حان الوقت لإعادة ميلاد حركة حقوق الإنسان العربية تحت قصف غزة
تاريخ النشر: 29th, December 2023 GMT
قامت مؤسَّسة "نساء من أجل العدالة" -وهي إحدى مؤسسات الدياسبورا المصرية- بعقد حلْقتها التشاورية الأولى، أوائل هذا الشهر، تحت عنوان: "سلسلة حوارية حول تأثير الحرب في غزة على الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في مصر والإقليم". حضر اللقاء 15 مشاركًا؛ تنوّعوا بين عاملين ومديرين لمنظمات حقوق إنسان، وباحثين في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.
جاءت هذه المبادرة اللافتة كمحاولة لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من مسائل حقوق الإنسان، التي تبعثرت أشلاؤُها، وامتزجت بأشلاء كل طفل ورجل وامرأة من الفلسطينيين، الذين استشهدوا تحت القصف الإسرائيليّ المنفلت من الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، والمدعوم من بعض الحكومات الغربية.
شهدت الديمقراطية وحقوق الإنسان تراجعًا كبيرًا قبل الحرب. وجد تقرير فريدوم هاوس الأخير "الحرية في العالم" أن 80% من سكان العالم لا يعيشون في بيئة حرة. الصراعات الجيوسياسية الآخذة في التوسع، والحروب الأهلية، والتراجع الديمقراطي في الديمقراطيات الكبرى، وتزايد الاستبداد، وكراهية الأجانب، وزيادة العنف السياسي، والتمييز المتزايد ضد الأقليات، وتصاعد اليمين الشعبوي.. كلها أمور تشكل اختبارًا لأهمية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمبادئ والقيم التي يكرّسها.
جاءت الحرب على الفلسطينيين لتبرز هذه الاتجاهات، وتضيف إليها: ازدواجية المعايير، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، والاستهداف الممنهج للصحفيين والمستشفيات …إلخ؛ ما يجعل العالم مكانًا غير قابل للعيش الآمن فيه، ومرتعًا للفوضى.
أدرك المجتمعون في الندوة التشاورية الأولى هذه التحديات، واقترحوا التعامل معها من مدخلَين: نظري وعملي.
استعادة لحظة الإنشاء 1948: عالمية حقوق الإنسانبرغم أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وُلد في أعقاب أهوال الحرب العالمية الثانية؛ فإنه جسّد اللغة المشتركة للإنسانية. كان في منشئه يوصف بأنه يجمع بين حكمة الحضارات الشرقية والغربية. ساهم عددٌ من الفقهاء والخبراء -الذين يمثلون تشكيلات حضارية متنوعة- في صياغته. هناك الآن أكثر من 70 معاهدة سارية لحمايته على المستويَين: العالمي والإقليمي، ويظلّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في قلب هذه البنية المعقدة من القواعد والمؤسسات وآليات الحماية.
كان الإعلان بمثابة تطور عميق في السياسة العالمية. أعلن أن الأفراد -وليس مجرد الدول ذات السيادة- هم حاملو الحقوق "غير القابلة للتصرف"، كما أن كيفية تعامل أي حكومة مع سكانها -بعد الآن- ستكون مسألة تدقيق دولي مشروع.
كانت حقوق الإنسان والديمقراطية واحدة من الأسس المعيارية الرئيسية للنظام الليبرالي الدولي القائم على القواعد في مرحلة ما بعد الحرب الثانية (1939-1945). استفادت منه أيضًا حركات التحرّر الوطني من الاستعمار التي تصاعدت في التوقيت نفسه، لكن للأسف تم احتلاله في مرحلة ما بعد الحرب الباردة -أوائل التسعينيات من القرن الماضي- من الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وجرى توظيفه لتحقيق المصالح الغربية.
وإذا كانت مسائل حقوق الإنسان جزءًا من مصالح الدول؛ فالمتوقع أن تصاب بالشلل، كما يظهر في عجز الأمم المتحدة عن أن تصدر قرارًا في مجلس الأمن يوقف الحرب في غزة. الأمر الأكثر إضرارًا بمنظومة حقوق الإنسان هو الترويج الانتقائي لها خارج الدول الغربية؛ الأمر الذي يعرضها لاتهامات بالنفاق والمعايير المزدوجة. تأثرت المنظومة أيضًا بفكرة "الاستثناء الأميركي" الذي امتد لربيبتها إسرائيل.
