سوريا 2023: شظف الاستبداد، زلزال الطبيعة، وتطبيع الكبتاغون
تاريخ النشر: 29th, December 2023 GMT
مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2022 شاء رئيس النظام السوري بشار الأسد استباق العام الجديد بإصدار قانون «تحديد اعتمادات الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2023» بمبلغ إجمالي قدره 16,550 مليار ليرة سورية؛ تعادل 4,5 مليار دولار، طبقاً لسعر الصرف الرسمي. تلك كانت أولى نُذُر عذابات السوريين في استقبال سنة جديدة، ابتداء من حقيقة أنّ سعر صرف العملة الوطنية كان يسجّل نحو 6600 ليرة للدولار الواحد، ولن ينطوي العام 2023 قبل أن يتضاعف بنسبة 100% تقريباً، ليسجّل 12600 ليرة.
الطبيعة سوف تستكمل مآسي السوريين بالزلزال المدمر الذي ضرب مناطق شتى، شمالاً وغرباً خاصة، في شباط (فبراير)؛ ومنح النظام ومؤسسات الاستبداد والفساد التي يديرها فرصة أخرى ثمينة لاستغلال موجات الإشفاق العالمية وتحويلها إلى مصادر نهب علنية جيّرت ملايين الدولارات لصالح خزائن الحلقة الضيّقة التابعة للنظام وآل بيته. في الآن ذاته، وإذْ تولى الزلزال الإجهاز على أكثر من 5900 سوري وإصابة وتشريد عشرات الآلاف، كانت معطيات الشقاء السوري تشير إلى أنّ 70% من سكان سوريا كانوا بحاجة فعلية إلى مختلف أشكال العون، غذائياً وصحياً وإنسانياً؛ وأكمل «برنامج الغذاء العالمي» مشهد البؤس المعمم بالتحذير من أنّ الجوع بلغ معدلات قصوى لا أمثلة عليها في تاريخ سوريا، مع 2,9 مليون نسمة يقتربون من حافة المجاعة، و12 مليونا لا يعرفون متى سيحصل أيّ منهم على وجبة طعام مقبلة؛ فضلاً عن عواقب الأوبئة والأمراض المتفشية ونقص الأدوية أو انعدامها.
في نيسان (أبريل) توفرت للسوريين فرصة جديدة، بين عشرات سابقات وأخرى لاحقات، للتعرّف على فصل دراماتيكي ومضحك في آن معاً، هو قرار الأسد إقالة عمرو سالم وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك؛ في غمرة شائعات (كانت أجهزة استخبارات النظام وراء الترويج لها، أغلب الظنّ) أفادت بأنّ سبب الإقالة كان ارتباط سالم بالمخابرات المركزية الأمريكية، وأنّ الأسد كلّف اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي بالتحقيق شخصياً في الاتهامات. طراز آخر من الشائعات أشار إلى أنّ مفرزة أمنية داهمت مزرعة الوزير المقال في الصبورة على تخوم دمشق، ورشح أنها عثرت على مبالغ بالدولارات والليرة السورية فلكية تماماً، بمئات الملايين، فضلاً عن كيلوغرامات من الذهب عيار 21…
والحال أنّ الوعي الشعبي السوري كان قد تدرّب طويلاً، اعتماداً على فصول النظام أوّلاً، على مزيج من وقائع نهب فعلية وألعاب استخبارات متعددة الأغراض تتقصد الإلهاء تارة أو تجميل صورة النظام كمحارب للفساد تارة أخرى، إضافة إلى إخراس صوت فاضح أو إغلاق «صندوق أسود» هنا وهناك وكلما اقتضت الضرورة. وبذلك فإن حكاية الوزير المقال، أياً كانت مقادير الصحة والتلفيق في عناصرها، لم تكن طارئة على «مآثر» نهب وفساد وسطو رسّخ آل الأسد تقاليدها ابتداء من انقلاب الأسد الأب، خريف 1970؛ وكان أبطالها أعضاء في الهرم الأعلى للنظام، عند مستوى الأشقاء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة والزوجات، أمثال رفعت الأسد وماهر الأسد ومحمد مخلوف ورامي مخلوف وأسماء الأسد.
في أيار (مايو) سوف يقوم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بزيارة إلى دمشق كانت الأولى لرئيس إيراني منذ 13 سنة، وهذا تفصيل لافت لم تخفَ دلالاته على مراقبي العلاقة بين آل الأسد وآيات الله؛ كذلك لم تغبْ ضرورة استذكار حقيقة رديفة كانت تشير إلى أنّ الأسد سبق أن زار طهران مرّتين، على نحو معلن، في شباط (فبراير) 2019 وكان حسن روحاني رئيساً لإيران، وفي أيار (مايو) 2022 وكان رئيسي قد تولّى الرئاسة؛ كما استقبله، خلال الزيارتَين، المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. وإذا صحّ أنّ زيارات الأسد إلى طهران كانت أقرب إلى هرولة التابع نحو الراعي، فإنّ زيارة رئيسي ارتدت صفة تحصيل الإيرادات الإيرانية عن عقود من الإنفاق المادي على النظام، في ميادين النفط والتسليح والصيرفة والميليشيات المذهبية؛ إذْ لم يغفل الرئيس الإيراني التشديد على ضرورة حضور بلاده في صفقات إعادة إعمار سوريا التي قد تكون على وشك الإبرام، في ضوء مقايضات محتملة مع أنظمة مثل الإمارات والسعودية. وهذا عدا عن توقيع «مذكرة تفاهم لخطة التعاون الشامل الستراتيجي طويل الأمد» وسلسلة اتفاقيات في ميادين الطاقة والزراعة والنقل والاتصالات والثقافة (والمقصود هنا: تسهيلات الحجّ الإيراني إلى الأماكن الشيعية المقدسة في سوريا)…
في أيار (مايو) أيضاً، سوف يشارك الأسد في القمة العربية التي انعقدت في جدّة، المملكة العربية السعودية؛ وكانت تلك المشاركة هي الأولى منذ آذار (مارس) 2011 حين جرى تعليق عضوية النظام في الجامعة العربية. وإذا كان الأسد لم يُمنح فرصة التفلسف على الجلسة الافتتاحية، فإنه مع ذلك لم يشأ تمرير المنبر دون المحاضرة على أخوته حكام العرب حول تحويل القمة إلى «فرصة تاريخية لإعادة ترتيب شؤوننا بأقل قدر من التدخل الأجنبي»؛ هو نفسه رأس نظام أزهق أرواح مئات الآلاف وشرّد الملايين من السوريين، واعتمد خيارات الأرض المحروقة والتدمير الشامل والتطهير المناطقي، واستخدم أسلحة التدمير الشامل التي لا تبدأ من الضربات الكيميائية ولا تنتهي عند البراميل المتفجرة، وسلّم البلد إلى خمسة احتلالات أجنبية، فضلاً عن عشرات الميليشيات المذهبية ومفارز المرتزقة.
ولا يخفى أنّ تسهيل إعادة نظام آل الأسد إلى حظيرة الجامعة العربية كان نتاج جهود متقاطعة بذلتها دول مثل الإمارات ومصر والجزائر والعراق والأردن، إلا أنّ الجهد الأكبر تولته السعودية؛ واتخذ أجندة محددة عبّرت عنها قمّة جدّة ذاتها، في التالي: «تعزيز التعاون العربي المشترك؛ لمعالجة الآثار والتداعيات المرتبطة باللجوء والإرهاب وتهريب المخدرات» و»تأكيد ضرورة اتخاذ خطوات عملية وفاعلة للتدرج نحو حل الأزمة السورية». ولن يطول الوقت حتى أدرك الوسطاء أنفسهم أنّ مطالب النظام (خاصة في ملفات مثل إنتاج الكبتاغون وتهريبه إلى الأردن وبلدان الخليج خصوصاً، أو توفير حلول آمنة وملموسة لإعادة اللاجئين السوريين…) أعلى، ثمناً وطمعاً ومناورة ومخادعة، من أن تتوافق مع النوايا العربية؛ فكان أن تعثر ملفّ «التطبيع» مع النظام، أو كاد أن يُطوى نهائياً.
وهذا ملفّ يرتدّ في كثير من عناصره إلى طبائع العلاقات بين آل الأسد والسعودية، والتي شهدت سيرورات مدّ وجزر، أو دفء وبرودة، أو اتفاق واختلاف؛ بصدد ثلاثة ملفات إقليمية كبرى تقليدية، هي لبنان وفلسطين والعراق؛ أُضيفت إليها ملفات ترتبط بتعاظم المدّ الإيراني في المنطقة، في العراق ولبنان واليمن، دون إغفال مفاعيل النفوذ الإيراني في المناطق السعودية التي تقطنها أغلبية شيعية.
وأمّا في آب (أغسطس) فإنّ بارقة الأمل لم تحتجب عن سوريا والسوريين، وتمثلت في انتفاضة محافظة السويداء أوّلاً، ثمّ اتساع رقعة الاحتجاجات المدنية السلمية إلى مناطق في حوران وأرياف دير الزور وحلب وإدلب، وفي بعض مناطق سيطرة النظام مثل العاصمة دمشق وطرطوس. لكنّ حراك السويداء تميّز بمضامين جذرية شملت رحيل النظام وإطلاق سراح المعتقلين وتطبيق اقرار الأمم المتحدة 2254، وبذلك فإنها تجاوزت الاحتجاج على الأوضاع المعيشية والشعارات المطلبية.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأسد سوريا المخدرات سوريا الأسد المخدرات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة آل الأسد
إقرأ أيضاً:
اليمن بين جفاف الطبيعة واستنزاف السياسة
تواجه اليمن واحدة من أسوأ أزمات المياه في العالم نتيجة الجفاف الشديد، والاستنزاف المفرط للمياه الجوفية، وانهيار المؤسسات، واستمرار النزاع المسلح. أدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية للمياه وتلوث المصادر ونزوح ملايين الأشخاص، مما قلل من إمكانية الوصول إلى مياه آمنة. وتعكس هذه الأزمة تداخلاً عميقًا بين عدم الاستقرار السياسي والبيئي.
تُعد اليمن من أكثر دول العالم تعرضًا لأزمة مائية مزمنة، إذ تقع ضمن حزام جغرافي يتسم بندرة الموارد المائية،1 وتُسيطر عليه ظروف مناخية قاسية تتراوح بين الجفاف وشبه الجفاف. وتعتمد البلاد بدرجة كبيرة على مياه الأمطار التي تتسم بضعف انتظامها وتفاوتها الجغرافي والزماني الحاد، حيث يتراوح معدل الهطول المطري السنوي بين 108 و114 ملم، وهي كمية لا تفي بالحد الأدنى من احتياجات المجتمعات الحضرية أو الريفية على حد سواء، ما يؤدي إلى عجز دائم في الموارد السطحية.
في ظل هذا العجز، يُشكّل الاعتماد على المياه الجوفية خيارًا لا بديل عنه، إذ تمثل المصدر الرئيس لتلبية الاحتياجات المائية للسكان. غير أن هذا المورد نفسه يواجه تهديدات متصاعدة جراء عمليات الاستخراج العشوائي عبر آلاف الآبار غير المرخصة، وفي ظل غياب رقابة مؤسسية فعالة أو استراتيجيات تضمن استدامة الاستخدام ويُضاف إلى ذلك أن اليمن تُسجِّل أحد أدنى معدلات نصيب الفرد من المياه على مستوى العالم، حيث لا يتجاوز 150 مترًا مكعبًا سنويًا، مقارنة بمتوسط يبلغ 1250 مترًا مكعبًا في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو ما يعكس حجم الفجوة المائية البنيوية وما يضاعف من تفاقم هذا التحدي هو نمط الاستخدام غير الرشيد للمياه، خاصة في القطاع الزراعي، الذي يستهلك أكثر من 90%، من إجمالي الموارد المتاحة، مع اعتماد شبه كلي على تقنيات ري بدائية، تُسهم في هدر كميات ضخمة من المياه دون مردود إنتاجي متناسب.
لكن التهديد الأكبر للأمن المائي في اليمن خلال العقد الأخير لم يكن بيئيًا أو إداريًا فحسب، بل جاء من قلب الصراعات المسلحة التي اجتاحت البلاد، والتي خلّفت آثارًا مدمرة على مختلف القطاعات، وفي مقدمتها قطاع إدارة المياه. فقد أدى تصاعد النزاعات إلى تدمير واسع للبنية التحتية المائية، شمل السدود ومحطات الضخ وشبكات التوزيع، مما تسبّب في انقطاع الإمدادات المائية عن ملايين السكان، ودفعهم إلى البحث عن مصادر بديلة غير آمنة من حيث الجودة أو الاستدامة، مثل مياه الصهاريج ومصادر الآبار الضحلة الملوثة.
وتفاقمت المشكلة مع موجات النزوح الداخلي الواسعة النطاق، التي زادت من الضغط على المناطق الأكثر استقرارًا نسبيًا، حيث تضاعف الطلب على المياه في مناطق لم تُجهّز بنيويًا لاستقبال أعداد إضافية، وهو ما أدى إلى إرهاق الأنظمة المحلية وشبكات التوزيع المحدودة. ولم يكن هذا كله ليحدث بهذا الأثر المدمر لولا الانهيار المؤسسي الشامل الذي طال الأجهزة الحكومية المسؤولة عن إدارة الموارد المائية، والتي تراجعت قدرتها على تطبيق القوانين وتنفيذ الخطط وصيانة البنى التحتية، ما أدى إلى تصاعد الفوضى المائية وتوسع مظاهر الاستنزاف والتلوث.
وعليه، فإن هذا المقال يهدف إلى تحليل الأبعاد المختلفة لتأثير الصراعات الممتدة على قطاع المياه في اليمن، من خلال قراءة متعددة المستويات تشمل الجوانب التقنية، والبيئية، والمؤسسية، والاجتماعية. كما يسعى إلى تقديم فهم أعمق للتحديات التي تعيق تحقيق الأمن المائي، في ضوء تدهور الحوكمة وتآكل البنية التحتية، واستمرار الضغوط البيئية والديموغرافية. في سياق هذا التحليل، يتضح أن المياه لم تعد مجرد مورد طبيعي، بل تحولت إلى مكون جوهري في معادلة الاستقرار الوطني. ومن هذا المنطلق، يصبح من الضروري تفكيك ديناميات الأزمة عبر مقارنة مرحلتين أساسيتين: ما قبل اندلاع النزاع وما بعده، وذلك لتشكيل تصور متكامل حول طبيعة التحولات التي مر بها قطاع المياه، وتعقيداتها الراهنة، والمسارات الممكنة لاستعادة التوازن والاستدامة في هذا القطاع الحيوي.
