لمّا فاضت روح السيدة نفيسة إلى الرفيق الأعلى راضية مرضية، قال إسحاق زوجها سوف أذهب بها إلى مدينة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه. فقال أهل مصر، والله لن نُحرم منها أبداً: (عاشت بيننا وتدفن عندنا)
وبعدها يرى إسحاق رسول الله فى المنام يقول له: يا إسحاق دع نفيسة لأهل مصر لأنهم يكرمون ويرحمون بها.
فدُفنت فى مقامها الذى هى فيه الآن، كانت حفرته بيدها وختمت فيه القرآن عشرات المرات مع اختلاف الروايات وتفاوتها فى العدد الذى تمّت به ختمة القرآن.
وإن تعجب فلا أشدّ من عجبك حين ترى الصفحة الصوفية التى نقلت نبذة عن ترجمة السيدة الشريفة لا تهتم بتخريجها تخريجاً روحيّاً يعتمد الذوق والتعاطف الإيمانى المعهود، وتكتفى فقط بنقل ما هو موجود فى المقام الشريف من سيرتها العطرة، وليت الناقل كان على وعى تام يخلو من خطأ المقروء، لا بل ينقل على صفحته أخطاء داعية للأسف لا ينبغى أن يقع فيها المحبّون.
الأصلُ فى الموضوع هو رؤية إسحاق زوج السيدة نفيسة لرسول الله، وهو يقول له: دع نفيسة لأهل مصر يكرمون بها ويرحمون.
هذا هو الأصل فى الرواية كلها، مع أنه أصلُ مختلف فيه، والأصح هو أن السيدة نفيسة هى التى رأت رسول الله فى المنام يأمرها بالبقاء مع أهل مصر، وذلك حين أراد زوجها العودة بها إلى الحجاز، فاستمسك أهل مصر بوجودها بينهم، فرأت فى المنام جدها المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرها بالإقامة فى مصر؛ فوهبها (عبد الله بن السرى بن الحكم) والى مصر دارَه الكبرى بدرب السباع، وحدّد لزيارتها يومى السبت والأربعاء من كل أسبوع؛ مراعاة لصحتها، وتمكينًا لها من عبادتها، وكانت تخدمها (زينب بنت أخيها يحيى المتوج)، حتى انتقلت إلى الرفيق الأعلى.
وعلى هذا الأصل نروح فنلتمس تخريجاً واسع الدلالة، باقياً ما بقيت فى آل بيت رسول الله الكرامة؛ فالكرم كلُّه فى آل البيت، والرحمة كلها عند آل البيت، فلا يزال أهل مصر بخير يُكرمون ويرحمون ما داموا أحبّة يُوالون الله ورسوله وآل بيته، والرحمة من المحبّة والكرم كذلك، ولولا وجود المحبّة ما كان هنالك كرم ولا كانت رحمة.
وآل بيت رسول الله أكرم الناس وأرحمهم بالناس؛ لأنهم أقدر الناس حبّاً للناس. كان يمكن ألا تكون هذه الرؤية، وألا يكون هذا المقام من الأساس، ولكن شاءت إرادة الله أن يكون لمصر نصيبٌ من موالاة الله ورسوله وآل بيته، وبتلك الموالاة تتحقق الرحمة، ويكون الكرم فيضاً من جود العطاء.
والموالاة محبّة خفيّة غير ظاهرة الظاهر للعيان، ولكن يُظهرها الأثر بعد فعل المأثور فى الخفاء الذى يفعل فى الجوانح فعله الباطن المستور. هذه المحبّة هى الكاشفة فعلاً عن النصرة والموالاة وما سواها أضدادٌ لها لا يقيم وزناً لفعل ولا يبقى معنى لأثر.
والسؤال المنطقى الذى يُواجه المرء فى مثل هذه المسائل فيما لو صحت الرواية الأولى هو: وهل يُقاس التشريع برؤية رآها إسحاق زوج السيدة نفيسة لرسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، فيجيبه فيها : أترك نفيسة للمصريين يكرمون بها ويرحمون؟ وهل فى المحبّة عائق يضاد التشريع؟
هذا السؤال قد يسأله سلفى أو منطقى أو حَرْفى أو أحد الذين ألمّوا بعبارات حفظوها وردّدوها على غير وعى بما حفظوا أو ردّدوا ولا يسأله محبُّ تولّته المحبّة فى محراب النور الشريف.
