ترجمة وإعداد شفق نيوز/ ما من تاريخ واضح في حياة البشرية يكشف متى بدأ الإنسان باستخدام الأنفاق لأغراض قتالية، إلا أنه من المعتقد ان الانفاق بدأ استعمالها لدى العصور القديمة من جانب الاشوريين في العراق ثم من قبل الرومان والفرس، فضلاً عن "غزوة الخندق" لدى التأريخ الإسلامي، وصولا الى تطور الاعتماد على الأنفاق في الحرب العالمية الأولى وحروب فيتنام واليابان وكوريا.

 

وبرغم أن الخبراء العسكريين يصنفون ميادين الحروب بأنها ثلاثة، وهي البرية والبحرية والجوية، والتي يمكن استخدامها في خوض معركة عسكرية من اجل تحقيق اهداف سياسية ضد العدو، إلا أن هناك كثيرين بدأوا يدعون الى تحديد ميدان رابع هو الانفاق التي كان يجري تجاهلها كثيرا في نقاشات الاستراتيجيات العسكرية، برغم انها كانت وسيلة مستخدمة منذ آلاف السنين لخداع العدو وتحقيق الانتصارات. 

وقد أظهرت حرب غزة الجارية الحالية مدى أهمية الأنفاق في خوض المعارك وارباك العدو.

تحول المعركة لصالح الاضعف

يقول "معهد هادسون" الأمريكي، في تقرير له ترجمته وكالة شفق نيوز، إنه "مقارنة بانظمة الاسلحة الاكثر تطورا المستخدمة اليوم، فان الانفاق صمدت امام اختبار الازمنة". 

ويوضح "معهد هادسون"، أنه "على مدى قرون، اتاحت الانفاق للوحدات العسكرية بالاقتراب من اعدائها من دون ان يتم اكتشافها، وساعدت المقاتلين الاضعف على تحويل ساحة المعركة لصالحهم".

ويعتبر المعهد الامريكي انه "لا توجد طريقة لمعرفة المدة التي ستستمر فيها الطائرات المسيرة او الليزر او انظمة الدفاع المضادة للصواريخ، إلا أنه ما دامت هناك حرب، فمن المؤكد ان الانفاق ستكون جزءا من المعركة". 

الاتفاق لدى الاشوريين والرومان والفرس

ومن المعتقد ان الانفاق استعملت في العصور القديمة، وخصوصا في عهد المملكة الآشورية في العراق ومن جانب الرومان والفرس حيث كانوا يحفرون تحت القلاع والحصون بالتسلل من أجل اقتحامها، كما ان الانفاق استخدمت خلال الحروب بين الجيش الروماني وبين قبائل باتافي الجرمانية المتمردة على روما والتي اعتمدت أسلوب حرب العصابات ضد القوات النظامية. 

وتظهر المنحوتات الآشورية التي تعود إلى أكثر من 4 آلاف سنة، عمليات حفر أنفاق، حيث تقوم وحدات هندسية تابعة للملك سرجون الأكادي الذي حكم 2334-2279 قبل الميلاد، بالعمل على هدم أسوار مدن العدو. 

ويقول "معهد أبحاث السياسة الخارجية" الأمريكي أنه على الرغم من أن إلياذة هوميروس لا تتضمن على أي ذكر لمثل هذه الأنشطة، إلا أن الأدلة الأثرية من الحفريات في طروادة تظهر عددا من الممرات تحت الأرض التي تمر أسفل أسوار المدينة، والتي ربما كانت جزءًا من الحصار. 

ورأى التقرير الأمريكي، أن الرومان غالبا ما استخدموا عمليات حفر الأنفاق في فتوحاتهم، وكانت سمعتهم كمهندسين كبيرة لدرجة أن رؤية الأرض المحفورة حديثا والتي قد تشير الى وجود حفر الأنفاق كانت كافية لدفع الخصم على الاستسلام قبل انهيار مدينتهم وتعرضها الى النهب من قبل الرومان.  

وبحسب المعهد الامريكي فانه "تقليديا، تم استخدام الأنفاق في الغالب كوسيلة للاقتراب من المواقع المحصنة وتهديدها، حيث انها ربما كانت تكون قوة حصار قد بدأت عمليات حفر الأنفاق على أمل تجاوز جدران التحصين، وشن هجوم مباشر على الداخل، محققة المفاجأة بالظهور المفاجئ للمحاربين في منطقة كانت تعتبر في السابق محصنة ضد الهجوم".

ويضيف المعهد أن "الأكثر شيوعا هو الجهد الذي كان يبذل من أجل فتح مساحة تحت الجدران أو الأبراج الواقية، وهي عملية يطلق عليها الاستغناء، حيث يقوم الحفارون للإنفاق بتدعيم اساسات المنطقة المستهدفة بألواح خشبية جافة، ويتم إشعال الخشب، مما يتسبب في انهيار الجدار غير المدعم، ثم بعد ذلك يجري اقتحام الخرق الناتج من قبل المقاتلين، الذين يأملون في التدفق عبر هذه الثغرة والتغلب على المدافعين قبل سد الفجوة". 

وبحسب ما يقول "معهد هادسون" الأمريكي، فقد ادى حصار الامبراطورية الفارسية لمدينة دورا أوروبوس الرومانية في العام 256  إلى تطور جديد اخر: عندما اصطدمت الجيوش الفارسية التي كانت تحفر أنفاقا تحت أسوار المدينة بنفق روماني مضاد، ملأه بغاز سام مصنوع من القار والكبريت لخنق الجنود في الداخل، وهو ما يمثل أول استخدام معروف لحرب الغاز، فيما استمر فن حفر الأنفاق والانفاق المضادة طوال العصور الوسطى. 

الانفاق في التاريخ الاسلامي

وفي التاريخ الإسلامي، يمكن العودة إلى "غزوة الخندق" والتي يطلق عليها احيانا "غزوة الأحزاب" والتي وقعت في العام الخامس للهجرة، أي في العام 627 ميلادي، عندما اجتمعت مجموعة من القبائل من أجل غزو المدينة المنورة بهدف القضاء على الدولة الاسلامية الناشئة، حيث تقول الرواية الإسلامية أن قبيلة يهودية (بنو النضير) هي التي حرضت القبائل ضد النبي محمد الذي قرر حفر خندق الى الشمال من المدينة لمنع تقدم مقاتلي القبائل من التقدم نحوها، ما أفشل الهجوم. 

واصبحت الانفاق السلاح الدفاعي الأكثر اهمية للجماعات المسلحة وحتى الجيوش، وهي استخدمت خلال الحرب الأهلية الاميركية قبل نحو 150 سنة، بينما كان الاعتماد عليها على نطاق واسع، في الحرب العالمية الأولى. وقد تطورت الفكرة من حفر الانفاق من اجل التسلل، الى حماية المناطق من الهجمات، وحماية المقاتلين من قنابل الطائرات والمدفعية.

حروب فيتنام واليابان 

وكان للانفاق أدوار كبيرة خلال حرب فيتنام حيث استخدمها مقاتلو "الفيتكونغ" قصار القامة مما اضطر الجيش الامريكي وقبله الجيش الفرنسي الى تشكيل فرق متخصصة لحروب الانفاق تضم جنودا قصيري القامة وسريعي الحركة، واطلق على هؤلاء الجنود اسم "فئران الانفاق". 

وتطور استخدام الانفاق خلال الحرب العالمية الثانية مع تطور قدرات القصف والطيران الحربي، بما يوفر حماية اكبر للجنود على خطوط الجبهات، واستخدامها بكفاءة المقاومون الصينيون بوجه الاحتلال الياباني لاراضيهم، فيما كان اليابانيون يردون باغراق الانفاق بالمياه او الغازات السامة. 

الا ان من عاناه اليابانيون بسبب الانفاق الصينية خلال احتلالهم القصير للصين، عادوا واستخدموه بانفسهم ضد القوات الاميركية الغازية لجزيرتهم خلال الحرب العالمية الثانية، كما جرى خصوصا في معركتي جزيرة بيليليو وايوجيما، ثم طوروا تقنية هندسة الانفاق بتحويل جبل باكمله، هو جبل سوريباتشي الى معقل كامل من الانفاق المدعمة لمحاربة القوات الأمريكية. 

المقاومة اللبنانية وغزة 

استخدمت المقاومة في لبنان الانفاق في فترة الاحتلال الاسرائيلي للبنان، حيث اقامت الانفاق في منطقة اقليم التفاح لمواجهة المواقع العسكرية الاسرائيلية على سفوح الجبال. 

وليس من قبيل المبالغة القول بان الأنفاق المقامة تحت قطاع غزة، هي الشريان الذي مكن الفلسطينيين من الصمود طوال اكثر من شهرين في وجه امام الهجوم العسكرية المدمر الذي يقوم به الجيش الاسرائيلي حيث تشير التقديرات إلى أنه القى على غزة من متفجرات ما يعادل من أكثر من قنبلتين نوويتين كالتي ألقيت على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. 

من المعلوم ان قطاع غزة محاصر بشكل كامل منذ نحو 17 سنة، وموارد الحياة فيه شبه ممنوعة، حيث لا مطار ولا موانئ ولا معابر تربط القطاع الفلسطيني بأي أرض عربية، بما في ذلك رفح الذي يسيطر الإسرائيليون على كل ما يدخل عبره ويخضع لتفتيشهم. 

الا ان الحاجة الاخرى الملحة التي فرضت نزول الفلسطينيين تحت الارض، انهم كانوا عرضة متواصلة للهجمات الاسرائيلية في العقدين الماضيين، بما في ذلك عمليات عسكرية من بينها "الرصاص المصبوب" (2008)، وعدوان "عمود السحاب" (2012)، وعدوان "الجرف الصامد" (2014)، و"حارس الاسوار" (2021) و"الفجر الصادق" (2022). 

ومن المعتقد ان الانفاق الفلسطينية تطورت مع الوقت، وصارت تتضمن ممرات واسعة، وأسقف عالية نسبيا، وحجرات مخصصة لأغراض مختلفة كقيادة العمليات والمراقبة وتخزين الاسلحة والمواد الغذائية والمياه ومضافات لراحة المقاتلين، والاهم انه صار لها في أحيان كثيرة، تفرعات متعددة تقود باتجاهات مختلفة، بالاضافة الى مواقع مخصصة لإطلاق الصواريخ التي استهدفت المستوطنات الإسرائيلية والمواقع العسكرية كالقواعد والمطارات وغيرها. 

كما ان هناك تقديرات بأن هذه الشبكة تضم 1300 نفق يبلغ طولها حوالي 500 كيلومتر فيما يصل عمق بعض الانفاق الى 70 مترا تحت الأرض فيما تشير تقارير إلى أن معظم هذه الأنفاق يبلغ ارتفاعها مترين فقط وعرضها مترين.

وذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" مؤخرا أن شبكة الأنفاق في غزة، تعتبر أكبر من شبكة قطار أنفاق لندن، وهي محصنة ضد طائرة الاستطلاع الاسرائيلية والضربات الجوية الأخرى. 

ترجمة وإعداد وكالة شفق نيوز

المصدر: شفق نيوز

كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية الكورد الفيليون الكورد الفيليون خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير الكورد الفيليون مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي الانفاق تاريخ الحروب الحرب العالمیة ان الانفاق الأنفاق فی إلا أن

إقرأ أيضاً:

حروب الغرف المظلمة.. ما شكل الصراع الاستخباراتي بين روسيا وأوكرانيا؟

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وقف الملازم كوستيانتين، وهو قائد كتيبة في لواء الاستطلاع المدفعي الخامس عشر في أوكرانيا، المعروف أيضا باسم "بلاك فورست"، في قلب مركز قيادة اللواء مثبتا عيناه على الشاشة التي تعرض أمامه بثًّا حيًّا من طائرة استطلاع مسيرة.

كانت كاميرا الطائرة تجوب المنطقة فوق محطة رادار روسية من طراز "نيبو-إم"، كاشفة الهوائي الضخم للمحطة الذي يشق السماء باحثًا عن تهديدات من مسافات شاسعة تمتد لمئات الأميال.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن إمبراطورية لوكهيد مارتن التي تُشعل ساحات الحروب بالعالم؟list 2 of 2لماذا لم تنتصر روسيا ولماذا لم تُهزم أوكرانيا؟end of list

سرعان ما أدرك كوستيانتين أهمية ما يراه، فهذا أحد أثمن أصول روسيا العسكرية، الذي يُعتقد أن موسكو لا تملك منه سوى 10 أنظمة فقط، وتُقدر قيمة المحطة الواحدة منها بنحو 100 مليون دولار.. هدف كهذا لا يُعثر عليه كل يوم!

قبل دقائق قليلة، أطلقت فرقته طائرة تجسس مسيّرة من طراز " تيكيفر أي.آر3″، تطير بصمت في ظلام الليل. هذه المسيرة البريطانية الصُنع القادرة على التحليق لمدة تصل إلى 16 ساعة؛ لم تكن في تلك الليلة بحاجة إلا إلى 50 دقيقة فقط لالتقاط هدفها الثمين.

في البداية، حددت موقع الرادار الروسي بدقة، ثم شاركت الإحداثيات، وبدأ العد التنازلي. وما هي إلا لحظات حتى دكت صواريخ "أتاكمز" الأميركية الصنع محطة الرادار الروسية وحولتها إلى أنقاض مشتعلة.

إعلان

يعد هذا مجرد مثال على عمل وحدة "بلاك فورست" الأوكرانية، التي تمارس نشاطها في عمق خطوط خصمها الروسي لتجمع المعلومات الاستخبارية المهمة، بما فيها رصد الأهداف التي تحمل أهمية إستراتيجية، مثل محطات الرادار وأنظمة الدفاع الجوي ومستودعات الذخيرة، ثم توجيه ضربات دقيقة لتدميرها، وهو ما يسلط الضوء على الدور المهم الذي تلعبه المعلومات الاستخباراتية في الصراع الروسي الأوكراني، لدرجة أن أنشطة فضاء الاستخبارات باتت ساحة لصراع نشط بين الغريمين.

In October, his platoon located a powerful Nebo-M radar station in Russian-held eastern Ukraine, capable of scanning the skies hundreds of miles west in Ukrainian-held territory. Russia is only believed to have ten of the systems, each of which costs an estimated $100 million. 5/ pic.twitter.com/lKEAgWFX6G

— Maxim Tucker (@MaxRTucker) December 15, 2024

بعبارة أخرى، يمكن تخيل الصراع بين الاستخبارات العسكرية الأوكرانية ونظيرتها الروسية على أنه حرب مستقلة لها أدواتها وقواعدها الخاصة داخل الحرب الكبرى.

وربما لا يتسنّى لنا تكوين صورة أشمل للجانب الاستخباراتي من الحرب الروسية الأوكرانية إلا بعد انتهاء الصراع، لكن ذلك لا يمنعنا من محاولة متابعة التطورات المهمة في هذا الجانب، وتحديدًا في المعركة المتعلقة باستغلال التكنولوجيا لتحقيق التفوق في هذا الصراع الاستخباراتي المحتدم.

المسيّرات الأوكرانية

خلال الأشهر الأخيرة، أظهرت أوكرانيا تطورا استخباراتيا ملحوظا مكَّنها من تنفيذ عدد من العمليات النوعية ضد أهداف روسية، بما يشمل اغتيالات لبعض القيادات العسكرية الروسية.

مثلًا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت أجهزة الأمن الأوكرانية مسؤوليتها عن اغتيال الجنرال إيغور كيريلوف في العاصمة الروسية موسكو. ويعد كيريلوف أكبر مسؤول في الجيش الروسي تستهدفه أوكرانيا على الأراضي الروسية، وقد جرى تعيينه رئيسًا لوحدة الدفاع الإشعاعي والكيميائي والبيولوجي في الجيش الروسي في أبريل/نيسان 2017.

قائد قوات الحماية الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية في الجيش الروسي الجنرال إيغور كيريلوف (الصحافة الروسية)

كما نفذت المخابرات الأوكرانية عمليات تدمير ناجحة لمعدات وأسلحة داخل الأراضي التي استولت عليها روسيا، ففي 14 ديسمبر/كانون الأول، نجح عناصر من المخابرات الأوكرانية في تدمير مقاتلة روسية من طراز "سو-30″، وهي واحدة من أهم مقاتلات القوات الجوية الروسية، فضلا عن تدمير منظومة الرادار المتطورة والمكلفة من طراز "نيبو-إم" السابقة الإشارة إليها.

إعلان

استندت الكثير من هذه العمليات إلى مصفوفة متطورة ومعقدة من القدرات السيبرانية، تشمل أنظمة الذكاء الاصطناعي المخصصة لتحديد العناصر بصريًا في أرض المعركة، والأنظمة المتخصصة في تحليل البيانات التي تُجمع من الطائرات المسيّرة والمعلومات الاستخباراتية البشرية وصور الأقمار الصناعية وغيرها من المصادر التقنية. وكانت الطائرات المسيرة على وجه التحديد عنصرا أساسيا وحاسما، سواء في الشق الخاص بالتجسس وجمع المعلومات، أو في تنفيذ العملية (إصابة الهدف) في وقت لاحق.

واحدة من أهم المسيّرات الواسعة الاستخدام في الصراع هي المسيرات الانتحارية "كاميكازي" التي تعمل "من منظور الشخص الأول" (First Person View) أو "إف بي في". ويرمز هذا المصطلح إلى التقنية التي تسمح لقائد المسيّرة بالتحكم فيها من وجهة نظر الطائرة نفسها، وذلك عبر اتصال فيديو توفره كاميرا مثبتة على الطائرة.

يمنح هذا الأسلوب تجربة مباشرة تفاعلية للمتحكم في المسيرة كما لو كان ينظر إلى المشهد من داخلها، وهو أمر ضروري لإجراء المناورات والاستهداف بدقة في البيئات المعقدة. تُستخدم هذه المسيرات عادة في السباقات الترفيهية، لكن في الحرب الروسية الأوكرانية استُخدمت على نطاق واسع كطائرات انتحارية.

المفارقة الرئيسية هي أن استخدام أوكرانيا لهذه المسيّرات ضد روسيا لم يقف عند حدود ساحة المواجهة المباشرة، بل توسع إلى ساحات أخرى توجد فيها القوات الروسية ومنها سوريا على سبيل المثال.

جندي أوكراني يستعد لإطلاق طائرة مسيرة (أسوشيتد برس)

فوفقا لتقرير الصحفي المخضرم "ديفيد إغناتيوس" في صحيفة "واشنطن بوست"، يعتقد أن المخابرات الأوكرانية أرسلت حوالي 20 من مشغلي الطائرات المسيرة ذوي الخبرة وحوالي 150 مسيّرة من نوع "إف بي في" إلى المعارضين السوريين في إدلب قبل سقوط بشار الأسد، إلا أن مصادر استخباراتية أوروبية أشارت لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية أن مساعدات كييف المزعومة للمعارضة السورية، والتي لم يعترف بها أي من الطرفين، "لم تلعب سوى دور متواضع في الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد".

إعلان

ويعود الحديث عن التعاون المزعوم مع المعارضة السورية إلى عدة أشهر حسب "ليبراسيون"، إذ نقل مقال في صحيفة "كييف بوست" في يونيو/حزيران الماضي عن مصدر في المخابرات العسكرية الأوكرانية؛ أن عملاء أوكرانيين يضربون أهدافا روسية في سوريا منذ بداية العام 2024، بالتعاون مع "المعارضة السورية".

ووفقا لمصادر استخباراتية غربية، فإن مجموعات عمليات أوكرانية سرية أوسع بدأت تنشط مؤخرا في استهداف المصالح الروسية في أفريقيا والشرق الأوسط، وقبل ذلك في داخل روسيا نفسها.

ترسانة سيبرانية روسية

تشترك مؤسستا الاستخبارات العسكرية الروسية والأوكرانية في أصلهما السوفياتي المشترك، ففي أعقاب الثورة البلشفية عام 1917، تأسست إدارة الاستخبارات العسكرية السوفياتية استجابة لحاجة البلاشفة إلى جهاز أمني لا تقتصر مهمته على جمع المعلومات الاستخباراتية، وإنما تمتد إلى المشاركة في الحرب.

تنوعت عمليات الجهاز بين اغتيال قادة العدو، وتفجير خطوط السكك الحديدية وغيرها من الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية، واستمرت تلك العقلية في الهيمنة على جهاز الاستخبارات السوفياتي حتى تفكك الاتحاد مطلع تسعينيات القرن الماضي.

في ذلك الوقت، انقسمت أصول جهاز المخابرات العسكرية بين الشركاء القدامى، حيث استولت كييف على أصول الجهاز التي كانت على أراضي أوكرانيا، في حين سيطرت موسكو على معظم الأصول المركزية للجهاز، وكذلك كافة عناصر العمليات على أراضيها.

في ضوء ذلك، يشير الخبير في الشؤون الأمنية الروسية مارك غالوتي، إلى تشابه الجهازين، الروسي والأوكراني في تراثهما السوفياتي، رغم الاختلاف الملحوظ في ثقافتهما العملياتية الراهنة.

أحد تلك التطورات "العملياتية" التي لا تتشابه مع الثقافة السوفياتية التي تقدس التجسس التقليدي وتوظيف العملاء؛ هي التوسع في الأنشطة والهجمات السيبرانية، لدرجة أن وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية باتت ضمن الأكثر شراسة في هذا المجال، وقد طالتها اتهامات الغرب بتنفيذ عدّة هجمات سيبرانية بارزة خلال السنوات القليلة الماضية، ويعتقد أنها توظف عددا من مجموعات الاختراق السيبراني ذائعة الصيت.

إعلان

على سبيل المثال، هناك مجموعة "APT28″، المعروفة بأسماء مثل "فانسي بير" (Fancy Bear) و"باون ستورم" (Pawn Storm) و"صوفاسي" (Sofacy) و"سترونتيوم" (Strontium)، وهي مسؤولة عن سلسلة من أنشطة التجسس والتدمير السيبراني المهمة.

كانت من أبرز عمليات المجموعة اختراق اللجنة الوطنية الديمقراطية أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، والهجمات السيبرانية على البرلمان الألماني (البوندستاغ) عام 2015، بالإضافة إلى التدخل في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية لعام 2014.

كذلك هناك مجموعة "سايبر بيركوت" وهي مجموعة اختراق سيبراني أخرى يُعتقد أنها تتبع الاستخبارات العسكرية الروسية، ونشطت منذ بداية الحرب على أوكرانيا. تستخدم المجموعة هجمات تقنية ونفسية معًا، وقد شاركت في عمليات تجسس سيبراني وعمليات اختراق تخريبية لشبكات الحاسوب، ومنها عمليات الحرمان من الخدمة الموزعة ضد مواقع إلكترونية حكومية تابعة لأوكرانيا وألمانيا وحلف الناتو.

ولا ننسى قطعا مجموعة الاختراق الأشهر المعروفة باسم "ساندوورم"، التي ارتبط اسمها ببعض الهجمات السيبرانية الأشد تدميرًا، ومنها هجوم البرمجية الخبيثة "نوت بيتيا" الذي تسبب في أضرار تقدر بمليارات الدولارات على مستوى العالم. كما أنها تقف وراء الهجمات السيبرانية على شبكة الكهرباء في أوكرانيا التي أدت إلى انقطاع التيار الكهربائي بصورة ملحوظة في عامي 2015 و2016.

ومؤخرًا، كشف المركز القومي البريطاني للأمن السيبراني عن دور الوحدة "29155"، وهي وحدة استخبارات شهيرة تابعة للاستخبارات العسكرية الروسية، متهمًا إياها بشن سلسلة هجمات سيبرانية استهدفت مؤسسات حكومية وبنى تحتية حيوية في أنحاء العالم.

وحذر المركز من أن أنشطة هذه الوحدة تشمل جمع المعلومات لأغراض التجسس وسرقة وتسريب معلومات حساسة، واصفة الوحدة الروسية بأنها "وحدة سيبرانية متمكنة" تركز على الأنشطة السيبرانية الخبيثة على الإنترنت.

إعلان

وبجانب الاستخبارات العسكرية الروسية، يركز جهاز الاستخبارات الخارجية على جمع المعلومات من خارج البلاد عبر التجسس في المقام الأول، ويرتبط هذا الجهاز بمجموعة "APT29″، المعروفة باسم "كوزي بير"، التي نفذت عمليات تجسس سيبراني واسعة النطاق، وهي مجموعة قرصنة على درجة فائقة من التطوّر، وتمتلك أساليب متقدمة تتطور باستمرار وعناصر بشرية تتمتع بمهارات عالية.

ولا يفوتنا في هذا السياق ذكر جهاز الأمن الفيدرالي، وهو الجهاز الأمني الأساسي داخل روسيا، الذي يتولى في المقام الأول مسؤولية مكافحة التجسس والأمن داخل الدولة، كما توسّع نطاق عمله ليشمل أنشطة تجسس سيبراني مهمة.

ضمن أبرز المجموعات المرتبطة بجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، مجموعة "تورلا"، التي تُعرف أيضًا باسم "الأفعى" أو "الدب السام"، وتشتهر هذه المجموعة بعمليات التجسس السيبراني المتطورة التي تستهدف المؤسسات الحكومية والعسكرية في مختلف دول العالم، وقد شملت أشهر عملياتها اختراق شبكات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، بجانب عدد من عمليات الاختراق لأنظمة البنية التحتية الحساسة.

تغير في التكتيكات الروسية

مع استمرار الحرب في أوكرانيا، أضحت الهجمات السيبرانية الروسية ظاهرة لا تخطئها العين، مستهدفة البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا مثل شبكات الطاقة وشبكات الاتصالات. مثلا في ديسمبر/كانون الأول 2023، واجهت شركة "كييفستار"، أكبر شركة لخدمات الهاتف المحمول في أوكرانيا، أخطر هجوم سيبراني منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، عطل خدمات الاتصالات لأكثر من نصف سكان البلاد، وألحق ضررا بالبنية التحتية لقطاع تكنولوجيا المعلومات الأوكراني.

توفر شركة "كييفستار" خدماتها لنحو 24.3 مليون مشترك في شبكات الهاتف المحمول، و1.1 مليون مشترك في الإنترنت المنزلي، ووصفت التقارير هذا الهجوم بأنه الأكثر تدميرًا وخطورة من نوعه، مشيرة إلى أنه تسبب في تدمير أكثر من 10 آلاف حاسوب و4000 خادم خاص بالشركة، ومنها أنظمة التخزين السحابية وأنظمة النسخ الاحتياطي. وذكر الرئيس التنفيذي للشركة أوليكساندر كوماروف، أن الهجوم كان واسعا وخطيرا لدرجة أنه أجبر شركته على إيقاف عملياتها فعليًا لمنع وصول القراصنة إلى المزيد من المعلومات.

إعلان

أعلنت مجموعة القرصنة الروسية "كيل نت" (Killnet) مسؤوليتها عن هذا الهجوم عبر تطبيق تليغرام، إلا أنها لم تقدم أي دليل ملموس. لكن التحقيقات الأولية لوكالة الاستخبارات الأوكرانية أشارت إلى تورط إحدى الجهات المرتبطة بأجهزة الأمن الروسية.

ثم أشارت تحقيقات لاحقة إلى احتمالية تورط مجموعة "ساندوورم" التابعة للاستخبارات العسكرية الروسية، وربما استغلت المجموعة أوجه التشابه بين البنية التحتية لشركة "كييفستار" وشركة "بيلاين" الروسية للاتصالات، لتسهيل الشق التقني لعملياتها.

كان الهدف من تلك الهجمات زعزعة استقرار الحياة اليومية والضغط على الحكومة الأوكرانية، لكن الهجمات السيبرانية الروسية تجاوزت هذا الهدف إلى التأثير مباشرة في مجريات العمل العسكري. ففي يوليو/تموز الماضي، أشار تقرير صادر عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة في بريطانيا إلى تحوّل نهج أجهزة الاستخبارات الروسية نحو توظيف الأدوات السيبرانية لدعم أهدافها العسكرية، وذلك عبر دمجها بدرجة أكثر إحكامًا مع تكتيكات العمليات العسكرية التقليدية.

يشير التقرير إلى أن الوحدات السيبرانية الروسية حوّلت تركيزها وجهودها إلى استهداف الجنود الأوكرانيين على خطوط القتال الأمامية، بدلًا من الاكتفاء بتركيزها على الأهداف المدنية الرئيسية في أوكرانيا. هذا التوجه الجديد لا يعني بالضرورة تخلّي روسيا عن تكتيكاتها السيبرانية المعتادة، بقدر ما يشير إلى سعيها لتوظيف التقنيات السيبرانية من أجل تحقيق أفضلية مباشرة في ساحة المعركة عبر توظيف الأدوات السيبرانية لدعم العمليات العسكرية على الأرض.

على سبيل المثال، تستهدف الوحدات السيبرانية الروسية أجهزة الجنود الأوكرانيين بغرض جمع المعلومات الاستخباراتية، وتركز اهتمامها على تطبيقات المراسلة المشفرة مثل تطبيق "سيغنال" الذي يستخدمه الجنود لإجراء اتصالات آمنة.

 تستخدم الوحدات السيبرانية الروسية أساليب مبتكرة لاختراق أجهزة الجنود الأوكرانيين (شترستوك)

يسمح اختراق تلك الأجهزة لروسيا بجمع معلومات قيّمة، مثل مواقع القوات الأوكرانية وتحركاتها. وعلى عكس ما يبدو للوهلة الأولى فإن تلك المهمة ليست سهلة أبدا، لأن تلك التطبيقات مصممة لتتمتع بأعلى درجات الأمان، وغالبًا لا تتصل الهواتف في الخطوط الأمامية بشبكات الاتصال، مما يجعل تتبّعها أكثر تعقيدًا.

إعلان

وللتغلب على هذه التحديات، تستخدم الوحدات السيبرانية الروسية أساليب مبتكرة لاختراق تلك الأجهزة، وقد زاد الاعتماد الروسي على البرمجيات الخبيثة التي تبدو كتطبيقات أصلية.

وبالرغم من أن هذا التكتيك ليس جديدًا، فإن تلك العمليات أصبحت أكثر تطورًا، وتشمل الآن أساليب وتكتيكات الهندسة الاجتماعية، إذ يتظاهر العملاء الروس بأنهم جنود أوكرانيون على تطبيق سيغنال أو تليغرام ليكسبوا ثقة الهدف قبل إرسال البرمجيات الخبيثة.

كما تستغل العمليات السيبرانية الروسية ميزة ربط الأجهزة التي توفرها تطبيقات المراسلة، إذ تمكن الروس عبر الهندسة الاجتماعية من إقناع الجنود الأوكرانيين بربط حساباتهم بأجهزة خاضعة للسيطرة الروسية. وفي أغسطس/آب 2023، حاولت الاستخبارات العسكرية الروسية اختراق أنظمة المعلومات القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية، حيث استهدف القراصنة الأجهزة اللوحية بنظام أندرويد التي تستخدمها القوات الأوكرانية في تخطيط وتنسيق المهام القتالية.

وفي نفس الشهر، زعم جهاز أمن الدولة الأوكراني أن الاستخبارات العسكرية الروسية تحاول وضع برمجيات خبيثة تستهدف الأقمار الصناعية التابعة لشركة "ستارلينك" بغرض جمع البيانات حول تحركات قوات الجيش الأوكراني.

التكتيك الآخر يتمثل في استغلال الأجهزة التي استولى عليها الجنود الروس، إذ تستخدم القوات الروسية على الأرض الأدوات والتعليمات التي توفرها وحدات سيبرانية متطورة مثل "ساندوورم"، لاستخراج البيانات من الأجهزة الأوكرانية التي حصل عليها الجنود.

إلى جانب استغلال الأجهزة الشخصية، كثّفت المجموعات السيبرانية الروسية جهودها لتعقب المعدات والمواقع العسكرية الأوكرانية، ومن بين الأساليب التي تستخدمها اختراق كاميرات المراقبة المدنية لرصد أنظمة الدفاع الجوي والبنية التحتية الحيوية في أوكرانيا.

إعلان

ففي يناير/كانون الثاني الماضي، اخترق القراصنة الروس الكاميرات المنزلية في العاصمة الأوكرانية كييف بهدف جمع معلومات عن أنظمة الدفاع الجوي في المدينة قبل شن هجوم صاروخي عليها، إذ غيّر القراصنة زوايا الكاميرات ليجمعوا معلومات حول منشآت البنية التحتية الحساسة القريبة. وأصدرت أوكرانيا بعد هذه الهجمة تعليمات لشركات تشغيل كاميرات الويب في البلاد بإيقاف البث المباشر من تلك الكاميرات.

مقالات مشابهة

  • ديالى تكشف عن أبرز المشاريع التي ستنفذ خلال هذا العام
  • ملفات الساخنة.. هل تقود سياسة ترامب إلى حروب جديدة؟
  • إنجاز تأهيل أنظمة إنارة نفقين للسيارات في مصفح
  • سامح عيد: مخطط إسرائيل يستهدف تفتيت المنطقة والقضاء على الجيوش العربية
  • زحام وتكدس في الخط الثاني لمترو الانفاق
  • ترامب يروج شتائم لنتنياهو على «تروث سوشيال»: «أدخلنا في حروب لا تنتهي»
  • حروب الغرف المظلمة.. ما شكل الصراع الاستخباراتي بين روسيا وأوكرانيا؟
  • زامبيا تربك سوق الزمرد العالمية بإعادة فرض ضريبة 15% على صادراتها
  • رئيس الوزراء العراقي: موقفنا ثابت بإدانة الحرب الإسرائيلية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني
  • الطباطبائي يدعو إلى استحداث محافظة حلبجة التي قصفت بالكيمياوي من قبل بلده الأول إيران