بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
الحرب الدآئرة الآن تسببت في الكثير من المآسي ، و أورثت الشعوب السودانية معاناة عظيمة ، و تحاول جهات عديدة و لأغراض و منطلقات شتى إستمرارها أو إيجاد حل لها ، و يمكن فرز الجهات إلى معسكرين:
(أ)- معسكر إستمرارية الحرب و إستدامة الأزمة:
١- مليشيات الجَنجَوِيد:
و هي مليشيات باطشة و فالتة فرضت وجودها في الساحات و الأرجآء السودانية في زمن الغفلة عن طريق القتل و الترويع و قطع الطريق و شرآء الذمم الفاسدة ، و لديها مصلحة في إستمرارية حالة الحرب و الفوضى و اللادولة ، فلا رواج لبضاعتها الخاسرة في زمن الإستقرار و الأمن و القانون ، و لهذا فسوف تقاوم كل محاولات الوفاق و الحلول بقوة السلاح و عن طريق إحداث الخوف و نشر الذعر على أوسع نطاق ، و يساندها في مسعاها المدمر كفيلها الأجنبي ، الذي وجد في مليشيات قطاع الطرق (الرَّبَّاطَة) ضآلته ، و السلاح الذي يحمي مصالحه ، و يسهل له إستنزاف الموارد السودانية.
و مصير هذه المليشيات المتفلتة التشظي ، و ذلك لأنها تحمل في داخلها عناصر فنآءها و المتمثلة في تركيبتها العشآئرية/الجهوية و ممارستها الهمجية اللأخلاقية ، و سوف يصاحب سقوطها فوضى و إنتهاكات و فظاعات و خراب عظيم ، و سوف يكون أمر حسمها جد عسير ، و ذلك لأنه يتطلب وجود دولة قادرة ذات سيادة و قوانين و أجهزة أمنية تمنع و تدافع و أخرى عدلية تحاسب و تعاقب ، و هو أمر يبدو غير متاح في الوقت الحاضر ، و مجرد التفكير فيه قد يصيب العقل بالشلل ، لكن الخلاصة هي أن لا دور لهذه القوة الهمجية في الأجهزة الأمنية المستقبلية ، و أن لا بد من محاسبتها...
٢- القوى الأجنبية الوالغة في الشأن السوداني:
و سوف تواصل هذه القوى مجهوداتها في إزكآء نار الحرب و إستدامة الأزمة السودانية و تجنيد العملآء المحليين الذين يسهلون لها نهب الموارد السودانية ، و مما يساعدها على النجاح في مساعيها و بلوغ أهدافها: نشاط عملآءها المحموم في إزكآء نار الحرب و إحداث حالة الفوضى و اللادولة و إحجام/تحييد القادرين من الشعوب السودانية عن أخذ زمام المبادرة...
٣- الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان):
جماعات التنظيم الكيزاني الشيطاني لها مصلحة حقيقية في إستدامة الحرب ، و يبدوا أنها تؤمن بأن الحرب و القتال هي الوسيلة الوحيدة المتبقية التي ربما تعيدها إلى سدة الحكم ، و الشاهد هو أن تصميم الجماعة على إستلام السلطة يفسدُ و يُعَوِّقُ كل محاولات الإصلاح و الخروج من الأزمة ، فما من مبادرةٍ صادقةٍ تلوح في الأفق إلا و بادرت تنظيمات (الجماعة) إلى تخريبها و إفسادها بالفتن و الخطاب النفاقي الإقصآئي الذي يرتدي عبآءة الدين يخفي تحتها بضاعته المتطرفة و المنفرة ، فإذا ما ذكر الوفاق الوطني تقافزت الجماعة (الكيزان) إلى حشر تنظيماتها في المحافل ، و شرعت في أعادة شريط خطاباتها السمجة عن: شرع الله و العلمانية و الكفر و الإلحاد و العمالة و الإرتهان للأجنبي ، و إذا ما تداعت الناس إلى نصرة الجيش سارعوا إلى المناداة بمعارك الشرف و الكرامة و ترديد شعارات إراقة الدمآء عن طريق: البَلْ و الجَغِم و المَتِك!!! ، و إذا ما دُعِيَ الناس و استنفروا إلى المقاومة الشعبية تسللوا بين الصفوف و صعدوا إلى المنابر و نعقوا نفاقاً و تقيةً بالشعارات و الأناشيد الجهادية...
لذا فإن أول خطوات الحلول الجآدة تستلزم إستبعاد تنظيمات الجماعة (الكيزان) المضلة و الفاسدة عن الساحتين السياسية و العسكرية ، و عزلها و تعطيلها إلى حين حلول ميعاد محاسبتها على ما إرتكبته من الفساد و الجرآئم في حق الشعوب السودانية...
