كيف انفجرت الحرب بهدف السلطة وتصفية الثورة؟
تاريخ النشر: 28th, December 2023 GMT
بقلم: تاج السر عثمان بابو
(1)
جاءت الحرب اللعينة بهدف الصراع على السلطة وتصفية الثورة بين مليشيات الإسلامويين وصنيعتهم الدعم السريع، كما في التهجير والنزوح الواسع الجاري لسكان الخرطوم وبقية المدن، وتدمير المصانع ومراكز الخدمات البنية التحتية، والنهب الكبير للاسواق والبنوك ولممتلكات المواطنين ومنازلهم وعرباتهم، ومحاولات محو آثار البلاد الثقافية، واضعاف البلاد وقوى الثورة الحية.
بعد فشل مليشيات “الفلول” في مواجهة الدعم السريع دعوا لتسليح الجماهير لتحارب نيابة عتهم، مما يحول الحرب الي أهلية وعرقية واثنية تهدد أمن المنطقة والسلام الاقليمي والدولي، ووجدت الدعوة رفضا واسعا من المواطنين ، فلا بديل لوقف الحرب، والسماح بمرور الاغاثة والدواء للمتضررين ، وخروج الدعم السريع والجيش من السياسة والاقتصاد ومن المدن.
انفجرت الحرب اللعينة بعد تصاعد المقاومة لانقلاب 25 أكتوبر، ومجازر دارفور والمناطق الطرفية الأخري ، وبعد أن اصبحت سلطة اتقلاب 25 أكتوبر قاب قوسين أو أدني من السقوط ، وعقب الصراع الذي انفجر في الانفاق الإطاري حول الاصلاح الأمني والعسكري في قضية الدعم السريع حول مدة دمج الدعم السريع في القوات المسلحة، فضلا عن توفر الظروف الموضوعية لانفجار الثورة ، كما في الثورات والانتفاضات السابقة التي اسقطت الأنظمة العسكرية الديكتاتورية بسلاح الاضراب السياسي العام والعصيان المدني، كما أشرنا سابقا في الآتي :
– المواكب والمليونيات التي كانت تنظمها لجان المقاومة وفشل القمع الوحشي في وقفها ، واضرابات العاملين من أجل رفع الأجور وتحسين الأوضاع المعيشية، جراء التصاعد المستمر في الأسعار والتدهور في قيمة الجنية السوداني وتآكل الأجور ، وتدهور الخدمات الصحية والنقص في الدواء ، وانتشار أمراض مثل: حمى الضنك في ظل معيشة ضنكا ونقص في الأنفس والثمرات يعيشها شعبنا ، مع شبح المجاعة الذي يخيم على البلاد جراء تدهور الإنتاج الزراعي والصناعي، اضافة لتدهورالتعليم واوضاع المعلمين مما أدي لاضرابهم من أجل تحسين الأجور والبيئة التعليمية ، ومقاومة الطلاب والمعلمين للرسوم الدراسية الباهظة التي تجعل التعليم للقادرين، في حين بلغت ميزانية الأمن والدفاع 75% ، وهي ميزانية مصدرها الأساسي جيب المواطن ، مما يعني المزيد من الافقار والبؤس ، مما يؤدي للانفجار الجماهيري الشامل الذي بدأت نذره تلوح في الأفق، وبعد انفجار الحرب ازداد الوضع تدهورا..
– التطور اللافت لمعركة انتزاع النقابات، كما حدث وسط الصحفيين والدراميين و بعض فرعيات أساتذة الجامعات ، وأخيرا انتزاع نقابة أطباء السودان بعد 34 عاما بعد عقد الجمعية العمومية وانتخاب اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان التي بها تمثيل واسع للاقاليم ، وانتخاب 40% طبيبات ، وانتخاب أخصائية الجراحة د. هبة عمر نقيبا ، اضافة لاتجاه بقية الفئات لانتزاع نقاباتها مثل: المهندسين والمعلمين . الخ وفي وجهة انتزاع ديمقراطية واستقلالية ووحدة العمل النقابي.
