حُجة استخدام الدروع البشرية بوصفها تكتيكًا عسكريًّا وسياسيًّا
تاريخ النشر: 28th, December 2023 GMT
دعوى استخدام حماس المدنيين دروعًا بشرية، هي أحد أبرز المزاعم في الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة. فمنذ بدايات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دأب المسؤولون الإسرائيليون خاصة، والغربيون عامة، على تَكرار هذه الدعوى في كل مناسبة؛ بوصفها جزءًا من إدارة الحرب الإسرائيلية (والأميركية والأوروبية) نفسها، وذلك من أجل ما سُمي: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، الذي وجد ترجمته الوحيدة في قصف غزة قصفًا مكثفًا وواسعًا لنحو ثلاثة أشهر حتى الآن؛ بهدف القضاء على حماس وتدمير إمكانات المقاومة الفلسطينية.
وإذا كان مصطلح "الدروع البشرية" مصطلحًا عسكريًّا وقانونيًّا في الأصل، فإن استخدامه المكثف- في هذه الحرب على ألسنة المسؤولين العسكريين والسياسيين- شكّل غطاءً سياسيًّا غربيًّا للحرب؛ لصيانة أهدافها المادية: (العسكرية والأمنية)، بالرغم من كُلفتها الإنسانية الباهظة وغير المسبوقة.
ومناقشة مسألة "الدروع البشرية" مناقشة وافية، تستدعي استيعاب عدة منظورات تشمل المنظورين: السياسي والعسكري من جهة، والمنظورين: القانوني والأخلاقي من جهة أخرى. ولذلك سأخصص هذا المقال لإثبات أن استخدام السياسيين والعسكريين الإسرائيليين والغربيين مصطلحَ "الدروع البشرية" هنا هو جزء من الحرب (السياسيّة والعسكريّة)، على أن أخصص مقالًا آخر لإثبات أن الادعاءات الإسرائيلية والغربية -لو سلمنا بها – لا تسوّغ وقوع هذا العدد الهائل من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، لا قانونيًّا ولا أخلاقيًّا.
تواطأ مختلف المسؤولين الغربيين -منذ حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023- على الادعاء بأن حماس تتخذ سكان غزة دروعًا بشرية، وسأشير هنا إلى بعض الوقائع الدالة.
ففي 13 أكتوبر/ تشرين الأول، أكد قائد في القوات الجوية الإسرائيلية لقناة"الحرة" الأميركية أن المقصود من القصف الواسع لغزة هو "حماية مواطني إسرائيل، وأن حركة حماس تستخدم المدنيين دروعًا بشرية". وفي 16 أكتوبر/ تشرين الأول حمّل أوفير جندلمان المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق حركة حماس المسؤولية الكاملة عن الضحايا الفلسطينيين؛ زاعمًا أن حماس تستخدم المدنيين دروعًا بشرية، وتمنعهم من النزوح إلى جنوب غزة.
في 2018 اتهمت نيكي هايلي، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، حركة حماس باستخدام الأطفال "دروعًا بشرية"، وذلك إثر مقتل عشرات الفلسطينيين خلال تظاهرات في قطاع غزة، وهو السلوك الذي نشاهده في الحرب الجارية تمامًا
وفي 20 أكتوبر/ تشرين الأول، قال أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي: "إن حماس تستخدم المدنيين دروعًا بشرية"، و"إن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها ضدّ هجمات حماس". وفي 27 أكتوبر/ تشرين الأول، قالت ليندا توماس غرينفيلد سفيرة الولايات المتحدة الأميركية -خلال جلسة طارئة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة -: "إن حماس لم تهتم يومًا لاحتياجات من تدّعي أنها تمثلهم أو مخاوفهم الحقيقية أو سلامتهم. لا تحترم حماس حكم القانون أو حياة الإنسان، فالمدنيون الفلسطينيون -برأيها- قابلون للاستبدال ومجرد دروع بشرية".
ويبدو أنه جرى التسليم بهذه الدعوى من قبل الجانب الغربي، مع كثرة تَكرار المسؤولين لها، حتى إن الاتحاد الأوروبي قد تبناها رسميًّا، واتفق وزراء خارجية دوله على ذلك. ففي 12 نوفمبر/ تشرين الثاني أدان الاتحاد الأوروبي حركة حماس؛ بزعم "استخدامها المستشفيات والمدنيين دروعًا بشرية في غزة"، بل إن الأمر وصل إلى الميدان الإعلامي، فقد نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية رسمًا كاريكاتيريًّا تحت عنوان: "دروع بشرية".
يصوّر الرسمُ شخصًا -يُفتَرض أنه حماس- يقول وقد ربط إلى جسده بحبلٍ امرأةً و4 أطفال: كيف تجرؤ إسرائيل على مهاجمة المدنيين؟!. ولكن الصحيفة اضطرت -فيما بعد- إلى حذف الرسم من موقعها الإلكتروني؛ بسبب انتقادات القرّاء، في حين بقي الرسم منشورًا في النسخة المطبوعة مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أي بعد أن جرى تعزيز هذا الادعاء على ألسنة المسؤولين الغربيين لنحو شهر كامل.
وثمة -على مستوى الوقائع- مفارقة تتمثل في أمرين:
الأمر الأول: أن المسؤولين الإسرائيليين والغربيين لم يكلفوا أنفسهم عناء إثبات تلك الدعوى أو مناقشتها أيضًا؛ شأنهم في ذلك هو شأنهم مع باقي الدعاوى والتسويغات التي دأبوا على تكرارها أثناء الحرب الجارية على غزة. وقد نفت حماس -باستمرار- هذا الادعاء الذي دأب الإسرائيليون على تكراره في جميع حروبهم السابقة على غزة.ففي 2010 -مثلًا- أعد روفين أرليتش، مدير مركز الاستخبارات والمعلومات الإرهابية الإسرائيلي، تقريرًا اتهم فيه حماس باستخدام الأطفال دروعًا بشرية، وإنشاء مراكز قيادة ومنصات لإطلاق صواريخ القسام على مقربة من نحو 100 مسجد، وعلى مقربة من المستشفيات.
ولم يكتفِ أرليتش بذلك، بل قد شنّ هجومًا حادًا على تقرير المحقق الدولي ريتشارد غولدستون؛ لأنه لا يؤيّد مزاعم إسرائيل، واتهمه بأنه "أحادي الجانب ومتحيّز وخادع؛ بما أنه يقبل ادّعاءات حماس". وفي 2015 أصدرت وزارتا الخارجية والعدل الإسرائيليتان تقريرًا يكرر المزاعم نفسها، ويصف "الإستراتيجية التي اتبعتها حماس" بأنها "نقلت القتال إلى المناطق المدنية المأهولة واستخدمت مدنيين دروعًا بشرية".
وكعادتهم، كرّر المسؤولون الأميركيون مزاعم المسؤولين الإسرائيليين؛ رغم أن هذه المزاعم صادرة من جهة هي طرف في الصراع وخصم. وفي 2018 اتهمت نيكي هايلي، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، حركة حماس باستخدام الأطفال "دروعًا بشرية"، وذلك إثر مقتل عشرات الفلسطينيين خلال تظاهرات في قطاع غزة، وهو السلوك الذي نشاهده في الحرب الجارية تمامًا.
الأمر الثاني: أنه -على العكس مما سبق- ثمة تقارير عديدة صادرة عن مؤسسات ومنظمات دولية ومستقلة تُعنى بحقوق الإنسان، وثّقت استخدام إسرائيل المدنيين الفلسطينيين دروعًا بشرية في أنشطتها الأمنية والعسكرية السابقة، بل إن إسرائيل قد استخدمت -أيضًا- أطفالًا فلسطينيين في هجماتها على غزة والضفة الغربية المحتلة. وكانت منظمة "اليونيسيف" لحماية الطفولة ورعايتها، قد أعدت -قبل سنوات- مشروع تقرير في ذلك يدين إسرائيل، الأمر الذي أثار حفيظة إسرائيل كالمعتاد فشنت هجومًا شديدًا على المنظمة الأممية.ففي الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005)، استخدمت القوات الإسرائيلية المدنيين الفلسطينيين دروعًا بشرية في نحو 1200 مناسبة، بحسب مسؤولين إسرائيليين ومنظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. وفي حرب غزة 2008-2009 اتهمت منظمة العفو الدولية ومنظمة "كسر الصمت" إسرائيلَ باستخدام المدنيين والأطفال دروعًا بشرية؛ لحماية تمركز القوات أثناء التوغلات في قطاع غزة، وللسير أمام الآليات العسكرية عند اقتحام منزل يُعتقد أنه مفخخ. وفي الحرب على غزة عام 2014 اتهم مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، إسرائيل بالاستمرار في استخدام الأطفال الفلسطينيين دروعًا بشرية، وإجبارهم على العمل مرشدين.
وبالرغم من ثبوت هذه الوقائع -وقد صدر في إحداها حكمٌ قضائي إسرائيلي بحق جنديين استخدما طفلًا فلسطينيًّا درعًا بشريًّا- جرى تكرار المزاعم الإسرائيلية وتبنيها من قبل المسؤولين الغربيين دون مساءلتها، ويرجع ذلك -كما سبقت الإشارة- إلى تحقيق أهداف سياسية وعسكرية، تتمثل في التحرر من القيود التي يفرضها القانون الإنساني الدولي في الحرب، وعلى رأسها مبدأ التمييز بين المدنيين والعسكريين؛ خصوصًا في حرب غير تقليدية تجري داخل المدن، وعلى حركة هي ليست دولةً ولا جيشًا نظاميًّا، وفي منطقة مصنفة ضمن قائمة المناطق الأكثر كثافة سكانية في العالم، ومن ثم شكلت دعوى "الدروع البشرية" ضرورة بالنسبة للجيش الإسرائيلي وداعميه لتسويغ هذه الحرب، ومنح الجيش حرية أكبر في الحركة لتحقيق أهدافه المادية؛ بالرغم من وقوع آلاف الضحايا من المدنيين، وخاصة من الأطفال والنساء.
من يستخدم الدروع البشرية يلجأ إليها -عادة- لإجبار خصمه على الاحتكام إلى ضوابط ذاتية يفرضها على نفسه؛ لضمان الامتثال للقانون الدولي الإنساني، وبهذه الصورة يكبح جماح العمل العسكري المضاد، ويقلل من فاعلية سلوك العدو فيُعيقه عن تحقيق أهدافه المبتغاة، ويحمي نفسه، لكننا في غزة أمام لون جديد من الحرب، وهو استثمار حجة "استخدام الدروع البشرية"؛ لخدمة الأهداف السياسية والعسكرية، والتغلب على الصعوبات التكتيكية العسكرية المتمثلة في صعوبة التمييز بين المدني والعسكري؛ نظرًا لعدة خصائص تتمتع بها غزة ألخصها في الآتي:
الخَصِيصة الأولى: أن الحرب في غزة تجري في منطقة ذات كثافة سكانية عالية جدًّا، ومن ثم فإن أي عمل عسكري يستلزم كلفة إنسانية باهظة، خصوصًا أن الجيش الإسرائيلي يجبن عن المواجهة المباشرة، ويعتمد -بكثافة- على الترسانة العسكرية، والقدرة الفائقة على التدمير عن بُعد. الخَصِيصة الثانية: أن المواجهة هنا مع "عدو" غير تقليدي، ومن ثم يصعب تمييز المقاتلين من المدنيين. الخصيصة الثالثة: أن طبيعة السلاح البدائي ومحلي الصنع الذي تستخدمه حركات المقاومة، يَحرِم الجيش الإسرائيلي من معرفة تفاصيله وأماكنه، ومن ثم يفقد السيطرة في المعركة؛ خاصة بالنسبة لشبكة الأنفاق التي تحرم الجيش الإسرائيلي من إمكان التمييز بين المنشآت العسكرية والمنشآت المدنية. فليس هناك منشآت عسكرية فوق الأرض، كما لا يوجد منصات نظامية لإطلاق الصواريخ؛ لأنها بدائية ومتحركة.تسهم هذه الخصائص مجتمعةً في تعقيد الحرب الإسرائيلية على غزة، ومن ثم تتسبب المشكلات العسكرية التكتيكية في مشكلات قانونية وأخلاقية. فالالتزام بمبدأ التمييز بين المدني والعسكري سيحول دون تحقيق الأهداف المادية للحرب؛ لأن تدمير شبكة الأنفاق -مثلًا- يعني تدمير الأبنية الكثيفة التي فوقها بمن فيها من البشر، ومن ثم كان الإسرائيليون وداعموهم بحاجة ماسّة إلى استثمار مصطلح: "استخدام الدروع البشرية" هنا؛ لتحقيق جملة أهداف تتلخص في الآتي:
الأول: التغلب على المشكلات العسكرية التكتيكية الخاصة بصعوبات الحرب وتعقيدات العدو وأرض المعركة، ومنح الجيش الإسرائيلي حرية أكبر في الحركة لتحقيق أهدافه العسكرية. الثاني: الخروج على المعنى التقليدي والقانوني لفكرة "الدرع البشري"، وتسمية تكتيكات المقاومة -وأبرزها الأنفاق- "دروعًا بشرية"؛ لمجرد أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على التمييز بين المدني والعسكري، أو تحديد الأهداف العسكرية للعدو؛ ومن ثم رمَى الكرة في ملعب حماس؛ ليغطي على عجزه العسكري والاستخباراتي. الثالث: التترّس بغطاء قانوني وأخلاقي يتصور أنه يعفيه من مسؤولية قتل هذا العدد الضخم من المدنيين، وتحميل المسؤولية بالمقابل لحركة حماس؛ لأنها لا تقاتل بشكل واضح ومكشوف للجيش الإسرائيلي، بحيث يتسنى له استهدافها بسهولة، في حين أن المسألة متعلقة بفشل ذريع للجيش الإسرائيلي؛ لأنه غير قادر على تحديد أهدافه بدقة، ولا قادر على الالتزام بالقانون الدولي الإنساني في الحرب (وخاصة حماية المدنيين).والنتيجة وقوع هذا العدد الهائل من الضحايا المدنيين والتسبب في كارثة إنسانية غير مسبوقة، ومن ثم اختلاق تعليلات عدة لاستهداف المنشآت المدنية، وخاصة المستشفيات والمدارس. من تلك التعليلات المختلقة مثلًا: إطلاق حماس صواريخها من مناطق مدنية. ومنها أيضًا: استخدام بعض المستشفيات لأغراض عسكرية.
ففي الحرب على غزة سنة 2014 كانَ مستشفى الوفاء أحد الأهداف الإسرائيلية؛ بحجة أنه "مركز قيادة" حماس، وفي الحرب على غزة سنة 2023 كان مستشفى الشفاء أحد أبرز الأهداف الإسرائيلية؛ بحجة أنه "مركز قيادة" حماس!
وكل هذه الذرائع والحجج الواهية يُقصد بها التغطية على فشل إسرائيل العسكري في مواجهة الصعوبات التكتيكية العسكرية في هذه الحرب. ولكن الكلفة الإنسانية العالية جدًّا في هذه الحرب تنقلنا إلى مستوى آخر من النقاش، وهو النقاش القانوني والأخلاقي فيما يخص "الدروع البشرية"، وهو ما سأعالجه في المقال القادم بإذن الله.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الجیش الإسرائیلی استخدام الأطفال التمییز بین تشرین الأول هذه الحرب حرکة حماس الحرب على فی الحرب على غزة ومن ثم
إقرأ أيضاً:
نبذ المقاومة: الدفاع عن الهزيمة بوصفها خيارا!
لن يقف نقد المقاومة إلا على واحدة من قاعدتين، لا ثالث لهما، وما بينهما مسافة يُفترض أنّها واضحة، لأنّها المميزة لهما، بيد أن التباس هذه المسافة، يعني عدم القدرة على تمييز قاعدتي نقد المقاومة عن بعضهما، إذ إمّا أن يكون نقد المقاومة بغرض تحسينها (وتحسينها هنا لا يقتصر على تحسين أدواتها القتالية واللوجستيات الخادمة لها، بل وأيضا من جهة الفهم للظروف والشروط الموضوعية وموازين القوى وما يرتبط بذلك من تكتيك واستراتيجيا)، وإمّا أن يكون نقدها بغرض التخلّص منها. وهذه الأغراض ناجمة عن وعي تأسيسيّ مشيِّد لهاتين القاعدتين، فإمّا امتلاك وعي كاف بالحالة الاستعمارية التي يراد التحرّر منها، بما يصلّب الإرادة في مواجهتها، مهما كانت الانكسارات في طريق الخلاص، وإمّا أنّ الوعي بهذه الحالة وسماتها وعقائدها وطرائق عملها ومخاطرها مختلّ بما يميّع إرادة مواجهتها.
حول هذا كلّه يدور النقاش، لأنّ نبذ المقاومة يجري تصويره خيارا عقلانيّا وحيدا لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وقطع الطريق على الأهداف الاستعمارية الضخمة، كتهجير الفلسطينيين بالإبادة، في حين أنّ هذا الخيار هو التزام كامل بالهزيمة، ونتيجته تأتي على الضدّ من دعواه، ومن هنا تحديدا يأتي التوتر الشديد عند أصحاب هذا الخيار إزاء المقاومة، لأنّها دالّة على إمكانات أخرى غير التزام الهزيمة.
