الزي التقليدي.. هُوية وطن
تاريخ النشر: 28th, December 2023 GMT
حمد الناصري
اعتادت الشعوب على الاهتمام بأزيائها الشعبية ولباسها التقليدي، على اعتبارها مُكوّنًا للهوية الوطنية، وقد عكست النقوش على الجدران امتداد أصالتها عبر الأجيال ونقلتها إلينا عبر الحضارات والفِكْر ونراهُ اليوم بأنه جسر ثقافي ورمز للهوية.
ومن خلال ذلك المُكوّن الثقافي والحضاري، أقامت الدول علاقاتها وانتماءاتها حتى بلغت حدّ الوفاء وحافظت على بقائها ووجودها.
والأزياء التقليدية مَوروث قديم وتُراث نابع من عادات الشعوب، يُعبِّر عن تفاصيل الحياة وطريقة عيشها وأنماط أساليبها، ورغم أنّ التطورات الحياتية التي سارت عليها المجتمعات لم تتوقّف؛ بل واصلتْ مَسيرتها مُعزّزة بقيم تعايشها وطرق مَعيشتها، وأصبحت تلك القيم والسلوكيات ثقافة تحوّلتْ إلى عادات وتقاليد، فحافظت الشُعوب على كلّ ذلك المُكوّن. كما جسّدت ذاكرة البشر كلّ ما يتعلّق بالهوية واستنسخت موروثها ومساراتها بقدرات مُبدعة وطاقات خلّاقة وأحيتْ في النفوس كلّ ما يُقوي الذاكرة.
قرأتُ للدكتور حسين الخزاعي أستاذ علم الاجتماع بجامعة البلقاء في الأردن، أنّ انصراف الجميع عن "ارتداء التاريخ" دون أن يرى أحدهم ذلك تعبيرًا عن ترك القيم؛ فإيقاع الحياة يفرض نفسه على الشكل والعادات".
ويقول أستاذ علم الاجتماع أيضًا: "إذا أردنا أن نشعر بالقلق فما علينا إلا النظر إلى هجران القيم والسلوكيات الحميدة لصالح سلوك الغزاة الغربيين". وفي موضع آخر، يقول الخزاعي: "يعتبر الزي خير لسان يعبر عن حال الأمة وعاداتها وتقاليدها وتراثها، ولا نبالغ اذا قلنا إن الازياء والملابس من أكثر شواهد المأثور الشعبي تعقيدًا، إذ تعتبر من الحاجات والطقوس الممتدة عبر حياة الإنسان يستدل بها على كثير من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويُستدل غالبًا من خلال لبسها على انتمائه الطبقي ومنزلته الاجتماعية وعمله وجنسه وعمره كما إن الأزياء الشعبية من أهم الوسائل المستخدمة في الكشف عن تراث الشعوب عبر أجيال مختلفة، وهى وإن اختلفت في أشكالها وألوانها فإنما تعبر بذلك عن مراحل تاريخية مختلفة مرت بها الأمة، وسجلت على القماش أفراحها وعاداتها وأساليب حياتها المختلفة".
ويقول الدكتور بهنام عطا الله من العراق: "كان الإنسان العراقي أقدم من عرف الملابس والأزياء وتفنن في صُنعها، وتدلنا النقوش السومرية والتماثيل البابلية والآشورية، على مدى الخيال الخصب لهذا الانسان، في إيجاد النماذج والتنوع لقطع الملابس التي كان يَرتديها، فكان له في كل مناسبة زيًا خاصًا يستعمله لأغراض تلك المناسبة فمنها: لعمله اليومي أو للأعياد أو للاحتفال بالانتصارات أو للزواج وزيارة المعابد، من هنا جاءت دراسة الأزياء الشعبية في العراق لأهميتها الكبيرة لأنها كانت وما تزال تشكل فرعًا مهمًا من فروع مأثورات الفن الشعبي".
أسُوقُ تلك المقدمة وأنا ألاحظ في منطقتنا، الجزيرة العربية العريقة، أزياء مُتعددة ومختلفة للرجال والنساء، منها: الزي السعودي الرسمي وهو اللباس الذي يُعبِّر عن هويّة المواطنين في المملكة العربية السعودية والذي تَشكّل حاضرًا ليتماشى مع الظروف البيئية والمناخية المختلفة وهو مُتشابه إلى حدٍ كبير إلى الثوب العربي الذي يُعرف في الجزيرة العربية بـ"الكندورة" ثمّ أضيف لاحقًا العقال والطاقية والشماغ بلونيه الابيض والاحمر.