– تصاعد الحركات المطلبية كما في مقاومة جماهير الشرق لميناء “ابوعمامة “الذي يهدد السيادة الوطنية ويقضي علي ميناء بورتسودان في ظل حكومة انقلابية غير شرعية مرتهنة للخارج، ومقاومة القبائل القاطنة في ولايات مشروع “الهواد” الزراعي لنهب اراضيهم وتمليكها للامارات ، ورفض الجماهير في مناطق البترول والتعدين لنهب ثرواتهم من الذهب وتدمير البيئة ، وحقوقهم في تنمية المنطقة بنسبة محددة ، واعادة النظر في العقود الجائرة التي تنهب بموجبها الشركات ثروات البلاد ، اضافة لمقاومة جماهير النوبيين لنزع اراضيهم ، واتساع حركة المطالبة بعودة المناطق المحتلة مثل : حلايب وشلاتين ، ابورماد ، نتؤات وادي حلفا ، الفشقة. الخ، ونهب ثروات البلاد من قبل مصر كما في مطالب ترس الشمال.
– نهوض المزارعين ضد ارتفاع تكلفة الإنتاج والوقود ، وتوفير الرى ، والعائد المجزى لمحاصيلهم والضرائب الباهظة مما يهدد بفشل الموسم الزراعي ، ومقاومة مصادرة الأراضي، وحقهم في التنظيم بقيام اتحادات ديمقراطية تدافع عن حقوقهم ومصالحهم.
– استنكار جماهير النازحين في المعسكرات لخدعة ما يسمي بالعدالة الانتقالية كجواز مرورللافلات من العقاب كما جرى في التسوية على أساس الاتفاق الإطارى، وعدم تسليم البشير ومن معه للمحكمة الجنائية الدولية في تكرار لما حدث في حكومات الفترة الانتقالية السابقة ، والحكومة الانقلابية الراهنة التي تورطت أكثر في ارتكاب المجازر وفشل اتفاق جوبا في تحقيق العدالة ، كما جاء في بيان المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين بتاريخ 12 مارس 2023، الذي وضع النقاط فوق الحروف.
إضافة للصمود أمام القمع الوحشي للمواكب السلمية حتى وصل عدد الشهداء (125) شهيدا، واصابة أكثر من (8 الف) شخص بعضها خطير باستخدام الرصاص الحي والمطاطي والغاز المسيل للدموع ومدافع الدوشكا ، والاوبلن، والدهس بالمدرعات . الخ ، اضافة للاعتقال والتعذيب الوحشي للمعتقلين وحالات الاغتصاب ، واستمرار الابادة الجماعية في دارفور وبقية المناطق لنهب الأراضي وثرواتها ، مما أدي في العام 2022 ” بعد عام هلى انقلاب 25 أكتوبر” لنزوح (314) الف شخص في غرب وشمال وجنوب وشرق دارفور وجنوب وغرب كردفان وجنوبالنيل الأزرق ، ومقتل (991) شخصا ، واصابة (1,1173 ) شخص، حسب احصائية الأمم المتحدة.
– رفض تهريب ثروات البلاد للخارج ، والتفريط في السيادة الوطنية كما في التواجد المصري في مطار مروى، والمطالبة بالجلاء من البلاد ، ورفض أن يكون السودان مسرحا للحرب الاثيوبية – المصرية حول سد النهضة ومياه النيل والتدخل في الشأن الداخلي بشكل غير مسبوق، وكانت أحداث مروي القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت لانفجار الحرب.
اضافة لرفض أن يكون السودان في مرمي نيران الصراع الدولي لنهب الموارد والموانئ بين أمريكا وحلفائها وروسيا والصين
– مقاومة الانقلات الأمني الذي وراءه السلطة الانقلابية بعد اتفاق جوبا والسماح لجيوش الحركات في المدن ، والفوضي الأمنية التي خلقتها في البلاد ، وفشل اتفاق جوبا في تحقيق الأمن والسلام، مما يتطلب الغاء الاتفاق والاسراع في الترتيبات الأمنية لحل كل تلك الجيوش ، مع مليشيات الدعم السريع وجيوش الكيزان ، وقيام الجيش القومي المهني الموحد.
– مقاومة الجماهير واسر الشهداء لعدم الافلات من العقاب ومحاكمة المجرمين في مجازر فض الاعتصام ومجازر ما بعد انقلاب 25 أكتوبر،وتسليم البشير ومن معه للمحكمة الجنائية الدولية.
– مواصلة المعركة من أجل استكمال مهام ثورة ديسمبر التي قطعها انقلاب 11 أبريل 2019 ، وانقلاب مجزرة فض الاعتصام ، وانقلاب 25 أكتوبر الذي جاء امتدادا لهما حتى اسقاطه وانتزاع الحكم المدني ورفض التسوية الجارية على أساس الاتفاق الإطاري الهادف لاطالة عمر الانقلاب. وتصفية الثورة.
