مهام وإدارة معارك في مناطق محددة"، بالتالي هناك اختلاف جوهري في طبيعة عملهما العسكري والحربي، وبالتالي في استراتيجياتهما الحربية.
وعمليا، يقول المحلل السوداني، إن الدعم السريع ينتشر بشكل واسع داخل عدة ولايات، من بينها ولاية الخرطوم والجزيرة ودارفور، ويحتل جغرافيا مساحات أكبر من التي يحتلها الجيش، ويحاول مهاجمة مناطق جديدة، ما يمثل بالنسبة له مكاسب حرب.
غير أنه، يؤكد أن الجيش في الجهة المقابلة، مقتنع بأن "مكاسبه" تتمثل في "استنزاف قوات الدعم السريع الحربية واللوجيستية، ما يترك الجانبين في حلقة مفرغة.
وحذرت صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير لها، من أن أزمة السودان من المتوقع أن تستمر في عام 2024. وتوقعت أن الحرب المدمرة، التي اتسمت بعدد لا يحصى من الفظائع وتقارير عن جرائم حرب، قد تؤدي إلى انهيار الدولة الهشة بالفعل كما ستفاقم الأزمات الإنسانية المتصاعدة.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الجیش وقوات الدعم السریع قوات الدعم السریع الجیش السودانی ولایة الجزیرة سیطرتها على فی السودان ود مدنی فی عام إلى أن عدد من
إقرأ أيضاً:
لماذا توقفت أميركا عن تأييد الدعم السريع؟
في أواخر يوليو/تموز 2024 أبلغ المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيريلو، الحكومة السودانية أنه سيزور السودان في الثامن من شهر أغسطس/آب من نفس العام برفقة مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية السفيرة سامانثا باور، وذلك للتباحث حول سبل إنجاح المبادرة الأميركية الخاصة بإنهاء الحرب في السودان عبر مفاوضات (جنيف) التي حُدد لها يوم الرابع عشر من نفس الشهر.
لكن بيريلو وضع شرطًا غريبًا لإتمام زيارته، وهو أن تتم المباحثات مع الجانب السوداني في مطار بورتسودان، وتحت حراسة مشددة من قبل فريق حراسة أميركي خاص، مبررًا ذلك بعدم استتباب الأوضاع الأمنية بالبلاد، الأمر الذي رفضته حكومة السودان، مما أدى إلى إلغاء الزيارة.
لكن، وبعد مرور قرابة أربعة أشهر على إلغاء تلك الزيارة، عاد المبعوث الأميركي وطلب زيارة السودان، ووافقت الحكومة السودانية على طلبه غير المشروط هذه المرّة، مما يُعتبر إقرارًا ضمنيًا – بمفهوم المخالفة – بشرعية الحكومة، وبأن الوضع الأمني مستتب وليس هناك ما يدعو للخوف والقلق.
وتمت الزيارة يوم الاثنين الماضي، حيث قابل بيريلو رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان بمكتبه بالعاصمة المؤقتة بورتسودان، كما قابل أيضًا نائب رئيس مجلس السيادة الفريق مالك عقار، وأجرى مباحثات مع وزير الخارجية السوداني علي يوسف، وقابل السلطان بحر الدين سلطان (دار مساليت)، وهي إحدى إثنيات إقليم دارفور ذات الأصول الأفريقية وحاضرتهم مدينة (الجنينة) التي تقع في أقصى غرب إقليم دارفور ومتاخمة لحدود السودان مع دولة تشاد.
وقد تعرضت هذه الإثنية لعمليات إبادة جماعية على أساس عرقي وعمليات تهجير واغتصاب للنساء، ودفن المئات منهم وهم أحياء على أيدي قوات الدعم السريع التي تحتل المدينة منذ قيام الحرب وحتى الآن، وهي مقابلة لم تتجاوز المواساة وإظهار الأسى والأسف بعد فوات الأوان.
وبحسب السفير محمد عبدالله إدريس، سفير السودان لدى واشنطن، فإن مباحثات المبعوث الأميركي للسودان "تطرقت إلى خارطة طريق لإنهاء الحرب، وكيفية إيصال المساعدات الإنسانية، ورتق النسيج الاجتماعي، فضلًا عن العملية السياسية كمخرج نهائي لما بعد الحرب".
ويصف الكثير من المراقبين للشأن السوداني زيارة بيريلو الأخيرة هذه بأنها زيارة "علاقات عامة"، تأتي في سياق المراجعة الأخيرة للملفات في أضابير مكتب الرئيس بايدن قبل رحيله عن المكتب البيضاوي بلا رجعة.
أرادت إدارة بايدن والحزب الديمقراطي أن تترك أثرًا يُحسب لها في ملف السودان الذي لم تتعاطَ معه بجدية، وسايرت فيه قوى إقليمية صغيرة حديثة الولادة كانت هي السبب في تأجيج الأزمة بالدعم المالي واللوجيستي والعسكري والدعائي لقوات الدعم السريع، ولم تتعاطَ مع الملف بصفتها قوة عظمى ينبغي أن تنظر لساحة السياسة الدولية بمنظار كلي يجعل من حفظ الأمن والسلم الدوليين قيمة عليا وغاية سامية تسعى إلى تحقيقها انطلاقًا من كونها تمتلك كل الموارد والإمكانات اللازمة والضرورية لتحقيقها.
كان في مقدور إدارة بايدن إدارة ملف الأزمة في السودان بصورة أكثر نجاعة وأكثر احترافية بما يفضي إلى حل مُرضٍ يكون أنموذجًا يُحتذى إقليميًا على الأقل. لكنها آثرت أن تحرز هدفًا في مرماها في اللحظة الأخيرة، من حيث أرادت تشتيت الكرة بعيدًا عنه. فقد صرّح بيريلو في لقائه بوزير الخارجية السوداني بأنه لا يرى مستقبلًا سياسيًا أو عسكريًا للدعم السريع في السودان.
فهل اكتشفت إدارة بايدن فجأة وهي تلملم أوراقها ومتعلقاتها لمغادرة البيت الأبيض، وبعد مرور 19 شهرًا من الحرب في السودان وما صاحبها من فظائع وانتهاكات جسيمة ومجازر مروعة ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق المدنيين، أن هذه المجموعة المسلحة لا تصلح لأي دور سياسي أو عسكري في مستقبل السودان؟!
ألم تكن إدارة بايدن بما أوتيت من قوة ومن مؤسسات استشارية وأدوات استشعار مبكر وما تملكه من وسائل صنع القرار ومستودعات الفكر التي ترفدها بالمعلومات الموثقة، أن تصل إلى حقيقة ألّا مستقبل للدعم السريع في السودان فلا ترمي بثقلها خلف "الاتفاق الإطاري" الذي كان السبب الأساسي في إشعال نار الحرب؟!
ألم تكن إدارة بايدن عشية 15 أبريل/ نيسان 2023 تدرك أن العواقب ستكون وخيمة، وهي تبارك خطة الدعم السريع وجناحها السياسي (قوى الحرية والتغيير) للاستيلاء على السلطة بالقوة صبيحة اليوم التالي؟!
هل من أحد يمكن أن يصدق أن الدولة العظمى (الوحيدة) كانت ترى الأمور من نفس الزاوية الضيقة التي كانت تنظر منها قوات الدعم السريع وجناحها السياسي المهيض "قحت/تقدم"، على أن الأمر مجرد نزهة، وأن العملية لن تستغرق سوى ساعة من نهار؟! أم أنها كانت تدرك فداحة العواقب، وأنها مغامرة غير محسوبة، لكنها أرادت ذلك رعايةً لمصالح بعض صغار أصدقائها الإقليميين فأعطت الضوء الأخضر لإنفاذها ترضية لهم؟
لا أحد يستطيع الجزم بحقيقة المرامي والأهداف التي جعلت إدارة بايدن تنساق خلف أحلام وأوهام مجموعة مسلحة همجية، وأحلام أغرار دخلوا مضمار السياسة بلا دراية ولا خبرة ولا رؤية، يظنون أن الديمقراطية يمكن أن تُجلب عبر صناديق الذخيرة، لا عن طريق صناديق الاقتراع.
تقف خلفهم قوى تعاني متلازمة تضخم الذات ومصابة بجنون العظمة، وتؤمن بأن المال يمكن أن يحول المستحيل إلى واقع، والحلم إلى حقيقة، وأن البندقية هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على المصالح، وأن علاقات التعاون وحسن الجوار واحترام سيادة الدول ما هي إلا أساطير الأولين اكتتبتها الأمم المتحدة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
أضاعت إدارة بايدن فرصة ظلت سانحة ومتاحة لها طيلة أشهر الحرب في السودان بأن تقود عربة الأزمة للخروج بها بسلام إلى بر الأمان بلا كلفة كبيرة، ومن ثم تكتب في لوحها هذا الإنجاز أنها حقنت الدماء وجنبت السودانيين تلك المجازر المروعة والتشريد والتهجير والنزوح واللجوء، وفوق ذلك السخط عليها وتحميلها جزءًا كبيرًا من المسؤولية جنبًا إلى جنب مع مليشيا الدعم السريع.
لكنها اختارت أن تكون (مجرورة) بعربة المليشيا وجناحها السياسي، فكان حصادها الفشل. إنها العربة التي قادت الأحصنة!
ورغم أنه من المبكر الآن تحديد الاتجاه الذي سيسلكه الرئيس المنتخب دونالد ترامب بشأن الملف السوداني بعد تنصيبه رسميًا رئيسًا للولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني من العام القادم، فإنه يمكن القول إجمالًا إنه لن يسير على ذات الطريق الخطأ الذي سلكه سلفه، وأفضى به إلى الفشل.
والراجح أن إدارة ترامب القادمة ستسلك طريقًا آخر أقل كلفة وأقصر مسافة، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها أن الجمهوريين عُرف عنهم البراغماتية في السياسة الخارجية وليس الأيديولوجية. فالأولى واقعية والثانية قد تلامس الخيال في أحيان كثيرة.
كذلك فإن علاقة ترامب بروسيا جيدة، والسودان يحتفظ بعلاقات ممتازة مع روسيا، آخر شواهدها كان بالأمس، حيث استخدمت روسيا الفيتو بمجلس الأمن الدولي لصالح السودان ضد المشروع البريطاني الذي يدعو إلى "وقف فوري للأعمال العدائية بالسودان وحماية المدنيين".
وهو مشروع يرفضه السودان ويرى أنه مفخخ ويفتح الباب لتدخل قوات أممية في السودان، مما يعد انتقاصًا من سيادة الدولة وشرعية الحكومة، وإعادة مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي إلى المشهد مرة أخرى.
وقد وجد الفيتو الروسي ترحيبًا كبيرًا لدى الحكومة السودانية والرأي العام السوداني. لذلك فإن تعاطي ترامب مع الملف السوداني سيكون بتفاهم ناعم ومحسوب مع روسيا كغيره من الملفات التي فيها تقاطعات أميركية روسية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية