سوريا 2023: شظف الاستبداد، زلزال الطبيعة، وتطبيع الكبتاغون
تاريخ النشر: 29th, December 2023 GMT
مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2022 شاء رئيس النظام السوري بشار الأسد استباق العام الجديد بإصدار قانون «تحديد اعتمادات الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2023» بمبلغ إجمالي قدره 16,550 مليار ليرة سورية؛ تعادل 4,5 مليار دولار، طبقاً لسعر الصرف الرسمي. تلك كانت أولى نُذُر عذابات السوريين في استقبال سنة جديدة، ابتداء من حقيقة أنّ سعر صرف العملة الوطنية كان يسجّل نحو 6600 ليرة للدولار الواحد، ولن ينطوي العام 2023 قبل أن يتضاعف بنسبة 100% تقريباً، ليسجّل 12600 ليرة.
الطبيعة سوف تستكمل مآسي السوريين بالزلزال المدمر الذي ضرب مناطق شتى، شمالاً وغرباً خاصة، في شباط (فبراير)؛ ومنح النظام ومؤسسات الاستبداد والفساد التي يديرها فرصة أخرى ثمينة لاستغلال موجات الإشفاق العالمية وتحويلها إلى مصادر نهب علنية جيّرت ملايين الدولارات لصالح خزائن الحلقة الضيّقة التابعة للنظام وآل بيته. في الآن ذاته، وإذْ تولى الزلزال الإجهاز على أكثر من 5900 سوري وإصابة وتشريد عشرات الآلاف، كانت معطيات الشقاء السوري تشير إلى أنّ 70% من سكان سوريا كانوا بحاجة فعلية إلى مختلف أشكال العون، غذائياً وصحياً وإنسانياً؛ وأكمل «برنامج الغذاء العالمي» مشهد البؤس المعمم بالتحذير من أنّ الجوع بلغ معدلات قصوى لا أمثلة عليها في تاريخ سوريا، مع 2,9 مليون نسمة يقتربون من حافة المجاعة، و12 مليونا لا يعرفون متى سيحصل أيّ منهم على وجبة طعام مقبلة؛ فضلاً عن عواقب الأوبئة والأمراض المتفشية ونقص الأدوية أو انعدامها.
في نيسان (أبريل) توفرت للسوريين فرصة جديدة، بين عشرات سابقات وأخرى لاحقات، للتعرّف على فصل دراماتيكي ومضحك في آن معاً، هو قرار الأسد إقالة عمرو سالم وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك؛ في غمرة شائعات (كانت أجهزة استخبارات النظام وراء الترويج لها، أغلب الظنّ) أفادت بأنّ سبب الإقالة كان ارتباط سالم بالمخابرات المركزية الأمريكية، وأنّ الأسد كلّف اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي بالتحقيق شخصياً في الاتهامات. طراز آخر من الشائعات أشار إلى أنّ مفرزة أمنية داهمت مزرعة الوزير المقال في الصبورة على تخوم دمشق، ورشح أنها عثرت على مبالغ بالدولارات والليرة السورية فلكية تماماً، بمئات الملايين، فضلاً عن كيلوغرامات من الذهب عيار 21…
والحال أنّ الوعي الشعبي السوري كان قد تدرّب طويلاً، اعتماداً على فصول النظام أوّلاً، على مزيج من وقائع نهب فعلية وألعاب استخبارات متعددة الأغراض تتقصد الإلهاء تارة أو تجميل صورة النظام كمحارب للفساد تارة أخرى، إضافة إلى إخراس صوت فاضح أو إغلاق «صندوق أسود» هنا وهناك وكلما اقتضت الضرورة. وبذلك فإن حكاية الوزير المقال، أياً كانت مقادير الصحة والتلفيق في عناصرها، لم تكن طارئة على «مآثر» نهب وفساد وسطو رسّخ آل الأسد تقاليدها ابتداء من انقلاب الأسد الأب، خريف 1970؛ وكان أبطالها أعضاء في الهرم الأعلى للنظام، عند مستوى الأشقاء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة والزوجات، أمثال رفعت الأسد وماهر الأسد ومحمد مخلوف ورامي مخلوف وأسماء الأسد.
