تسليع الحرب الحديثة.. هكذا تغير حرب غزة مفاهيم قوة الجيوش
تاريخ النشر: 28th, December 2023 GMT
سلط الخبير الاقتصادي، فيليب بيلكنجتون، الضوء على ما كشفته حرب غزة من تقلص لتكاليف الحرب غير المتناظرة وأثره في تقييم قوة الجيوش، وهو ما كشفه أثر قذائف مثل "ياسين 105" و"تاندوم" وعبوات مثل "شواظ"، التي تتكلف مئات الدولارات، في تدمير آليات إسرائيلية، تكلفة الواحدة منها ملايين الدولارات.
وذكر بيلكنجتون، في تحليل نشره بمجلة "ناشيونال إنترسبت" وترجمه "الخليج الجديد"، أن مصطلح "التسليع"، في الأعمال التجارية، يصف انتقال شيء كان في السابق سلعة فاخرة إلى سلعة يومية يتم شراؤها وبيعها بسعر رخيص، وهو ما جرى مع الأسلحة، ما يهدد قوة الجيوش الغربية الكبرى، وعلى رأسها الجيش الأمريكي.
وأضاف أن الصراع في أوكرانيا أظهر، على نحو متزايد، أن الحرب الحديثة تمر الآن بمرحلة "تسليع"، فالتكنولوجيا التي تم تطويرها في البداية لأغراض عسكرية، مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) والبصريات الإلكترونية المتقدمة، تم تصميمها للمنتجات الاستهلاكية، وانخفضت أسعارها، ويتم استخدام الإصدارات السلعية من هذه التكنولوجيا اليوم لإنشاء أنظمة أسلحة جديدة فعالة للغاية ورخيصة الثمن.
وأبرز قطعة من هذا النوع من التكنولوجيا في حرب أوكرانيا هي الطائرة الروسية المسيرة "زالا لانسيت"، والتي جرى استخدامها على نطاق واسع لاستهداف الدبابات والمركبات الأخرى التابعة للقوات المسلحة الأوكرانية.
وأصبح من الشائع الآن رؤية مقاطع فيديو لطائرات مسيرة من نوع لانسيت تستخدم لتدمير الدبابات المتقدمة، مثل الدبابة الألمانية "ليوبارد 2".
وبالنظر في التكاليف النسبية، تبلغ تكلفة طائرة لانسيت المسيرة حوالي 35 ألف دولار، وإنتاجها سهل وسريع، ولذا أعلنت مجموعة "زالا" أنها ستزيد إنتاجها "عدة مرات هذا العام".
أما دبابة "ليوبارد 2" فتبلغ تكلفتها حوالي 11 مليون دولار. كما أنها بطيئة التصنيع، إذ يتم إنتاج حوالي 50 منها فقط كل عام.
هذا يعني أن روسيا يمكنها إنتاج 314 طائرة مسيرة من طراز "لانسيت" مقابل كل دبابة تنتجها ألمانيا من طراز "ليوبارد 2"، ويصبح هذا الحساب أكثر دراماتيكية في حال اعتبار الأسعار النسبية في البلدين باستخدام معادل القوة الشرائية (PPP)، وبهذا نجد أنه مقابل تكلفة إنتاج دبابة واحدة من طراز ليوبارد 2 في ألمانيا، تستطيع روسيا إنتاج 683 طائرة مسيرة من طراز لانسيت.
اقرأ أيضاً
قتل جنود وتدمير 5 دبابات.. القسام تعلن تكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة
ويشير بيلكنجتون إلى أن "تسليع الحرب"، كما جرى في أوكرانيا، يدعو إلى التشكيك في قدر كبير من الاستراتيجية العسكرية الغربية المعاصرة، والتي يبدو أنها تركز على إنتاج معدات عالية الجودة والتكلفة على أمل أن تتمكن من التغلب على القوى الأدنى.
ولا ينطبق هذا فقط على حرب الاستنزاف الطاحنة في أوكرانيا، فمنذ اندلاع الحرب بغزة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، برزت العديد من الجوانب الأخرى للاستراتيجية العسكرية الغربية، والتي أصبحت موضع تساؤل بسبب عملية "التسليع السريع في ساحة المعركة"، بحسب بيلكنجتون.
ففي بداية حرب غزة، بدأت حركة حماس بإطلاق أعداد كبيرة من صواريخ القسام على إسرائيل، وهي صواريخ "رخيصة الثمن بشكل لا يصدق"، حسب تعبير بيلكنجتون، مشيرا إلى أن وقودها من السكر والأسمدة، وتكلفة إنتاج كل صاروخ حوالي 300-800 دولار فقط.