(2)
اوضحت الحرب اللعينة الأتي :
– خطر المليشيات ( الدعم السريع ، الكيزان ، الحركات) على وحدة واستقرار البلاد وأمنها وسيادتها الوطنية، فكان من شعارات ثورة ديسمبر ” حرية سلام وعدالة – الثورة خيار الشعب” ، و”السلطة سلطة شعب والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل”.
– كما أكدت التجربة خطل الانفاقات الهشة بتدخل دولي واقليمي لقطع الطريق أمام الثورة ، فضلا عن تكريسها للمليشيات وجيوش الحركات كما في الوثيقة الدستورية 2019 التي انقلب عليها تحالف اللجنة الأمنية ومليشيات الكيزان والدعم السريع وجيوش حركات جوبا، في 25 أكتوبر 2021 الذي تدهورت بعده الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية، ووجد مقاومة باسلة ، وجاء الاتفاق الإطارى ليكرر خطأ “الوثيقة الدستورية” الذي كرّس وجود الدعم السريع واتفاق جوبا، وهيمنة العسكر ، مما أدي لانفجار الأوضاع في البلاد والحرب ، وهو في جوهره صراع على السلطة ونهب ثروات البلاد ، وانعكاس لصراع المحاور الاقليمية والدولية في السودان، والتدخل الدولي الكثيف فيه.
– بعد وقف الحرب بعد هذه التجربة المريرة لا عودة للاتفاقات الهشة لتقاسم السلطة التي تعيد إنتاج الحرب بشكل اوسع، وتهدد استقرار ووحدة البلاد ، كما في الدعوات الجارية للعودة للانفاق الإطارى بعد وقف الحرب.
(3)
أخيرا، في الذكرى الخامسة للثورة والذكرى 68 للاستقلال ، مهم التصدي للآتي:
– عدم الاستجابة لدعوات الفلول لتسليح المواطنين لتحويل الحرب الي أهلية وعرقية واثنية وثقافية، مما يهدد وحدة البلاد.
– سدا منيعا ضد الاتفاقات الهشة التي تعيد إنتاج والحرب والهادفة لتصفية الثورة وقطع الطريق أمامها.
– لا بديل غير اوسع نهوض جماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة، ومقاومة جماهير المدن للتهجير والنزوح ، ومواصلة المطالبة بالعودة لمنازلهم وقراهم ،عدم ترك اراضيهم وممتلكاتهم لمليشيات الدعم السريع و”الكيزان”.
– مواصلة الوجود والمقاومة في الشارع في الداخل والخارج، حيثما ما أمكن حتى وقف الحرب و الانتفاضة الشعبية والاضراب السياسي العام والعصيان المدني لاسقاط الانقلاب، وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وعودة العسكر للثكنات وحل الدعم السريع ومليشيات الكيزان وجيوش الحركات ، والاسراع في الترتيبات الأمنية لنزع سلاح المليشيات وتسريجها ، ودمجها في المجتمع ، وعودة كل شركات الجيش والدعم السريع والشرطة والأمن لولاية وزارة المالية، ومواصلة الثورة حنى تحقيق أهدافها ومهام الفترة الانتقالية.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الدعم السریع کما فی
إقرأ أيضاً:
لماذا تحمي أوروبا الدعم السريع؟
لم يفلح السودان حتى الآن في حمل العالم على تصنيف مليشيا الدعم السريع المتمردة منظمةً إرهابية على الرغم من جرائم الإبادة الجماعية، والفظائع التي ظلت ترتكبها ضد المدنيين في وضح النهار، ودون مواربة. ولكون هذه المليشيا بدت نموذجًا صارخًا، ومثاليًا لما عرف اصطلاحًا بـ "البنادق المأجورة"، وهو مصطلح يُستخدم لوصف المرتزقة الذين يقدمون خدماتهم القتالية مقابل المال دون اعتبار للأيديولوجيا أو القيم.
فهؤلاء المرتزقة لا يهمهم سوى العائد المادي، ويعملون بشكل رئيسي لخدمة أهداف من يدفع لهم، سواء كان طرفًا على المستوى الداخلي، أو الإقليمي، أو الدولي.