في أيار (مايو) سوف يقوم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بزيارة إلى دمشق كانت الأولى لرئيس إيراني منذ 13 سنة، وهذا تفصيل لافت لم تخفَ دلالاته على مراقبي العلاقة بين آل الأسد وآيات الله؛ كذلك لم تغبْ ضرورة استذكار حقيقة رديفة كانت تشير إلى أنّ الأسد سبق أن زار طهران مرّتين، على نحو معلن، في شباط (فبراير) 2019 وكان حسن روحاني رئيساً لإيران، وفي أيار (مايو) 2022 وكان رئيسي قد تولّى الرئاسة؛ كما استقبله، خلال الزيارتَين، المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. وإذا صحّ أنّ زيارات الأسد إلى طهران كانت أقرب إلى هرولة التابع نحو الراعي، فإنّ زيارة رئيسي ارتدت صفة تحصيل الإيرادات الإيرانية عن عقود من الإنفاق المادي على النظام، في ميادين النفط والتسليح والصيرفة والميليشيات المذهبية؛ إذْ لم يغفل الرئيس الإيراني التشديد على ضرورة حضور بلاده في صفقات إعادة إعمار سوريا التي قد تكون على وشك الإبرام، في ضوء مقايضات محتملة مع أنظمة مثل الإمارات والسعودية. وهذا عدا عن توقيع «مذكرة تفاهم لخطة التعاون الشامل الستراتيجي طويل الأمد» وسلسلة اتفاقيات في ميادين الطاقة والزراعة والنقل والاتصالات والثقافة (والمقصود هنا: تسهيلات الحجّ الإيراني إلى الأماكن الشيعية المقدسة في سوريا)…
في أيار (مايو) أيضاً، سوف يشارك الأسد في القمة العربية التي انعقدت في جدّة، المملكة العربية السعودية؛ وكانت تلك المشاركة هي الأولى منذ آذار (مارس) 2011 حين جرى تعليق عضوية النظام في الجامعة العربية. وإذا كان الأسد لم يُمنح فرصة التفلسف على الجلسة الافتتاحية، فإنه مع ذلك لم يشأ تمرير المنبر دون المحاضرة على أخوته حكام العرب حول تحويل القمة إلى «فرصة تاريخية لإعادة ترتيب شؤوننا بأقل قدر من التدخل الأجنبي»؛ هو نفسه رأس نظام أزهق أرواح مئات الآلاف وشرّد الملايين من السوريين، واعتمد خيارات الأرض المحروقة والتدمير الشامل والتطهير المناطقي، واستخدم أسلحة التدمير الشامل التي لا تبدأ من الضربات الكيميائية ولا تنتهي عند البراميل المتفجرة، وسلّم البلد إلى خمسة احتلالات أجنبية، فضلاً عن عشرات الميليشيات المذهبية ومفارز المرتزقة.
ولا يخفى أنّ تسهيل إعادة نظام آل الأسد إلى حظيرة الجامعة العربية كان نتاج جهود متقاطعة بذلتها دول مثل الإمارات ومصر والجزائر والعراق والأردن، إلا أنّ الجهد الأكبر تولته السعودية؛ واتخذ أجندة محددة عبّرت عنها قمّة جدّة ذاتها، في التالي: «تعزيز التعاون العربي المشترك؛ لمعالجة الآثار والتداعيات المرتبطة باللجوء والإرهاب وتهريب المخدرات» و»تأكيد ضرورة اتخاذ خطوات عملية وفاعلة للتدرج نحو حل الأزمة السورية». ولن يطول الوقت حتى أدرك الوسطاء أنفسهم أنّ مطالب النظام (خاصة في ملفات مثل إنتاج الكبتاغون وتهريبه إلى الأردن وبلدان الخليج خصوصاً، أو توفير حلول آمنة وملموسة لإعادة اللاجئين السوريين…) أعلى، ثمناً وطمعاً ومناورة ومخادعة، من أن تتوافق مع النوايا العربية؛ فكان أن تعثر ملفّ «التطبيع» مع النظام، أو كاد أن يُطوى نهائياً.