القبة الحديدية
أما نظام الدفاع الجوي الشهير "القبة الحديدية" فهو دفاع إسرائيل ضد صواريخ القسام، وتبلغ تكلفة البطارية الواحدة منه 100 مليون دولار، كما تبلغ تكلفة كل صاروخ من صواريخ "تامير" الاعتراضية حوالي 50 ألف دولار.
وحتى من دون حساب تكلفة منصات الإطلاق، تستطيع حماس أن تصنع 91 صاروخاً لكل صاروخ اعتراضي من طراز تامير، وإذا أجرينا الحساب وفقاً لمعادل القوة الشرائية (PPP)، فيمكن لحماس أن تصنع 177 صاروخاً مقابل كل صاروخ اعتراضي.
وهنا يشير بيلكنجتون إلى أن مقارنة التكاليف واضحة ومباشرة لأن الإسرائيليين يستخدمون القبة الحديدية لإسقاط كل صاروخ قسام يتم إطلاقه على أراضيهم، ويتطلب الأمر صاروخ اعتراضي واحد على الأقل من طراز تامير لإسقاط صاروخ القسام.
وعلى نحو مماثل، يلفت بيلكنجتون إلى أن دبابات الميركافا الإسرائيلية معرضة للخطر أمام نظام "آر بي جي" محلي الصنع من إنتاج حماس، والمعروف باسم "الياسين 105"، معتبرا أن قدرة حماس على إنتاج قذائف خاصة بها على نطاق واسع تثير تساؤلات جدية حول القدرة على القتال المستمر في المناطق الحضرية باستخدام المركبات المدرعة، حتى بالنسبة للجيوش المجهزة تجهيزاً جيداً، مثل الجيش الإسرائيلي.
ولا توجد تقديرات لتكلفة قذائف الياسين، ولكن بالنظر إلى أنه يمكن شراء صواريخ "آر بي جي-7" بحوالي 300 دولار في السوق السوداء، فمن المرجح أن تكلفتها ربما 200 دولار، نظراً لانخفاض تكاليف العمالة في قطاع غزة.
أما تكلفة دبابة ميركافا 4M فتبلغ 3.5 مليون دولار، ما يعني أن حماس يمكنها إنتاج 17.500 قذيفة ياسين مقابل كل دبابة ينتجها الإسرائيليون، أو 34.155 قذيفة مقابل الدبابة الواحدة على أساس معادل القوة الشرائية.
ويطرح ذلك تساؤلا حول مدى فعالية نظام الصواريخ الأمريكي المضاد للدبابات "جافلين" مقابل "آر بي جي" الرخيص، ويجيب عنه بيلكنجتون بأن "أي جندي عاقل يفضل استخدام صاروخ جافلين بدلاً من آر بي جي عندما يواجه دبابة بلا شك، ولكن بتكلفة 78 ألف دولار للصاروخ الواحد.
كما أن "تسليع" الحرب الحديثة بلغ مدى صادما في الأيام الأخيرة عندما تمكن الحوثيون في اليمن من فرض حصار بحري فعال بالبحر الأحمر دون امتلاك قوة بحرية، بحسب بيلكنجتون، مشيرا إلى أن القدرة على السيطرة على البحار، وبالتالي السيطرة على التجارة، ارتبطت تاريخيا بالدول الغنية التي يمكنها تخصيص قدر كبير من دخلها لبناء قوات بحرية، لكن "تسليع الحرب الحديثة" أدى إلى تغيير هذه الديناميكية.
وكانت اللحظة الحاسمة في حصار الحوثيين للبحر الأحمر هي الاستهداف الناجح لسفينة تجارية بصاروخ إيراني مضاد للسفن.
وهنا يعلق بيلكنجتون بالقول: "المعلومات حول النموذج المحدد للصاروخ ضئيلة، ولكن ليس هناك شك في أن تكلفة الصاروخ أقل بكثير من صواريخ الدفاع الجوي التي تستخدمها السفن البحرية الغربية لمواجهتها".
ونوه الخبير الاقتصادي إلى أن تقارير سلطت الضوء على استخدام البحرية الأمريكية صواريخ بقيمة 2 مليون دولار لإسقاط طائرات مسيرة للحوثيين بتكلفة 2000 دولار فقط.
اقرأ أيضاً
القسام يعلن تدمير دبابة إسرائيلة بقذائف الياسين 105
وتثير طبيعة هذا السلاح الحوثي الجديد أيضاً مشاكل أكثر جوهرية، فعندما فُرض الحصار على اليمن، كانت هناك دعوات للبحرية الأمريكية وحلفائها لقصف الحوثيين لإجبارهم على الاستسلام، لكن ما الذي سيقصفونه بالضبط؟
تبدو الإجابة صعبة، إذ يمكن نقل الصواريخ والطائرات المسيرة الجديدة إلى أي مكان في الأراضي الخاضعة لسيطرة الحوثيين وتركيبها وإطلاقها، وتشغيلها حتى عن بعد.
وحتى حال تحديد البحرية الأمريكية للهدف المطلوب قصفه، قد يكون مجرد قاذفة رخيصة الثمن، أو في أحسن الأحوال، شاحنة فارغة.
الإنفاق الدفاعي
كل هذا يثير عددا من الأسئلة، حسبما يرى بيلكنجتون، على رأسها: هل من الحكمة مقارنة القوة العسكرية لكل دولة على أساس إجمالي الإنفاق؟
وفي معرض الإجابة، يشير الخبير الاقتصادي إلى ضرورة التوقف عن استخدام مقياس الإنفاق الدفاعي للحكم على الفعالية، مشيرا إلى أن تطورات الحرب في أوكرانيا وغزة قدمت أمثلة كثيرة على ذلك.
وإزاء ذلك، فالمناقشات حول القوة العسكرية، التي تعتمد على الإنفاق الإجمالي كمقياس، "لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد بعد الآن"، بحسب بيلكنجتون.
وطرح الخبير الاقتصادي تساؤلات أخرى: هل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي مناسبا للغرض الذي أنشئ من أجله؟ وهل نموذجه عالي التقنية وباهظ التكلفة مناسب لساحة معركة حديثة؟ وهل تعتبر سلاسل التوريد الهائلة والمتكاملة إلى حد كبير ضرورية في ظل إمكانية الحصول على الكثير من التكنولوجيا المستخدمة لإنتاج الأسلحة من السوق التجارية؟
فمثلا يمكن شراء محرك مماثل لذلك المستخدم في الصواريخ الإيرانية 358 من سوق "علي إكسبريس" أو من خلال مواقع الطائرات المسيرة للهواة مقابل بضع مئات من الدولارات.
ويخلص بيلكنجتون إلى أن الوقت حان لإعادة تقييم كيفية إنفاق الدول الغربية الكبرى على الأسلحة وما تستطيع القوة العسكرية التقليدية تحقيقه من عدمه في ساحة المعركة التي تحولت إلى سلعة حديثاً.
فلطالما كانت القوات البحرية هي الأداة المفضلة لاستعراض القوة في المناطق البعيدة من العالم، ولكن إذا كان بالإمكان تهديد السفن الحربية بسهولة وبتكلفة زهيدة فإن فائدتها تكون أقل بكثير مما كانت عليه في الماضي.
اقرأ أيضاً
غزة.. القسام توثق لحظة تدمير قذائف الياسين لدبابة ميركافا في دير البلح
المصدر | ناشيونال إنترست/ترجمة وتحرير الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: حماس غزة إسرائيل المقاومة الفلسطينية الجيوش الغربية تسليع الإنفاق الدفاعي الخبیر الاقتصادی الحرب الحدیثة فی أوکرانیا ملیون دولار لیوبارد 2 کل صاروخ آر بی جی من طراز
إقرأ أيضاً:
محلل فلسطيني: الانتخابات الأمريكية لن تغير واقع المنطقة.. وأي إدارة ستدعم إسرائيل
أعرب ماهر صافى، المحلل السياسى الفلسطينى، عن اعتقاده أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية لن تغير كثيراً فى واقع المنطقة المشتعلة جراء الحروب المتعددة، خصوصاً الحرب على قطاع غزة، والمستمرة منذ أكثر من عام.
وأكد «صافى» فى حوار مع «الوطن» أن أى إدارة أمريكية ستتأثر بالسياسات الداخلية الإسرائيلية، وستظل داعمة لإسرائيل، سواء كانت من الجمهوريين أو الديمقراطيين، وتابع المحلل السياسى الفلسطينى أن أى إدارة أمريكية مقبلة، سواء ديمقراطية أو جمهورية، عليها التفكير بما يجب تغييره بعد نهاية حرب غزة، وكيفية جلب الأموال لإعادة إعمار القطاع ومؤسساته المدمرة، وفيما يلى تفاصيل الحوار.