التحديات المائية قبل وبعد الصراعات في اليمن
أولاُ: التحديات المائية قبل الصراعات
حتى قبل أن تدخل البلاد في أتون الصراع المسلح، كانت اليمن تواجه تحديات مائية هيكلية ممتدة، تعود جذورها إلى تراكب عوامل طبيعية وأخرى مؤسسية وقد أكدت تقارير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن هذه الإشكالات لم تكن ناتجة عن صدمة ظرفية، بل تشكّلت عبر عقود من ضعف التخطيط، وسوء إدارة الموارد، وتآكل البنية التحتية في بيئة سكانية نامية تفتقر لمصادر مائية كافية ومن أبرز هذه التحديات:
تتمثل إحدى أبرز أزمات اليمن في الندرة المزمنة للموارد المائية، والتي تتجلى في الاعتماد شبه الكلي على المياه الجوفية، وتوظيف نحو 90% من المياه المتاحة في القطاع الزراعي، الذي يعتمد بدوره على أساليب ري تقليدية منخفضة الكفاءة. هذا النمط من الاستهلاك المفرط أدى إلى استنزاف متسارع للمخزون الجوفي، لاسيما في مناطق تهامة ووادي حضرموت، حيث تفيد التقديرات بأن معدلات الاستخراج السنوية تتجاوز بكثير معدلات التغذية الطبيعية، ما يؤدي إلى انخفاض سنوي في مستويات المياه الجوفية يتراوح بين مترين وستة أمتار سنويًا.
تعاني شبكات نقل وتوزيع المياه من معدلات تسرب مرتفعة تتجاوز 50% من إجمالي الكميات المنقولة، ويرجع ذلك إلى التآكل الهيكلي وقصور أعمال الصيانة كما أن قدرة السدود الصغيرة والمرافق الحالية محدودة، ولا تؤهلها لاستيعاب مياه الأمطار الموسمية، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة في المياه المتاحة كان يمكن استثمارها في دعم الأمن المائي.
افتقرت المؤسسات المعنية بإدارة المياه إلى الحد الأدنى من التنسيق الداخلي والخطط الاستراتيجية بعيدة المدى، ما أفضى إلى ازدواجية السياسات، وإهدار الموارد، وتداخل الأدوار بين الجهات المختلفة. وتزامن ذلك مع تسارع النمو السكاني، الذي تجاوز معدل 28% سنويًا في بعض المناطق، إلى جانب التوسع العمراني العشوائي، الأمر الذي زاد من الطلب على المياه بشكل غير منظم وفاقم اختلالات التوزيع.
ثانياً: التحديات المائية بعد الصراعات
مع تصاعد الصراعات المسلحة منذ العام 2015، دخلت الأزمة المائية في اليمن طورًا أكثر تعقيدًا وخطورة، إذ أدّت الأعمال العدائية إلى تفاقم الأوضاع المائية على نحو غير مسبوق. وقد رصدت تقارير "الفاو" تعرض ما يزيد على 45% من أنظمة المياه في البلاد لأضرار كلية أو جزئية، شملت محطات الضخ، وشبكات النقل، والسدود، ما انعكس مباشرة على تراجع قدرة السكان على الوصول إلى المياه الآمنة.
تدمير البنية التحتية وتقليص الوصول للمياه: أدى استهداف البنى التحتية إلى انخفاض معدل الوصول إلى المياه بنسبة تقارب 50% في المناطق الريفية، ونحو 70% في المناطق الحضرية. هذا الانهيار المفاجئ في خدمات الإمداد المائي فاقم من هشاشة المجتمعات، خاصة تلك التي لا تمتلك بدائل أو مصادر دعم خارجي.
تفاقم تلوث المياه وانتشار الأمراض: أدى تسرب النفايات الصلبة والسائلة إلى الموارد المائية، نتيجة غياب الصيانة وتعطيل شبكات الصرف، إلى ارتفاع حاد في معدلات التلوث، ما تسبب بتفشي أوبئة وأمراض خطيرة مثل الكوليرا، التي أثرت على أكثر من مليون شخص خلال الفترة بين 2017 و2019. وتشير بيانات ميدانية إلى أن ما نسبته 55% من مصادر المياه الجوفية والسطحية باتت غير صالحة للاستخدام البشري.