فقد جعلت هذه "الميزة" الأطراف المستفيدة من خدمات مليشيا الدعم السريع أطرافًا ممانعة لتصنيفها منظمةً إرهابية، كما يجب. لقد بدأت هذه المليشيا قوة شبه عسكرية من "الجنجويد" – مجموعات مسلحة غير نظامية في دارفور -، وتطورت إلى قوة بقانون تشارك في النزاعات الداخلية.
وعلى الرغم من التقارير الحقوقية التي توثق انتهاكاتها، فإن العوامل السياسية، والاقتصادية الإقليمية، والدولية ظلت مؤثرة جدًا في تأخير تصنيفها منظمة إرهابية. ويعكس ذلك التردد تناقض المجتمع الدولي، حيث يتم تغليب المصالح السياسية، والأمنية، والاقتصادية على حساب العدالة الدولية المزعومة.
وتجدر الإشارة هنا إلى قول الموظف السابق في البيت الأبيض المختص بشؤون القرن الأفريقي، والسودان في لقائه مع الجزيرة مؤخرًا بعد أن تحرر من الموقع الرسمي: إن "مليشيا الدعم السريع يجب أن تصنف منظمة إرهابية؛ لأنها تقوم بأعمال إرهابية ضد الشعب السوداني".
فمن الجلي أن هناك أولويات تتعلق بمصالح الدول الكبرى، والإقليمية التي تخشى أن يؤدي هذا التصنيف إلى فقدان شريك أمني أو "بندقية مأجورة". وما قد يتعارض مع مصالح بعض القوى الدولية هو أن تصنيف هذه المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى انعكاسات إيجابية على الأوضاع الداخلية في السودان، من إنهاء النزاع المسلح، وتقليل الانقسامات الاجتماعية، إلى التأثير الإيجابي على الاقتصاد، وخفض معاناة المدنيين.
فبالإضافة إلى ذلك فإن هذا التصنيف سيحلحل تعقيدات العملية السياسية، ويمكن الدبلوماسية السودانية من المزيد من النشاط، مما يجعل من السهل إيجاد حلول سلمية، واستقرار طويل الأمد.
نشأة رغائبية شائهةبدأ التفكير في إنشاء مليشيا الدعم السريع في 2003، لأغراض أمنية بحتة تتعلق باضطراب الأوضاع في إقليم دارفور مع بداية التمرد هناك، لكن سرعان ما تم استغلالها رغائبيًا في إطار حالة عدم اليقين، واهتزاز الثقة بين أركان السلطة، لا سيما بعد انشقاق الحزب الحاكم آنذاك في العام 1999.
وفي إطار طبيعة النزاع المتوارثة في دارفور بين القبائل الرعوية، والزراعية، ومع تأثر السودان بالحرب الأهلية في تشاد المجاورة التي تربطها به حدود مفتوحة، وقبائل مشتركة اتخذت النزاعات بين القبائل أشكالًا مسلحة تتطور طرديًا مع زيادة تدفق السلاح من تشاد.
وقامت مجموعات من القبائل المحلية بتنظيم قوات مسلحة عرفت باسم "الجنجويد"، وأجادت فنون القتال، والكر، والفر في مناطق ذات طبيعة سهلية شاسعة تجد أقوى الجيوش صعوبة في الانتشار فيها، والسيطرة عليها.
هذه الميزات جعلت السلطة المركزية في حقب عديدة، لا سيما نظام الرئيس السابق عمر البشير، تسعى لاستغلالها وتجنيدها لصالح السيطرة على المجموعات المتمردة ذات الأهداف السياسية، وربما المرتبطة بالخارج.
بيد أن حكومة البشير غضت الطرف عن السمعة السيئة للجنجويد؛ نتيجة الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، والجرائم ضد المدنيين. والحقيقة أن السلطة المركزية كانت كمن يحاول عبثًا ترويض ذئبٍ ليجعله أليفًا يُؤلَف يعيش بين الناس، لكن الذئب يظل ذئبًا، ولن يغلب الطبع التطبّع.
في عام 2013، قررت حكومة البشير إعادة تنظيم هذه المليشيا في هيكل رسمي رغم اعتراضات ضباط من الجيش، وأطلقت عليها اسم "قوات الدعم السريع"، ومنحتها وضعًا قانونيًا ضمن الجيش القومي، ولكن بصيغة مرتبكة. وتم تعيين محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي"، قائدًا لهذه القوات.