ومن الأزياء التقليدية النسوية السعودية، النشل، غامد وزهران، وهو الثوب الرسمي للرجال، والأزياء التراثية القديمة ركنٌ أساسي، ففي المملكة العربية السعودية عادة ما يكون أبيضَ في الصيف أو الرمادي الثقيل في الشتاء.. والثوب الوطني والزي التقليدي في السعودية تبدو متقاربة نوعا ما.
ومن الأزياء التقليدية المرتبطة بجذور تاريخية عميقة، كالزي البلدي اليمني والزي التقليدي العُماني النابع من تُراث عُمان الضارب في أعماق التاريخ والجذور العربية الأصيلة.
ولا غرو فقد عُرفتْ الدول العربية الواقعة على شبه الجزيرة العربية، قديمًا بـ"بلاد العرب"، واشتهرتْ باسم الجزيرة العربية إلى أنْ عُرفت اليوم بـ"دول الخليج العربي"، وهذا الاسم لا أسْتسيغه، فنحن دُول عربية أصيلة الجذور ويَلزمنا الارتباط التاريخي بالأرض العربية.
وترتبط دُول الجزيرة العربية بأزياء كثيرة، منها ما هو تاريخي ومنها مُستحدث ولكنه مُرتبط بجذور تاريخية عميقة النشأة خاصة المُرتبطة بالبحر، والازياء البحرية شكلها فضفاض وذات ألوان براقة جميلة، مُقترنة بذوق رفيع، ومُقترنة بحاجة الانسان في رسم خطوط ذائقته وإلى لمساته الفنية بما يَتناسب وجمال البحر المُبْهر والحال كذلك بالنسبة للزي النسوي بأبْعاده الجمالية والأخلاقية، وأبرزها: الزيّ المُطرّز باحترافية وبزخرفة تُضفي على الثوب أو الملبس روعة باهرة، وتحبس أنفاس الذوق الجميل عادة.
والأزياء الرجالية أقرب إلى البساطة، لتسهيل عملية الحركة وتتناسب مع أجواء الجزيرة العربية وأغلبها باللون الابيض، وهذا اللباس او الزي يُطلق عليه بـ"الكندورة" في مُعظم دول الجزيرة العربية من العراق التاريخ إلى اليمن السعيد، إلّا سَلطنة عُمان، فيُعرف بـ"الدشداشة" والدشداشة العُمانية ترتبط بموروث مُتفرّد، الرجالية والنسائية، وتتميز الدشداشة العُمانية بتطريزاتها المُتفردة عن بقيّة دول الجزيرة العربية، والمعروفة بـ"الكندورة" والأخيرة تخلو من خيوط الألوان والتطريز المُزخرف.
وتطريزات الدشداشة سَهلة وبسيطة، ولا تخرج عن الذوق العام وعن نمطيّة وسَيرورة ذائقة اللباس العربي في بلاد الجزيرة العربية، والعُماني يتمنطق بـ"الخنجر والمصرّ" ويُعرف قديمًا بالعمامَة وفي بعض المناطق العمانية القديمة، يحمل الرجل العصا والسلاح معًا.
ونجد ذلك الملبس التقليدي في اليمن مُتقارب مع العُماني فيتمنطق الرجل الخنجر أو "الجَنْبية" حسب لهجة أهل اليمن.
وفي وقت لاحق، قرأت أنّ دول عربية مثل الأردن نساؤهم لا يرتدين الملبس أو الزي الشعبي، كما تخلّى الرجل عن لباس "القماز" والقماز واحدة من أنواع أسماء الدشداشة.
وكان ذلك التخلّي لصالح البنطال والقميص والموضات الغربية التي ينظُر إليها الأردني بإعجاب، فلم يَعد الزي الشعبي الأردني إلّا في الأرياف البعيدة، أو أطراف المملكة.
أما في تونس والجزائر، فهذان البلدان العربيان ارتبطت أزياؤهما التقليدية الرجالية والنسائية بالعُمر أو بالحالة الاقتصادية. ولم تُحافظ ليبيا على زيّها التقليدي، وأوعز البعض إلى عدم المُحافظة على الزيّ التقليدي، نظرًا لطبيعة العمل وإحلال بريستيج الإفرنجة.
