خلال حملته الانتخابية للرئاسة الأميركية، استعان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بعبارة كتبها وليام فوكنر في إحدى رواياته، وهي تقول "إن الماضي لم يمت ويدفن، لأنه في الحقيقة ليس ماضيًا".

وعندما التقى الرئيس الأسبق بيل كلينتون والروائيان الكولومبي غارسيا ماركيز، والمكسيكي كارلوس فوينتس، في جلسة عشاء، راحوا يتبادلون الحديث في الأدب، حتى جاءت اللحظة التي أشار فيها فوينتس إلى رواية فوكنر "ابشالوم ابشالوم" عندها هب كلينتون واقفًا، وراح يلقى مونولوغًا طويلًا من رواية "الصخب والعنف" التي كتبها فوكنر أيضًا.

وما فعله كلينتون كان يشير، بتلقائية، إلى الأثر الذي تركته تلك الرواية منذ صدورها عام 1929، وما رسخته في الرواية العالمية ومفاهيمها من جيل إلى جيل. وهو الأمر الذي جعل من فوكنر واحدًا من أكثر الروائيين تأثيرًا في الكتاب وحتى في العديد من السياسيين خلال القرن العشرين وما بعده.

وهذا التأثير هو الذي أكد عليه ماريو فارغاس يوسا الروائي الحائز على جائزة نوبل، حين قال إن تأثير فوكنر كان كبيرًا جداً على أعماله، وعلى كبار الكتاب، لأنه اخترع نظاماً عالمياً للرواية، وابتكر حبكة جيدة للقصة، وأدخل إلى النثر الإثارة والترقب.

غلاف الرواية (الجزيرة) متعة الكتابة

المكانة الكبيرة -التي بات فوكنر يحتلها في خريطة الرواية العالمية- لم تأت بسهولة، فرواياته الأولى لم تلقَ نجاحًا، ولم يعجب بها لا النقاد ولا القراء، لكن على الرغم من ذلك، واصل فوكنر الكتابة، بعد أن بات على قناعة من أنها هي الممارسة الوحيدة، القادرة على إشعاره بالمتعة، في الوقت الذي اكتشف فيه حقيقة أن العوالم التي يتشكل منها مسقط رأسه تستحق الكتابة، وأنه لن يستطيع طوال حياته التوقف في أي وقت عن الكتابة عنها.

وهذا ما رأى فيه يوسا تشابها مع عوالم أميركا اللاتينية، وعلى وجه الخصوص، ذلك المجتمع الريفي الذي يحتوي على الكثير من العناصر الإقطاعية والإثنية، مؤكدًا أن هذا التقارب جعل كثيرا من الروائيين اللاتينيين يتأثرون به.

وحين تحدث يوسا عن تجربته مع تأثيرات فوكنر، راح يقول "اكتشفته حين كنت شاباً، وقد انبهرت من طريقته البارعة في تنظيم الحبكة، الزمن المتشابك، وطريقته في توليد الأحداث". وهو ما دفع يوسا إلى التأكيد على أنه لا يوجد كاتب من أميركا اللاتينية، من الجيل الذي ينتمي إليه، لم يتأثر بشكل مباشر بفوكنر.

واقعية جديدة

لم تكن روايات فوكنر سهلة، لا في قراءتها، ولا في تقليد الكتاب الآخرين لها، والسبب يعود إلى أنه ابتدع أسلوبًا روائيًا خاصًا، يعتمد تيار الوعي، وساهم ذلك في تمكينه من تقديم روايات مهمة، استحق عنها جائزة نوبل عام 1950.

وإذا ما تأملنا في خلفية الروايات التي كتبها فوكنر، لوجدناها محلية، حتى وإن اتخذت الموضوعات الرئيسية فيها ملامح ذات طابع شمولي إنساني. فما قدّمه فوكنر، لم يكن معنيًا من خلاله بتقديم صورة عن الجنوب، قدر ما كان مهتمًا بالكتابة عن أزمة الجنوب، وقد استطاع عبر ذلك، أن ينفذ إلى أعماق العقل الجنوبي، مبتعدًا عن الواقعية التي تعني بنقل الصور المطابقة للأصل، وساعيا للوصول إلى الواقعية الجديدة.

وهذه الرؤية هي التي كانت وراء تناوله، وإن كان بالنقد، مختلف مظاهر الحياة الحديثة التي فُرضت على الجنوب، وإلى توجيه الانتقادات لما أسماه بالانحلال المتعلق بالقيم الخلقية، والذي كان مدفوعا بضغوط تجارية، وأيضا بالثمن الكبير الذي يدفعه الإنسان، ومخاوفه بشأن العزلة الضاربة في نسيج مجتمع، اختفت منه السمات الرئيسية لشخصية الفرد، وانهارت فيه الحساسية الفردية، والأخلاق الطيبة، أمام موجة موغلة في الجشع.

سرد القصص

تمتلك رواية "الصخب والعنف" لفوكنر نوعًا خاصًا من سرد القصص. ففي مستهلها يعني الكاتب أولًا بسرد تاريخ عائلة كومبسون، بشكل غير واضح، من خلال شخصية معاق ذهنيًا. لأنه على الرغم من أنه كان يبلغ 33 عامًا من عمره، فإن مستوى تفكيره لم يكن يتخطى مستوى تفكير طفل صغير يبلغ من العمر 3 سنوات.

وتتابع الرواية أحداثها مع هذا الشخص، حتى يقدم في النهاية على الانتحار. لتستعرض الرواية بعد ذلك تفاصيل الحياة المعقدة والصعبة، الخاصة شقيقته كانديس، وشقيقه جاسون الذي سيلحق الضرر فيما بعد بعائلته.