غير أن هذه القوات بقيت – لشيء في نفس البشير – تابعة له مباشرة، ولم تتبع لهيئة أركان الجيش، كما كان يفترض، وهذا الأمر كان سيمنع لاحقًا تفلّتها، ومحاولة بناء نفسها باعتبارها جيشًا موازيًا بعقيدة غير عقيدة الجيش الوطني القومي. وقد ساعد هذا الوضع الشائه في تعزيز قدرات المليشيا، وتسليحها بشكل كبير بعيدًا عن خطط وسيطرة الجيش، لا سيما بعد سقوط نظام البشير في أبريل/ نيسان 2019.
وبعد الإطاحة بالبشير برزت مليشيا الدعم السريع قوة رئيسية في المرحلة الانتقالية، ووقّعت على اتفاق مع القوى السياسية للمشاركة في السلطة الانتقالية بجانب الجيش، وشغل حميدتي منصب نائب رئيس المجلس السيادي، الأمر الذي جعل المليشيا لاعبًا رئيسيًا في السياسة السودانية، بل إنها تطلّعت لاحقًا للاستيلاء على السلطة بالتعاون، والتخابر مع قوى إقليمية، ودولية، وهذا كان السبب الرئيسي في اندلاع الحرب الحالية التي تكاد تذهب بالدولة السودانية من القواعد.
إن هذا الوضع الشاذ لم يمكنها سياسيًا، وعسكريًا فحسب، وإنما سيطرت على أهم الموارد الاقتصادية في البلاد، وهي مناجم الذهب في دارفور. وكانت عوائد هذا المورد عاملًا حاسمًا في بناء نفوذها العسكري والسياسي، ولعب دور الوكيل المعتمد للقوى الإقليمية الطامعة في الذهب السوداني.
ولذلك كان هدف الاستيلاء على السلطة هو تعزيز هذه الأوضاع الآثمة لتتحول من خانة "البنادق المأجورة" إلى خانة "الأنظمة المأجورة"، ومن ثم تحويل كامل الدولة السودانية لدولة وظيفية خادمة مطيعة للإمبريالية العالمية.
تجاهل رغم التوثيق والاعتراف
إن سلوك هذه المليشيا أصبح محيرًا، ويدلُّ على خلل نفسي ما، وهو سلوك ناتج عن فقدان التوازن العقلي؛ فلا يتوانى عناصر المليشيا في تسجيل، وتوثيق جرائمهم بأنفسهم، وهم يبدون سعادتهم بذلك دون مواربة. وأظهرت مقاطع مبثوثة من جانبهم إجبار مواطنين اختطفتهم على تقليد نباح الكلاب، ومرة أخرى صوت القطط. ومن قبل وثّقوا عمليات اغتصاب ارتكبوها، وقد تناوبوا على الضحية.
إن الجرائم التي ترتكبها هذه المليشيا ليست أقل بأي حال من جرائم مخزية تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وهذه كلها جرائم تتعارض مع القوانين الدولية في المجال الإنساني.
وقامَ العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية بإصدار تقارير تفصيلية عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في السودان، وتناولت هذه التقارير قضايا القتل الجماعي، والاعتقالات التعسفية، والانتهاكات ضد المدنيين، إضافة إلى استخدام العنف المفرط خلال النزاعات. وهنا نعرض ملخصًا لأبرز هذه التقارير ودور الإعلام العالمي في توثيقها.
في أوائل هذا العام أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا أمميًا بشأن ارتكاب مجازر في إقليم دارفور، كان قد قطع قول كل خطيب، وأفاد التقرير المقدم إلى مجلس الأمن الدولي بأن نحو 15 ألف شخص قتلوا في مدينة واحدة في منطقة غرب دارفور منذ اندلاع التمرد، في أعمال عنف عرقية نفذتها مليشيا الدعم السريع.
ونقلت مقاطع مصورة، دفن أبرياء أحياءً وذبح آخرين في مشاهد هزت الضمير الإنساني هزًا عنيفًا. كما أصدرت "هيومن رايتس ووتش" عدة تقارير تركز على الانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، خاصة في دارفور.
أما منظمة العفو الدولية، فقد أشارت في تقاريرها إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها المليشيا، مع التركيز على حالات القتل خارج إطار القانون، والتعذيب، والاعتداء على النساء، والأطفال.
وتزامنت تقارير المنظمات المعنية مع تقارير صادمة بثتها وسائل إعلام دولية، حيث قامت وكالات مثل: (رويترز)، و(بي بي سي)، و(سي إن إن) بنشر، وبث تقارير ميدانية مصورة حول اعتداءات المليشيا على المدنيين، في مناطق تسيطر عليها، أو تلك التي استعادها الجيش السوداني من قبضتها.