الضغط الديموغرافي الناتج عن النزوح الداخلي: فاقم النزوح الداخلي، الذي شمل أكثر من 4 ملايين شخص، الضغط على المناطق التي بقيت نسبيًا خارج نطاق الاشتباكات المباشرة. أدى هذا التدفق السكاني غير المخطط له إلى مضاعفة الطلب على المياه، وتزايد الاستهلاك غير المنظم، مما زاد من حدة التوترات المجتمعية بين السكان الأصليين والنازحين.
انهيار مؤسسات الإدارة وغياب الحوكمة: ساهم الانهيار الكامل للمؤسسات الحكومية المعنية بإدارة المياه في تحويل القطاع إلى ساحة فوضى مفتوحة، حيث تراجعت قدرة الجهات المحلية على تقديم الخدمات أو تنفيذ أي إصلاحات بنيوية. ونتيجة لذلك، شهدت البلاد اتساعًا في عمليات الحفر العشوائي للآبار، وهو ما عمّق أزمة استنزاف المياه الجوفية بشكل غير قابل للاستدامة.
ارتفاع تكاليف الإمداد وتعطل المساعدات الدولية: أدى تدمير البنية التحتية إلى ارتفاع تكلفة المياه المنقولة بالشاحنات بنسبة تفوق 400% مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، مما جعل الحصول على المياه النظيفة خارج متناول كثير من الأسر. كما تعطلت مشاريع الدعم الدولي بسبب الانفلات الأمني وغياب الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، وهو ما أوقف معظم مبادرات الإغاثة المائية في وقت أشد ما تكون فيه البلاد بحاجة إليها.
تأثير الصراعات على إدارة الموارد المائية في اليمن
تحليل الأثر المباشر وغير المباشر للصراعات
تُعد الصراعات المسلحة عاملاً جوهريًا في إعادة تشكيل المنظومة الحاكمة لإدارة الموارد المائية، إذ لا تقتصر تأثيراتها على الأبعاد الظرفية، بل تمتد لتُحدث تحولات بنيوية طويلة الأمد تطال البنية التحتية، والحَوْكَمة، وآليات التوزيع، والتوازنات الاجتماعية والاقتصادية. وتتوزع هذه التأثيرات على مسارين متداخلين: مباشر، يرتبط بالفعل الحربي وما يرافقه من تدمير مادي، وغير مباشر، يتعلق بتداعيات الفوضى المؤسسية وتآكل القدرات المجتمعية والمؤسساتية.
الأثر المباشر للصراعات
تدمير البنية التحتية المائية: تشير تقارير دولية إلى أن ما يزيد عن 45% من شبكات المياه والمنشآت المرتبطة بها في اليمن تعرضت لدمار كلي أو جزئي نتيجة الأعمال العسكرية. وقد شمل هذا التدمير محطات الضخ، وخزانات المياه، وشبكات التوزيع، ما أدى إلى تعطيل شبه كامل للخدمات الأساسية في العديد من المناطق. كما ساهم استهداف السدود الصغيرة والمتوسطة في تعطيل قدرة الدولة على الاستفادة من مياه الأمطار الموسمية، الأمر الذي انعكس سلبًا على فاعلية أنظمة الري، خاصة في المناطق الزراعية الحيوية مثل تهامة ووادي حضرموت. وفي ظل هذا الانهيار، اضطُرّ ملايين اليمنيين إلى الاعتماد على مصادر بديلة للمياه، غالبًا ما تفتقر إلى الجودة والسلامة.
التلوث الناتج عن العمليات العسكرية: رافقت العمليات القتالية تسربات واسعة للملوثات الصناعية والنفطية إلى مصادر المياه السطحية والجوفية، ما أدى إلى تدهور خطير في نوعية المياه المخصصة للاستهلاك الآدمي والزراعي على حد سواء. كما تسبّب تدمير شبكات الصرف الصحي، أو تعطلها، في اختلاط مياه المجاري بالمياه النظيفة، مما وفّر بيئة خصبة لتفشي أوبئة قاتلة مثل الكوليرا، التي سُجل خلالها أكثر من مليون إصابة ما بين عامي 2017 و2019، في واحدة من أسوأ الأزمات الصحية المرتبطة بالمياه في العالم خلال العقد الأخير.
الاستخدام العسكري للموارد المائية: في بعض مسارح العمليات، تحولت المياه من مورد حياتي إلى أداة ضغط عسكري وسياسي. فقد لجأت أطراف النزاع إلى تدمير السدود أو السيطرة عليها، ومنع وصول السكان إلى مصادر المياه الحيوية، ما حوّل المياه إلى سلاح ضمن أدوات الحرب، خصوصًا في المناطق الزراعية، حيث ترتبط المياه بشكل مباشر بالأمن الغذائي وسبل العيش. هذه الممارسات قوضت الإنتاجية الزراعية وزادت من هشاشة المجتمعات المحلية.