فى ظل استمرار الحرب على غزة واشتعال الأوضاع بالمنطقة، هل ننتظر واقعاً جديداً بعد الانتخابات الأمريكية؟
- أستبعد تماماً تغيير سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إسرائيل، أو تجاه القضية الفلسطينية، بل أرى أن الإدارة الأمريكية غير معنية بشأن القضية الفلسطينية فى فترة ما بعد حرب غزة، وذلك فى كل الحالات، سواء أعيد انتخاب الجمهورى دونالد ترامب رئيساً مرة أخرى، أو انتخاب الديمقراطية كامالا هاريس، وذلك على الرغم من أن فوز ترامب يعنى ضوءاً أخضر ودعماً مضاعفاً لإسرائيل لتفعل ما تشاء بالقضية الفلسطينية، فيما يبدو أن فوز منافسته كامالا هاريس بالانتخابات الحالية، التى تريد تجميل الصورة وتتحدث كثيراً عن إنهاء الحرب فى غزة وتهتم بالسلم العالمى لتجميل صورة أمريكا أمام العالم، لن تكون مؤثرة بالشكل الذى تحاول توضيحه للعالم خلال حملتها الانتخابية.
بشكل منفصل، كيف ترى تأثير فوز ترامب فى الانتخابات؟
- فوز دونالد ترامب يعنى دعماً إضافياً لإسرائيل، فهو من باع الأرض وقبض الثمن سلفاً مع جاريد كوشنر صهر ومستشار الرئيس الأمريكى السابق، فمثلاً خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، كان أحد وعود حملة ترامب هو نقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس التى وصفها بأنها «العاصمة الأبدية للشعب اليهودى»، وبالفعل فى ديسمبر 2017 أعلن ترامب، الرئيس الأمريكى آنذاك، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فى قرار تاريخى، وغيرها من القرارات التى دعمت إسرائيل طوال فترة ولايته، وبالتالى لا ننتظر منه أى دعم للقضية الفلسطينية حال فوزه، بل ربما سيكون الدعم مضاعفاً لإسرائيل عما شهدته فترة ولاية الرئيس الديمقراطى جو بايدن.
أبدت كامالا هاريس اهتمامها بإحلال السلام العالمى وحل القضية الفلسطينية خلال برنامجها الانتخابى، كيف ترى أصداء ذلك حال فوزها؟
- ربما أعطت «هاريس» صورة وردية لتحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم، ولكن هذه الصورة متعلقة بالوعود الانتخابية لكسب الأصوات لا أكثر، خصوصاً أنها لم تستطع مجابهة إسرائيل أو اللوبى الصهيونى طوال سنوات عملها نائبة للرئيس الأمريكى جو بايدن، الذى تستمر الحرب على غزة فى ولايته، وشاهدنا خلال أكثر من عام على الحرب، غياب النية لدى إدارة بايدن الديمقراطية للضغط الحقيقى على رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، الذى لا يريد وقفاً لإطلاق النار فى غزة أو لبنان، وبالتالى نستطيع القول إن إدارة «بايدن - هاريس» لم تمارس ضغوطاً حقيقية على نتنياهو، وأصبحت الأمور أصعب الآن فى خلال حملتها الانتخابية، مع تظاهر «هاريس» بتعاطفها مع الفلسطينيين، ولكن على سبيل المثال لن تستعمل سلطاتها لوقف شحنات الأسلحة للضغط على إسرائيل، كما لن يمكنها التصدى لضغوط الكونجرس فى هذا الشأن.
فى ظل الوضع الحالى وتصاعد التوترات، مَن الأفضل فى رأيك لإتمام صفقة منصفة للجانب الفلسطينى؟
- لنكن واقعيين، لن تتوقف أمريكا بإرادتها عن دعم إسرائيل، بل إن أى إدارة أمريكية مقبلة ستتأثر بالسياسات الداخلية الإسرائيلية، وعلى أى إدارة التفكير بما يجب تغييره بعد نهاية حرب غزة، وكيفية جلب الأموال لإعادة إعمار قطاع غزة ومؤسساته المدمرة، إذ إن إدارة الحرب نفسها هى لصالح إسرائيل فى كل الأحوال، ولكن ما ننتظره هو اليوم التالى للحرب، وبالتالى يجب أن تفكر الإدارة الأمريكية المقبلة بطريقة استراتيجية وليست تكتيكية، خاصةً مع تعدد الملفات كالحرب الروسية على أوكرانيا، والتوترات مع الصين، والنزاع فى الشرق الأوسط.