ما بين غزة والسودان واقع مر ومهدد خطير شرقاً وجنوباً، انشغلنا فى متابعة العدوان الغاشم على قطاع غزة، ومشاهده المؤلمة، وانغمسنا فى قياس تداعياته بعد أن ظهرت نوايا العدوان مبكراً ممثلة فى تهجير سكان القطاع وتصفية القضية الفلسطينية، ومن ثم إلقاء المزيد من الضغوط والأعباء على الدولة المصرية. لكن رغم ذلك لم نغفل قط الأشقاء فى وادى النيل فى السودان.
إذا كان الدكتور جمال حمدان قد رأى وأنا أتفق معه تماماً أن فلسطين خط الدفاع الثانى عن مصر بعد سوريا، فالسودان هى خط الدفاع الأول عن مصر جنوباً. السودان نقطة ارتكاز جيواستراتيجية تتوسط منطقتى البحر والأحمر والقرن الإفريقى بما يجعل من عدم استقراره يمثل تهديداً مباشراً لكل من وادى النيل وشرق إفريقيا، وإقليم الساحل والصحراء. إلى جانب سبع دول تمثل دول الجوار للسودان وهى منطقة بالفعل مضطربة تعانى عدم الاستقرار، وتأتى الأزمة السودانية لتضيف المزيد من المهددات فى شكل نزوح إنسانى إجبارى وتدفق للاجئين، هجرة غير شرعية، عمليات تهريب للأسلحة، والأخطر أن ذلك كله يمثل بيئة خصبة للجماعات والأفكار المتطرفة.
تعودنا فى قارتنا السمراء نتيجة وأثراً مباشراً للإرث الاستعمارى المتجذر أن الاقتتال الداخلى عادة ما يستدعى تدخلاً خارجياً سواء من الفاعلين من الدول أو الفاعلين الجدد من غير الدول كالجماعات المسلحة أو شركات الأمن على شاكلة فاجنر الروسية، الساحة السودانية وما نشهده من تطور الأوضاع ميدانياً يؤكدان ذلك كله. وإلى جانب الموقع الجيواستراتيجى للسودان الذى يجعل منه أحد مفاتيح السيطرة والتحكم فى أمن الممرات والمضايق البحرية فى البحر الأحمر والقرن الإفريقى ومن ثم التأثير فى مسار حركة التجارة العالمية؛ فالسودان أيضاً دولة غنية لديها من الثروات النفطية والزراعية والمعدنية خاصة معدنى الذهب واليورانيوم فى إقليم دارفور، ما يجعلها نقطة حساسة على وتر التنافس الدولى بين القوى الكبرى.
تحول السودان إلى ملعب رئيسى للتنافس الدولى خاصة روسيا التى تسعى لنقل ساحة هذا التنافس من الملعب الأوكرانى إلى القارة الإفريقية؛ تسعى روسيا لتعزيز نفوذها فى إفريقيا عبر التركيز على تقديم نفسها بديلاً استراتيجياً مناسباً للنفوذ الغربى، وتحديداً الفرنسى ولنا فى انقلابات غرب إفريقيا خير نموذج ودليل. والغاية النهائية لهذا التنافس الغربى ليس فقط التنافس على القيادة العالمية لكن الأهم النفاذ والهيمنة على الثروات الإفريقية، والسودان همزة وصل رئيسية للنفاذ إلى تلك الثروات؛ فالسودان شأنها شأن غالبية دول القارة؛ أغنى دول من حيث الثروات وأفقر شعوب.
السودان الآن بين خيارين كليهما مر؛ التقسيم الثانى أو الحرب الأهلية الشاملة والفوضى خاصة فى ضوء تصاعد وتيرة التعبئة والتعبئة المضادة القبلية والعرقية، بدأت ملامح وإرهاصات تقسيم واقعى على الأرض فى السودان، حيث يسيطر الجيش على الشرق والشمال الشرقى، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على معظم مناطق العاصمة وغرب البلاد. يدعم ذلك السيناريو استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة ود مدنى الاستراتيجية فى ولاية الجزيرة. البرهان جعل من بورتسودان عاصمة مؤقتة للدولة وحميدتى يهدد بإعلان حكومة موازية من الخرطوم، وهو ما يرشح تكرار السيناريو الليبى فى السودان بامتياز.
مصر بين شقى الرحى؛ شرقاً وجنوباً، بالتعريف النظرى لمفهوم الدولة، فمصر الدولة الوحيدة فى الإقليم التى لا تزال دولة وطنية موحدة تحافظ على سلامتها الوطنية فى خضم إقليم مضطرب، وهو ما يتطلب مزيداً من الوعى الوطنى، والاصطفاف الشعبى خلف القيادة الوطنية.