بينما ستكون خاتمة الرواية على لسان الراوية ديلسي التي تعمل خادمة لدى عائلة كومبسون. وهي التي تراقب كافة الأحداث من بعيد، وهي الشخص الذي يتحكم في كل شيء، ويعرف عنهم كل أمور حياتهم.

مكان متخيل

تخيل فوكنر لنفسه منطقة خيالية، أسماها "بوكتبا تاوفا" وجعلها مسرحاً لأحداث معظم رواياته، ساعيا من خلال ذلك إلى صنع واقعه بنفسه. وفي قلب هذا العالم، هناك مدينة باسم "جيفرسون" ومن خلالها قام برصد كل ما يحدث في الجنوب الأميركي، كما كانت له رؤيته الخاصة لعالم هذه المنطقة، فهي معبقة بالانحلال والخطيئة، والكبت والقسوة والعنف، وفي هذه الروايات، ذات الأعداد القليلة من الشخصيات السوية، تتدافع الذكريات من رؤوس الشخصيات، لتعلن عن تجارب قاسية وأليمة.

ولا يميل فيها فوكنر -ولا في مختلف أعماله- إلى الشرح والتفسير لما يدور، بل يحرص على تقديم تفاصيل الحياة، مثلما يحياها الناس في حياتهم اليومية، بكل ما فيها من فوضى وتناقضات.

وهذه الحكاية التي تدور أحداثها في بقعة جغرافية مُتخيلة في منطقة الميسيسبي، جميع أبطالها من عائلة مسكونة بأمجاد شرف يخص ماضي أجدادها بالجنوب الأميركي. وهذه البقعة في النهاية مقاطعة متخيلة، اخترعت لتكون مسرحاً للأحداث الأساسية في رواياته، غير أنها ترتبط بالأماكن التي عاش فيها فوكنر، والبشر الذين عرفهم، بينما تعتبر عائلته ذات تأثير في تاريخ ولاية الميسيسبي، لأن أحد أجداده كان النموذج الذي صاغ على غراره شخصية "جون ساراتوريس" في أكثر من رواية من رواياته، وكان هذا الجد محامياً وجندياً ورساماً، كما أنه شارك في بناء سكة الحديد هناك.

ونشأ فوكنر في كنف عائلة متأثرة بالتقاليد والعادات والقصص المحلية والحكمة، والفكاهة الشعبية الريفية، والروايات البطولية والمآسي عن الحرب الأهلية الأميركية. ولعل هذا هو ما دفعه إلى الحرص في معظم أعماله الروائية على تسجيل تفاصيل شهادته المتعلقة بالتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي طرأت على الجنوب الأميركي.

رواية الروائيين

لاقت رواية "الصخب والعنف" إقبالاً كبيرًا من النقاد، منذ نشرها، فقد اعتبرت بمثابة رواية الروائيين، في تركيبها الفني الذي يعد في براعته معجزة من معجزات الخيال، دون أن يعني هذا القول إنها بعيدة عن المؤثرات الأدبية والعلمية الأخرى، خاصة المنجزات التي شهدها علم النفس الحديث. ففي هذه الرواية، استطاع فوكنر أن يقدم سردًا للأحداث على عدة مستويات، من الزمن والوعي، حتى أن علامات الترقيم غابت عنها في كثير من الأحيان، في الوقت الذي تأثرت فيه هذه الرواية بالعديد من الاتجاهات الأسلوبية التي عرفتها العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وهي فترة من أهم الفترات وأخصبها في تاريخ الرواية، ليس بسبب ظهور عدد من الروائيين الكبار فيها، بل أيضًا لكثرة التجارب التي طرحت، ونجاح الكثير من هذه التجارب في فن القصة.

وفي الوقت نفسه، لمعت في هذه الفترة أسماء شعراء ساهموا في تغيير أشكال الأدب، ومن بينهم ت. س. إليوت وإزرا باوند، بالإضافة إلى ظهور منجزات روائية تنتمي إلى الرواية الحديثة، مثل رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، "ويوليسيس" لجيمس جويس، نظرا للتركيز على الأهمية القصوى للاشعور.

وهو الأمر الذي أثر بشكل واضح على رواية "الصخب والعنف" حتى أن العنوان قد استعير من أحد المقاطع التي تضمها مسرحية "ماكبث" لوليام شكسبير، التي لم يكتف فوكنر بأخذ العنوان منها، وإنما حاول أن يجسد في الرواية واحدة من الأفكار الخاصة بشكسبير، والتي جاءت بالمسرحية، من خلال شخصية معتوهة.

ثورة حقيقية

غير أنه يجدر هنا التوقف، قليلاً، عند التعريف الخاص للرواية الحديثة، وعلى وجه خاص ما يتعلق منها برواية "تيار الوعي" الذي يمثل ثورة حقيقية على الاتجاه التقليدي، والذي كان ظهوره في القرن الـ19، بالتزامن مع الإنجازات العلمية المذهلة التي شهدتها بدايات القرن الـ20. وهو ما يؤكد على أن الإنتاج الأدبي الجيد ليس دورانًا في الفراغ، وإنما هو تتويج لجهود سابقة، ولتطورات مستمرة في تاريخ الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه تيار الوعي، وهو الأمر الذي يؤكد من جهة أخرى أن الأسلوب الحديث في الكتابة يأتي استمراراً لجهود سابقة، أضيفت إليها جهود لاحقة، وهو ما يعني شرعية انتمائها إلى الجنس الروائي، والمدى الذي يوغل فيه هذا الانتماء، فقد ظهرت، بداية القرن الـ19، روايات تتخلى عن رسم الشخصية من الخارج، في بعض مقاطعها، وتلتفت إلى أعماقها مثل تلك الروايات التي كتبها ديستوفسكي، وجين أوستن، وهنري جيمس.

وعلى الرغم من ذلك، بقيت هذه الرواية وفية للتقاليد التي أرساها الرواد، وما كان يعني منها بالمحافظة على الأبعاد الروائية الثلاثة: الحدث، الشخصية، اللغة.

ويعود الفضل في اختراع مصطلح "تيار الوعي" إلى وليام جيمس، أحد علماء النفس، وهو ما استقر الآن عليه كمصطلح أدبي، بات يستخدم للدلالة على طريقة تقديم الجوانب الذهنية والشعورية للشخصية. ومن خلاله، باتت الرواية تهتم بالمستويات غير الكاملة، خاصة مستوى ما قبل الكلام، بما فيه من الكلام والأفكار والمشاعر والذكريات، وبذلك لا تخضع للمراقبة والتنظيم والسيطرة على نحو منطقي، فتبدو الذكريات والأفكار والمشاعر أشبه بتيار مضطرب في الأعماق، وينكشف أمامنا عندئذ الكيان النفسي للشخصية.

تراكيب جديدة

تتجلى ملامح تيار الوعي في كتابة أحداث رواية "الصخب والعنف" من خلال توظيف فوكنر للرموز والأساطير، والأحلام والكوابيس، وأيضا في تَشظِّي المكان والزمان، وانسياب العبارات المفككة، وتعدد الأصوات السردية، وإعادة توظيف اللغة، لخلق تراكيب لغوية جديدة، تتخذ طابعًا شِعريًا في بعض الأحيان.

فقد توزعت أحداث هذه الرواية في 4 فصول، موزعة زمنيًا من الفصل الأول، الذي يبدأ في السابع من أبريل/نيسان 1928، ويرويه معتوه العائلة "بنجي". والثاني، الذي يبدأ في الثاني من يونيو/حزيران 1910، وجاء على لسان أخيه الطالب في جامعة هارفارد (كونتن). أما الثالث، فيحدث في السادس من أبريل/نيسان 1928، ويرويه الأخ العاقل الوحيد الذي بقي على قيد الحياة (جاسن) بينما يبدأ الفصل الرابع في الثامن من أبريل/نيسان للعام نفسه، يقصّه علينا المؤلِف أو الراوي العالم.

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا جعل المؤلف الراوي الأول للأحداث شخصًا أبله؟ هل تعمد فوكنر ذلك، كي ينقل لنا اِنفعالات وهواجس إنسان بسيط بعيدًا عن فلسفة الأمور وتحليلاتها، وبعيدًا عن حيّز المصلحة الذاتية؟ حتى وإن كان هذا الوصف للأحداث والانفعالات يتسم بالكثير من الفوضى الزمنية وعدم الترابط في الكلام والكثير من الرموز؟

وقد تعمد فوكنر أيضا، في هذه الرواية، إسناد المهمة لأبناء أسرة آل كومبسون الثلاثة، فهم الذين يتولون سرد الحوادث، فضلا عن استخدامه فن الاستذكار والحوار الداخلي، دون أن يلتزم بنمط أدبي محدد أو برسم شخصيات روائية متماثلة، بل إن شخصيات رواياته شكلت خليطاً عجيباً من المكافحين والمسحوقين والآثمين والشرفاء، وتجلت حرفيته في رسم هذه الشخصيات عبر شحنات متدفقة من الخيال والواقعية والصدق، إلى الدرجة التي تبعث في نفس القارئ الكثير من المشاعر التي تساعده على تفهم نزاعات الشخصية.

ويتساءل روبرت همفري في كتابه "تيار الوعي في الرواية الحديثة" قائلا "كيف يمكننا أن نُعبِّر عن شيء يتسم بالفوضى بشكل منظم؟ وهنا تُعد رواية "الصخب والعنف" من أشهر الروايات التجريبية التي وظفت تيار الوعي، وتعني هذه التقنية الروائية بتدفق سيل الأفكار والحياة الذهنيّة والروحيّة والنفسيّة للشخصيات، أي أنه يغوص في عوالم الذِّهن قبل أن يتحول الحدث إلى مستوى الكلام.

وكما هو متعارف عليه فإنّ الحركة الذهنيّة للأفكار والمشاعر والانفعالات والتخيّلات غير منظمة لا تعتمد على قواعد منطقية لانسيابها. وتتجلى هنا الصعوبة في التقنيات التي اختارها كُتّاب تيار الوعي الذي يمثل فوكنر الضلع الرابع من أضلاع هذه التقنية في الرواية العالمية الحديثة، مع فرجينيا وولف وجيمس جويس، حيث يكون التداعي الحر لفيضان الذِّهن بكل فوضويته.

وكانت الفترة، التي عاشها فوكنر عند مطلع القرن الـ20، من أهم الفترات الخصبة التي نشأ فيها التجريب في الأدب الروائي الغربي، فخلالها تأثر الكثير من الكتاب والروائيين بمرحلة ظهور علماء النفس من أمثال النمساوي سيجموند فرويد، والسويسري كارل يونغ مؤسس علم النفس التحليلي، وقد أضافت هاتان المدرستان التحليليتان الكبيرتان، عند ظهورهما، تأثيراً كبيراً على الأدب والفن، في المرحلة التي كانت فيها قمة ظهور الثورة الصناعية في أوروبا وأميركا، ونمو الاقتصاد الكبير من جهة، والصراعات المادية والسعي الحثيث الذى قاد العالم نحو الحروب والاستعمار والزحف نحو الشرق والبحث عن الموارد الأولية والطاقة من جهة أخرى.

ورغم الإشادات، والأثر الكبير الذي تركته أعماله الروائية، فإن فوكنر قرر ذات مرة الاتجاه نحو كتابة السيناريو السينمائي، عندما كان لهوليود تأثير كبير على الكثير من الأدباء، غير أنه استطاع تجنب هذا التأثير، بعد أن ابتعد عن حياة هوليود الاجتماعية، وراح يكتب نصوصه دون أن يكون راغبًا في جعل هذه الكتابة أساسًا لحياته ومصدرًا لرزقه، قدر ما رآها عملاً حرفيًا يؤديه بأمانة، وبصورة مؤقتة، من أجل أن يتمكن في النهاية من العودة إلى بلده. وهو ما تحقق فيما بعد، بالعودة إلى أكسفورد، تلك البلدة التي عاش فيها في شبه عزلة، قاطعًا معظم الوقت ما بين عائلته في بيته العتيق ومزرعته الصغيرة، في الوقت الذي ظل يرفض فيه الإدلاء بالأحاديث الصحفية، أو تبادل الرسائل، بل حتى لم يعد منتظما على الكتابة.

تقنيات سينمائية

ويبدو أن عمل فوكنر في كتابة النصوص السينمائية في هوليود قد ألقى بظلاله على أسلوبه الأدبي، فأهم ما يُميّز رواية "الصخب والعنف" هو توظيفها لتقنيات سينمائية مثل: المونتاج الزمني حيث تؤدي عملية القطع إلى تأخير الحدث المُتوقع، وتزيد من حدة التوتر نظرًا لانقطاع الاستمرارية في الحدث، و"القفز بين اللقطات أو المشاهد" و"التوالي السريع للصور" حيث التلاعب بالوقت هو أهم ما يميز روايات تيار الوعي. وقد استفاد فوكنر من خلال ما أحيط به عالم الابتكار المادي والاختراعات والاكتشافات عند القرن الـ19، فضلاً عن انعكاس ذلك على عالم الأدب والفن من خلال ظهور موجة من الانتقالات الإبداعية وظهور أسماء كبيرة فى عالم الشعر والرواية، أو الفن والأدب بشكل عام.

والحقيقة أننا لا نجد في "الصخب والعنف" تقنية واحدة لرواية تيار الوعي، وإنما عدة تقنيات، كذلك لا نستطيع القول إن هذه الرواية تنتمي للأدب السيكولوجي فقط، بل تنتمي أيضا إلى علوم وفنون أخرى، فقد امتصت كل الأجناس الأخرى، فهي تنافس الشعر، عندما تمتلئ بالاستعارات، أو عندما تتلاعب بموسيقى الكلمات، وتستعير من المسرح المنولوج والحوار، كما تستعير من النقد الأدبي غاياته، عندما تقدم نظريتها في الأدب، بينما تفسح مكانًا للفلسفة، وتستعين بالموسيقى، بوساطة تركيب الفقرات والإيقاع ورنين الجملة.

ويمكن إدراك مغزى الكتابة لدى فوكنر، وفهم عالمه المنفرد، من خلال القراءة الواعية للعلاقة بين حياة الكاتب وما يكتبه، إذ قال ذات مرة "أنا لست كاتباً، بل أنا فلاح"، لأن مرجعيته الريفية أتاحت له أن يحشد هذا القدر الهائل من الأحداث والشخوص، داخل النص الروائي الواحد، ليقلب منظوره في عالم الجنوب، ويخرج في كل مرة برؤية جديدة، مثيرة للدهشة والتأمل في آن واحد.

ومن مقولات فوكنر الشائعة "إن مؤلفي الروايات بحاجة شديدة إلى 99% موهبة ومقدرة، و1% نظاماً عاماً، وإن على الروائي ألا يقتنع بما يكتب لأن ما حققه لا يمكن أن يكون الكمال بعينه، فمن ضرورات عمله أن يسعى جاداً إلى الارتقاء بما يحسبه نهاية قدره، ولا جدوى من محاولة التفوق على معاصريه أو سابقيه، لأنه لا وجه للمقارنة بينه وبينهم".

هدف للقراءة

قيل الكثير في غموض "الصخب والعنف" هذا العمل الروائي المبهر، وصعوبة فك ألغازه، ويبدو أن هذا النوع المُلغِز من الروايات قد شاع في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20، لكن مَكمن الصعوبة في هذه الرواية أنها لا تُقرأ فقط لأجل معرفة أحداثها وحبكتها، لأن أول من ترجم هذه الرواية إلى اللغة العربية كشف لنا أحداثها في ما كتبه في المقدمة، كما أن فوكنر نفسه كتب بعد 16 عامًا على نشرها ملحقًا أوضح فيه الأحداث للقارئ، بعد أن علم بأن نسخ طبعته الأولى ظلت في المخازن الأميركية، بعد ما أحجم عنها القرّاء، بينما لجأ بعض الناشرين عند قراءة مسودتها إلى تمزيقها.

وكعادة الروايات التجريبية فقد لاقت رفضًا واسعًا من قِبل الجمهور الذي لم يعتد على هذا الشكل الفني في الكتابة، وتعالت صرخات الاستهجان والسخرية من قبل النّقاد عند نشرها، بل وحتى بعد نشرها حين اتُهم فوكنر بالترويج للرذيلة. غير أنه عام 1945 نفدت مؤلفات فوكنر جميعها من الأسواق، وعام 1950 فاز بجائزة نوبل للآداب.