تابعتُ مقطعًا مصورًا مُتداولًا على "واتساب" في عام 2022، لحاج يمني، وكما بدتْ ملامحه أنه فوق الأربعين أو هو أقرب إلى الخمسين عامًا من عُمره المبارك؛ فسأله أحدهم، وقد ظهر على مقطع الفيديو قائلًا: "هذه "الجنبية" ممنوعة في الحرم المكي"، فقال الرجل اليمني: "والله ماني داخل الحرم إلّا وجنبيتي معي ولو يصير اللي يصير، وأنا عند ربّ العالمين.. الرجّال بسلاحه، إن غاب أو بالديرة باقي". ثمّ تمنىّ أن يتقبّل الله منه حَجته هذا العام وهو بجنبيته.
والحقيقة أننا لسنا ضدّ الحداثة الراقية ولسنا ضدّ الذوق الرفيع الذي يجعلنا في موضع قوة وندّ يفهمه الآخر، لا إلى ضَعف أو إذلال، فيُحيلنا ذلك الآخر إلى التهميش، لكننا نلاحظ عدم احترام تقاليدنا وأزيائنا ولُغتنا حتى على شاشات التلفزيون، وقد نجد الرجل في كثير من المواقع الرسمية وغير الرسمية مُتمسّكًا بزيه التقليدي ولباسه كهوية يفتخر بها، بينما نجد المرأة تتخلّى عنه وعلى مرأى أعيننا ولصالح تقليد الغرب.
والسؤال: لماذا في عالمنا العربي نتخلّى عن زيّنا الوطني وننسلخ من هويتنا وأصالتنا لصالح مُجاملة الغرب أو تجاذبًا مع "بريستيج" الغرب او تقاربًا مع بروتوكولات الإفرنجية، بَيْد أنّ تلك الدول الإفرنجية تختلف مَعنا في الهوية التاريخية وفي عُروبتنا وفي أصالة جذورنا وتاريخنا العميق؟
ونُعيد السؤال بطريقة مُختلفة: هل يحق لنا أنْ نُلزم الأجنبي (الأوروبي أو الآسيوي) بارتداء أزيائنا ولباسنا التقليدي طالما نحن التزمنا بالبنطال والقميص والمعطف، إذا ما زار أحدهم بلادنا العربية وعلى وجه الخصوص بلاد الجزيرة العربية؟
ومن هنا ننتقل إلى نقطة مهمة، وهي: لماذا لا نجعل لُغتنا العربية أساسًا للتحدّث في لقاءاتنا وحواراتنا؟ فلغتنا العربية لُغة أهل السّماء، لغة القرآن العظيم، لُغة العرب الأصيلة.. فلماذا نجعلها آخر اهْتمامنا؟ بَيْد أنّنا نجد اللغة الإنجليزية طاغية حتى على لُغتنا العربية؛ سواء أكان ذلك، في بيوتنا أو خارجها؛ بل ونُكرّسها في مَناهجنا ومدارسنا وفي تعاملاتنا السُوقية وفي المؤسسات والشركات، وأضحتْ أساس التقييم للقبول في العمل.
لذا أتساءل: هل لُغة الإفرنج أهمّ من لُغتنا العربية فتجعلهم لا يتقبّلون لُغتنا ولا حتى زيّنا الوطني؟!
الخلاصة.. إنّ الأزياء التقليدية انعكاسٌ لقوة التمسك بالهوية ودليل على الحضارة التي أنتجت أصالة الهوية والزي التقليدي، وعلينا أنْ لا نخجل منها، فهي تاريخنا ولا يجوز أنْ يَسلبه منّا الآخرين بإغراءات مُتعددة وبأساليب مُتفرّقة، فإنْ لم نُحافظ على هويتنا وتاريخنا وأصالتنا فسوف يُنتزع ماضينا الجميل، وثقافتنا الشعبية وتُراثنا الأصيل تدريجيًا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
شهادات حيّة ترصدها الجزيرة نت عن مجازر حافظ الأسد في حماة
حماة- 5 عقود، وقصص وحكايات مروعة كانت طيّ الكتمان في مدينة حماة، آلاف الضحايا قتلوا على يد قوات الأسد في عهد الرئيس الراحل حافظ وشقيقه رفعت عام 1982، في عشرات المجازر التي لم يشهد لها العالم في التاريخ الحديث مثيلا، حسب وصف الأهالي.
وبعد التحرير وسقوط حكم عائلة الأسد، بدأت ذكريات المجازر وما عاشه أهالي حماة تُروى بشكل علني وبدون خوف، للمرة الأولى.