حفظ الله مصر، وكل عام ومصر والمصريون بخير، وأن يكون عام 2024 عاماً سعيداً مفعماً بالرخاء، وأن يحمل لمصرنا الحبيبة المزيد من الاستقرار والتقدم والازدهار.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: غزة والسودان قطاع غزة سكان القطاع
إقرأ أيضاً:
جنوبي ولك أن تفتخر
تأمُلات
كمال الهِدَي
. صحيح أن المصائب والمحن تُظهر معادن البشر، ولا أقول معادن الرجال بحسبان أن للنساء أيضاً معادن وقدر.
بالرغم من قسوة ما قام به جيش الكيزان وكتائبهم المجرمة في مدني وما حولها مؤخراً، إلا أن هذه الأحداث ربما كشفت لبعض الواهمين حقيقة أن الجنوبيين أناس في منتهى الرقي والفهم العالي والوفاء والحرص على سلامة إخوتهم السودانيين هناك بالرغم من أخطاء حكوماتنا في حقهم.
. نعم وقعت هناك بعض الحوادث المؤلمة التي تضرر منها بعض من لا ذنب لهم، لكن تفاعل حكومة الجنوب كان سريعاً وقدموا لنا جميعاً - خاصة لحكومة البرهان – درساً يُفترض أن نستفيد منه ونصبح أكثر تواضعاً في تعاملنا مع الآخرين ونتخلى عن وهم أننا أفضل الشعوب.
. منذ إنفصال هذا الجزء العزيز من وطننا لم تفارقني الحسرة على ضياعه فقد عاشرناهم في الأحياء، وزاملناهم في حجرات الدراسة، ونشأت بيننا وبينهم وشائج قوية وجميلة، لذا لم يكن هيناً علينا مغادرتهم إلى غير رجعة.
. لكن بعد هذه الأحداث الأخيرة فرحت لهم بالإنفصال عن بلدنا وسأقول لكم لماذا.
فرحت لهم لكون مسئوليهم تمتعوا بالإحترام الكامل والمسئولية والصدق تجاه موقف بهذه الصعوبة، بالرغم من أن السبب فيه هو غطرسة وطغيان الكيزان آفة هذا السودان ومن ينوبون عنهم في حكومة بورتسودان.
. فقد أشار خبر إلى أن أحد أسباب تأجيج مشاعر المواطنيين الجنوبيين تجاه ما جرى لأبناء جلدتهم في مدني هو إحتفال أقامه سفير البرهان في جوبا بمناسبة دخول الجيش وكتائب الكيزان لحاضرة الجزيرة.
. سمعت وزيرة داخلية جنوب السودان تتحدث فأثلجت صدري بكلامها المسئول ورغبتهم الأكيدة في إحتواء التفلتات بأسرع وقت وتوفير الحماية لإخوتهم السودانيين، وأثارت إعجابي بتهذيبها وترتيب أفكارها وصدقها.
. تكلمت بشفافية عن وقوع بعض الأحداث المؤسفة ولم تقل لم تحصل إعتداءات مثلما ذكر وزير إعلام البرهان الكذوب دون حياءٍ
. وأصغيت لأكثر من والٍ يخاطبون السودانيين هناك لطمأنتهم وتخييرهم بين أن يظلوا في أماكنهم مع توفير الحماية لهم، أو نقلهم لمكان آخر أكثر آماناً لحين هدوء الأوضاع.
وما جرى هناك هو ما يطلق عليه تفلتات بإعتبار أن جموع غاضبة من عامة الناس تعاملوا بردود أفعال غير مرشدة وأعتدوا على بعض مواطنينا وممتلكاتهم، لكن لأن حكومة الجنوب تتعامل بمسئولية كسائر حكومات العالم - بإستثناء السودان – ولكونها حكومة واعية بدورها في حماية وتأمين ضيوفها- سيما السودانيين- فقد سارعوا لتوفير هذه الحماية والأمن، بل حرصوا وسارعوا لتطييب خواطر إخوتهم السودانيين بكلام طيب عن البلد الأم والمشاركة في كل شيء والوشائج المتجذرة.
. ولك أن تتخيل عزيزي القاريء لو أن هذا الوضع كان معكوساً، بالطبع كنا سنشهد تواطؤ الأجهزة الرسمية وسد آذانهم عن ما يجري حتى يشفي بعض المرضى النفسيين عندنا غليلهم في إخوتنا الجنوبيين.