حين تقييم عملية "طوفان الأقصى" فنحن إزاء صورتين للعملية من الجهة الفلسطينية، الأولى النجاح المُبهر في الحدود الزمانية والمكانية للعملية من الحيثية العسكرية والأمنية، والثانية ما يمكن قوله عن خطأ الحسابات والرهانات السياسية للمقاومة، ومن ذلك ضعف تقديرها الكافي لقوّة العدوّ ونواياه، وعدم أخذها موازين القوى بعين الاعتبار. العملية بصورتيها لا تؤخذ كاملة لدى نقّاد المقاومة من دعاة نبذها، وإنّما يؤخذ نجاحها الاستثنائي في حدودها للقول إنّه غير مهم، لا أكثر. أي يُراد القول إنّ هذا النجاح المحدود زمانيّا ومكانيّا وعلاوة على أنّه لم يتطوّر في مسار نضالي مؤثّر ومستمرّ، انقلب إلى حرب إبادة مفتوحة لم يكن بمقدور الفلسطينيين مواجهتها عسكريّا.
لا يقتصر خطأ نقاد المقاومة من دعاة نبذها هنا، فقط على الاستهانة بالإمكان التي أظهرته العملية والحطّ منه وعدّه عديم القيمة، ولكنّهم يحمّلون المقاومة المسؤولية عن النهج الإبادي الإسرائيلي، وهو ما يمكن صياغته في عبارة أكثر كشفا لجوهر المقولة الانهزامية: "لو لم تكن المقاومة قادرة لما انتهج الإسرائيلي الإبادة"، وبهذا يتضح أنّ نبذ المقاومة، يرفض أصلا فكرة المقاومة علاوة على أن تتطور إلى درجات من القدرة والقوّة، وبمراجعة للمسار النقدي الطويل للكثيرين من دعاة نبذ المقاومة، يمكن ملاحظة الرفض الصريح للمقاومة المسلحة خيارا كفاحيّا، والتشكيك المستمرّ في إمكان أن تتطوّر إلى فعل أكثر عمقا وتأثيرا، والطعن في صدق منتهجيها وجديّتهم، حتى إذا أثبتوا صدقهم وجدّيتهم، عُدّ ذلك حجة مستجدّة عليهم!
كان معلم الهزيمة النفسية في المسار النقدي النابذ للمقاومة، ليس فقط دعوى أنّه لا يمكن هزيمة "إسرائيل"، ولكن أيضا دعوى أنّه لا يمكن للمقاومة المسلحة أن تتطوّر بنحو مؤثّر، وهذه الهزيمة النفسيّة مركّبة من تأليه ضمني للقدرة الإسرائيلية، ومن احتقار ضمني للذات الفلسطينية والعربية، وكانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية تؤخذ بوصفها ذروة ما أمكن للفلسطينيين فعله، وأنّه لا يمكنهم أن يضيفوا عليها ما يفوقها قوّة وتأثيرا، حتى إذا سقط هذا الرهان بما أثبتته المقاومة في غزّة، قيل إنّ المقاومة في بلوغها الذروة في الفعل العسكري، جلبت الإبادة للفلسطينيين.
يُلاحظ إذن، أنّ نبذ المقاومة، يرفض رؤية الإمكان مطلقا، ويستبطن يأسا من إمكان هزيمة "إسرائيل"، وهي نتيجة لا يعيها أصحابها بالدرجة نفسها، إذ يتباينون بين من يدعو لانتهاج خيارات كفاحية سلمية وأهداف سياسية واقعية، وبين من يصل إلى درجة كراهية الذات، والنظر إليها بعين المستعمر الإسرائيلي والمستشرق الغربي، والتبني الكلّي أو النسبي للأهداف الإسرائيلية بذرائع الواقعية، أو حتى اعتقاد السردية الإسرائيلية، ويمكن الزعم، والحالة هذه، أن التباينات هنا، بين دعاة نبذ المقاومة، هي تباينات في الدرجة لا في النوع، لأنّ الاستفادة الانهزامية من التجربة الكفاحية وعدم إنجازها التحرر للفلسطينيين، لا تعني إلا تأبيد الواقع كما هو، وذلك في أحسن الأحوال، وأمّا في أسوئها فتكريس المشروع الصهيوني بما يطمس القضية الفلسطينية وإلى الأبد.