فمنهم من نجا من مجزرة، ومنهم من شاهد مجازر، ومن قتلت كل عائلته، شهود يروون للجزيرة نت حكايات مجازر قوات الأسد في مدينة حماة، ويتذكرون تفاصيلها بأسى من قتل بالرصاص الحي وحرق للجثث واللحى في الوجوه، والدفن أحياء في الخنادق.
بعض شهداء مجزرة حماة 1982 (ناشطون-أرشيف) صراع قديمعبد الجبار جزماتي، ناشط إعلامي في حماة، قال إن تاريخ معارضة حماة لحكم الأسد ليس وليد الثورة عام 2011، وإن مجازر نظام الأسد لم تتركز فيها فقط عام 1982، وإنما بدأ صراع معارضة حماة للأسد منذ إعلان الراحل حافظ لتعديل الدستور عام 1973، وخروج كل أهالي حماة حينها ضدّه، بمن فيهم طلبة المدارس الإعدادية.
ومع تصاعد وتيرة الصراع في حماة ضد الأسد الأب ومع حركات الاغتيالات عام 1979، بدأت عائلة الأسد فرض طوق أمني، إلى بداية المجازر عام 1981 التي راح ضحيتها أكثر من 200 مواطن خلال 3 أيام، كما يقول الناشط.
ويروي جزماتي كيف غابت المجازر عن أعين الإعلام حينها ولم تُوثق إلى الآن، وصولا إلى المجزرة الشهيرة عام 1982 التي قامت بها "قوات سرايا الدفاع" وقوات من الجيش بأوامر من رفعت الأسد، حيث قتلت رجالها وشبّانها وأطفالها، ودمرت المدينة وغيرت معالمها، ومسحت حيي الكيلانية والزنبقي بالكامل، وما زالت معالم القصف والدمار حيّة إلى اليوم.
إعلان
ناج من المجزرة
الجزيرة نت رافقت المواطن الستيني حيان عبد القادر القرن، من حماة مواليد 1962، إلى الحي الذي حصلت فيه مجزرة عام 1981 وهو حي بستان السعادة قرب قلعة حماة الأثرية، والذي شهد 3 مجازر متتالية على أيدي قوات حافظ الأسد عامين متتاليين، إحداها نجا منها حيّان بأعجوبة وكان الناجي الوحيد من هذه المجزرة من بين 16 شخصا من أهالي الحي.
وفي المكان ذاته وبعد 44 عاما، يقف حيّان في الموقع ذاته للمجزرة التي نجا منها، ليروي للجزيرة نت تفاصيلها وما حصل حينها.
فيقول "في 24 أبريل/نيسان 1981 يوم الجمعة، حصل إطلاق رصاص كثيف من طرف واحد من قبل قوات الأسد، دون أن نعرف السبب، وبقي الناس في منازلهم، وبعد ساعة تقريبا دُقّ باب المنزل، لتفتح والدتي وطلب منها عنصر من عناصر الجيش إخراج الشباب الموجودين".
ويتابع حيان "خرجت مع أخي عمار (مواليد 1964) وكان العنصر الأمني يريد أن يأخذ أخي الأصغر تمّام، ولكن أمي رفضت بسبب صغر سنّه فتركه في المنزل، بعدها تم إخراج جميع أبناء الحي والجيران وصفّهم على شكل رتل، وكان عمّار الشخص الأخير الموجود في الرتل، وضربه أحد عناصر الأسد بالبندقية على ظهره، فتألم بشكل كبير وهو صغير لم يتجاوز عمره 16 عاما، فطلب منّي مبادلته لأقف مكانه نهاية الرتل من الجهة اليسرى".
قتل بالرصاص الحيتم أخذهم هؤلاء جميعا إلى جانب معمل "بلاط" كان على أطراف قلعة حماة الأثرية قرب الحي، وتم إيقافهم على حائط المعمل، ليبدأ بعدها إمطارهم بالرصاص بشكل مباشر من عناصر الأسد على المدنيين برشاش ثقيل من الجهة اليمنى إلى اليسرى، كما يروي حيان.
ويضيف الشاهد على المجزرة "قُتل أخي على كتفي، وأصبت أنا في فخذي الأيسر، وبقيت على قيد الحياة. لكن من هول المنظر، فقدت الوعي، واستيقظت من غيبوبتي عند شعوري بالنيران التي أشعلتها عناصر الجيش بالجثث لإحراقنا، وعند محاولتي الهرب من النار المشتعلة، انتبه أحد العناصر الأمنية الموجودين، وعند محاولته قتلي سألته سؤالا واحدا قبل أن يقتلني: نحن ماذا فعلنا، نحن مع مين؟ فأنزل بندقيته وطلب مني بشكل خفي واضعا يده أمام بطنه بالسماح لي بالزحف والهرب".