(ب) معسكر إيقاف الحرب و السلام:
و يضم المعسكر الجهات التي سوف تربح من حالة الإستقرار
١- الأجهزة الأمنية:
و لا بد للدولة القادرة من أن تمتلك أجهزة تشريعية و تنفيدية و أمنية و قضآئية فاعلة ، لكن جميع أجهزة الدولة السودانية تراوح الآن ما بين المعاناة و الإعطاب و الغياب ، فالأجهزة الأمنية و في مقدمتها القوات المسلحة تمر بمرحلة إنعدام وزن و تخبط عظيم على مستوى قياداتها و عملياتها ، و هي في أمس الحاجة إلى عقول راجحة تصلحها حتى تستطيع القيام بواجباتها الأساسية/الإحترافية في حفظ الأمن و سيادة/سلامة الدولة بعيداً عن ألاعيب السياسة و إغرآءات النشاطات الإقتصادية...
أما السؤال عن الكيفية التي يحدث بها هذا الإصلاح؟ فيبدوا أن الإجابة عليه ربما يمتلكها ، في الوقت الحاضر على الأقل ، بعضٌ من منسوبي هذه الأجهزة من الذين تفوقت مرجعياتهم الأخلاقية و أجهزة مناعتهم الوطنية على فساد و جراثيم أفكار الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) التي سرت و استوطنت في أوردة و شرايين تلك الأجهزة و لأكثر من ثلاثة عقود...
و هذا الإصلاح المعني عند ترجمته إلى لغة الأمن و السياسة يعني أحد أمرين لا ثالث لهما: أولهما الإنقلاب العسكري و ثانيهما التمرد على القيادة ، و ملعومٌ أن الإنقلابَ العسكري أمرٌ عصيٌ ، و أن خطوات إنجازه العملياتية في وجود حالة الفوضى و اللادولة تبدو غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع إن لم تكن مستحيلة ، و أما التمرد العسكري و في غياب أجهزة الدولة الفاعلة فليس سوى إضافة المزيد من الفوضى و التعقيد إلى هَردَبِيس و لامعقول الأزمة السودانية...
٢- الأحزاب السياسية و منظمات العمل المدني:
هيمنة تنظيمات جماعة الإخوان المتأسلمين (الكيزان) على أمور السياسة و الحكم في بلاد السودان ، و أساليبها الملتوية الفاسدة في ممارسة السياسة و إدارة الدولة و الأمر العام و الإقتصاد و لعقود طويلة قد أضر/أعاق كثيراً مراحل تطور و نمو الأحزاب الطبيعي ، و أفقدها المقدرة على المعارضة الفعالة و التعامل البنآء مع العمل العام و إيجاد الحلول لمشاكل الجماهير ، و قد ظهر فقر و عجز الأحزاب و فشلها جلياً خلال التجربة الإنتقالية الأخيرة ، و تنطبق ذات القاعدة على منظمات العمل المدني التي تعاني من الفوضى و سوء التنظيم ، و التي لا تخلو إداراتها و عملياتها من شبهات الفساد...
الأحزاب السياسية و منظمات العمل المدني بوضعها الراهن عاجزة و غير مؤهلة لمخاطبة هموم الجماهير ، و لا تملك المقدرة على المساهمة في إيجاد حلول للأزمة السودانية ، و هي في حوجة مآسة إلى الإصلاح و التأهيل و إعادة التنظيم ، مما يعني أن قيادة الأمر العام و السياسي في الوقت الحاضر سوف تعتمد في المقام الأول على مساهمات و مبادرات الشخصيات الوطنية الراشدة و الحكيمة...
٣- الحركات المتمرد المسلحة:
و الشاهد هو أن الحركات ”التحريرية النضالية“ السودانية لا تعمل في أزمنة الحروب!!! ، فحالة السلم تعني بوار تجارتها المرتكزة على: التكسب من معاناة القواعد الجماهيرية و المناورات و المحاصصات و التطفل و الإرتزاق السياسي و الإقتصادي ، هذه الحركات تعاني كثيراً من الفساد و سوء القيادة ، و لا يملك أغلبها طرح جآد أو حلول للأزمة السودانية ، و هي إسوة بالأحزاب السياسية و منظمات العمل المدني في أمس الحاجة إلى إعادة التأهيل و التنظيم...
٤- الشعوب السودانية الصامتة و المراقبة و المقاومة:
و يبدوا أن شرآئح عريضة/نسبة عالية من الشعوب السودانية تعتمد إعتماداً عظيماً على: الصمت و الصبر و سلاح الدعآء!!! ، و تنتتظر حدوث المعجزات ، و يبدوا أن كثيرين منهم يعولون كثيراً على الآخرين يمدونهم بالمساعدات و يد العون ، و يبدوا أنهم ربما لا يعلمون/يعوون أن سلاح الدعآء يكون أكثرَ فعاليةً عندما تصاحبه المبادرات و الأفعال...
و على الرغم من هذه القتامة إلا أن تجارب الإنتفاضات السودانية العديدة ، خصوصاً الثورة الأخيرة ، قد أبانت أن قطاعات عريضة من الشعوب السودانية ، و إذا ما صممت و شآءت ، فإن بإمكانها إلحاق الهزيمة بالظالمين و إحداث التغيير...
التدخل الأجنبي:
و هنالك جهات عديدة من المعسكرين تؤمن بأن تعقيدات و تركيبات الأزمة السودانية لا يمكن حلها سودانياً ، و أن الحل الحاسم يتطلب التدخل الدولي و وضع السودان تحت مظلة الوصاية الدولية لفترة طويلة من الزمن يتم خلالها بسط الأمن و الإستقرار و إعادة بنآء أجهزة الدولة السودانية ، و يظل هذا الخيار من أسوأ الخيارات المتاحة ، و قد يعني حال حدوثه نهاية الدولة السودانية و تشظيها ، و الدليل على ذلك تدخلات/خيبات الأمم المتحدة في: فلسطين و جمهورية الكنغو و دول جنوب شرقي آسيا و الصومال و العراق و أفغانستان و سوريا و ليبيا...
الخلاصة:
المسألة/الأزمة السودانية بالغة التعقيد و عصية على الحل ، و يبدوا أن غالبية الفاعلين في ساحات بلاد السودان السياسية و الفكرية و الأمنية لا يملكون حلولاً مقنعة للأطراف المشاركة في خلق الأزمة/الكارثة ، و يبدوا أن مدى الحرب الدآئرة سوف يتسع ، و أن أمدها سوف يطول...
لكن الأمل ما زال معقوداً على شباب الثورة السودانية يقودون المقاومة و العمل الشعبي الذي سوف يؤسس لميلاد الدولة السودانية الجديدة و يحقق الأهداف و الغايات ، خصوصاً و أنهم قد أثبتوا ، و ضد كل الصعاب و الرهان ، أنهم يمتلكون المقدرات و الخبرات الضرورية التي تؤهلهم لقيادة و تنظيم الحراك الجماهيري كما حدث إبان ثورة ديسمبر ٢٠١٨ ميلادية الظافرة...
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأزمة السودانیة الدولة السودانیة
إقرأ أيضاً:
فاينانشال تايمز ترصد الاقتصادات الصاعدة التي ولدت خلال الأزمة المالية
نشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" تقريرًا يناقش كيف تؤدي الأزمات المالية إلى إصلاحات اقتصادية تُمهّد للتعافي في بعض الدول الناشئة، مشيرًا إلى أن العديد من البلدان النامية اضطرت إلى تبني سياسات تقشف صارمة بعد الجائحة، مما أدى إلى تحسن الأسواق المالية وتقليص العجز فيها.
وقالت الصحيفة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن ظهور علامات التباطؤ في الولايات المتحدة الأمريكية والهند وغيرهما من النجوم الاقتصادية الحديثة جعل الكثيرين يبحثون عن قصص النمو الواعدة القادمة.
وأشارت الصحيفة إلى أن الركود التضخمي في السبعينيات أدى إلى إصلاح السوق الحرة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين، وألهمت الانهيارات التي شهدتها الدول الناشئة في الثمانينيات والتسعينيات الموجة الكبيرة التالية من التجديد، من البرازيل إلى المكسيك وروسيا وتركيا. واليوم، نجد أيضًا تغييرات مدفوعة بالأزمات نحو الأفضل في جميع أنحاء العالم.
فقد أدت أزمة منطقة اليورو في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى إجراء إصلاحات، بالأخص في إسبانيا واليونان. ومؤخرًا، فرضت صدمات الجائحة عملية تطهير مالي في العديد من الدول الناشئة، بما في ذلك الأرجنتين وجنوب أفريقيا ونيجيريا وسريلانكا؛ حيث يظهر الانتعاش في جميع هذه الدول مع ارتفاع أسواق الأسهم وتحسن ظروف الائتمان.