ولقد كانت مكانته الأدبية في أوروبا -وخاصة فرنسا- أرفع مما كانت عليه في أميركا لحساسية الظروف السياسية والاجتماعية والصراعات القائمة بتلك المرحلة.

وحين جاء السادس من يوليو/تموز 1962، رحل فوكنر عن عمر ناهز الـ65، بعد انتحار صديقه الروائي إرنست هيمنغواي بعام واحد، لتشيع الساحة الأدبية الأميركية جيلاً مخضرماً من الكتاب، ابتكر أنماط وألواناً وأشكالاً باهرة في الرواية الأميركية المعاصرة، وتجاوز آفاق المحلية والعصر الذي كتبوا من خلاله وفيه، لتتسابق الأجيال اللاحقة على قراءة أعمالهم التي لا تزال تحمل هذا القدر من الدهشة وإثارة التأمل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: هذه الروایة فی الروایة الکثیر من فی الوقت غیر أنه من خلال وهو ما فی هذه غیر أن ما کان

إقرأ أيضاً:

رواية شمهروش العاشق للروائية عرفات كردويش

أهدتني الروائية عرفات كردويش نسخة من روايتها الأخير هذه "شمهروش العاشق" قبل نيفٍ وشهرين-فيما أظن- كان ذلك وقت صدورها تمامًا، لكني كنت في شغلٍ عنها كل تلك الفترة ،وهي الرواية الثانية لها، بعد روايتها الأولى التي صدرت تحت اسم "رصاصة حيَّة" وفعلًا كانت رصاصة أولى حيِّة لها خرقت بها جُدُر الكتاب ووضعتها في داخل دنيا الرواية، فأصابت الهدف،وأنبأت عن ميلاد روائية جديدة، تعرف كيف تسخر إمكاناتها ، ويبدو جليَّاً أنَّها خطت خطوات واسعة بروايتها الثانية هذه، في مدارج عالم الرواية والقصص، وروايتها هذه تصنف بوضوح في الاتجاه الواقعي، وتعكس واقع الحياة التي نحياها، بإشكالاتها وتعقيداتها، وتحدث كلَّ يومٍ في صقع من أصقاع السودان، وفي مدنه وعواصمه، بفضل الجهل الذي ما زال مغروزًا في سويداء هذه الأمة.
وملخص روايتها أنَّ فتاةً يانعة في ذلك الصقع عشقت فتىً من فتيان حيِّها، وتواعدا على الزواج، لكن ظرف العمل بالجيش أبعد العشيق إلى جنوب كردفان، وأتى أحد أقرباء والدها المغتربين الميسورين فطلبها فوهبها أبوها إياه زوجةً دون شورتها؛ حيث لا تشاور البنات هناك في زواجهن، وفي ليلة دخلتها امتنعت عنه، وكشفت له عن تعلقها بآخر، فرمى عليها الطلاق وسافر إلى حيث أتى، لكنه كان نبيلا لم يعلن الطلاق توًا؛ لئلا تذهب بها الظنون كل مذهب، ومع ذلك بدأ الحديث يسرى بين النساء، وتبدل حالها، فحملتها أمها إلى شيخة زار، لكنها لم تجدِ معها، ثم إلى شيخ يدعى فضل المولى الأرباب، زعم الشيخ أن ملكًا من ملوك الجن يسمى شمهروش عشق فتاتهم، ثم قام الشيخ باغتصابها لمرات عديدة مستعينًا في ذلك بالمخدر، وزعم أنَّه أخرجه، ثم عادت إلى دارها، وبعد تسعة أشهر اشتدَّ عليها ألمٌ في بطنها فحُملت إلى الشيخ، فاكتشفت ممرضة تعمل كحوارية عند الشيخ أنَّها حامل، فأولدتها ، وزعم الشيخ لوالد سلمى أن الذي حمَّلها هو شمهروش، وأنَّ شكل المولود لا يُطاق النظر إليه، وأن شمهروش حمله معه. لم تتشافَ سلمى فاستدعى الشيخ دكتورصديق له، فحملها الدكتور إلى الخرطوم وأسعفها وتعهدها حتى تعافت فدفع بها إلى طبيب آخر نفسي صديق لهما، فصار يضع لها المخدر ويعاشرها لمدةحتى ظهر عشيقها الأول وعرف القصة فحضر إلى المستوصف الخاص الذي ترقد فيه وحملها إلى السلاح الطبي وهناك فاجأهم الطبيب بالحقيقة، لكن الشيخ دبر مكيدة لعشيق سلمى أودعته السجن عدة سنين، تشافت عشيقته وواصلت تعليمها وتخرجت من الجامعة.
في السجن التقى العشيق صلاح بالمدعو طارق عبد العزيز(شختة)، وعرف منه الكثير عمَّا يجري في الملجأ، واستطاعوا التعرف على ابن الشيخ الأرباب من سلمى، فلما خرج من السجن حرك إجراءات إدارية أدت إلى القبض على الدكتور، أما الشيخ فوجد مقتولًا مقطوع العضو بيد أحد الصبيان.