يفترض هذا الاستثناء أن الولايات المتحدة لديها الكثير لتعلمه للعالم، ولكنها لا تستطيع أن تتعلم منه سوى القليل، وهي بذلك تخضع لقواعدها القانونية والدستورية الداخلية فقط، ولا تلتزم بما هو خارجه. ينتج هذا في النهاية تفلتًا من القواعد والقوانين كما نشهد في الحرب الدائرة على الفلسطينيين الآن.
تعتمد حركة حقوق الإنسان في المنطقة بشكل كبير على التمويل والدعم الأجنبي؛ الذي يأتي جزء كبير منه من البرامج الحكومية الغربية يقوض هذا في أحايين جهود حركات حقوق الإنسان الوطنية في المنطقة التي قامت بتطبيع علاقاتها بالحكومات الغربية
أوصى المشاركون في الورشة بأنه ينبغي بذل جهد على المستويَين: النظري والفكري للتأكيد على عالمية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى لو لم تلتزم بها الحكومات الغربية. أضافوا: "ليس من مصلحتنا تصوير المسألة باعتبارها حربًا ثقافية أو حضارية، أو التخلي عن مرجعية حقوق الإنسان؛ لأننا سنكون بإزاء حالة فوضى". كما أكد المجتمعون: على ضرورة إعادة تقديم المبادئ القانونية الدولية المتعلقة بعدم شرعية الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، وكذلك حق مقاومة الاحتلال وحق تقرير المصير ، وهي أسس معترف بها في القانون الدولي، لكنها تحت الضغوط الإسرائيلية لا تلقى آذانًا مصغية في الدوائر الغربية.
نبّه المشاركون على الحركة الدائبة الآن للربط بين معاداة السامية وبين الصهيونية؛ لذا فقد اقترحوا ثلاث توصيات:
جعل معاداة العرب المتصاعدة في الغرب بعد الحرب في قلب معاداة السامية؛ لاشتراكهم في نفس الجذر العرقي. استحضار أفكار وحجج المفكرين اليهود المناهضين للصهيونية، أمثال إلين بابيه وغيره من المؤرخين اليهود الجدد. ضرورة تعميق الخطاب العربي والإسلامي الذي يميز بين اليهود والصهيونية. من المفيد التمييز في يوم 7 أكتوبر/ تشرين أول بين حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة، وبين ما جرى فيه من تجاوزات في حق المدنيين.دعت التجاوزات التي جرت يوم 7 أكتوبر المقاومة إلى التبرؤ منها ورفض نسبتها إليها -كما صرح نصر الله أمين عام حزب الله في خطابه- الجمعة 3 نوفمبر، أو التراجع عنها -كما في مسألة قتل رهينة مقابل كل مذبحة تقوم بها إسرائيل، أو إعادة توصيف المدنيين المحتجزين باعتبارهم ضيوفًا.
تصاعد -وإن كان لايزال مرتبكًا- تأسيسُ خطاب المقاومة على مناهضة الصهيونية والاحتلال والانتهاكات في حق الأسرى والمدنيين لا على معاداة اليهود. نحن بإزاء تطور يجب أن يُلتقط، ويُبنى عليه، ويتم التحاور بشأنه، موقنين أن الانتهاكات التي تقوم بها الأطراف المختلفة يغذي بعضها بعضًا، وتقدم مبررًا للطرف الأقوى نحو مزيد من الانتهاكات.
تعلمنا من تراثنا: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا"، ويقتضي منا ذلك: "اعدلوا هو أقرب للتقوى".
من الناس إلى الناس.. إستراتيجيات عمل جديدةبرغم نشأة الحركة الحقوقية العربية في الثمانينيات من القرن الماضي بمبادرة ذاتية -ووفقًا لمقتضيات الواقع العربي أساسًا الذي شهد انتهاكات شرسة وتجاوزات كبيرة- فإن قوة الدفع الأساسية كانت في التسعينيات؛ وبالتالي فإنها لم تخلُ من التأثر الدولي الذي كان وقتها يشهد صعودًا لقواعد النظام الليبرالي الدولي.
تعتمد حركة حقوق الإنسان في المنطقة بشكل كبير على التمويل والدعم الأجنبي؛ الذي يأتي جزء كبير منه من البرامج الحكومية الغربية. يقوض هذا في أحايين جهود حركات حقوق الإنسان الوطنية في المنطقة التي قامت بتطبيع علاقاتها بالحكومات الغربية باعتبارها الوسيلة الأكثر فاعلية لممارسة الضغوط على السلطات العربية لتحسين حالة حقوق الإنسان. لا يعني هذا أنّها باتت رهينة للدعم الغربي.
