لا تخلو مسيرة الحضارات، منذ أقدم عصور التاريخ من العقبات والصعوبات والتحديات، وهكذا كانت مسيرة الحضارة العربية الإسلامية بلسان عربى مبين؛ إذ لم تمضِ عبقرية المكان الحضارى العربى الإسلامى، وتنتشر إشعاعاته فى سهولة ويسر. بل كانت تصارع ألواناً من العسر والضر، والقتال والكفاح، وعلى سبيل المثال، كانت الدولة الخوارزمية بقيادة السلطان علاء الدين خوارزمشاه تعيش فى سلام، وعطاء، حتى كانت بدايات التناوش بينه وبين جنكيز خان قائد المغول مع قصة الوفد التجارى عام 1219م، ودخوله بخارى فى ذلك العام، وسقوط سمرقند، حاضرة بلاد ما وراء النهرين، فى يد المغول، وتعقبهم السلطان محمد خوارزمشاه، وفتح المغول لإقليم خوارزم، وسقوط خراسان فى أيدى المغول، حتى سقطت الدولة الخوارزمية بسبب التفكك والضعف، وليبدأ هولاكو عمله عام 1259م، لتضعف جيوش الخلافة العباسية، وليقضى هولاكو على الطائفة الإسماعيلية، وليحاصر بغداد، حتى تسقط، ثم يبدأ الزحف إلى بلاد الشام، حيث الناصر يوسف الأيوبى (1252-1265م) صاحب حلب ودمشق، لتسقط الأولى، ثم الثانية، وليدخل دمشق فى مارس 1258م، ثم تكون معركة عين جالوت يوم الجمعة الموافق 3 من سبتمبر 1260م، وانتصار الجيش المصرى، ويمكن للقارئ الكريم أن يقرأ عن المغول:
جامع التواريخ، رشيد الدين فضل الله الهمدانى، تحقيق محمد صادق نشأت، وفؤاد الصياد، ومحمد مرسى الهنداوى، مج 2، ج1 القاهرة 1960، والنجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، ابن تغرى بردى، دار الكتب المصرية، القاهرة 1944، والمغول، الباز العرينى، النهضة العربية، القاهرة 1981، وتاريخ المغول، عباس إقبال، ترجمة عبدالوهاب علوب، أبوظبى 2000، المغول، سامى محمد المرسى، دار العالم العربى، القاهرة 2011).
ورب ضارة نافعة؛ فقد أدى ذلك كله إلى تفاعل حضارى وفكرى ولغوى، فانتقلت كلمة (هندسة) من الأصل الفارسى (إنداز) أى المقادير، قال الخليل بن أحمد الفراهيدى: «المهندس الذى يقدر مجارى القنى (القنوات)، ومواعها حيث تحفر، وهو مشتق من الهندزة، وهى فارسية، فغيرت الزاى سيناً..لأنه ليس بعد(الدال) (زاي) فى كلام العرب، قال بعضهم فى إعراب إنديشة أى الفكرة، وليس ذلك بصحيح؛ فإن فى بعض كلام الفرس ( إنذارة) باختيار مارى بايده: أى الهندسة يحتاج إليها مع أحكم النجوم (علم الفلك)»، وقد يقع هذا الاسم على تقرير المياه كما قال الخليل. انظر الخوارزمى، أبى عبدالله محمد بن أحمد الكاتب، مفاتيح العلوم، تحقيق فان فلوتن، قدم الطبعة محمد حسن عبدالعزيز، هيئة قصور الثقافة، القاهرة الذخائر رقم 118، القاهرة 2004،ص 202.
وبرز كثيرون ممن نالوا الألقاب العلمية عالمياً، وتعددت مصنفاتهم من أمثال:
الكندى (805م): أبو المكتبات، وله نحو مائتى وستين مصنفاً.
والرازى، أبوبكر (864ـ932م): جالينوس العرب، أو طبيب المسلمين، ومدبر البيمارستانات
والحسن بن الهيثم ( 965م)، وله نحو مائتى مصنف.
وابن رشد (1126م): المعلم الثانى....إلخ.
ويمكن التماس كثير من الشواهد فى كتاب (الدولة الخوارزمية: نشأتها، علاقاتها مع الدول الإسلامية، نظمها العسكرية والإدارية (490ـ 629هـ/1097ـ1231م)، نافع توفيق- آداب بغداد 1978.