الأثر غير المباشر للصراعات
انهيار المؤسسات المسؤولة عن إدارة الموارد المائية: أدت الصراعات إلى شلل شبه تام في المؤسسات الحكومية المسؤولة عن تنظيم وإدارة الموارد المائية. أسفر هذا الانهيار عن غياب الرقابة، وتعطيل العمل بالقوانين المنظمة، ما أفسح المجال لانتشار ممارسات غير منظمة مثل الحفر العشوائي للآبار دون دراسات هيدرولوجية أو اعتبارات بيئية. وقد أدى هذا الاستخدام غير المستدام إلى تسارع وتيرة نضوب المياه الجوفية، وانخفاض حاد في منسوبها إلى مستويات غير مسبوقة.
ارتفاع التكاليف الاقتصادية: أدت ندرة المياه وتدمير شبكات التوزيع إلى اعتماد متزايد على الصهاريج وشركات النقل الخاصة، وهو ما ضاعف تكلفة الحصول على المياه النظيفة في بعض المناطق الريفية بأكثر من 400% مقارنة بالفترة التي سبقت النزاع. هذا الارتفاع الحاد في التكاليف جعل المياه سلعة نادرة وغير متاحة لشريحة واسعة من السكان، خاصة في أوساط الفئات ذات الدخل المحدود، مما انعكس سلبًا على جودة الحياة والمعايير الصحية.
تفاقم التوترات الاجتماعية والديموغرافية: أسهم الصراع في إثارة صراعات محلية حول الموارد، خصوصًا في المناطق التي شهدت موجات نزوح داخلي واسعة. أدى ذلك إلى تزايد التنافس بين السكان الأصليين والنازحين، ما خلق بيئة خصبة للنزاعات المجتمعية ورفع منسوب التوتر الاجتماعي. كما أدى هذا التفاوت إلى تفاقم الفجوات الاقتصادية والتنموية بين المناطق المتضررة من النزاع وتلك التي بقيت أقل تأثرًا، مما زاد من اختلال التوازن التنموي على المستوى الوطني.
تراجع الاستثمارات في مشاريع المياه: توجهت جهود الدولة والمجتمع الدولي خلال سنوات النزاع نحو الإغاثة الإنسانية العاجلة، ما انعكس سلبًا على استمرارية المشاريع التنموية، وخصوصًا تلك المتعلقة بقطاع المياه. تسببت القيود الأمنية، وغياب الاستقرار السياسي، في تجميد العديد من المبادرات الدولية التي كانت تستهدف تحسين البنية التحتية المائية وتعزيز القدرات المحلية في إدارة هذا المورد الحيوي. وهكذا، أصبح مستقبل الأمن المائي في اليمن مرهونًا بإعادة بناء الثقة السياسية وتوفير بيئة آمنة لعودة الاستثمار طويل الأجل.
دراسة حالات من مناطق مختلفة في اليمن
تكشف الأوضاع المائية في اليمن عن تفاوتات حادة بين المناطق الجغرافية المختلفة، حيث تتباين طبيعة التحديات والمخاطر تبعًا للخصائص البيئية والاجتماعية والسكانية لكل منطقة. ويُظهر هذا القسم تحليلاً معمقًا لثلاث حالات دراسية من صنعاء، وتهامة، وعدن، يسلط الضوء على أوضاع المياه قبل اندلاع الصراع، ويرصد التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للنزاعات، وانعكاساتها على السكان والموارد، فضلًا عن استشراف الفجوات والفرص في كل سياق.
الحالة الأولى: صنعاء
الوضع المائي قبل الصراعات
كانت العاصمة صنعاء تعتمد بشكل شبه كلي على المياه الجوفية لتأمين احتياجاتها المائية، نظرًا لافتقارها إلى مصادر سطحية دائمة. ومع ذلك، بدأت ملامح الأزمة المائية في التشكل نتيجة الإفراط المتواصل في استخراج المياه الجوفية بمعدلات تتجاوز بكثير القدرة الطبيعية للتجدد. وقد ترافقت هذه الضغوط مع غياب الرؤية الاستراتيجية لتحديث البنية التحتية، إذ لم تشهد شبكات التوزيع أو تقنيات الاستخراج أي تحسينات جوهرية، ما أسهم في تعميق هشاشة المنظومة المائية قبل دخول البلاد في مرحلة الحرب.
تأثير الصراعات
أدى تصاعد النزاع المسلح إلى تدمير محطات ضخ المياه وتخريب شبكات التوزيع، مما تسبب في انقطاع الإمدادات عن أكثر من ثلاثة ملايين نسمة داخل العاصمة. وقد فاقم الحفر العشوائي للآبار هذا الواقع، إذ تسبب في استنزاف متسارع للمخزون الجوفي، مع تسجيل معدلات انخفاض وصلت في بعض المناطق إلى 6 أمتار سنويًا. كما أدى الاعتماد المتزايد على المياه المنقولة بالشاحنات إلى ارتفاع تكاليف المياه بأكثر من 400% ، ما جعل الحصول على مياه نظيفة تحديًا اقتصاديًا ومعيشيًا حادًا بالنسبة للأسر ذات الدخل المحدود.
