صحيفة الثورة الجمعة 16 جمادى الآخرة 1445 – 29 ديسمبر 2023
تاريخ النشر: 29th, December 2023 GMT
صحيفة الثورة الجمعة 16 جمادى الآخرة 1445 – 29 ديسمبر 2023.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
في مناقب الباقر العفيف «2 – 3»
في مناقب الباقر العفيف «2 – 3»
النور حمد
الفقيد الباقر العفيف
مما يُميِّز خدنَ الروح، وصفيَّ القلب، الصديق العزيز، الراحل، د. الباقر العفيف، استقلالية شخصيته، وحرية التفكير التي يتمتع بها، وشجاعته في إبداء رأيه. وفي بلادٍ مثل بلادنا لا تزال تسود فيها غريزة القطيع، وثقافةٍ لا يزال يسيطر عليها العقل الجمعي، فإن الاتِّصاف بمثل ما اتصف به الراحل الكبير، يضع صاحبه أمام تحدياتٍ جسام. كتب الأستاذ محمود محمد طه، في ستينات القرن الماضي، عن طفولة العقل التي يتشاركها غالبية الناس وتتمثل في تجنُّبهم تحمُّل المسؤولية، ما نصه: “الناس لا يزالون أطفالاً، يحبون أن يحمل غيرُهم عنهم مسؤوليتهم، ويطيب لهم أن يظلُّوا غير مسؤولين، أو هم، إن احتملوا المسؤولية، فإنما يحتملونها في القطيع، وعلى الطريق المطروق. أما أن يكون المسئول وترًا، وأن يطرق طريقًا بكرًا، فإنه أمرٌ مخيفٌ، ولا يجد في النفوس استعدادًا، ولا ميلا”. لذلك، لا غرابة أن تكون قلةٌ قليلةٌ جدًا من مثقفينا هم الذين يقدرون على السباحة ضد التيار العام. وما ذاك إلا لأنها تتطلب شجاعةً وقوة احتمالٍ تستند على بناءٍ نفسيٍّ صلب. وتأتي قوة الاحتمال من سعة الفكر وعمقه. وأهم من ذلك، هي تأتي من متانة البناء الأخلاقي للشخصية. لذلك فإن أسوأ ما يمكن أن يتصف به المثقف، إنما هو إخفاؤه ما يعتقد، أو التنازل عنه خوف الرأي العام، أو بسبب السعي وراء التصفيق والهتاف الذي تجلبه دغدغة العواطف النواضب للعوام.
لقد شهدت الفترة التي أعقبت إعدام الأستاذ محمود محمد طه، بروز تبياناتٍ في الرؤى وسط القياديين الجمهوريين وعامتهم. فالفترة التي أمضيناها في المدرسة الفكرية الروحية العظيمة، للأستاذ محمود محمد طه، على تفاوتٍ بيننا في المدد، وفي مقدار الانتفاع من التجربة، اتسمت في جملتها بالجماعية. وقد كان السبب أن التركيز فيها كان منصبًّا على التربية وعلى تبليغ الدعوة. ولحسن الحظ، لم يفصل بين إعدام الأستاذ محمود محمد طه في 18 يناير 1985، وقيام ثورة أبريل 1985، سوى 76 يومًا. لذلك، لم يعاني الجمهوريون من اضطهاد السلطة سوى في تلك المدة القصيرة. لكن، على الرغم من عودة النظام الديمقراطي، لم تعد حركة الجمهوريين إلى ممارسة العمل في المجال العام، مثلما كان عليه حالها في الفترة ما بين 1965 و1985. تباينت الرؤى، عقب إعدام الأستاذ محمود محمد طه، واختلفت في تحديد ما هو الواجب المباشر. وقد اختارت أغلبية الجمهوريين العمل الداخلي، الذي اقتصر جلُّه على الإنشاد العرفاني، وعلى الإبقاء على الروابط الاجتماعية داخل المجتمع الصغير، رغمًا عمَّا طرأ من تباين الرؤى الذي قاد إلى انسحاب الحركة من المجال العام.
تجربته في “حركة حق”
في منتصف التسعينات، انضم الباقر العفيف إلى بعض أعضاء الحزب الشيوعي الذين ابتعدوا عن الحزب وأداروا ظهرهم للصيغة الماركسية اللينينة، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية. هذه المجموعة أسست، في منتصف التسعينات، مع بعض قوى اليسار ما سُمِّيت “حركة حق”، التي أصبح الباقر العفيف واحدًا من قيادييها البارزين. ولقد كان انضمام الباقر العفيف إلى حركة حق مستغرَبًا لدى قطاع كبيرٍ من الجمهوريين. فبعضهم، فيما يبدو، رأى فيه مخالفةً لخط الحركة الجمهورية، رغم أن الحركة الجمهورية كحركةٍ فاعلةٍ، لم تعد هناك. وأعتقد أن استغراب أكثرية الجمهوريين من انضمام الباقر العفيف إلى حركة حق قد نتج من خلطٍ بين العمل السياسي والعمل الدعوي، في وقت كان فيه العمل الدعوي قد توقف تمامًا ولم يعد له وجودٌ في المجال العام، باستثناء بعض أصواتٍ فرديةٍ، قليلةٍ، تظهر عبر الكتابة، هنا وهناك.
