لأنّ الإيديولوجيا قناعٌ أو تقنيع، وفعْـلٌ دارِجٌ على إتيان الحِـيَـل والمخادعات، فهي لا تُـفصـِح عن نفسها - دائـمــًا - إفصاحــًا إيديـولوجيّـــًا صـرفـــًا ومبـاشـرًا، أي من حيث هي إيديولوجيا، وإنّما تتـلبّس صُـورًا وأشكالًا أخرى تخفي فيها إيـديولوجيَّـتَـها و، بالتّالي، تُحقِّـق بواسطتها عمليّـةَ طمسِ حقيقتها كـوعْيٍ زائـفٍ أو غير مطابِـقٍ للموضوع الذي تتناوله.
العلمـويّة، بالتّعريف، نزعـةٌ إيـديولوجيّة فاقعة يأتيها في التّفكير مَن ليسوا علماء، ولكنّهم يذهبـون بتعظيم العلم إلى حدود التّـقـديس مجاوِزين العلماءَ أنفسَهم في درجة الإيمان به. إنّها اللّحظـةُ التي يجري فيها تحويـلُ العلم إلى إيـديولوجيا؛ إلى معـتَـقَـد Dogme يُـشاكِـل سائر المعـتَـقَدات التي ينـتحلها النّاسُ لأنفسهم. ترفع العلمويّـةُ العِـلْم إلى سلطانٍ معرفيّ مطلق لا تَـحُدُّ فاعليَّـتَـه حدود، ولا تُـفْـرَض على نجاعـته قـيود، الأمر الذي يتكرّس معه الاعتقاد الخاطئ بأنّ العلم مفـتَاحٌ لـكلِّ إعضـالٍ مُغْـلَـق وقـوّةٌ قادرةٌ على تفسير كـلّ ما أشْـكـل أمْـرُهُ وأَبْـهَم من ظواهـر الطّـبيـعة والوجـود الإنسانيّ. وليس هذا التّـقديـرُ للعِـلْم مـنَ العِـلْـم مَنْـشَـؤُهُ، بل هو برّانـيٌّ عن العلم والعلماء، محمولٌ من خارجٍ إلى بيئاتٍ لا تقول به. إنّـه، بكلمة، فعْـلٌ إيـديولوجيّ صرْف ينهض به وعـيٌ متـشبِّـع بفكرة الحقيقة وبوهـم القدرة على تحصيلها بمعرفـةٍ جديدة اعْـتيـض فيها عن الفلسفة بالعـلم.
العلمويّـةُ دخيلةٌ على العلم؛ ليست منه ولا من أفكار العلماء وأوهامهم، وإنّما هي ممّا قالت بـه تيّاراتٌ فلسفيّة حديثة فانتحلتْها لنفسها عقيـدةً فكـريّـةً جديدة، في الوقت عينِـه الذي كانت فيه تلك التّيّـاراتُ شارعةً في فـكّ ارتباطـها بالفلسفة، جانحةً للصيرورة ميادينَ معرفيّـةً جديدة مشيَّـدَةً على القواعـد عيـنِـها التي تقوم عليها علوم الطّبيعـة! هكذا كانت الدّاروينيّـة الاجتماعيّـة مع هربرت سپنسر و، قبلها، هكذا كانت الوضعانيّـة مع أوغست كونت فلسفـتـيْـن تُركِّـبان بطّاريةَ العِـلْمِ في جهازهما المـعـرفـيّ فتـنصرفان إلى محاكاته (أي العِـلـم) وتقـليـدِهِ نحوًا من التّـقـليد الرّثّ. لم تـكن عـلمـويّـةُ هاتـيـن الفلسفـتـيْـن مجرّدَ طريقةٍ للتّـنكّـر لماضيهما الفلسفـيّ، وإبـداء استعلاءٍ معرفيّ على طرائق الفلسفة في تناوُلها موضوعاتها (وهو ما عبّر عنه تحقـيب أوغست كونت لمراحل التّـفكير الإنسانيّ واعتباره مرحلةَ التّـفكـير الميتافيزيقـيّ دون المرحلة الوضعيّة قيمةً)، وإنّما هي انطوت على وهْـمٍ بإمكان تأسيس عـلومٍ للمجتمع والإنسان تُـطبَّـق فيها مناهـجُ علوم الطّبيعة، ويَـتوصّـل فيها البحثُ إلى النّـتائـج العلميّـة ذاتِـها المتـحقّـقةِ في العلـوم من حيث دقَّـتُها وموضوعيّـتُها ومطابقـتُـها لموضوعات الدّرس... إلخ!