النتائج المترتبة
ارتفعت معدلات الإصابة بالأمراض المنقولة عبر المياه، وعلى رأسها الكوليرا، نتيجة اللجوء إلى مصادر ملوثة وغير آمنة.
نشأ تفاوت اجتماعي واقتصادي ملموس بين من يمتلك القدرة على شراء المياه، ومن يعتمد على المساعدات أو الموارد المحدودة، ما زاد من عمق الانقسامات المجتمعية.
الحالة الثانية: تهامة
الوضع المائي قبل الصراعات
تُعد منطقة تهامة من أهم المناطق الزراعية في اليمن، وتعتمد بشكل رئيسي على مياه الأمطار التي يتم تجميعها في سدود صغيرة ومحلية لتأمين احتياجات الري. ورغم حيوية الدور الزراعي للمنطقة، فإن بنيتها التحتية كانت تعاني من ضعف شديد نتيجة غياب التخطيط المستدام، وتدهور السدود بسبب قلة أعمال الصيانة وندرة الاستثمار المؤسسي طويل الأجل.
تأثير الصراعات
أسهمت الحرب في تدمير مباشر أو إهمال ممنهج للسدود المحلية، مما حدّ من قدرة المنطقة على تخزين مياه الأمطار واستثمارها زراعيًا. كما تفاقمت النزاعات المحلية بين المزارعين بسبب الضغط على الموارد المحدودة، ما أدى إلى توترات اجتماعية متصاعدة، وزاد من صعوبة تنظيم وإدارة المياه. وانعكس ذلك على انخفاض إنتاجية الزراعة وتراجع الأمن الغذائي، مما ضاعف اعتماد السكان على المساعدات الإنسانية.
النتائج المترتبة
فقدت آلاف الأسر مصادر دخلها الأساسية بسبب انهيار النشاط الزراعي، ما ساهم في تفشي الفقر وتردي الأوضاع المعيشية.
دفعت الظروف المتدهورة العديد من سكان تهامة إلى النزوح نحو المدن، الأمر الذي زاد الضغط على الموارد المائية في المناطق المستقرة نسبيًا.
الحالة الثالثة: عدن
الوضع المائي قبل الصراعات
تُعتمد عدن على مزيج من مشاريع تحلية المياه والمياه الجوفية، إلا أن هذه المشاريع لطالما عانت من ضعف في الكفاءة وعدم القدرة على تلبية الطلب المتزايد، خصوصًا في ظل التوسع الحضري المتسارع. كما أن شبكات التوزيع كانت تعاني من تهالك واضح، نتيجة غياب الصيانة والتجديد اللازم.
تأثير الصراعات
أدت الصراعات المسلحة إلى تعطيل محطات التحلية وتدمير شبكات توزيع المياه، ما جعل المياه الجوفية، رغم محدوديتها وتلوثها المتزايد، المصدر الرئيس للمياه. تفاقمت الأزمة بسبب تسرب النفايات الصناعية والنفطية إلى طبقات المياه الجوفية، مما زاد من صعوبة الحصول على مياه صالحة للشرب. كما أن الصراع حول السيطرة على الموارد داخل المدينة زاد من التوترات وأربك إدارة الخدمات العامة.
النتائج المترتبة
عانت المدينة من انقطاعات طويلة في إمدادات المياه، ما زاد الأعباء الاقتصادية على المواطنين وأدى إلى تدهور نوعية الحياة.
تصاعدت النزاعات المجتمعية بفعل التنافس على الموارد، مما أضعف التماسك الاجتماعي وأثر على الاستقرار المحلي.
الهامش الريفي: المناطق المهمشة في شمال ووسط البلاد
في المناطق الريفية النائية مثل عمران، صعدة، وأبين، تبدو أزمة المياه أكثر حدة، إذ لا تتوفر فيها بنى تحتية مائية تُذكر. تعتمد هذه المجتمعات بشكل أساسي على مياه الآبار السطحية أو على جمع مياه الأمطار يدويًا. ومع تصاعد النزاع، أصبحت هذه المناطق معزولة تمامًا عن شبكات الدعم المؤسسي والمساعدات الإنسانية. هذا الإقصاء المائي زاد من معاناة النساء والأطفال، الذين يضطرون لقطع مسافات طويلة لجلب المياه، غالبًا في ظروف أمنية وصحية محفوفة بالمخاطر.
تُجسِّد الحالات الثلاث، إضافة إلى المناطق الريفية النائية، خريطة معقدة من التحديات المائية المرتبطة بالصراع في اليمن. وتعكس هذه التباينات أهمية وضع مقاربات استراتيجية متعددة الأبعاد تُراعي الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية، وتُعيد الاعتبار للاستثمار في البنية التحتية المائية، وتعزيز الحوكمة المحلية، وإرساء آليات تعاون دولي حقيقي يُسهم في إعادة بناء منظومة الأمن المائي بشكل مستدام وعادل.