إذا كانت المقاومة من شأنها، كما يقول دعاة نبذها، أن تزيد في التوحش الاستعماري الإسرائيلي، فإنّ نبذها وتجريمها، وبالرغم من الدفع كلّه الذي حظي به مشروع التسوية في سنواته "الذهبية"، بما في ذلك فلسطينيّا، لم يفض إلا إلى تعاظم الاستيطان في الضفّة الغربية، وحشر الفلسطينيين في "محميات" مسوّرة، وعزلهم عن بعضهم، وتاليا التحوّل عن سياسة احتوائهم بالسلام الاقتصادي، إلى سياسة تهجيرهم البطيء بالإذلال الاقتصادي، فسياسات التهجير قائمة حتى بلا مقاومة!
التوحش هنا هو توحش استعماري كذلك، بتوحش الاستيطان، وتوحش تشديد القبضة الأمنية، وتوحش تصعيب ظروف الحياة داخل الضفة الغربية، فمشروع التسوية لم يصعد بالتسوويين الإسرائيليين (على فرض وجودهم) ولكنه صعد باليمين الإسرائيلي في أكثر نسخه المتخيلة وحشية وإجراما، وهو يمين لديه مشروع معلن عن ضمّ الضفة الغربية وتهجير أهلها. وكما هو ملاحظ فإنّ العنف الاستعماري المباشر في مخيمات شماليّ الضفة الغربية، يدفّعها ثمنا غزّيّا بالرغم من أن فاعلية المقاومة فيها لا يمكن إدخالها أصلا في المقارنة مع المقاومة في غزّة في أيّ من مراحلها من بعد الانتفاضة الثانية، علاوة على أن تحتسب إلى جانب عملية "طوفان الأقصى"، وهو الأمر الكاشف عن كون سياسات الإبادة والتدمير الممنهج الإسرائيلية لا ترتبط حتما بحسابات المقاوم الفلسطيني أو قدراته.
إنّ كلّ الخيارات الكفاحية الأخرى، لها أثمان باهظة إن كانت مؤثّرة وعميقة وواسعة وشاملة، ولن تسحب بالضرورة الذريعة من الاحتلال، لأنّه، وتأسيسا من جهة وعيه الوجودي لن تتأثّر درجات عنفه الاستعماري إلا بقدر شعوره بالتهديد، وليس بنوع المقاومة أو درجتها، وتاليا من جهة نزوعه اليميني الجارف ترتفع درجات عنفه وتتضح نواياه بلا رتوش.
ليس هذا رفضا للخيارات الكفاحية الأخرى، ولكنه تنبيه إلى أن منطق الهزيمة سيعود للتعبير عن نفسه بخطاب يتقنّع بالعقل والحسبة المادية كلما ارتفع العنف الاستعماري حتى ولو في مقابل خيارات مدنية سلمية. وينبغي أن يُضاف إلى ذلك أنّ الدعوة إلى خيارات أخرى، تكتفي بنقد المقاومة المسلحة، وكأنّها المعيق لتلك الخيارات، دون أن يُثبِت دعاة الخيارات الأخرى قدرتهم على الفهم الشامل للظرف الفلسطيني الراهن وما هي الإمكانات المتاحة فيه، وما هي أسباب تعطيل الخيارات الأخرى. مثلا من هو الفاعل الفلسطيني الأكثر قدرة على الحركة في الضفة الغربية؟! لماذا لا يُحمّل المسؤولية بالقدر الذي يرقى إلى حجمه ودوره في تفتيت الإجماع الفلسطيني والحيلولة دون انتهاج خيارات كفاحية أخرى؟!
ما نرفضه، والحالة هذه، ليس نقد المقاومة المسلحة، بل ينبغي نقدها، ولكن على أيّ قاعدة ولأيّ غرض؟! وليس مراجعة عملية "طوفان الأقصى"، فمراجعتها واجبة ولكن لأيّ هدف؟! وليس الدعوة لانتهاج إستراتيجيات وتكتيكات تراعي المحدودية الفلسطينية وموازين القوى الخادمة بالكامل للاحتلال. ما نرفضه أن يكون هذا النقد ذريعة لاعتناق الهزيمة والدعوة إليها، سواء كانت عقيدة الهزيمة مُعلنة، أو مستبطنة!
x.com/sariorabi