من المعلوم لدى الدّارسين أنّ هـذه الدّعـوة الوضعانيّـة إلى إقامة علوم الاجتماع والإنسان على مثال علوم الطّبيعة واستنساخ نموذجها المنهجـيّ تصطدم بامتناعٍ موضوعيّ يَحْمـل عليه ما بين موضوعات هـذه العلوم (الطّـبيعيّـة والاجتماعيّـة) من بَـوْنٍ ومن اختـلافٍ وتَـمـايُـز. إذا كانت موضوعات العلوم التّجريبيّـة (بيولوجيا، جيولوجيا، فيـزياء، كيميـاء...) تَـقْـبَـل الخضوع للملاحظة العلميّة والاختبار التّجريبيّ، واشتـقاقَ قوانينها الحاكمة...، فلأنّها صمّاء: وليست تلك حالُ ظواهر الاجتماع الإنسانيّ التي هي واعـية، في المعظم منها، وليس فيها -بالتّالي- ما يجعل لقانون الحتميّـة مكانٌ في نظامها. وإلى ذلك، يختلف موقع الدّارس في هـذه العلوم وفي تلك تبعــًا لاختلاف طبيعة موضوعاتها؛ تَـفرض موضوعيّـةُ الظّاهرة الطّـبيعيّـة على دارسها حيادًا تـلقائيّـــًا تجاهها، لاستقلالها عنه، أمّا دارس الظّاهرة الاجتماعيّـة والإنسانيّة فليس محايدًا، أَلْـبَتَّـةَ؛ لأنّ موضوعَـه منه وليس مستـقلاًّ عنه. لذلك ينعدم إمكانُ قيام معرفةٍ موضوعيّة بظواهر المجتمع والإنسان نظيرَ تلك التي نُـلْـفيها في علوم الطّبـيعة، مثلما يمتنع -إلى الحـدّ الأبعـد- التّعبيرُ بلغة الكـمِّ الرّياضيّـة عن تلك الظّواهر الواعية التي تـتعصّى على التّـكـميم أو الصّـيـاغـة الرّيّـاضـيّـة.
ما من أفـقٍ، إذن، أمام العِـلمـويّة وأمام أوهام دعوتها إلى تصيير العِلم دينــًا جديدًا - أو مـا يـشـبـه ذلك - تَـحْـكُم شريعـتُه ظواهـرَ الوجود جميعــًا؛ إذْ ليس كـلُّ شـيءٍ قابـلًا للدّرس العلميّ، خصوصــًا حينما يكون هذا «الشّـيء» كائنــًا مـدرِكــًا ذا إرادة (الإنسان) لا تنصاع أفعالُه الواعية/الإراديّـة للقياس العلميّ: التّجريبـيّ والرّياضيّ. وما من شيءٍ تقترحـه العلمـويّـةُ علينا سوى إسقاط أبعادٍ أخرى في التّـفكـير والإبـداع الإنسانيّ مثل العـقل والخيال والتّـأمُّـل؛ وهي فعاليّات ذهنيّـة ونفسيّـة ظلّت ملازمـةً للنّشاط الإنسانيّ عبر التّاريخ، وإسقاطُها معناهُ إلغاءُ كـلِّ شيءٍ صَـنَع الحضارة الإنسانيّـة: الدّين والفنّ والأدب والفلسفة...إلخ! إنّه البـؤسُ الفكـريُّ بعينه هذا الذي تعبّـر عنه العلمويّـة وتَـدْفع من أجله. ومن عجبٍ أنّ هذه الإيـديولوجيا اللاّبسة لبوسَ العلم تنتعش في أزمنـةٍ يقيم فيها العِلـمُ نفسُـه الدّليلَ على محدوديّـة نتائجه ونسبـيّـتِـها، ومحدوديّـةِ ما يستطـيعـه حتّى في دائرة موضوعاتـه الخاصّـة به. وتلك مفارقـةٌ صارخة تكشف عن نقائـض هذه الإيـديولوجيا المتنكّـرة في هيـئـة عِـلـم!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الع ـل
إقرأ أيضاً:
هل يستطيع العلم المعاصر قياس الفقر؟
حظي موضوع الفقر أكثر من غيره من الموضوعات باهتمام متزايد خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وسنوات الألفية الثالثة، ويمكن الجزم بأنه مثل أبرز الملفات التي استعصى حلُها، على الرغم من الاهتمام المنتظم للدول والحكومات بالظاهرة، تفكيرا، وتخطيطا وممارسة. والواقع أن الفقر من الآفات التي طبعت تاريخ البشرية، وعبرت عن جوانب العتمة في العلاقات الاجتماعية، غير أنه، في المقابل، أصبح خلال الربع الأخير من القرن العشرين موضوعا قابلا للتحليل العلمي، كما دلت على ذلك وفرةُ الأدبيات التي أغنت مختلف مجالات الفكر الاجتماعي الحديث.