ختاماً
يُجسِّد المشهد المائي في اليمن اليوم عمق الأزمة وتعقيداتها، إذ باتت الموارد المائية تتقاطع بشكل وثيق مع التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتشكّل ساحة جديدة من ساحات النزاع، وواجهة بارزة لانكشاف بنى الدولة. فقد أظهرت هذه الدراسة، من خلال التحليل التاريخي والميداني، أن أزمة المياه في اليمن ليست مجرد نتاج لموقع جغرافي محدود الموارد أو مناخ متقلب الهطول، بل هي بالأحرى نتاج مركب لسوء السياسات التنموية، وغياب الرؤى الاستراتيجية، والتوسع العشوائي في استنزاف المياه الجوفية، خصوصًا في إطار الاستخدام الزراعي غير الرشيد كزراعة القات.
أسهمت عوامل عدة في تعميق الأزمة، منها تفكك مؤسسات الدولة وفقدان دورها الرقابي، وغياب التخطيط المتكامل، وتآكل القدرة على الاستجابة للمتغيرات المناخية. ومع اشتداد النزاع خلال العقد الأخير، لم تقتصر التداعيات على البنية التحتية المائية التي تعرضت لدمار ممنهج، بل امتدت إلى تقويض النظام الإداري برمته، بما في ذلك الأجهزة المسؤولة عن إدارة المياه، وتطبيق القوانين، وتنظيم الحفر والاستخدام، وهو ما أدى إلى تصاعد فوضى استهلاك الموارد وتراجع كفاءتها.
ومثّلت موجات النزوح الداخلي بعد اندلاع الحرب أحد أكثر العوامل ضغطًا على المنظومة المائية، حيث وجدت المجتمعات المضيفة نفسها أمام تحديات غير مسبوقة لتلبية الاحتياجات الأساسية في بيئات تعاني أصلًا من شحّ في المياه، ما أدّى إلى تصاعد التوترات الاجتماعية وتفاقم الهشاشة الاقتصادية والنفسية في النسيج المجتمعي. كما أن التدهور لم يتوقف عند الجوانب المؤسسية والاجتماعية، بل امتد ليطال البيئة الطبيعية ذاتها. فقد ساهمت العمليات العسكرية، والتسربات الكيميائية والبيولوجية، في تلويث المصادر السطحية والجوفية، ما فاقم من انتشار الأمراض المنقولة بالمياه، وعلى رأسها الكوليرا، وسط ضعف البنية التحتية الصحية، وغياب الاستجابة السريعة وفي هذا السياق، لا يمكن فهم أزمة المياه في اليمن بمعزل عن السياق البيئي والسياسي العام، إذ تتداخل مظاهر الندرة والتلوث مع فشل الدولة، وتحوّل الصراع إلى عامل مفاقِم للمأساة البيئية.
تقدّم هذه الدراسة مقاربة تحليلية متكاملة، تُبرز الحاجة إلى إعادة النظر في كيفية فهم الموارد الطبيعية داخل بيئات النزاع، من خلال دمج بُعدي "الأمن الإنساني" و"الأمن البيئي" ضمن مقاربة شاملة للأمن المائي. فالقضية لم تعد مرتبطة بتوفير المياه كمورد تقني، بل تتصل ارتباطًا وثيقًا بالعدالة الاجتماعية، والاستقرار السياسي، والتماسك المجتمعي، ومواجهة التغيرات المناخية.
ورغم قساوة المشهد، إلا أن هناك إمكانيات واعدة لإحداث تحول إيجابي. إذ يُمكن للطاقات المحلية، بالتكامل مع الجهود الإقليمية والدولية، أن تفتح آفاقًا لإعادة بناء منظومة المياه في اليمن على أسس أكثر صلابة واستدامة. ويُشكّل الاستثمار في إدارة متكاملة للموارد، وتعزيز الحوكمة الرشيدة، واستعادة فاعلية المؤسسات، بوابة ضرورية لأي مسار تعافٍ حقيقي، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي.
إن إنقاذ اليمن من كارثة مائية محتملة يتطلب قبل كل شيء إرادة سياسية صادقة، وتعاونًا إقليميًا جادًا، وتدخلاً دوليًا متوازنًا لا يكتفي بالإغاثة الطارئة، بل يؤسس لمشروعات استراتيجية مستدامة تستهدف بناء القدرات الوطنية، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتكريس الوعي المجتمعي بقيمة المياه وأهمية الحفاظ عليها. وحدها هذه المقاربة المتكاملة كفيلة بإخراج اليمن من دوامة العطش، وضمان مستقبل آمن لأجياله القادمة.