كما اعتمدت عدة إستراتيجيات عمل -مستقلة عن الدعم الدولي- بما في ذلك رفع مستوى الوعي لدى المواطنين، والسعي إلى إقامة تحالفات مع صانعي السياسات ذوي التفكير المماثل في البرلمانات، وتفعيل الآليات الدولية، خاصة التي أتاحتها الأمم المتحدة، واللجوء إلى آليات التقاضي الدولي مثل المحكمة الجنائية الدولية، والحوار مع الأنظمة الحاكمة …إلخ.
فكّ الارتباط بالحكومات الغربية، يستدعي ضرورة مراجعة نظرية التغيير المعتمدة من قبل المنظمات الحقوقية العربية. أشار المجتمعون في الحلقة التشاورية إلى عدد من المقترحات في هذا الصدد، أبرزها:
توجيه جهود المناصرة والتشبيك لقطاعات أخرى كالمجتمع المدني، والحركات الشعبية، وأحزاب الأقلية خارج التحالفات الحكومية، بالإضافة إلى الحكومات التي لم يتلوّن موقفها في هذه الحرب، مثل: النرويج وإسبانيا وبلجيكا وغيرها؛ وهذا لاكتساب مزيد من الحلفاء. ينبغي عدم التخلي عن القانون الدولي الإنساني وآليات العمل الدولية، رغم كونها محل تشكيك اليوم؛ فهي مساحات للحرية موجودة للبحث عن حلفاء في نضالنا الجماعي من أجل العدالة. التمييز في إدراكنا لمختلف الفاعلين وتنويعاتهم الداخلية. هذا التمييز هو خطوة أولى لفهم التباينات، والبدء في بناء خرائط تفصيلية لمختلف الفاعلين. وفي السياق ذاته، ينبغي الالتفات لأدوار الفاعلين من غير الدول التي باتت تلعب دورًا متناميًا في لحظة التحول الدولي الراهن. البحث عن حلفاء غير تقليديين خارج الدوائر الرسمية الغربية. تشمل القائمة المحتملة: منظمات المجتمع المدني، والحركات الشعبية في الغرب، اتحادات الطلاب ذات الميول اليسارية، اليهود غير الصهاينة (Jews for Peace for example)، مجتمعات الـ( LGBTQ)، نشطاء البيئة، ومجموعات الدفاع عن السكان الأصليين، وحركة "حياة السود مهمة"، بخلاف الجاليات العربية والمسلمة وحلفائنا في دول الجنوب. الاستثمار في ربط الحركة والخطاب الحقوقي بحاضنة شعبية جماهيرية تحميها من تقلبات الأنظمة. أما من حيث الاستقلالية؛ فإن الاعتماد الكلي على التمويل الأجنبي للمجتمع الحقوقي يضعه في مأزق حقيقي، خاصة أن بعض الحكومات الغربية تراجعه الآن لتمنحه وفق الموقف من إدانة ما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين أول.هناك ضرورة للعمل على تعدد مصادر التمويل، والتفكير في أشكال بديلة ومستدامة، مثل: التمويل الذاتي، أو التمويل المحلي، أو زيادة عدد المتطوعين على حساب المحترفين. ضرورة الاستثمار في التشكل التنظيمي للجاليات العربية والمسلمة في العواصم الغربية المؤثرة؛ وهذا لتيسير التنسيق والتعبئة بما يسمح بالتأثير على صانع القرار.
إن الطبيعة الحقيقية لحقوق الإنسان مرتبطة بكفاح الناس العاديين ضد إساءة استخدام السلطة والقوة والثروة، وهذا يستدعي التفكير فيها من أسفل لأعلى وليس من أعلى لأسفل -أيًا كان مَن في الأعلى: حكومات أو نظام دولي ليبرالي أو رجال أعمال؛ حتى لا يساء استخدامها من الأقوياء ضد الناس العاديين.
إن التوحش الإسرائيلي المدعوم من بعض الحكومات الغربية، هو فرصة لإعادة اختراع حقوق الإنسان من داخل المنطقة وبمبادرتها، والتحرر من استعمارية المفهوم. هو اختراع منفتح على العالم؛ لأنه يدرك عالميته لا غربيته، ويعيد بناء تحالفاته في أرض جديدة، ومن مادة جديدة لا ترتكز على الأقوياء؛ ولكن تستند إلى الحركات الشعبية التي انحازت لمفهوم العدالة باتساع معانيه.
سمحت لنا هذه الكارثة بإعادة اكتشاف فاعلية جيل "زد" (z) الذي وُلد آواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن، وهي فرصة للحركة الحقوقية العربية لتجديد شبابها من خلال الانفتاح وتضمين واستدعاء أصوات هذا الجيل، وهو ما يعزز فكرة البدائل والتجديد في الآليات ومراجعاتها.
وأخيرًا؛ فلن يكون لهذا الانفتاح -على العالم والتحالفات الجديدة ومشاركة الأجيال الجديدة- معنى من دون تجذير للحركة برمتها في تربتها المحلية، من خلال حركات شعبية داعمة ومساندة وضاغطة من أجل الإنسان الذي يتمتع بالحقوق غير القابلة للتصرف.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الحکومات الغربیة حقوق الإنسان فی وحقوق الإنسان لحقوق الإنسان فی المنطقة الإنسان ا
إقرأ أيضاً:
ترامب يخسر معركته الأولى.. الاقتصاد الأمريكي يتهاوى
كتب ألكسندر نازراوف على قناة «تلغرام» الخاصة به:
لقد بلغ عجز ميزانية الحكومة الأميركية، كانون الثاني الماضي، 128.64 مليار دولار، وهو ما يمثل ارتفاعاً بنحو ستة أضعاف مقارنة بالشهر نفسه من العام 2024 (21.93 مليار دولار).
ولا يعود ذلك فقط إلى انتقام بايدن، بل يعكس بشكل عام تدهور الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة وحول العالم. حيث يتدهور الوضع العام في الولايات المتحدة بسرعة، وسيستمر في التدهور حتماً، بغض النظر عن الحزب الحاكم أو شخصية الرئيس.
ويتعلق هذا الأمر بكل نقاط الضعف المؤلمة: الأزمة الداخلية، وهزيمة الغرب في أوكرانيا، وخسارة المنافسة الاقتصادية أمام الصين، وفقدان السيطرة على حلفاء سابقين، مثل المملكة العربية السعودية، التي رفضت زيادة إنتاج النفط على حساب نفسها من أجل خفض أسعار النفط، وحتى مصر التي تقاوم تهجير الفلسطينيين في ظل ظروفها الاقتصادية الصعبة للغاية.
لقد خسر ترامب المعركة ضد الوقت حتى قبل تولّيه المنصب.
ولكن، كان إدراك الولايات المتحدة للتهديد الصينيّ متأخراً في نهاية المطاف، فقد أصبحت الصين قوية لدرجة أنها قررت، برغم الحذر الصيني التقليدي، الردّ على الحرب التجارية الأميركية بشكل استعراضي، حتى بعد أن أعلنت واشنطن بالفعل عن مكالمة هاتفيّة، ورفض شي جين بينغ الردّ على مكالمة ترامب الهاتفيّة، وفرض، بصمت، ودون مساومة، رسوماً جمركيّة انتقاميّة. لقد بدأ الصدام المباشر بين الولايات المتحدة والصين، وسيتطور تدريجياً من حرب تجارية إلى صراع عسكريّ.
(…) الولايات المتحدة تخسر الشرق الأوسط. ومن خلال إدراكه لهذا الأمر، يحاول ترامب تعزيز مكانة «إسرائيل» باعتبارها حصنه الرئيسية في منطقة ستتحوّل حتماً إلى ساحة معركة في حربه مع الصين. ويتضمّن هذا التعزيز القضاء على الضعف الداخلي «لإسرائيل» متمثلاً في الفلسطينيين، ومن هنا التسرّع والإصرار على طردهم (من أرضهم)، حيث تلتقي هنا مصالح ترامب ونتنياهو.
وأتحفظ شخصياً على قدرات مصر والأردن في مقاومة هذا المشروع. فكلا البلدين يعتمدان اعتماداً كبيراً على رأس المال الغربي والتجارة الخارجية. وترامب قادر، إذا ما أراد، على تدمير اقتصادات هذه الدول بقرار واحد يتعلّق بالعقوبات المالية، وقطع الوصول إلى قروض جديدة و/أو منع هذه الدول من تسوية مدفوعاتها بالدولار.
الأسوأ من ذلك هو أنه، وفي رأيي المتواضع، ليس للولايات المتحدة أي مصلحة في الحفاظ على الاستقرار في هذه البلدان أو في الشرق الأوسط ككل، وهو ما يعني أن العواقب الكارثية للعقوبات المحتملة ضد مصر من غير المرجّح أن توقف ترامب. ولا يمكن للولايات المتحدة إلا أن تلاحظ الانجراف التدريجي للدول العربية، بما في ذلك دول الخليج، نحو الصين، في حين أن وقف تصدير النفط الخليجي إلى الصين (نتيجة الحرب مع إيران أو لأي سبب آخر) هو جزء من الخطة الأميركية لمحاربة الصين. وقبل رحيلها عن المنطقة، ستضرم الولايات المتحدة النار فيها حتى لا تسقط في أيدي الصين.