في فترة وجوده في إنجلترا تعرَّف الباقر عن كثب على القيادي الشيوعي البارز، الراحل، الخاتم عدلان، الذي لمع نجمه منذ أيام الطلب في جامعة الخرطوم. ولعل الذي جمع بين الباقر العفيف والخاتم عدلان، استقلالية الرأي والشجاعة في إبدائه، والاستعداد لمجابهة قذائف التخوين التي تطلقها عادةً مدفعية أحزاب الأديولوجيا القابضة؛ على من يتجرأون على الاختلاف معها، والابتعاد منها. تعمَّقت الصداقة بين الباقر العفيف والخاتم عدلان، رغم أنهما جاءا من مدرستين فكريتين متباينتين. لكنني أعتقد أن المرونة الفكرية، ونزعة التجريب، والقدرة على االشعور بتبدل السياقات قد جمعتهت بينهما وجعلتهما يقتربان من بعضهما. ومن جانبي، فإنني قد أحو لأُعزي التقاءهما، إلى كونهما قد طوَّرا قراءةً مشتركةً لأوضاع الأحزاب السياسية السودانية، وللحالة السياسية السودانية في تلك المرحلة. في عام 2005 توفي الخاتم عدلان بسرطان البنكرياس، الذي توفي به، بعد عشرين عامًا، صديقه الحميم، الباقر العفيف، (على كليهما الرحمة والمغفرة ولكليهما حسن المآب مع سلفهم من الصالحين الفالحين من نابهي السودانيين). لكن، فيما أمهل المرض الباقر العفيف ما يقارب السبع سنوات، لم يمهل صديقه الخاتم، من قبله، سوى بضعة شهور. ولابد أن صلةً روحيةً ما قد جمعت بينهما وجعلت أقدارهما متشابهة على ذلك النحو، إذ رحلا بسبب مرضٍ واحدٍ، وفي عمرٍ قصير. وما يدل على إكبار الباقر العفيف لصديقه الخاتم عدلان ووفائه له، تسمية المركز: (مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية). وأقترح، من جانبي، على مجلس إدارة المركز أن تعيد تسميته لتصبح: (مركز الباقر والخاتم للاستنارة والتنمية البشرية).
لم أستغرب انضمام الباقر إلى حركة حق، فقد كنت مثله، أومن باستقلالية القرار وحرية الفعل. كما كنت أومن مثله أن الناس يمكن أن يتعاونوا، في سياقاتٍ بعينها، عبر القوالب السياسية الضيقة، حين يقتضي الحال، بدل أن يبقى كل قبيلٍ سياسيٍّ منحبسًا في إضبارةٍ منعزلة. لكن، مع ذلك، كنت مشفقًا عليه من العمل مع من كانت خلفيتهم شيوعية، لمعرفتي بما يصبغ به العمل في الحزب الشيوعي صاحبه، وهو أمرٌ خبرته منذ أن اقتربت منهم في المرحلة الثانوية. كان توقُّعي أن الباقر لن يستطيع التنفُّس طويلاً في ذلك الجو. وقد أعربت له باقتضابٍ بضع مراتٍ، أنه سوف لن يحتمل تلك البيئة التي اختار العمل من خلالها. وبالفعل دخل الباقر في صراعاتٍ حين كان في إنجلترا، وفي صراعاتٍ أخرى في مركز الخاتم عدلان، بسبب أن بعض قيادات حركة حق أصبحت جزءًا من بنية المركز.
في أوج تلك الصراعات، جاء الباقر إلى الدوحة ليجتمع ببعض قيادات حق، في شأن ذلك الصراع المرير، ونزل معي في المنزل. كانت الخلافات قد بلغت، حدَّا مزعجًا عرض المركز للقيل والقال، حتى دخل في ذلك إعلام الكيزان. وقد كان الباقر يأمل أن ينصفه اجتماعه بقيادات حق في موقفه في تلك الخلافات. لكن، حين عاد من الاجتماع كانت على وجهه مسحةُ حزنٍ وخيبة أملٍ لا تخطئها العين. وقد كنت على يقينٍ، حينما ذهب إلى الاجتماع، أن من سيجتمع معهم سوف يتكتَّلون ضده، وسيقفون مع الطرف الآخر، وكان ذلك هو ما حدث بالفعل.
أوردتُ هذه القصة، رغم كرهي إيرادها، لأعكس ما يتمتع به الباقر من صفات النبل والابتعاد عن شخصنة الأمور وعن نزعات الثأر الشخصي. وأحب هنا أن أستخدم العامية لأقول: (موضوعية الباقر وحِيَادو مرَّات يتحرِّقوا الروح). لم يزد الباقر حين عاد على القول بأن الاجتماع لم يكن في صالحه، ولم ينصفه، كما كان يتوقع. ولم يعلِّق بأي شيءِ ضد هؤلاء القياديين الذين تكتلوا ضده، ووقفوا مع خصمه في ذلك الصراع، رغم أن خصمه قد كان، في نظره، مبطلٌ باطلاً صُراحا. باختصارٍ شديدِ، لقد كان ابتعاد الباقر عن حركة حق، حتميًّا. ولقد كانت حركة حق، بنيتها وإرثها، وعاءً أضيق من أن يتسع لطاقات الباقر العفيف ولقدراته. وقت أثبت الباقر ذلك، عمليًّا، حين انصرف، بكليته، إلى تطوير المركز وتوسيع أنشطته. وأيضًا، حين انخراط في العمل المدني، والناشطية السياسية المستقلة. (يتواصل).
الوسومالباقر العفيف الجمهورييين الروابط الاجتماعية النور حمد حركة حق مناقب