وهذا ملفّ يرتدّ في كثير من عناصره إلى طبائع العلاقات بين آل الأسد والسعودية، والتي شهدت سيرورات مدّ وجزر، أو دفء وبرودة، أو اتفاق واختلاف؛ بصدد ثلاثة ملفات إقليمية كبرى تقليدية، هي لبنان وفلسطين والعراق؛ أُضيفت إليها ملفات ترتبط بتعاظم المدّ الإيراني في المنطقة، في العراق ولبنان واليمن، دون إغفال مفاعيل النفوذ الإيراني في المناطق السعودية التي تقطنها أغلبية شيعية.
وأمّا في آب (أغسطس) فإنّ بارقة الأمل لم تحتجب عن سوريا والسوريين، وتمثلت في انتفاضة محافظة السويداء أوّلاً، ثمّ اتساع رقعة الاحتجاجات المدنية السلمية إلى مناطق في حوران وأرياف دير الزور وحلب وإدلب، وفي بعض مناطق سيطرة النظام مثل العاصمة دمشق وطرطوس. لكنّ حراك السويداء تميّز بمضامين جذرية شملت رحيل النظام وإطلاق سراح المعتقلين وتطبيق اقرار الأمم المتحدة 2254، وبذلك فإنها تجاوزت الاحتجاج على الأوضاع المعيشية والشعارات المطلبية.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأسد سوريا المخدرات سوريا الأسد المخدرات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة آل الأسد
إقرأ أيضاً:
ثمن بقاء النظام الإيراني
من اليسير القول إنّ النظام الإيراني، منذ انقلابه على حكم الشّاه، يعيش السّاعة أصعب ظروفه على الإطلاق، وإن طهران تعيش على حافة الهاوية. فكل التغييرات في المنطقة تصب في مصلحة الشعوب والحكومات العربية والإقليمية بنقيض مصلحة النظام الإيراني وأتباعه، فكل ما يحدث ضدّهم، ورياح التغيير تجري عكس ما تشتهي سفنهم.
من الملاحظ التعافي التدريجي لليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، حيث بلغ 8000 ليرة سورية، بعدما وصل إلى 22000 ليرة سورية في آخر أيام حكم بشار الأسد، وفي المقابل من الملاحظ أيضا التهاوي المدوي للتومان الإيراني أمام الدولار الأمريكي، حيث بلغ 76000 تومان مقابل كلّ دولار أمريكي.
وخسرت إيران أحصنتها حصاناً تلو حصان، ودُمرت حصونها وقلاعها المتقدمة حصناً إثر حصن وقلعةً إثر قلعة وانقطع الحزام الميلشياوي الطائفي الذي كانت تسوّر به نفسها.
تحدث هذه الانقلابات وكأنها عملية انفجار بركاني ضد المشروع الإيراني الموسوم بتصدير الكراهية والموت والطائفية والعداوة للعرب، وإثارة النعرات المذهبية.
ومن أشهر هذه الممارسات العلنية ضرب قبور كبار الصحابة بالأحذية والحجارة، كما حصل مراراً عند قبر الصحابي الجليل وأحد دهاة العرب ورجل الدولة الناجح الخليفة معاوية بن أبي سفيان في مقبرة الباب الصغير في عقر دار العاصمة الأموية دمشق، واستيطان الشيعة الإيرانيين داخل المدينة وحاراتها السنيّة المعروفة.
وسقطت الدروع التي كانت تسربل الجسد الفارسي درعاً بعد درع، ضعفت حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين بشكل ملحوظ، وانتهت فاعلية الفصائل الفلسطينية التابعة والممولة إيرانياً في سوريا، كالقيادة العامة وفلسطين حرّة ومنشقين عن فتح والجبهة الشعبية.
خارت قوى حزب الله في لبنان بضرب بنيته العسكرية والاقتصادية واغتيال أمينه العام حسن نصرالله وابن خالته ونائبه هاشم صفي الدين صهر قاسم سليماني. كما فقد الحزب شريان حياته القادم من دمشق، وانتهى عصر طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت، وسقط مشروع الهلال الشيعي إلى غير رجعة.