هذا بالإضافة إلى تحقيقات صحفية استقصائية كشفت جوانب أخرى من هذه الانتهاكات، مثل: تجنيد الأطفال، والعنف ضد النساء. كما تمكّنت العديد من وسائل الإعلام من نشر شهادات الضحايا، والوصول إلى الشهود، وإبراز مقابلات، وتقارير، وثائقية تُظهر الظروف الصعبة التي يواجهها السكان الواقعون تحت جحيم هذه الجرائم.
لماذا يتأخر دمغ المليشيا بالإرهاب؟هناك كثير من العوامل السياسية التي تمنع ما يعرف بالمجتمع الدولي من اتخاذ خطوة تصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية، هناك مصالح إقليمية، ودولية في السودان تتأسس على الموقع الإستراتيجي للسودان، لا سيما في القرن الأفريقي.
وهناك قوى إقليمية ترى أن مصالحها أو بالأحرى مطامعها لن تحصل عليها إلا عبر "البندقية المأجورة" المتمثلة في المليشيا، وأن تصنيفها منظمة إرهابية لن يمكنها من استعمالها لأهدافها.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك تنسيقًا سياسيًا مع بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تجد في المليشيا "بندقية مأجورة" غير مباشرة يمكن استخدامها في تحقيق أهداف معينة في السودان، والمنطقة، مما يدفعها إلى عدم السعي لتصنيفها منظمة إرهابية. فضلًا عن أن واشنطن هي وحدها صاحبة "حق الملكية" لمصطلح الإرهاب تستخدمه سياسيًا متى تشاء، وكيفما تشاء.
كذلك سبق للاتحاد الأوروبي استعمال هذه المليشيات "بندقية مأجورة" للحد من الهجرة غير الشرعية من القرن الأفريقي نحو أوروبا عبر السودان. هذا التعاون الأمني جعل بعض الدول الأوروبية تتردد في تصنيفها منظمة إرهابية؛ خشية فقدان شريك محوري في مكافحة الهجرة.
ففي 2016 عقد معها الاتحاد الأوروبي اتفاقًا تحت جنح الظلام؛ لوقف تدفق اللاجئين من أفريقيا عبر السودان بقيمة (110) ملايين يورو، حسب تأكيدات الخارجية السودانية حينذاك. وردت منظمة "هيومن رايتس ووتش" غاضبة في بيان لها: إن "من السخرية تعاون الاتحاد الأوروبي الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا".
إن القوى الدولية، والإقليمية الممانعة لتصنيف المليشيا منظمة إرهابية سخّرت آلتها الإعلامية لتبني سردية متعلقة بالدور العسكري، والسياسي داخليًا؛ بغرض دفع الآخرين للوقوف في صفّ الممانعة أو على الأقلّ تأخير، ومماطلة تحقيق تلك الخطوة المهمة.
وتقول تلك السردية التي تغلف باطلًا بحق إن المليشيا أصبحت جزءًا من البنية السياسية، والعسكرية في السودان، ولها نفوذ في البلاد. لذا، يُخشى من أن يؤدي تصنيفها منظمة إرهابية إلى تفاقم الأزمة السياسية، والأمنية في السودان، وإضعاف الحكومة المركزية.
كذلك يشيع الممانعون، ويخوفون من التبعات الاقتصادية للتصنيف الإرهابي للمليشيا، إذ سيؤدي إلى زيادة المخاطر على شركات التعدين، والنفط في المناطق التقليدية للمليشيا، وحواضنها الاجتماعية.
ويقولون إن فرض عقوبات أو تصنيفها منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تعقيدات قانونية بالنسبة للشركات الدولية التي تعمل في هذه المناطق، مما يضر بالمصالح الاقتصادية لهذه الشركات، والدول التي تقف خلفها.
لعلّ الممانعين لو اكتفوا بالقول إن تصنيف المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تفككها إلى مجموعات إرهابية صغيرة كما يبدو عليه حالها اليوم بعد الضربات القوية التي سببها لها الجيش، فإن ذلك كان سيبدو منطقيًا، ومقبولًا ويبعد عنهم شبهة النوايا السيئة التي تقف حجر عثرة في إقرار تصنيف دولي للمليشيا باعتبارها منظمة إرهابية، يسهم في القضاء المبرم عليها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية