كيف سيكون شكل الأدب والفن بعد طوفان غزة؟
تاريخ النشر: 28th, December 2023 GMT
لم يكن قصف طائرات إسرائيل للمعالم الثقافية في غزة عشوائيا أو صدفيا، كان الهدف تدمير ثقافة البلد أيضا إلى جانب تدمير اقتصادها وبنيتها التحتية، يعرف الاحتلال تماما أن الثقافة المضادة لروايته وهواجسه الاحتلالية هي التي تتحكم بصمود وإرادة الفلسطينيين، وهو يظن واهما بأن تدمير مكتبات غزة ومؤسساتها الثقافية وبناياتها الحضارية واغتيال شعرائها ومفكريها وأكاديمييها وإعلامييها سوف يقضي على الوجود الحضاري للشعب الفلسطيني وهو لا يعرف أن القضاء على ثقافة شعب مهمة مستحيلة علميا، فالثقافة ليست فقط مكتبة ومعلما ثقافيا وبناية عتيقة وشعراء، إنها فكرة ضخمة ذات جذور عميقة راسخة في حياة الفلسطينيين وأسلوب حياتهم وتفكيرهم وأحلامهم، وأن المكتبة والمراكز الثقافية يمكن أن تبنى من جديد والشعراء سوف يتناسلون من نفس الفكرة.
الأسئلة المطروحة بقوة الآن هي: ما تأثير طوفان غزة على الوعي الثقافي العالمي؟ كيف سيكون سقف الخيال الأدبي؟ ومضامين الأدب والفن في فلسطين والعالم العربي؟ هل ستتغير أشكال ومضامين كتابة الرواية مثلا؟ هل ستعود إلى التراث بحثا عن جذور ما؟ هل ستذهب إلى واقعية شديدة بالتزام واضح؟ أم إلى سريالية أكثر وتشظ أشد وغموض؟ هل ستتعمق نبرة السخرية من كل شيء؟، هل سيكون هناك مقاربة لحس عبثي ما؟ ماذا عن النص الشعري؟ عن لغته عن تقنياته وإيقاعه وموضوعاته؟ والمسرح، ماذا سيكتب مسرحيو فلسطين والعالم العربي؟ وكيف سيبدو شكل المسرحية وفضاؤها؟ ثم ماذا عن اللوحة؟ ماذا سيرسم التشكيليون؟ بأية ألوان وخامات؟.
يقول الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف: (الأدب الفلسطيني، لم يبق كما كان من قبل، يعيش في ظل القضية، وموضوعه هو الاستقلال أو الحرية، في علاقة بالاحتلال، وما ترتب عنه من مشكلات ترتبط بالحق في الوجود، أو في الإقامة في وطن حر طليق، بل إن الأدب الفلسطيني، نقل القضية من المعنى المباشر، إلى معنى مجازي أكثر عمقا وتأثيرا، ودخل التخييلي في الواقعي، ليضفي على الحق في الوجود معنى أوسع، ما وسع اللغة نفسها، ووسع الخيال والرؤية، ووسع الواقع نفسه، لتصبح القضية قضية لا تخص الفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية كونية تهم الإنسان. هذا ما نجده في الفكر، وفي الشعر، وفي القصة والرواية، وفي الفن أيضا.
لم يعد هذا الأدب أسير حدث، لأن الأحداث تتوالى ثم تختفي لتدخل التاريخ، والأدب ليس تاريخا أو ماضيا ينتهي بانتهاء الحدث، بل هو مستقبل، ما يكون أفقا، وما يقبل علينا ونسير نحوه. هذا، في ظني، هو أكبر تحول عرفه الأدب الفلسطيني، قياسات بما كان عليه من قبل، وما يجري في غزة، سيكون، في أدبيته، جزءا من هذا المعنى الكوني للأدب الفلسطيني، وليس، أدبا محكوما بسياجات القضية أو الحدث.
بينما يرى القاص والروائي الأردني مفلج العدوان أن
(طوفان الأقصى شكل حالة مفصلية في الوعي والثقافة العربية والفلسطينية على السواء، وأظن أن هذا الطوفان شكل سفينة إنقاذ للأدب العربي، بعد حالة الخذلان والانكفاء على الذات والمحتوى الذي ظهر كثيرا فيما كُتب سابقا من رواية وقصة وشعر وأدب بشكل عام، ومهما كانت نتيجة هذه المعركة التي عنوانها الشهادة والبطولة والمذابح والدماء وتآمر الإنسانية والعالم وقبح وجه العدو الصهيوني، فكل ما انبثق عنه الطوفان سيشكل ذخيرة حية لكتابة وأدب جديد غير محايد، ويمتلك موقفا، ويعبر عن وعي وثقافة عكستها معركة طوفان الأقصى ليس على شارع غزة وفلسطين، بل عند الأطفال والشباب والرجال والنساء في عالمنا العربي، وجعلت للأديب عينا ثالثة فيها مجس فائق الحساسية لكتابة الحالة، والصورة، وحبر الدم، واللغة الجديدة التي رأيناها تتشكل أبجدية مغايرة سيكتب من خلالها أدبا مختلفا، يعبر عن الحالة الجديدة، والعالم الجديد مع وبعد طوفان الأقصى). ويميل الشاعر السوري مروان علي إلى فكرة أن الأحداث العظيمة تحتاج وقتا لرصد تأثيرها: (بكل تأكيد لن يمر هذا الزلزال الذي ترك أثرا كبيرا ليس على غزة بوصفها مركز الزلزال بل على فلسطين والمنطقة كلها. لذلك ستكون مهمة الأدب والفن كبيرة في مرحلة ما بعد الزلزال سواء على صعيد كتابة نص أدبي أو فني مختلف.
القسم الأكبر من هذه المهمة تحديدا ملقى على عاتق الكتاب والشعراء والفنانين الفلسطينيين دون إعفاء الكتاب العرب منها.
ولكن أحيانا تستغرق الكتابة عن الأحداث الكبرى وقتا لأن الكاتب يراجع نفسه بعدها وينشغل كثيرا بسؤال (جدوى الكتابة) أمام هول ما حدث.
ومع ذلك سنجد فنا جديدا (يضيف ويوثق أيضا) وكتابة جديدة خصوصا في فلسطين التي تمضي أمامنا ونمضي خلفها نحو الحرية في الحياة وفِي الكتابة والفن أيضا). ويركز الروائي الفلسطيني مازن علي سعادة على تأثير طوفان غزة على وعي العالم تجاه منطقتنا وثقافتنا وحقوقنا، (التغيير الذي أحدثته غزة الأسطورة أنها حررت الوعي العالمي من الصدأ الذي تراكم في تلافيف ذلك الوعي خلال عشرات السنوات. غزة حررت الحقيقة في العالم ونشلت قضية شعبنا من حضيض الهاوية التي آلت إليها لأسباب عديدة. وأسقطت الأقنعة الزائفة وكشفت مدى التزوير التاريخي الذي مارسه العالم المدعو حرا زورا وبهتانا، فقد وضعت المفاهيم والقيم الأوروبية، الشرعية الدولية، العدالة، حقوق الإنسان والحرية في ميزان الدم الفلسطيني، ميزان الدم الفلسطيني الذي أحدث زلزالا وأعاد الاعتبار للفكر الإنساني). وبصفتها ابنة غزة تبدي الشاعرة هند جودة ثقتها بقدرة الغزيين على النهوض ثقافيا من خراب المشهد:
(لن يكون مفاجئا إذا قلت إن جيش الاحتلال قام بتدمير أشهر المكتبات العامة وأهم المراكز الثقافية والمسارح في غزة إن لم يكن جميعها ومع أن حجم الخراب غير معروف بالكامل بسبب قطع طرق الوصول إلى مدينة غزة وقطع الاتصالات وعدم قدرة الناس على التجول بشكل حر لاستكشاف الحصيلة النهائية للخراب عدا أن العدوان لم ينته بعد على غزة، إذن كيف سيكون شكل الحالة الثقافية؟ ربما سيكون من المبكر الحديث عن تجمعات ثقافية واضحة في الأيام التالية بعد انقشاع الحرب، وسيبحث الناجون من الكتاب كباقي الناس عن بيوتهم أو ما تبقى منها ولا أستطيع تخيل فعاليات ثقافية أو فنية إلا إذا كانت لأغراض الرثاء والتأبين في البداية خاصة مع رحيل عدد من الكتاب والشعراء وأصحاب المراكز الثقافية، إنه سؤال صعب حقا ومع إيماني بأن أهل غزة يتميزون بسرعة نفض الحزن ويبدون جديين جدا وسريعين في مداواة جراحهم وهذا مما خبرناه بعد كل حرب، إلا أن هذه الحرب كانت الأقسى والأكثر تدميرا للملامح المدنية والأكثر وحشية. ولكن مما يدعو للأمل هو استمرار الكتاب والشعراء في الكتابة والنشر عبر منصات التواصل الاجتماعي). أما القاص الفلسطيني الشهير محمود شقير فيتوقع أن يكون خيال الأدباء في أزمة بعد الفظاعات التي حدثت، وانتعاش نوع السيرة الذاتية والشهادات الإبداعية:
(أظن أن شكل السيرة الذاتية وكذلك السيرة الغيرية والشهادات ويوميات الحرب والصمود هي التي ستأخذ مقام الصدارة في الأدب الفلسطيني بعد هذه الحرب، وسيأتي بعدها الشعر في شكليه الكلاسيكي والحديث بالنظر إلى قدرته السريعة على الاستجابة للأحداث.
قد تظهر قصص وروايات توثيقية.
وأظن أن المعاناة الفظيعة أثناء الحرب ستضع تحديا أمام خيال المبدعين بالنظر إلى أن تلك المعاناة أكبر مما قد يتخيله المبدعون.
لكن الأدب الرصين قادر مع الزمن على ابتداع التقنيات المطلوبة للتعبير عما وقع)..
.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأدب الفلسطینی
إقرأ أيضاً:
مقاهي بيروت الثقافية: رئة المدينة وروحها
لطالما اقترن اسم العاصمة اللبنانية بيروت بالمقاهي المنتشرة في ربوعها وساحاتها وزواياها وأحيائها وعلى رصيفها البحري، ففكرة المقهى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمدينة وأحوالها، وهي أقرب إلى روحها وكائناتها وبشرها، فمنها ما يعمّر طويلًا، ومنها ما يكون مصيره إلى الزوال، ومنها ما يحاول بثّ الروح في عروقه، فيوائم بين الأصالة والطابع المحلي من جهة، والعولمة الممتدة على قدم وساق إلى كل مفاصل الحياة المدينية من جهة أخرى.
حفظ رواد «باريس الشرق» -كما كان يحلو للعرب مناداتها- عن ظهر قلب أسماء مقاهٍ بيروتية كانت علامات فارقة في زمانها، مثل الباريزيانا، واللاروندا، والحاج داود، وفلسطين، والبحر، وفتّوح، وكوكب الشرق، والنجّار، والقزاز، وفاروق، والروكسي، والإكسبرس، وفيصل، ودولتشي فيتا، والمودكا، والروضة، وغيرها الكثير، ولئن أمكن تصنيف مقاهي بيروت من قبل المؤرخين والدارسين إلى مقاهي الساحات والميادين، ومقاهي الأحياء والحرفيين، ومقاهي السياسيين والصحفيين في ساحة الإتوال القريبة من المجلس النيابي، ومقاهي البحر، ومقاهي الأرصفة، ومقاهي العولمة (مثل ستاربكس وكوستا ودانكين وغيرها)، إلا أن العاصمة اللبنانية بيروت قد نجحت، منذ نهضتها الحداثوية في ثلاثينيات القرن الماضي، في ابتداع صنف جديد هو «المقاهي الثقافية»، التي نجحت في استقطاب أهل الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية بشكل خاص ومحبي الثقافة بشكل عام، وأصبح هذا النوع من المقاهي التربة الصالحة للقاء الأفكار الكبيرة والنظريات المتضاربة منها والمتصالحة، ولطالما فضّ نادل باسم الثغر في أحد هذه المقاهي البيروتية خلافًا بين مثقف وآخر حول نظرية «الفن للفن» أو «الفن الملتزم»، أو تدخلت طالبة تدرس الأدب في الجامعة الأمريكية في بيروت لتدوير الزوايا بين شاعر متحمس لقصيدة النثر، التي كانت تتلوها جماعة مجلة «شعر» كل ليلة خميس في مقهى «أوتيل بلازا»، وبين شاعر متعصب للتفعيلة أو القصيدة العمودية على أوزان الخليل، كما كانت المقاهي المكان المفضّل للشعراء والفنانين المشاغبين على السلطة، التي لم يسلم أصحابها من سهامهم؛ فمقهى «الحاج داود» الشهير كان من روّاده الشاعر أمين نخلة والفنان التشكيلي مصطفى فروخ، وجمع مقهى «البحرين» رشيد وهبي، وإلياس أبو شبكة، وصليبا الدويهي برجالات السياسة مثل عبدالله اليافي وسامي الصلح، لتشتبك الثقافة بالسياسة وينتقل صوت المثقفين إلى الدوائر السياسية الحاكمة، كما كان للفنون الأخرى مثل الموسيقى، حضور وازن في هذه المقاهي الثقافية، إذ يُروى عن مقهى «فتوح» أنّ حامل الفونوجراف كان يطوف في أرجائه فيبث من صندوقه أغنية محمد عبدالوهاب «جفنه علّم الغزل» على مسمع من كاتبها الشاعر بشارة الخوري، أو «الأخطل الصغير»، الذي كان يتنقل بين «فتوح» و«مقهى ومطعم أبو عفيف»، حيث ولدت قصيدة «يا عاقد الحاجبين» التي غنتها فيروز فيما بعد، وكذلك ولدت في المقهى ذاته الكثير من قصائد الشاعر عمر الزعني، الملقّب بـ«موليير الشرق»، الذي كان يشاغب بقصائده على سلطات الانتداب الفرنسي، التي كانت تعتقله في المقاهي البيروتية ثم تطلق سراحه أمام أحد أبوابها.
ما لبث شارع الحمراء، القائم في منطقة رأس بيروت والذي يكاد يكون الشارع الوحيد في لبنان الذي حافظ على تنوعه الاجتماعي والثقافي والديني في خضم الحرب الأهلية، أن استحوذ على حصة الأسد من المقاهي الثقافية البيروتية، وإذا صح على بيروت لقب «باريس الشرق»، فإننا لا نجانب الصواب أيضًا في محاكاة شارع الحمراء للشانزيليزيه، من حيث المقاهي المنتشرة على أرصفته، والتي شكّلت مختبرًا حقيقيًا لأفكار بيروت الطليعية في الشعر والأدب والمسرح، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى بداية الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة في 13 أبريل من سنة 1975، وصارت مقاهي الحمراء بمثابة البيت الثاني للكثير من المثقفين اللبنانيين والعرب، وفيها كتبوا القصائد والمسرحيات والبيانات الشعرية الطليعية أو البيانات المعارضة لقمع الكلمة وحرية التعبير، ومن بين هؤلاء محمد الماغوط، ومحمود درويش، وعمر أبو ريشة، وأنسي الحاج، ومحمد الفيتوري، ونزار قباني، ويوسف الخال، وأدونيس، وبلند الحيدري، وعصام العبدالله، وشوقي بزيع، وعباس بيضون، وغيرهم.
ثلاثة مقاهٍ شكّلت ثالوث الحمراء الثقافي في تلك الفترة الذهبية من تاريخ العاصمة اللبنانية بيروت، هي «الهورس شو»، و«الكافيه دو باريس»، و«الويمبي»، الأول الذي افتُتح في نوفمبر من عام 1959، ولا يبعد سوى مئتي متر عن مبنى جريدة «النهار» اللبنانية، صار مقصدًا للصحفي والمفكر اللبناني غسان تويني (مدير تحرير «النهار») ومثقفي مجلة «شعر»، التي انطلقت في بيروت في الفترة ذاتها، وكان بعض كتّابها يعملون في القسم الثقافي في «النهار»، مثل أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، إضافة إلى زملائهم مثل: أدونيس، وخالدة سعيد، وعصام محفوظ، ونذير العظمة، ومحمد الماغوط، وما لبث «الهورس شو» أن صار حاضنة لكثير من اللقاءات الثقافية والإبداعات الفنية، لا سيما المسرحية، ولا ينسى النقاد والمتابعون كيف تحولت باحة المقهى إلى ساحة لعرض مسرحية «مجدلون»، التي كتبها هنري حاماتي وأخرجها روجيه عساف، بعد أن مُنعت من العرض في الصالات اللبنانية بقرار من الأمن العام اللبناني، واستمتع الجالسون على مقاعد المقهى برؤية نضال الأشقر ورفاقها يترجمون فكرة الحرية، التي اشتهرت بها بيروت، إلى عرض ممسرح رأوه بأمّ العين في عام 1969، أما مقهى «المودكا» فقد اشتهر بتصميمه المعماري الذي ابتدعه المهندس طوني نصير على شكل سفينة، ويبعد «المودكا» أمتارًا قليلة عن «الهورس شو»، وقد كان المكان المفضّل للشاعر الكبير نزار قباني في زياراته للعاصمة بيروت، فيه كان يُعقد الصالون الثقافي للصحفي ميشال أبو جودة مساء كل يوم، كما كتب الشاعر بول شاوول على طاولته المفضّلة كتابه «يوميات رصيف»، الذي يؤرخ لتفاصيل حياة المدينة ومثقفيها وأهلها بعينيّ شاعر يرصد من المقهى طقوس عيش وأمزجة وحوارات وطرائف المدينة المثقفة.
أما مقهى الويمبي فبالإضافة إلى استضافته الكثير من الأمسيات الشعرية والثقافية، يرتبط اسمه بالعملية البطولية التي نفذها الشاب خالد علوان على رصيفه أثناء مقاومة المدينة للغزو الصهيوني في اجتياح سنة 1982، كما لا يمكن إغفال دور مقهى «فيصل» في شارع بلس، الذي تقع فيه الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان «فيصل» أشبه بمرجل كبير يغلي فيه جمر النظريات السياسية الكبرى التي تُطبخ وتُشرّح وتنضج أو تبور في بيروت، مثل: القومية العربية والماركسية والليبرالية والماوية والإسلام السياسي وغيرها، كذلك كانت تناقش قضايا الساعة بين المثقفين، مثل القضية الفلسطينية والوحدة العربية والتحرر والنضال، ومعظم رواده كانوا من السياسيين المثقفين، وعلى رأسهم كمال جنبلاط، ومحسن إبراهيم، وعادل عسيران، إضافة إلى بعض أبرز قادة ذلك الزمان، كجورج حبش، وإنعام رعد، وشفيق الحوت، وكمال ناصر، وسعدون حمادي، كما احتضن أدونيس، وكمال الصليبي، وسمير قصير، وهشام شرابي، وغيرهم من الذين لعبوا دورًا مهمًا في كتابة وتوثيق تاريخ لبنان والمنطقة.
لم يُقدّر لهذه المقاهي الأربعة في شارع الحمراء البقاء في الفترة الصعبة الممتدة من نهاية الحرب الأهلية حتى بداية الإعمار، فقد هجَر روادها تلك المقاهي إلى أخرى تمركزت في الوسط التجاري، لا سيما مقهى «الإتوال»، الذي كان يجتمع فيه رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري أسبوعيًا مع نخبة من أهل الصحافة والثقافة، أو مقاهٍ أخرى توزعت بين منطقة الجميزة وساحة ساسين في الأشرفية، كما استعاض بعضهم عن مقاهي الحمراء بتلك القائمة على الكورنيش البحري، مثل مقهى «الروضة» العريق، الذي صار مقصدًا يوميًا لكوكبة من أهل الثقافة، مثل المسرحي رفيق علي أحمد، والشاعر زاهي وهبي، والروائي رشيد الضعيف، والتشكيلية خيرات الزين، وغيرهم، كما كتب الشاعر شوقي بزيع الكثير من مجموعاته الشعرية من على شرفة مقهى «دبيبو» بإطلالته الخلّابة على صخرة الروشة المنتصبة في قلب البحر، وما هي إلا سنوات قليلة حتى استعاد شارع الحمراء بريقه ومقاهيه الثقافية عبر انطلاقة لمقاهٍ استضافت العديد من التجارب الشبابية بين سنتي 2000 و2010، مثل مقهى «جدل بيزنطي»، الذي قرأ فيه الكثير من الشعراء الشباب قصائدهم في تلك الفترة أو وقّعوا مجموعاتهم الشعرية، مثل: ناظم السيد، وغسان جواد، وفيديل سبيتي، وسمر دياب، وزينب عساف، إضافة إلى الجيل الأسبق، مثل: إسكندر حبش، ويحيى جابر، ويوسف بزي، وفادي أبو خليل، وغيرهم.
وبعد إغلاق «جدل بيزنطي»، برزت تجربة مميزة لأمسيات «شهرياد» الثقافية التي انطلقت في عام 2013 بمبادرة من مجموعة من الشعراء والناشطين الثقافيين اللبنانيين، ومنهم: نعيم تلحوق، ومكرم غصوب، وهبة عبدالخالق، ومحمد ناصر الدين، وباسكال صوما، ورامي كنعان، وليندا نصار، وطارق بشاشة، وتوزعت أمسيات «شهرياد» على مقهى «عرمرم» في شارع المكحول ومقهى «وست أفنيو» في شارع صوراتي، واستضافت أكثر من 400 شاعر وشاعرة وضيوفًا من لبنان والعالم العربي، مثل: سيف الرحبي، وشوقي عبدالأمير، وطلال حيدر، وعباس بيضون، وعدنان الصائغ، ومهى بيرقدار الخال، وتحولت المقاهي التي استضافت هذه الأمسيات إلى ملتقى يجمع الشعر باللوحات التي يرسمها الفنانون التشكيليون من وحي القصائد، ناهيك عن الموسيقى على آلات الساكسوفون أو العود التي واكبت الشعر والموسيقى. لم تتوقف مفاجآت بيروت والحمراء تحديدًا عند الدينامية التي أطلقتها أمسيات «شهرياد»، إذ عاد اليوم مثلث جديد إلى الظهور، يقوم على مقاهي «دار المصور»، الذي يضم في طابقه العلوي صالة لعرض الأعمال التشكيلية والصور الفوتوغرافية، إضافة إلى مقهى «ة مربوطة» ومقهى «برزخ»، اللذين تفردا بفكرة «المقهى-المكتبة».والمقهى الأول يوفّر للمثقفين والباحثين في طابقه العلوي مكتبة ممتازة وشبكة إنترنت سريعة وجوًّا مثاليًا لحلقات النقاش المصغّرة، إضافة إلى باحة خارجية تنظّم فيها العديد من الأمسيات الشعرية والندوات المتنوعة ضمن البرنامج الثقافي للمقهى، إضافة إلى مكتبة سينمائية يمكن للراغبين اقتناء محتوياتها، أما المقهى الثاني «برزخ»، الذي يشغل طابقًا كاملًا فوق مكان «الهورس شو» القديم، فيُشكّل علامة ثقافية فارقة اليوم، إذ إن مساحته الكبيرة، ومكتبته الضخمة باللغات الثلاث (العربية والفرنسية والإنجليزية)، وبرنامجه الثقافي الغني الذي يستفيد من البث عبر الوسائط الرقمية المتقدمة، جعلت منه المركز الرئيس الذي تتركز فيه ندوات المثقفين وحلقاتهم في العاصمة اللبنانية بيروت، كما يحتضن الأمسيات الشعرية والحوارات التي تقيمها دار النهضة العربية بوتيرة شهرية مع الشعراء العرب القادمين إلى بيروت من بلدانهم أو مهاجرهم.
ستبقى بيروت بمقاهيها الثقافية مدينة تصنع حريتها وإبداعها كل يوم، مدينة تقوم من رمادها، لا سيما في الحرب الهمجية الأخيرة عليها، لتنتصر لقيم الانفتاح والتنوير وضيافة القريب والغريب، وتفرش كل صباح كراسيها ومقاعدها في ساحات المقاهي لتحضّر للقصيدة محرابها وزينتها وطقوسها وقهوتها، فمقاهي بيروت الثقافية، قبل كل شيء، فسحة للحب قبل أن تكون مكانًا لتزجية الوقت وملء الفراغ، وستظل تغري المبدعين اللبنانيين والعرب بالتقاط لحظة الإبداع والجمال وتجسيدها في قصيدة أو لوحة أو مسرحية.