. لن نكذب ونقول أن الوضع كان مثالياً فالجنوب كسائر بلدان عالمنا الثالث يعاني من عدة مشاكل، إلا أن حكومتهم ومسئوليها أبدوا الجدية اللازمة في إحتواء الأزمة وتكلموا كلاماً صادقاً وصادراً من القلب بالرغم من معاناة أهلهم بسبب الأوضاع الإقتصادية التي زادتها حرب السودان تعقيداً عليهم.
. ولا أشك في أن حديثهم وتصرفهم السريع قد خفف علي المتضررين أنفسهم الكثير.
. أثناء متابعتي لخطوات وأحاديث مسئولي حكومة الجنوب سألت نفسي ألف مرة السؤال: ما سبب تعالي حكومة الكيزان على إخوتنا الجنوبيين فيما مضى!
. حيث كنا نسمع متغطرساً مثل وزير المالية علي محمود يقول قبل الإستفتاء وعبر فضائية السودان " الجنوب كان ماشي ما يمشي، (أنا) عندي فيه شنو"!!
. لاحظوا (الأنا) دي وكأن السودان بشماله وجنوبه وقتذاك كان ملكية خاصة لهؤلاء المجرمين والفاسدين.
. وبالطبع لم أجد إجابة للسؤال غير أن بعض الواهمين في هذا السودان يحتاجون لمعالجات نفسية.
. فهؤلاء النفر - أعني مسئولي حكومة الجنوب – أبدوا تديناً أكثر ممن فصلوا الجنوب بداعي أن أهله غير مسلمين.
. نعم أبدوا تديناً حقيقياً والواحد منهم يحمد الله علي أن السودانيين لم يفقدوا أرواحهم، وأن المال (بمشي وبجي).
. ما بين الأقواس كلام كبير للغاية لو آمن به الكثيرون في هذا السودان لجنبونا شروراً عديدة، ولما شهدنا مستويات غير مسبوقة في النفاق والكذب والتدليس وسوء الأخلاق.
. ولا أدري كيف يكون التدين الحقيقي إن لم يدفع صاحبه لتحمل المسئولية كمسئول وللمحافظة على الأرواح وللصدق في التعامل ولكظم الغيظ وللأدب في التعامل مع الآخر وهو بالضبط ما فعله إخوتنا الجنوبيين الذين لم يقبل بوجودهم بيننا الكيزان وبعض المهوسيين!
. أبدى مسئولو الجنوب أيضاً درجات عالية من الرقي والفهم السليم وهم يميزون بين من قاموا بالجرائم البشعة في حق مواطنيهم بمدني، وبين ضيوفهم من السودانيين الأبرياء الذين هربوا للمحافظة على حيواتهم.
. كما أبدى المسئولون الجنوبيون وفاءً إفتقدناه كثيراً في بلدنا في الآونة الأخيرة وهم يؤكدون للسودانيين هناك أن الجنوب بلدهم، وأن كل شيء سيعود لطبيعته خلال أيام لكي يعودوا لممارسة أعمالهم كالمعتاد.
. وهنا في السودان حيث الإعلام الكذوب والنفاق غير المسبوق يحدثونك عن زيارة الكباشي لجوبا، وكأنه غادر إليها حرصاً على أرواح وممتلكات السودانيين هناك.
. أصلاً حكومة الجنوب لم تنتظر زيارات هؤلاء المجرمين الخونة ولا إتصالاتهم وقامت بما رأته واجباً على أكمل وجه.
. وبالطبع غادر الكباشي لشأن يخصهم ككيزان حكومة، فلو أن حياة السودانيين تهمهم لما قتلوهم ظلماً في وطنهم ولما شردوهم بسبب حربهم العبثية ضد من صنعوهم بأيديهم للإمعان في ظلم وذل المواطنين.
. لو حاولت أن أحصي ما أبداه مسئولو حكومة جنوب السودان خلال هذه الأزمة فسوف أحتاج لمجلدات لا لمساحة مقال واحد.
. فلهم منا جزيل الشكر والتقدير وكامل الإحترام علي هذه الدروس المجانية، وعلى جديتهم وإلتزامهم وفهمهم للدبلوماسية ولواجب الحكومات ولوفائهم وصدقهم في التعامل مع إخوتهم السودانيين.
. جنوبي أنت أخي مواطن هذه الدولة الوليدة فلك أن تفخر بذلك بالرغم من الصعوبات التي تواجهك.
. الواحد بالجد أحس بأن لدينا بلد ثانٍ يستطيع أي منا اللجوء له بإطمئنان متى ما ضاقت به السبل.
. أمنياتي بأن يتعاون أهلنا في الجنوب مع حكومتهم ويكونوا سنداً لها بالنصح والإلتزام حتى يزدهر بلدهم فهم يستحقون كل تطور ونماء.
kamalalhidai@hotmail.com