إعلانويقول "بعد استطاعتي الزحف إلى داخل معمل البلاط، والدماء تسيل من قدمي، اختبأت بين الأكياس، مدّة ساعتين تقريبا، ولم يعد بقدرتي الحركة بشكل نهائي بسبب نزفي المستمر، لكنّ نساء شاهدن المجزرة من خلف ستارات شرفاتهن، وقد شاهدن دخولي إلى المعمل سرّا، فطلبن أن يساعدنني، وتم إسعافي على باب خشبي إلى منزلي، وبقيت حتى صلاة المغرب دون إسعاف للمشفى لعدم قدرتهن على الخروج خوفا من الجيش".
وتحدّث حيان عن مجازر أخرى حصلت عام 1981 أيضا لـ4 مواطنين من عائلة الشامي، فقد قتلوا قرب جامع النوري في حي بستان السعادة، بالرصاص الحي عند حائط منزلهم. كما تحدث شاهد العيان عن مجازر أخرى متفرقة باليوم نفسه.
حرق اللحىأما بسام محمد خميس وناجِ آخر من مجازر الأسد في حي بستان السعادة، من مواليد 1957، فقد قال "نادت الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع في الحي على جميع الشبّان للخروج من منازلهم مصطحبين بطاقاتهم الشخصية، وكان لي أخ ملتحِ، وكان كل شخص له لحية تقوم عناصر الأسد بحرق لحيته حيّا، ثم ذبحه بشكل مباشر، كما حصل أيضا مع شخص من عائلة المصدّر من الحي ذاته".
وحكى خميس عن سماعه عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي ما دار بين عناصر الأسد والضبّاط، وحديثهم عن مقتل 75 شخصا في 24 أبريل/نيسان عام 1981، في حي بستان السعادة، وطلب الضابط حينها الانسحاب وترك من تبقى فيه، في تأكيد من المواطن على علم قيادة نظام حافظ والمسؤولين حينها عن المجازر وأعداد الضحايا بشكل تام.
وشاهد خميس يوم 2 فبراير/شباط 1982 القصف العشوائي على حي الكيلانية التي هدمته المدافع الميدانية لقوات رفعت بشكل كامل. وروى مشاهدته لانتشار القتلى على الأرض، وجرحى من النساء. وقال إنه بعد 3 أيام بدأ الجيش بتمشيط المناطق، وتم أخذه مع آخرين يقدّر عددهم بـ29 شخصا من الحي باتجاه وسط المدينة "ساحة العاصي" من أجل إعدامهم ميدانيا، لكنّه نجا بسبب أن ضابطا كان موجودا هناك قال لهم "لدي ولد مريض، لن أقوم بقتلكم، عسى أن يشفي الله ولدي بحسنتكم" ثم خبّأهم جميعهم داخل دكّان صغير لمدة 3 أيام.
إعلان
مجازر في كل مكان
وحكى خميس للجزيرة نت أنه عمل موظفا في شركة الطرق والجسور، وأن المحافظة طلبت منهم -بعد انتهاء مجازر 82 في 30 فبراير/شباط- تنظيف الطرق وعلامات القتل، حيث شاهد حينها بشكل مباشر 4 مجازر، ويقول إنه لن ينساها أبدا:
إحداها مجزرة قرب الفرن الآلي في شارع صلاح الدين، وكانت منجرة خشب بداخلها نحو 30 شخصا محروقا بعد قتلهم. وأخرى في سوق النجارين وجد بداخلها 15 شخصا تم قتلهم وحرقهم أيضا لإخفاء معالم الجثث. وعلى أطراف نهر العاصي وجدوا ما يقارب 10 جثث تم إلقاؤها بعد قتلها وحرقها. والمشهد الأكبر هو ما وجدوه في حمام الشيخ الذي كان بمثابة مشفى ميداني للجرحى من القصف، حيث وضعت متفجرات من قبل عناصر الجيش داخل المشفى وفجّروه بمن فيه من الجرحى، وهدموا الحمّام على رؤوس من فيه، متحدثا عن مقتل أكثر من 20 قتيلا من النساء والأطفال، بخلاف مقتل جميع الرجال في حي الكيلانية بعد تفجيره بشكل كامل فوق رؤوس أهله.
