الإجابة على سؤال الساعة السودانية ليس رهين بنتائج لقاء جيبوتي كما لا يتعلق بخيار الانحياز ألى الجيش أو الدعم السريع .بل يكمن في كيفية إبقاء جذوة الثورة متوقدة. فبمنطق الثورة كرد فعل شعبي غاضب مشبع بالوعي لواقع مأزوم مرفوض يصبح الاصطفاف مع الجيش بحمل السلاح مثل مناصرة الدعم السريع خيارا فاسدا ينطوي على خيانة وطنية.
نخب التنوير مطالبة بتكسير القوالب الفكرية الصدئة ومن ثم عبور الحواجز السياسية العتيقة.فالجيش والدعم السريع لا يزالان حليفان ضد الثورة.فهما يعملان من منطلقات تبدو متباينة ما وسعهما من أجل عرقلة حركة التقدم ويعمّقان مأزقنا الحالي .فكلاهما يتبنيان الحرب لا السياسة سبيلا للفوز بقصبة السلطة.هذه الرؤية اليقظة تكفي لمنح تلك النخب حصانة ضد الخدر الخادع بالرهان على جيش منهار متسلح بأدوات الفساد لاسترداد الدولة أو حركة ميليشيا مسعورة بالثأر لإطلاق عملية ديمقراطية اساسها المواطنة. فقيادة الجيش فقدت الحد الأدنى من مؤهلات إعادة تأهيل قوات وطنية.بينما فقد الدعم السريع الحد الأدنى من ثقة الجماهير على نحو يحرضها على الرهان عليه بغية بناء دولة يمكن تربية أطفال آمنين في كنفها .دعك من دروس التاريخ من كمبوديا إلى أفغانستان حيث لا تصادر الميليشيات المسلحة فقط فرص الديمقراطية بل تتوغل في قمع الشعب بشراسة.فما بالك بمن يراهن عليها شريكا أساسيا في تأسيس نظام ديمقراطي.
*****
لكن السؤال المؤرّق يرتبط بكيفية إبقاء جذوة الثورة حيّة قي مجتمع فقد تماسكه ،منهك ،مثقل بأثقال أعباء الحياة اليومية.أكثر من ذلك يفتقد شبكة التواصل المفضية إلى التجميع ،التنظيم ،التحريض والاستنفار.هذا الواقع المثبّط يزيده تحبيطا حال الأطر السياسية الخربة وقياداتها الفاقدة قدرة الخلق و الإلهام المبدعة لمناهج و أساليب تجعل ما يبدو مستحيلا أقرب إلى الواقع .كيفما كان مشهد القوى السياسية مثيرا للحزن ومدعاة للأسى فإن صورة أي من الفريقين المتصارعين بالسلاح على السلطة الراهنة والمستقبلية أكثر قتامة وأدنى إلى الفشل والهزيمة. فمن الصعب ان لم يكن مستحيلا حتى في حالة انتصار أحدهما التخلي عن أدوات القتال .لأنه لم يؤسس منهجاً على فرضيات السلام وزرع الطمأنينة وانتزاع الاحترام.فعظمة مأساته الحقيقية تتجسد في اصطدامه الحتمي بجماهير الثورة ضربة لازب.
*****
تجييش المواطنين المدنيين نداء يكتسب مشروعيته حيتما يكون رفع السلاح في وجه قوة اجنبية.وقتئذٍ لا مجال لطرح السؤال عن مدى نهوض أو عجز الجيش بمهامه الوطنية .لكن تحت سقف محنتنا الراهنة يصب هذا النداء الزيت حطب حرب أهلية.بالطبع لا تتطلب المسألة جهدا بغية إبانة الفرق بين المقاومة الشعبية المسلحة والحرب الأهلية. فنحن نعيش في وطن موبوء بالحروب الأهلية.ربما من المفارقة المبكية إباحة مفهوم المقاومة المسلحة للشعب حمل السلاح في وجه النظام الظالم الفاسد. ثمة عناصر متباينة تتضافر ويكفي بعض منها لاشعال فتنة الحرب الأهلية في أي بلد.من ذلك عناصر اقتصادية ،سياسية ،طائفية أو إثنية تفرز مشاكل اجتماعية متراكبة تفضي إلى صراع مسلح يتطاول أمده .كذلك عايش لبنان حربا تطاولت ستة عشر عاما .سوريا تتوغل في حرب أهلية منذ مايزيد على عشر سنوات.كذلك تغرق اليمن في مستنقع منذ العام ٢٠١٤.لكنها لم تكن الأهلية اليمنية الأولى إذ خاضت (حرب الانفصال ) في العام ١٩٩٤.
****
لعل من المناسب تذكير دعاة تجييش المدنيين بالحرب الأهلية في اسبانيا اذ بدأت باخفاق انقلابيين في الإستيلاء على السلطة من حزب مدني منتخب. في العام ١٩٣٦.على مدى ثلاث سنوات حصدت تلك الحرب نحو ٦٠٠ الف مواطن .مذلك انطوت متون تلك الحرب على بعد ديني.اذ انفلت غضب عارم مشحون بنوبات الكراهية ضد رجال الدين. لذلك كله يتضح كم هو مكلف الإصرار على تحشيد قوى الاحتراب ،توسيع رقعة الحرب وتمديد أمدها. إذا كان ثمة رجاء يعوّل عليه في جيبوتي فهو إحتواء لهب النار ،تطويق انتشار قوات الدعم السريع،كبح عمليات النهب استرداد كرامة المواطن واستعادة هيبة الجيش.
*****
مالم يتصاعد من جيبوتي -حال التئامها- (دخان ابيض) وفق المصطلح الكنسي فليذهب (الجيش الحالي)والدعم السريع إلى مذبلةالتاريخ ولتبقى جذوة الثورة متقدة.هذا أفضل جدوى للوطن، الشعب والدولة. نعم ثمة اختلال في موازين القوى بين معسكر الحرب و معسكر الثورة.لكن هناك كذلك فارق بين طرز المقاتلين على الجبهتين كما يوجد تباين في الأسلحة لدى كل من الطرفين.اكثر من ذلك لدى معسكر الثورة تكتيكات سياسية وعقيدة وطنية كلاهما يرجحان قوة الاستقطاب الجماهيري من اجل إضافة المزيد مقابل تهزيل معسكر الحرب.فالثابت ضيق قاعدة معسكر الحرب دوما مقابل اتساع قاعدة السلام والثورة .هي قاعدة على تصعيد قيادة مقتدرة ملهمة.من المأمول فيها تصبح قاطرة تسحب كل القوى محبة السلام لجهة سودان جديد،لا ان تصبح عربة في القطار .
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
ماذا تبقى في جعبة الجيش السوداني والحركة الإسلامية من خيارات لتفادي خسارة الحرب؟
كتب إبراهيم سليمان
منذ استيلائهم على السلطة بقوة السلاح في يونيو 89، أصبح الجيش السوداني والحركة الإسلامية، سيان، يكملان بعضهما البعض، لتحقيق غاية واحدة، ألا وهي الاستئثار بالسلطة والثروة والحفاظ عليهما بكافة السبل وكيفما اتفق، غض النظر عن التكلفة الأخلاقية والوطنية والإنسانية. سولت لهم أنفسهم في أبريل 2023م بأنه بإمكانهم، بضربة خاطفة، تدمير قوات الدعم السريع، وإبادتها، لقطع الطريق إمام مشروع الاتفاق الإطاري، واستعادة السلطة التي انتزعت منهم في أبريل 2019م، بمساندة قهرية ومعنوية مقدرة من قوات الدعم السريع.
يبدو أن سهولة نجاح انقلابهم في يونيو 89، جعلهم يستمرؤون المغامرات، ظانين أنهم يحتكرون "الرجالة" والشهامة والإقدام، وليس بمقدور أحد أن يقف في وجوه كتائبهم المتطرفة "ودبابيهم" الأصولية، لكن أثبتت لهم الأيام أن تقديراتهم خاطئة، وليست كافة الطيور عصافير وادعة، وإنما هنالك جوارح كاسرة، لحومها أمرّ من الحنظل.
يقول المثل، من يوقد نار الفتنة، يتدفأ بها، فالجيش السوداني، الذي يحمل بندقية الحركة الإسلامية، ليرهب بها الشعب السوداني، ويستخدمها في قهر الإرادة الشعبية، امتثلاً لقرار إشعال الحرب المتخذ من قبل كتائب الإسلاميين المتعطشة لإراقة الدماء، حفاظاً على الامتيازات الخرافية لقياداتها، وتنفيذا لالتزامهم التنظيمي في الخطأ والصواب، وفي المنشط والمكره.