تلك النماذج وهى غيض من فيض بلا جدال توضح للباحثين أن ذلك الدور الحضارى العظيم ليس محصوراً فى مجال واحد فحسب، أو فى بيئة ضيقة محدودة، وإنما طمحت تلك الرسالة السماوية إلى تطلع عالمى إنسانى يتجه للإنسانية جمعاء، استطاع أن يجد الوسيلة المطواعة، وهى اللغة العربية، منطلقاً من روح المساواة والتسامح والحرية والتفاعل والتآخى والبناء فى الدين الإسلامى، وذلك عبر مسيرة التاريخ فى العصور: الجاهلى والإسلامى والأموى والعباسى عوائق وتحديات والأندلسى والمملوكى (648هـ/ 1250- 1516م)، والأتراك العثمانيين (1516-1798م)، بما فى ذلك من أحداث دامية، ومن الصراعات على الحكم، وما إلى ذلك من ملمات لم تعق المسيرة الحضارية كسقوط بغداد ودمشق فى أيدى التتار والمغول، وحرق الكتب والمخطوطات، ودور العلم على أيدى هولاكو، قبل أن يهزم فى عين جالوت 1260م، ثم حفيده تيمورلنك بعد قرن ونصف 1386- 1400م، ثم جاء المماليك (648ـ 923هـ)، وأتباعهم؛ لتظل مصر تحت حكم الأتراك ثلاثة قرون (1516- 1798م)، حتى تآمرت الدول الأوروبية على تركيا، واقتسمت، بدورها، من ثم ما كان يطلق عليه دول الخلافة الإسلامية فى مؤتمر برلين سنة 1878م. هذا التقسيم الذى مزق إرث تركيا، واستولى عليه، فاحتلت إنجلترا مصر1882م، وقبرص، وزحفت روسيا إلى البحر الأسود، وفرنسا إلى تونس 1881، وإلى لبنان، وإيطاليا إلى ليبيا 1911و1912م، وتخلت تركيا عن رومانيا وصربيا.
عضو المجمع العلمى المصرى، وأستاذ النقد الأدبى بجامعة عين شمس
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: لغتنا جذور هويتنا مسيرة الحضارات الحضارة العربية
إقرأ أيضاً:
الرميد: إذا كانت مقترحات تعديل مدونة الأسرة ستسهم في الحد من الانحدار الديمغرافي فمرحى و ألف مرحى
في تفاعله مع الإعلان عن نتائج مرحلة استشارة المجلس العلمي الأعلى حول مشروع تعديل مدونة الأسرة، يثير المصطفى الرميد، وزير العدل سابقا، إشكالية التراجع “الخطير” لمعدل الخصوبة الذي كشف عنه الإحصاء العام الأخير للسكان، ويتساءل عما إذا كانت التعديلات التي سيتم إدخالها على مدونة الأسرة سوف تساهم أم لا في الحد من التدهور الخطير للمعدل الخصوبة أم لا. ويقول، في تدوينة على حسابه الخاص على فيسبوك: إذا كانت مقترحات تعديل مدونة الأسرة ستسهم في الحد من الانحدار الديمغرافي فمرحى و ألف مرحى، أما إذا كانت ستكرس مزيدا من الانحدار والتراجع السكاني، فإنه ليس من الحكمة اعتمادها. وأضاف “لذلك أدعو إلى التأني الضروري في البلورة النهائية للتعديلات، واعتبار موضوع الاشكالية الديمغرافية أم المشاكل التي ينبغي التصدي لها بكافة الحلول الممكنة”. إليك نص التدوينة: السلام عليكم من حقنا- نحن المغاربة- ونحن نعيش في عالم قلق ومضطرب، أن ننوه بمثانة مؤسسات بلادنا، واستقرار أحوالنا، والرشد في منهجية مقاربة مشاكلنا. والدلائل على ذلك كثيرة، لعل أهمها، هو الطريقة التي عولج بها إلى حد الآن، موضوع تعديل مدونة الأسرة ، خاصة اعتماد القاعدة الذهبية التي تقول: ( لا أحل حراما، ولا أحرم حلالا) ، وهي القاعدة التي أكد عليها جلالة الملك مرارا وتكرارا، وجعلها لازمة من اللوازم الثابتة في خطبه المتعلقة بالموضوع. وهكذا، وبعد أن بلورت اللجنة التي أناط بها جلالته مهمة إعداد