الاغتصاب وقتل الأجنة
سامر المدني من أهالي حماة مواليد 1968، شاهد آخر على مجازر الأسد عام 1982، تحدّث للجزيرة نت وهو يقف على أنقاض حي الزنبقي الذي دمرته مدافع الجيش ذلك العام، وهدمتّه بشكل كامل.
وأكّد شاهد العيان أن عدد ضحايا مجزرة 82 أكبر بكثير من الأرقام والأسماء الموثقة لدى الشبكات الحقوقية، وأعداد المفقودين وصلت إلى 100 ألف مفقود لم يعرف مصيرهم إلى الآن. وأضاف "المجازر لم تخلف طفلا أو امرأة في حماة، فقد قاموا ببقر البطون، وقتل الأجنّة بعد إخراجها من بطون أمهاتها، واغتصاب النساء بشكل مريع، ولم يشهد التاريخ الحديث مجزرة كالتي حدثت في حماة.
وعما رآه وهو ابن 13 عاما، قال المدني إن أحياء الشيخ عنبر والعجزة ووادي الحوارنة شهدت اجتياحا لقوات الأسد في 25 فبراير/شباط 1982، وخلف مدرسة المرأة العربية تم إخراج الأهالي من الكبار والصغار وإعدامهم جميعا على أبواب المنازل، كما شوهد حينها قتلى من أبناء الديانة المسيحية لعدم تفرقة النظام بالقتل بين المدنيين.
إعلانوفي السياق ذاته، قال الشاهد "علمنا حينها عن حملات اعتقال قامت بها قوات أفرع المخابرات حينها من أحياء مختلفة، وتم أخذهم إلى مدرسة الصناعة الواقعة بداية طريق حماة حمص الدولي، ووضع رؤوس المعتقلين على ملازم الحديد والضغط عليها حتى فسخها نصفين، وقد ثقبت الأيادي والرؤوس والعيون والأرجل بمثاقب حديدية، وتم إعدام الناس البريئة عبر طرق تعذيب وحشية".
دفن بالخنادقويروي عادل عبد المعين جتّو ابن مدينة حماة (مواليد 1964) وهو يقف قرب أكبر المقابر الجماعية لضحايا المدينة المكلومة إثر مجازر 82 -في مقبرة سريحين جنوبي حماة- إثر مجزرة سريحين أو ما يعرف بمجزرة جنوب الملعب، حيث أتى أمر للجنود حينها من قيادات الوحدات الخاصة باعتقال جميع الشباب والرجال خلف مشفى حماة الوطني جنوب الملعب بحماة والذي كان حديثا حينها، وتم جمع عدد كبير من أهالي الحي وأخذهم إلى مقبرة سريحين، وقتلهم جميعا.
وتُقدر أعدادهم بـ5 آلاف ضحية حينها، وحُفرت خنادق ودفنوا فيها، وبعضهم دفن حيّا.
إن "أهالي حماة فقدوا آباءهم وأجدادهم في أحداث الثمانينيات" وذلك بعد مقتل والده وأعمامه وأعمام والده، كما يقول محمد ابن عائلة المراد (من مواليد 1970) وهو شاهد عيان على مجازر حماة.
وتحدّث الشاهد عن سبب مقتل والده وأعمامه وعمّ والده الشيخ بشير المراد الذي كان يشغل منصب مفتي حماة حين رفض المساومة وتهدئة الأوضاع في حماة -خلال مقابلته لحافظ الأسد يوم 27 رمضان في دمشق- رغم التهديد وعرض المناصب. لكنّه رفض، مما أدى إلى نقمة الأسد عليه وعلى علماء حماة.
ويروي ابن عائلة المراد أنه مع أحداث 1982، أشار أحد المسؤولين في حماة بمقابلة تلفزيونية إلى عدم تعاون الشيخ المراد مع الحكومة، وعندها تنبّهت أفرع الأمن إلى أفراد العائلة، أرسلوا اليوم التالي حملة عسكرية كبيرة مدججة بالسلاح جاءت إلى منزل الشيخ وكان يضم عائلته، وتم اقتيادهم إلى مطار حماة العسكري، وبحسب المعلومات التي وردتهم فإن المخابرات حينها نقلتهم إلى مكان مجهول لم يعرف حتى الآن.
إعلانويحكي محمد إحدى هذه الروايات، وهي قصص من بين أكثر من 140 ألف قصة، لكل ضحية ومفقود قُتلوا على أيدي قوات "الأسد حافظ".