ولعل الحجة الوحيدة ضد زعزعة استقرار مصر في الوقت الراهن هي الوقت! الوقت ينفد، وكان لا بدّ من إنجاز كل شيء بالأمس، والآن قد يؤدي ضيق الوقت إلى حرب متزامنة على جبهتين أو ثلاث أو أربع، ضد إيران، وضد روسيا، وضد كندا وغرينلاند، وضد مصر مع تهجير الفلسطينيين، وصراع مع الصين. حيث ستتجاوز هذه الصراعات، إذا ما حدثت في وقت واحد، قدرة الولايات المتحدة إلى حد كبير.
وفي ظل هذه الظروف، قد يكون لموقف مصر الصارم للغاية، والابتزاز العلنيّ بإمكانية التحول إلى المعسكر الصيني وفتح جبهة أخرى ضد ترامب، بعض فرص النجاح. لكن، من المؤكد أن هذه ستكون خدعة بأوراق لعب ضعيفة ومقامرة محفوفة بالمخاطر للغاية، وستعتمد نتيجة لعبة «البوكر» هذه على احترافيّة اللاعبين.
من بين الخطوات القويّة للغاية في مثل هذه اللعبة قد تكون (على الرغم من أنّها قد تكون غير متوقعة وغير قابلة للتصديق) بيان مشترك محتمل من جانب زعماء مصر وإيران والمملكة العربية السعودية حول نيّتهم منع تهجير الفلسطينيين بأي ثمن. وبطبيعة الحال لن يمنع ذلك الحرب، ولكنّه ربما يؤخّرها. ومع ذلك، فمن غير المرجّح أن يصدر مثل هذا البيان. على الأرجح، ستتطوّر الأحداث وفقاً للأنماط التاريخيّة، أي أن الجميع سيؤجلون دخول الحرب، بالتالي سوف يدخلونها في أسوأ لحظة وفي أسوأ الظروف.
على أيّ حال، وفي ظل هذه الظروف، فإن التسرّع المذهل من جانب ترامب لتسوية الوضع في أوكرانيا أمر مفهوم وطبيعي، فهذه القضيّة تحرق يدي ترامب كفحم ساخن في راحة يده، ويسعى للتخلص منها بأيّ ثمن تقريباً. لذا كان ترامب هو من اتصل ببوتين، الذي لم يرفض إجراء محادثة أو حتى لقاء، لكن استناداً إلى تعليق الكرملين، فإن بوتين كرّر خلال هذه المحادثة ببساطة مطالبه السابقة. ومن الواضح أن ترامب هو مَن يحتاج إلى اتفاق لا بوتين، ليحصل الأخير على فرصة للمطالبة بثمن مضاعف مقابل تنازلاته المحتملة.
ومع ذلك، فأنا متشكك للغاية بشأن إمكانية التوصل إلى تسوية طويلة الأمد بأوكرانيا في المستقبل القريب. والمقترحات التي طرحها ترامب لا تقضي على أسباب الحرب، كما أن تجميد العمليات العسكرية الناجحة على المدى الطويل ليس في مصلحة روسيا.
وبطبيعة الحال، هناك بعض المزايا التكتيكيّة للتجميد المؤقت بالنسبة لروسيا، لكن هذا التجميد لديه فرصة لأن يصبح مستداماً، وهو ما يتعارض بشكل قاطع مع مصالح روسيا.
إلا أن هناك فخاً بالنسبة لترامب، فقد كانت الحرب ضد روسيا تؤخر الانهيار الجليديّ في شكل تفعيل عدد من الصراعات الأخرى في وقت واحد. وفي حال التجميد المؤقت لأحداث أوكرانيا، فإن المهمة الرئيسية لترامب ستكون الفصل زمنياً بين تهجير الفلسطينيين والحرب مع إيران، وتجنّب الحرب على جبهتين.
بالنسبة لخصوم الولايات المتحدة، فإن الهدف الرئيسي هو مضاعفة عدد الصراعات التي تشترك فيها الولايات المتحدة. فلا ينبغي لنا أن نسمح لترامب بالفصل بين الصراعات زمنياً، وحلّ المشكلات على التوالي. نحن بحاجة إلى جرّ الولايات المتحدة إلى أكبر عدد ممكن من الصراعات على التوازي. وفي هذا الصدد، سيعتمد كل شيء في الوقت الراهن على موقف مصر وإيران. وقد قدّمت روسيا مساهمتها بالفعل. إن عنصر الوقت الآن هو السلاح الرئيسيّ والعامل الرئيسيّ في الحرب، والحكيم من يجيد استخدامه