هذه هي الحكاية في تسلسلها الطبيعي الذي يسمى المتن الحكائي وقد فرق الناقد الشكلاني الروسي توماتشفسكي بين المتن الحكائي الذي سردناه ملخصًا، والمبنى الحكائي، قال إن المتن الحكائي هو مجموعة الأحداث المتصلة فيما بينها حسب النظام الطبيعي... أي حسب النظام الزمني والسببي، حيث التتابع المنطقي للأحداث في الواقع الافتراضي، بمعنى آخر الحدث الأول تسبب في ظهور الحدث الثاني والحدث الثاني تسبب في الثالث وهكذا ،إذن التسلسل المنطقي للأحداث كما هي في الواقع نسميه المتن الحكائي في مقابل المبنى الحكائي، المبنى الحكائي يتكون من نفس الأحداث لكن بترتيب خاص للكاتب، يعني أن الأحداث المرتبة ترتيبًا منطقيًا متسلسلًا في المتن الحكائي، يقوم الكاتب بأخذها ثم يرتبها بشكل خاص وهذا الشكل ليس له علاقة بالتسلسل المنطقي لها في الواقع، فالكاتب يقدم ويؤخر، يحذف ويضيف، ويمكن للكاتب أن يبدأ من نهاية الأحداث ثم يرجع للبداية، ويمكن أن يبدأ من الوسط، هنا المتن الحكائي يختلف عن المبنى الحكائي، إذ تبدأ الرواية من المنتصف، والشيخ يلهب ظهر الفتاة بسوطه، هذا هو المبنى الحكائي للرواية.وكان قمة الروعة حيث تلاعبت فيه الكاتبة بعنصر الزمن والأحداث تقديمًا وتأخيرًا، وشدَّني استخدامها لتقنية الفلاش باك، فقد بدأت روايتها والبطلة سلمى عند الشيخ الأرباب يعالج فيها، وبعد فصول عرفنا بداية قصة حبها لعشيقها، ثم زواجها من آخر.
ويمكن تصنيف ذلك أيضًا، وفق النظرية السردية البنيوية التي قسمت حبكة النص السردي لثلاثة أنواع: حبكة تقليدية أو مثالية: وهي الحبكة التي لها بداية ووسط ونهاية، حبكة عكسية ويمكن أن نسميها السرد الانعكاسي، أو السرد الاسترجاعي : يعني أن النص السردي يبدأ من نهاية الأحداث، ثم بواسطة الفلاش باك يعود إلى البداية، النوع الثالث من الحبكة تسمى انطلاق من وسط المتن، فتبدأ من منتصف الأحداث، من الذروة، ثم يتحرك الكاتب كما يحب، وهذا هو النوع الذي استخدمته الكاتبة وهو يحتاج إلى براعة، وفقت فيه الكاتبة أيَّما توفيق.
وقد بدأت روايتها بمشهد لشيخ الأرباب يرقى إحدى الفتيات اليافعات ، وهي سلمى بطلة الرواية، وقد أرعبت عبارتها القارئ، إذ حملته لداخل الغرفة التي تجري فيها الرقية، وأول ما يلحظه القارئ تأثير المكان على الشخصيات والأحداث، فالقرية التي جرت فيها أحداث القصة، قرية نائية من قرى السودان، يضعف فيها التعليم وتنتشر فيها الخرافة والجهل والدجل والشعوذة، ومثل هذه القصة تحدث حتى في العاصمة ذاتها لكن بنسبٍ أقل كثيرًا وبتفاصيل غير هذه التفاصيل بسبب التعليم،. والمشهد الذي افتتحت به مشاهد القصة، هو صورة متكررة في جميع نواحي السودان، وفي هذا الزمان، الزمان بقسميه زمان كتابة النص، وزمان حدوث الرواية، وكلاهما متحد إذ أنه لا يختلف هنا فذات الممارسات تحدث الآن، في ذات زمن كتابة الرواية. شيخ يأتي بسماعات، يخرج منها القرآن، ويبدأ في ضرب الضحية واستجوابه، ويدَّعي الصلاح والولاية، وهو أبعد الناس عن ذلك، كما كشفت الرواية عن زندقته وفسقه، وشهدنا كثيرًا من الفواجع في مجتمعنا حدثت من هؤلاء المدعين، جراء طريقتهم هذه.
وقد صورت المكان خير تصوير "أصوات العصافير تملأ الفضاء الرحب في غدوها ورواحها... الخضرة منتشرة في كل مكان حتى الطرقات... وروائح أشجار الليمون مختلطة بأبخرة جذور الأوراق اليابسة...وروث البهائم يملأ صدرك، ويسد أنفك، فهي خليط عجيب، وهو ما يميز قرية ود السائر... وصيفها حار ، وشتاؤها قارص، رغم ذلك تجده مناسبة جيدة ليجتمع الصغار والكبار على نار التدفئة حيث يحلو السمر وتحكي فيه الجدات القصص والحكايات، ويرسلن عبرها المواعظ والحكم المليحة" لقد أبدعت في وصف المكان حتى جعلتنا نشمه ونشاهده ونسمعه، أي حملتنا داخله.
رسمت الكاتبة صورة ناطقة لبعض شخصياتها الرئيسة خاصة شيخ فضل المولى الأرباب، وهذا ملمح مهم، في تصوير طبيعته الجسمانية والنفسية، ولعل مظهره الأنثوي الذي ورثه عن أمه- كما أوضحت الكاتبة- انعكس في تكوينه النفسي الغارق في حب الجنس والنساء، ينتقم لشكله، ويثأر، أو يتخذ من أفعاله التي تحاكي الفحولة سلوكًا تعويضيًا لشكله الأنثوي، هذه من الأشياء التي تلقي بها الكاتبة لمحًا أو رمزًا، ويحللها ويستنبطها المتلقي، فالكاتب لا يضع كلَّ شيءٍ أمامك جاهزًا، إنَّما عليك أن تجتهد وتستخرج مرادات للكاتب دسَّها في تجاويف عباراته وأحداثه. لكن إن جرى وصف شيخ فضل المولى الأرباب على لسان أحد شخصياتها، أو جعلتنا نستنتج بعضه من الأحداث لكان أفضل.
كان الإيقاع سريعًا مواكبا لسرعة الأحداث، مشوِّقًا، إلا ما أوقفه وصفٌ، أو بطَّأه حوار، وكان منسابًا منضبطًا، فلم تكن فيه افتعالات ظاهرة إنماحدث يتلوه حدث نتيجة له، وهكذا. فلا يشعر القارئ أنَّ الكاتبة قد أقحمت حدثًا إقحامًا، بل تتداعى الأحداث تداعيًا منطقيَّاً.
انظر لحركة الحدث في هذا المشهد وروعته لوالد سلمى: "تململ في جلسته، هم بالوقوف، تحرك في سرعة، ثم أبطأ كمن يفكر في اتخاذ قرار" تجده حدثا نابضا بقدرة تصويرية عالية، تكفيك عن المشاهدة، وسرعة تناسب معنى الحدث.
النص السردي يواجه مشكلة كبيرة في تلقيه، هي حالة الملل والرتابة التي يمكن أن تصيب المتلقي عند قراءة النص السردي، يواجه الكاتب هذه المشكلة بتوظيف بعض الحيل والتقنيات. ومن أسباب ذلك أحادية الصوت: فالمتلقي أو القارئ يسمع صوتًا واحدا وهو صوت السارد، وسبب آخر وهو غياب عنصر التشويق والإثارة والغموض، وكذلك فتحس أن هناك مناطق في النص السردي طويلة، هذه بعض الأسباب لكن هناك أسباب كثيرة يمكن أن تصرف القارئ عن متابعة النص السردي
وقد لجأت الكاتب إلى بعض تقنيات السرد لطرد الملل والرتابة وأهملت بعضهاومما استخدمته ما يعرف بالخلاصة " الخلاصة تعتمد على سرد أحداث من المفترض أنها جرت في سنوات أو أشهر أو أيام، باختزالها في أسطر أو كلمات قليلة" من دون أن نتعرض إلى التفاصيل التي قد تسبب الملل والرتابة نحو قولها " مضت تسعة أشهر من حادثة مرض سلمى) ص 60 وقولها " مضت ثلاثة أعوام"
ومن ذلك استخدمت الحوار لقطع الصوت الأحادي كحوار الشيخ مع حواره يوسف بعد سرد طويل أتى قوله: "عليَّ الطلاق ما شفت انتاية زي دي مرة. .." ويستمر الحوار طويلًا، والحوار يمثل الزمن الحالي.
كانت لغة الحوار بالعامية، وهذا هو المذهب المختار عند أكثر نقاد الرواية، ليحاكي الواقع ، وأفلحت أن جعلت اللغة تناسب شخصياتها حتى في اللهجات والإمالات الخاصة ببعض المناطق فقد حاكتها ببراعة نحو"ماك طالبني حليفة"،"أياهو الجنا الكتل أبوهو... الخرابا"، لكن في بعض الأحايين كانت لا تلتزم ذلك فتنحو للفصحى.
الرمز: ومن استخدامها للرمز الذي تودعه النص ليتحقق في المستقبل قولها "أخذ القلق والتوتر يجوسان داخل قلب أم سلمى حاجة نفيسة، فصاحت فجأة كمن لدغته عقرب بزوجها أبو سلمى، دحين الجلسة دي ما تأخرت، البنية لا حس لا خبر، يا ربي الحاصل شنو عليها، كدي قوم يا راجل أسأل الشيخ عن خبرها" فكان هذا القلق رمزًا لمآل الأشياء التي حدثت لاحقا كأنها رأت المستقبل في هذه اللحظة.
الفكرة التي تناولتها الرواية جيدة ومعاشة، قد تكون مكررة لكن العبرة في طريقة التناول، وقد أدت وظيفتها ، وكانت واضحة غير مشوشة، واستطاعت الكاتبة ايصالها للقارئ بوضوح
ملاحظات: في بعض أجزاء الرواية لم تكن الحبكة محكمة، فمثلا بعد أن قضى الشيخ وطره من سلمى أتى حواره شيخ يوسف مبشرًا بانتهاء الجلسة، وقائلًا" إنَّ ابنتهما نائمة الآن بفضل التلاوة العطرة، وعليهم عدم إيقاظها، وعليهم الانصراف والعودة غدًا، وسلمى ستظل في غرفة حريم الشيخ" فهذا الكلام غير مقتع، فلا يعقل أن تترك أم بنتها في منزل غريب ولو كان شيخًا، على الأقل ستبيت بجنبها ولن تتزحزح عنها، خاصة وأنَّ في البيت نساء أخريات يمكن أن تبيت معهنَّ، لكنها انصرفت عنها. ومن ذلك أيضا كيف لسلمى ألا تحس بعد أن ذهبت مع أمها، بعد أن قضى الشيخ منها الوطر، كيف لا تحس بأن الشيخ قد وطأها. ثم كيف لا تحسُّ أن حملًا في بطنها، قال الراوي: "مضت تسعة أشهر منذ أن جاء مرض سلمى" ودخولها لمسيد شيخ الأرباب وخروجها منه لم تحك حتى أعراض الحمل في هذه التسعة أشهر، إنها كفيلة بولادتها لا بظهور الأعراض ص (60) فللحمل حتى نهاياته بالمخاض وآلامه علامات لا تخفى على أحد، أبرزها انتفاخ البطن، لكن الكاتبة جعلت قصة آلام المخاض التي فاجأت سلمى غير معروفة لسلمى، بل لم تعرف سلمى ولا أمها أن هناك حملًا، ولا الشيخ ولا الحوار أن هذا مخاض حمل، فقد قطع الشيخ علاج إحدى البنات، ونهض وفي لحظات كانوا "أمام الوضع الغريب الذي لم يعرفوا تفسيره" كما زعمت الكاتبة، ثم أحضروا ممرضة لإسكات الألم ...