وهناك ضغوط خارجية وداخلية على رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني لتحجيم دور الميليشيات الشيعية في العراق، وتقليص نفوذها، وقد تجلى ذلك من خلال نكوصها عن دعم غزّة وكشف مهاتراتها الفارغة، وعجزها عن مساعدة النظام السوري وهو يتهاوى.
وتتجه الأنظار اليوم نحو الحوثي، والعمل على إضعاف قوته، وإزاحته عن المشهد الحاكم في اليمن، يحدث كل ما تقدم تباعا، بعدما رحل نظام الكبتاغون في سوريا.
ولعل ما يميز القوى الحاكمة الجديدة في سوريا، هو معاداتها المعلنة لطهران وحزب الله، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
وفي سياق متصل، تعهدت القوى الحاكمة في سوريا بمكافحة تجارة المخدرات وتهريبها للدول المجاورة كالأردن، بعدما افتُضِح أمر تصنيع النظام السابق لحبوب الكبتاغون داخل مقرّاته ومؤسساته الأمنية، وتهريبها عبر شبكة فارسية واسعة للدول العربية وبالأخص الخليجية لتهديد أمنها واستقرارها، انتقاما منها لتصديها للمشروع الفارسي في المنطقة ودعمها للثورة السورية منذ انطلاقها، ونجاح مقاربتها التي سعت بجلاء لتقدم مفهوم الدولة الوطنية على مفهوم الميليشيات، في فلسطين ولبنان والعراق واليمن.
بعد كل هذه الخسائر والهزائم والإهانات والضربات المتتالية لإيران وأدواتها، من المفيد تذكّر شخصية “متلقي الضربات” في برنامج المسابقات الشهير “الحصن”، الذي تؤديه إيران وحرسها الثوري بكل مهارة تحت عنوان “الصبر الإستراتيجي”.
لم يعد لدى طهران ما تبتز به الدول العربية وتهدد به أمن المنطقة ككل، فميليشياتها تضاءلت وتقزّمت بشكل غير مسبوق، وانكشف زيف نظامها الصاروخي فلم يكن سوى نمراً من ورق ليس بمقدوره أن يغير موازين أيّ معادلة عسكرية في حال اشتعال أيّ حرب ضد طهران، مما أظهر النظام الفارسي مكشوفا وعاريا أمام أعدائه.
خسر النظام الإيراني خطوطه الدفاعية الأولى، وتعرض الداخل الإيراني إلى ضربات عسكرية واقتصادية قاصمة، ولم يعد لديه ما يقايض به لقاء استمراره في الحكم سوى التخلي عن حقه في تخصيب اليورانيوم، مع الوضع بعين الاعتبار أن الخيار العسكري مطروح على الطاولة، وقد لوّح به رئيس الولايات المتحدة القادم دونالد ترامب وهو خيار يتحمس له بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وسيباركه الاتحاد الأوروبي والقادة العرب في حال اتخاذه، ومن الواضح أنّ سياسة دونالد ترامب تخلو من جزرة ليقدمها لإيران وسياسته الوحيدة معها هي العصا فقط.
وفي سياق متصل لن يتوانى النظام الإيراني عن هذه المقايضة، فالمطلوب أوّلا وأخيرا من الغرب والعرب هو رأس البرنامج النووي الإيراني، مع الأخذ في الحسبان أنّه نظام مهلهل شعبيا، تشتعل فيه ثورات ملونة بين فينة وأخرى، كالثورة الخضراء في العام 2009 والثورة في العام 2022 ضد شرطة الأخلاق بعد مقتل مهسا أميني.
وإن استمرت إيران في برنامجها النووي أو بادله النظام الحاكم ليظل على كرسي الحكم، فكل ما يجري هو مؤشرات جليّة على انتهاء الحقبة الإيرانية، “للدول أعمار طبيعية كما للأشخاص” كما قال ابن خلدون في مقدمته.