منذ الوهلة الأولى لاندلاع الحرب، تبيّن للجيش السوداني، والحركة الإسلامية، فضاحة خطأهم، وبدلاً عن الجنوح للسلم، والجلوس للتفاوض لتدارك ذلك الخطأ المميت، طفقوا يهربون إلى الإمام، بتجريب الخيارات المطروحة أمامهم ميدانياً، لوقف وتيرة الهزائم المتصاعدة لقواتهم على كافة الجبهات، بدأوا باستدعاء المعاشيين من القوات النظامية، والكتائب غير النظامية، والمليشيات الشعبية، ولم ينتظروا حصيلة تلك النداءات العاجلة، فاعلنوا استنفاراً شامل للمواطن السوداني، مستهدفين شباب الحركة الإسلامية، ثم عرجوا إلى شراء بنادق الحركات المسلحة، التي تتاجر في الحرب، ولما لم يجدي كافة هذه الخيارات نفعا، فتحوا مخازن الأسلحة لتسليح أي مواطن يرغب في حمل السلاح، فشلت كافة هذه الخيارات التي طرحت تحت الفرية التي اطلقوا عليها "حرب الكرامة" في وقف تقدم وتمدد قوات الدعم السريع في ولايات السودان، والولاية تلو الأخرى.
في غضون ذلك استعانوا بسلاح الجو المصري، لضرب حواضن قوات الدعم السريع في غرب السودان، في استهداف جهوي غير مسؤول، في محاولة يائسة لتركيعها وإرعاب حواضنها، وأخيراً استعانوا بالرئيس الأريتيري أسايس أفورقي، لتدريب وتسليح الأورطة الشرقية، التي تشكلت حديثاً عوضاً لفشل لما عرفت "بالمشتركة" من قوات الحركات المسلحة الدارفورية، التي تورطت في وقوفها مع الجيش، للمساعدة في عودة حزب المؤتمر الوطني لسدة الحكم. هذا بالإضافة إلى استجداء السند الروسي، والتملق للدعم الإيراني والتركي والقطري.
أمنياً مارست استخبارات الجيش السوداني، أبشع أنواع التنكيل جماعياً وفردياً على هويات المكونات المحسوبة افتراضاً على قوات الدعم السريع، فذبحوا أبرياء من الوريد إلى الوريد ذبح الخراف على الهوية، وبخروا البطون، ولاكوا الأكباد، وعقدوا محاكم التفتيش ونصلوا المشانق بالشبهات، وسمموا موارد مياه الشرف، ولم يتركوا شنيعة أو موبقة لم يرتكبوها كمحاولة يائسة لترهيب المواطن السوداني من الوقوف مع قوات الدعم السريع، ومساندتها.
شككوا في سودانية منسوبي قوات الدعم السريع، ووصفوهم بعرب الشتات، وأنهم مرتزقة، ولم يزدهم ذلك إلا إصرارا على البسالة والإقدام.
اتهموا دولة الإمارات العربية المتّحدة أنها تساند قوات الدعم السريع، وأنها تسعى لحرق السودان، وتخطط لتدمير مقدراتها، وصدعوا رؤوس عضوية مجلس الأمن بالشكاوى المتكررة والمتشنجة، مطالبين بالتحقيق في مزاعمهم السطحية، وملتمسين وصم قوات الدعم السريع بالإرهاب، وكانت حصيلتهم الدبلوماسية، عبارة صفر كبيرة. وظل الفريق البرهان، يرقع في حكومته الانقلابية غير الشرعية، المرة تلو المرة، ولكن يبدو أن الرتق قد اتسع على الراتق، وأخيراً ترك للمخابرات المصرية، اختيار وزير خارجية حكومة بورتسودان النازحة، من بين الدبلوماسيين السودانيين، فاختارت العجب العجاب، الذي يسعى بوتيرة حثيثة لإشعال حرب سودانية أثيوبية بالوكالة عن فرعون مصر!
لوحوا بالفصل وأومأوا بالانفصال، وعزموا على عقد امتحانات الشهادة السودانية مستثنين مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، ولوحوا بتغير العملة، وحظروا الحصول على جوازات السفر أو تجديدها على مكونات سودانية بعينها في كل دول العالم، وقطعوا خدمات الاتصالات وشبكات النت عن غرب السودان، واستجدوا الاحتلال المصري، لإنقاذ دولة ــ 56 التي تبقي السودان كحديقة خلفية وارفة لمصر، ولا يزال فرعون مصر، يتثاءب من هذا الطلب، ولم يكلف نفسه، مواراة تثائبه، أو أن يخفي تثاقله من هذا الخيار، الذي لا يحتمل مجرد الهظار.
ماذا تبقى في جعبتهم، ليخرجوه أملاً في حسم الحرب لصالحهم؟
لا شيء سواء استخدام السلاح الكيماوي، إن تمكنوا من الحصول عليه حصرياً، قبل تحرير الفاشر، والذي يعتبر بداية النهاية لدولةــ 56 المحتضرة، وهي مسألة وقت لا أكثر.
ebraheemsu@gmail.com
//إقلام متّحدة ــ العدد ــ 176//