هكذا... أيعقل هذا الممرضة هي فقط الذي عرف ماهيَّة هذا الألم أنَّه مخاض، وربما يخرج الجنين في أي لحظة، ، هذا غير مقنع للقراء... وقبل أن تنتهي دهشتنا تفاجئنا الكاتبة بأن هناك غرفة طبية مجهزة بشكل كامل للولادة، أمسيد هذا أم مستوصف؟، وتدخل فيها سلمى للوضوع، ثم تندهش سلمى حينما تقول لها الممرضة زينب -التي كانت قبل قليل كانت حوارية ومدلكة في خضم الرواية- حين تقول لها إنها ستنجب طفلًا، فتندهش سلمى!!! أوما أحست سلمى طوال تلك الشهور الماضية أن هناك كائنًا في بطنها، وكون أن المولود يشبه الشيخ منذ اليوم الأول لميلاده أمرٌ بعيد فالشبه يظهر لاحقًا. ومازالت حسلمى نفساء لم يبرأ جرحها تحدثنا الكاتبة بوقوع دكتور بابكر عليها،أينزو على جرح، فكرة غير مُتَقبلة.
من الملاحظات المهمة أن طارق عبد العزيز بدأ سرد قصته من ص150 حتى ص 170 دون توقف، مما خلق جوا من الرتابة، ولم تستخدم تقنيات السرد هنا لقطع أحادية الصوت والشعور بالرتابة
كَثُر وقوع الجنس في الرواية، فالجنس في الخلوة بين الشيخ ومرضاه، وجنس جماعي في ليالي الشيخ الشهرية أول كل شهر عربي، مختلطا بالخمر والحشيش والغلمان، وفي مستوصف دكتور بابكر، وفي دار المايقوما بين طارق عبد العزيو وأستاذة عفاف، ومحاولة اغتصاب الصبي، وفي مقتل الشيخ وقطع عضوه..، قد يدعو إلى التساؤل، لكنها ما كانت تصفه لتثير الشهوات به، بل تذكره ذكرًا، مما ينفي عنها تهمة الإثارة الرخيصة.
رغم قناعة الكاتبة بدجل شيخ الأرباب إلا أنها أثبتت له كرامات، مثل أنه قرأ لدكتور حاتم في يده فنجح في الامتحان بامتياز بعد أن سقط في ذلك الامتحان ثلاث مرات من قبل وغير ذلك، هي مختارة في شأنه، لكن -عندي- لتخدم هذه الرواية قضية كان على الكاتبة تجريده من أي كرامة يستدرج بها الآخرين.
نلاحظ انحيازها لقضايا المرأة فهي نصيرة بنات جنسها، وتميل ميلًا دائمًا إلى جانبهن في المواقف، وكذلك نرى اقتدارًا ظاهرًا لها حينما تتحدث عن شيء يتعلق بالمرأة وهذا طبيعي.
سيميائية الأسماء: لم تكن كل أسماء أبطالها وضعت اعتباطًا، فنجد أن اختيارها لاسم بطلتها سلمى إنما يرمز إلى سلامة قلبها، وإلى سلامة مآلها وهو ما حدث. وتسميتها عشيق سلمى صلاحًا، فكان صلاحًا لها من بعد فجيعة وانكسار.
توجد الكثير من الأخطاء النحوية والإملائية، وإن كانت اجتهدت لتجاوزها لكان أحسن، فمثل هذه الأخطاء تقلل من قيمة العمل هذا العمل الكبير، خاصة إذا كانت واضحة، والغريب أنَّ النص قد مرَّ على ثلاثة مصححين كما زعمت الكاتبة، فإن كان مر عليه مصحح واحد حاسبته على ما ترك من خطأ لكان أفضل، ولا أجد تفسيرًا لوجود أخطاء إلا أن أحدهم كان يصحح والآخر يمحو ما أثبته الأول وهكذا، وإلا كيف نبرر مرور ثلاثة مصححين على الكتاب وما تزال أخطاؤه بارزة.
أخيرًا عليَّ أن أقول إنَّ الرواية ماتعة للغاية ومحبوكة بشكل جيد، وتخدم قضية مهمة وأنها قد سجلت بها نجاحًا كبيرًا، وأنَّ ما بها من ملاحظات لا يقصِّر بها بل إظهارها ضرورة لتجنبها في قادم الروايات، وبذا تظل نبوءتي ببروز هذه الروائية تثبت رواية إثر رواية.

gasim1969@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • قفزة نوعية لقطاع التجارة..القصبي: نظاما السجل والأسماء التجارية يسهمان في تيسير الأعمال
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • أزمة ممتدة: جنوب السودان بين صراعات السلطة والعنف العرقي
  • مقتل المسعفين في غزة.. مشاهد تناقض الرواية الإسرائيلية
  • تأجيل محاكمة متهمي الهيكل الإداري للإخوان
  • نشر فيديو يكذب الرواية الأسرائيلية ويظهر تعرض عمال إغاثة لإطلاق نار في غزة
  • مقتل عمال الإغاثة.. فيديو يكشف تناقضا في الرواية الإسرائيلية
  • شاهد .. نيويورك تايمز تنشر فيديو يدحض رواية الاحتلال حول مجزرة المسعفين في رفح
  • رواية شمهروش العاشق للروائية عرفات كردويش
  • “نيويورك تايمز” تنشر فيديو لاستشهاد عمال الإغاثة في غزة مارس الماضي وتدحض الرواية الإسرائيلية