وأوضحت الصحيفة أن هذه البلدان اضطرت إلى الإصلاح وضبط ميزانيتها لأن مواردها المالية كانت مرهقة للغاية بسبب الجائحة، مما أدى إلى تحقيق أرباح في الميزان الأولي - وهو مقياس رئيسي للعجز الحكومي الذي يركز على الإنفاق فقط - وهي في طريقها الآن لتحقيق فائض أولي للمرة الأولى منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وحسب الصحيفة، فإن كل دولة لها أسلوبها الخاص في ضبط النفس؛ حيث فرضت اليونان تخفيضات في الإنفاق وزيادات ضريبية كبيرة بما يكفي لعكس سجل من التخلف المزمن عن السداد يعود إلى تأسيسها كدولة مستقلة.
أما إسبانيا فقد خفضت مزايا المتقاعدين، وحولتهم لواحدة من أكثر فئات السكان فقرًا في أوروبا، لكنه نهج أدى إلى انخفاض العجز والدين بشكل كبير. ونظرًا لصعوبة استقطاب المواهب في عالم يتقدم في السن، فإنها ترحب بالمهاجرين في الوقت الذي تغلق فيه الكثير من الدول الأوروبية أبوابها، وخففت من قواعد التوظيف والفصل من العمل والعمل بدوام جزئي.
وأضافت الصحيفة أن سريلانكا، التي تخلفت عن سداد ديونها في سنة 2022 وسط أسوأ أزمة اقتصادية لها على الإطلاق، قامت بإعادة هيكلة نظامها بشكل جذري؛ حيث ألغت جميع الإعانات وفرضت ضرائب أعلى على الممتلكات والثروات الموروثة وصناعة القمار.
وخفضت نيجيريا أيضًا دعم الوقود ورفعت الإيرادات الحكومية عن طريق زيادة إنتاج النفط، وعملت البلاد على استقرار عملتها المتذبذبة من خلال السماح بتداول النيرة بحرية أكبر في الأسواق العالمية والقضاء إلى حد كبير على السوق السوداء المحلية.
واعتبرت الصحيفة أن الحالة الأكثر إثارة للاهتمام هي عملية "فولندليلا" في جنوب أفريقيا، وهي كلمة من الزولو تعني "مسح الطريق"؛ حيث صُممت هذه العملية لإزالة العوائق في أنظمة السكك الحديدية والطرق والمياه والطاقة الكهربائية، مما قلل بشكل كبير من حالات انقطاع التيار الكهربائي المزمن.
والهدف من كل ذلك هو تعزيز الإنتاجية - وهي مفتاح النمو المستدام على المدى الطويل - بدلاً من الاستمرار في تعزيزها بشكل مصطنع بالإنفاق الحكومي. ومن المقرر أن يرتفع نصيب الفرد من الدخل في جميع هذه الدول بعد انخفاضه أو ركوده لسنوات، وقد بدأت أسواق الأسهم في هذه البلدان تعكس هذا التحول الإيجابي؛ حيث تفوقت على المؤشر العالمي بنسبة 20 بالمائة خلال السنتين الماضيتين، وكانت الأرجنتين وسريلانكا هما السوقان الأفضل أداءً في العالم من حيث القيمة الدولارية خلال هذه الفترة.
وأفادت الصحيفة أن التصنيفات الائتمانية السيادية لهذه الدول اتجهت إلى الارتفاع باستثناء جنوب أفريقيا ونيجيريا، لكن الأنباء المتداولة تشير إلى أن الدولتين قد تكونان في طريقهما إلى رفع التصنيف الائتماني أيضًا.
ولا تقتصر هذه القائمة على تلك الدول؛ حيث تشمل الدول الأخرى التي تقوم بالإصلاح تحت الضغط تركيا ومصر وباكستان، وتعد ألمانيا هي أحدث مثال على "دائرة الحياة": فقد كانت ألمانيا نموذجًا يُحتذى به قبل 10 سنوات، ثم تهاونت وسقطت في حالة من التدهور، وبحلول الأسبوع الماضي كانت تبذل جهودًا كبيرة للإصلاح لدرجة أدت إلى رفع معنويات السوق في جميع أنحاء أوروبا.
وختمت الصحيفة التقرير بأن أيًا من تجارب هذه الدول الناشئة لا تخلو من العيوب؛ فمن المتوقع أن يتضاعف النمو في جنوب أفريقيا ثلاث مرات في السنوات القادمة، ولكن بنسبة 2 بالمئة فقط، وهي نسبة بعيدة كل البعد عن الإبهار. لكن هناك ميلًا انعكاسيًا للعثور على أخطاء أي بلد وقيادته، خاصة في عصر تتفشى فيه السلبية والاستقطاب الشديد.