نعم! يُقاس التشريع هاهنا بهذه الرؤية، بمثلها وبعينها، إذا كان التشريع كلّه قائماً على الحبّ، وعلى شرعة الإتباع (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعونى يحببكم الله) وخير اتباع لرسول الله اتباع آل بيته ومحبتهم وموالاتهم. أما مُعادتهم ومباغضتهم، فهى لا تترك قُربة من الله ولا تخلف صلة برسوله، ولو كان صاحبها ممّن عاشوا فى الصدر الأول، ولا تعود على المُبغض إلا بخسران الدنيا والآخرة سواء.
حكم التشريع من جهة الحبّ أفعل وأقوى صلة من حُكمه المُجرّد عن المحبّة، الغارق فى الحرفيّة التى لا معنى لها سوى تنفيذ القشور القاحلة، والدينُ منها بُراء.
ومن يؤمن بهذه المحبّة يؤمن بالله أعلى وأرقى إيمان، ولا يودُ أن يترك إيمان المحبّة ليستبدله بإيمان مُجرّد عن الحبّ لا يقوّى التشريع بل تنعزل عنه الشريعة فى أدق مقاصدها وأنبل غاياتها.
وسلامٌ على نفيسة العلم، سيدة السادات فى محراب المُوالاة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: عشرات المرات السیدة نفیسة رسول الله المحب ة أهل مصر
إقرأ أيضاً:
الأنبا توما يترأس يوم الدعوات الإيبارشي للمنطقة الشمالية بكنيسة السيدة العذراء بكوم غريب
نظمت الإيبارشية يوم الدعوات الإيبارشي للمنطقة الشمالية، وذلك بكنيسة السيدة العذراء مريم، بكوم غريب.
شارك في اليوم نيافة الأنبا يوسف أبوالخير، المطران الشرفي للإيبارشية، والأب يوسف فوزي، مسؤول الدعوات بالإيبارشية، والقمص أنطونيوس سبع الليل، والأب يوحنا عطية، والأب أغسطينوس كميل، والأب ديو، والأب جون، وجمع من رعايا المنطقة الشمالية للإيبارشية.
بدأ اليوم بالقداس الإلهي، وفي كلمته، تحدث الأنبا توما عن الدعوة الكهنوتية أو الرهبانية فهي ليست مجرد قرار شخصي، بل هي نداء إلهي، واكتشافها يتطلب صلوات كثيرة وتمييزًا روحيًا.
الله يضع في قلوب البعض رغبة لخدمته بطريقة مكرسة، لكن لا بد من الإصغاء لصوته بوضوح. كيف يمكن لمن يشعر بهذا الميل أن يتأكد من أنه مدعو؟ وما أهمية الصلاة في هذا الاكتشاف؟
فإذن الدعوة ليست مهنة أو وظيفة، بل هي استجابة لنداء الله. كما دعا المسيح تلاميذه واحدًا واحدًا، فهو ما زال يدعو اليوم. يقول الإنجيل: "ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر." (يوحنا 15: 16).
القديس يوحنا ماري فيانّي، شفيع الكهنة، كان شابًا بسيطًا ولم يكن بارعًا في الدراسة، لكن قلبه كان ممتلئًا بمحبة الله. رغم الصعوبات، استمر في الصلاة وطلب الإرشاد حتى تأكد من دعوته الكهنوتية، وأصبح قديسًا غيّر حياة آلاف النفوس.
من هنا لا يمكن معرفة مشيئة الله بدون صلاة عميقة. يسوع نفسه كان يصلي قبل اتخاذ أي قرار كبير، مثل اختياره للرسل. لذلك، من يرغب في اكتشاف دعوته يجب أن يخصص وقتًا للصلاة اليومية، ويسأل الله: "يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟".
القديسة تريزا الطفل يسوع أرادت أن تعرف دعوتها، فصلّت كثيرًا، وقرأت الكتاب المقدس، حتى فهمت أن دعوتها هي "أن تكون الحب في قلب الكنيسة"، فاختارت الحياة الرهبانية المكرسة.
هل لديك حياة صلاة منتظمة تطلب فيها من الله أن يرشدك لدعوتك؟ واختتم الأنبا توما تأمله بقوله: إن الدعوة الكهنوتية أو الرهبانية هي نعمة عظيمة، لكنها تتطلب صلاة وإصغاء عميق لصوت الله. من يشعر بهذا الميل يجب أن يصلي، ويطلب مشورة روحية، ولا يخاف من الاستجابة، الله لا ينادي إلا من يعرف أنه قادر بنعمته أن يكمل المسيرة.