التعديلات المطلوبة، أمر بإحالة المقترحات على الرأي الشرعي للمجلس العلمي الأعلى، الذي قرر ماقرر ، على سبيل الاجتهاد، مما يمكن للمرء أن يتفق معه فيه أو يختلف، ولا ضير في ذلك، ولكن الكلمة الأخيرة هي للمؤسسات. وفي هذا السياق لا كلمة تعلو في القضايا الشرعية على كلمة المجلس المذكور، وهذا هو منطوق الدستور الذي لا محيد عنه. غير أن هذا لا يمنع من إثارة الانتباه إلى ما ينبغي، وما يجب، باعتبار أن المملكة قامت بإنجاز إحصاء عام للسكان والسكنى هذه السنة. (سنة 2024). وكان حريا التمعن الجيد في معطيات هذا الاحصاء، خاصة و أن من مقاصده: (تكوين قاعدة للمعاينة لإنجاز البحوث لدى الأسر). و إن مما يثير الخوف والقلق، المعطيات الاحصائية التي تفيد ما يلي: ▪︎ أولا، تواصل انخفاض معدل الخصوبة الكلي، حيث أن المتوسط الوطني كان سنة2004 في حدود 2،5%، وإذا به ينخفض سنة 2014 إلى نسبة 2،2 %، لينخفض مرة أخرى سنة 2024 إلى نسبة1،97%. وهو انخفاض ينذر بأوخم العواقب على المستقبل الديمغرافي للبلاد إن استمر في هذا المنحنى الصعب. ▪︎ ثانيا، إن هذا الانخفاض الحاد للخصوبة كان من تجلياته المباشرة انخفاض مستوى حجم الأسر، فبدل عدد : 5،3 فرد في كل أسرة سنة 2004، إذا بنا ننزلق إلى 4،6 سنة 2014، ثم إلى3،9 فرد سنة 2024. ▪︎ ثالثا، إن هذه المعطيات أدت إلى تباطؤ النمو السكاني، حيث كان هذا النمو بنسبة 1،38% مابين سنتي1994 إلى 2004، وبنسبة 1،25 % بين سنتي 2004 و 2014، ليصل إلى مستوى 0،85% مابين سنتي 2014و 2024. إن هذه المعطيات الديمغرافية الصاعقة، يبدو وكأنها لا تعني أي شيء، بدليل عدم فتح نقاشات عمومية واسعة حولها، وعدم قيام الفاعلين المعنيين بتقديم إجابات بشأنها. وللأسف، تأتي هذه المقترحات التعديلية لمدونة الأسرة، وكأن هذه الإحصائيات عادية، ولا تعني الأسرة من قريب أو بعيد. لذلك، فإن المؤكد أن مستقبل بلادنا مهدد ديمغرافيا، وعلينا أن نتساءل عن الأسباب والعلل، ونقارب كافة الاصلاحات الأسرية على ضوء هذه الأرقام المنذرة. وعلى هذا الأساس، فإنه إذا كانت هذه المقترحات ستسهم في الحد من الانحدار الديمغرافي فمرحى و ألف مرحى، أما إذا كانت ستكرس مزيدا من الانحدار والتراجع السكاني، فإنه ليس من الحكمة اعتمادها. لذلك أدعو إلى التأني الضروري في البلورة النهائية للتعديلات، واعتبار موضوع الاشكالية الديمغرافية أم المشاكل التي ينبغي التصدي لها بكافة الحلول الممكنة، ومنها الحلول التشريعية التي تهم الأسرة، دونما أي اعتبار جزئي كيفما كان نوعه وأهميته، إذا كان في النهاية سيؤدي إلى ضياع الاعتبارات الكلية. إن مما يثير الانتباه أيضا أن مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1957 كانت تنص في أصلها على تعريف الزواج بأنه (ميثاق ترابط وتماسك … إلى أن تقول؛ غايته العفاف وتكثير سواد الامة، )هكذا كان وعي الرواد الأوائل بأهمية العامل الديمغرافي، وعلاقته بالأسرة، غير أن مدونة الأسرة لسنة 2004، استغنت على هذه المعطيات في تعريف الزواج، وبعد عشرين سنة يبدو واضحا أنه من الملائم أن نراجع حساباتتا، وأن نفكر عميقا، وبعيدا، في مستقبل المغرب، مغرب الأجيال القادمة التي لربما قد تضيع في أهم مقوماتها، بسبب حساباتنا الصغيرة، وقصور نظرنا، والله الموفق.