فهكذا، نميل إلى الظن بأن تزايد وعي الناس بخطورة الفقر وتداعياته، وإدراك قيمة العدالة الاجتماعية في تأكيد تلاحم المجتمعات، وحماية وحدتها الوطنية والسياسية، وتكاثر موجات الاحتجاج على اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، كلها عوامل أسهمت في تصدر موضوع الفقر دائرة الاهتمام الدولي والوطني. وقد كان طبيعيا تخصيص الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة مكانة بارزة لموضوع الفقر، وحثت أعضاءها على صوغ سياسات عمومية تروم التخفيف من أضرار التفاوت وعدم التكافؤ في أفق ردم الهوة بين مكونات المجتمع الواحد، وتكفي الإشارة إلى انتظامية إصدار تقارير التنمية البشرية منذ العام 1990 من قبل "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" (UNDP).
شهدت السنوات الثلاثون الأخيرة من القرن العشرين ومستهل الألفية الجديدة، فيضا من الأدبيات في أكثر الدول تقدما في العالم، ركزت في مجملها على "براديغم" (Paradugme) توزيع الدخل لتحليل مسببات الفقر وآليات تجاوزه، والحال أن هذه المنهجية ظلت مُغرية إلى وقت قريب، غير أن الممارسة بينت عدم صلاحيتها المطلقة في الكشف عن طبيعة الفقر، من حيث هو آفة اجتماعية مهددة للأمن والسلم والتلاحم الوطني
فمن اللافت للانتباه أن دولا صغيرة الحجم مثل فنلندا، والسويد، والنرويج، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، أو متوسطة نسبيا مثل ماليزيا وإندونيسيا، حققت قفزات نوعية في سلم التنمية وقهر الفقر، بالاعتماد على الإنسان وقدراته الخلّاقة، حيث استثمرت في صقل مهاراته بالتربية والتعليم والتكوين الجيد، ووفرت له شروط الارتقاء والعطاء والاجتهاد، وبثت في روحه قيمة العدالة الاجتماعية والإحساس بعدم التفاوت والتكافؤ بين بني جلدته. وبالموازاة، نرى بلدانا أكثر أهمية من حيث الموارد المادية والبشرية، ومع ذلك تحظى بمراتب متدنية أو متواضعة، استنادا إلى الدراسات المسحية التي شكلت أكثر من قطر عربي في مجالات ذات قيمة محورية بالنسبة للتنمية، كالمعرفة والحرية وتمكين المرأة، وهو ما أبانته وكشفته بجلاء تقارير التنمية الإنسانية العربية الصادرة ما بين 2002 و2005.
ففي سياق السعي إلى مقاربة ظاهرة الفقر علميا، وفهم مصادرها الموضوعية، شهدت السنوات الثلاثون الأخيرة من القرن العشرين ومستهل الألفية الجديدة، فيضا من الأدبيات في أكثر الدول تقدما في العالم، ركزت في مجملها على "براديغم" (Paradugme) توزيع الدخل لتحليل مسببات الفقر وآليات تجاوزه، والحال أن هذه المنهجية ظلت مُغرية إلى وقت قريب، غير أن الممارسة بينت عدم صلاحيتها المطلقة في الكشف عن طبيعة الفقر، من حيث هو آفة اجتماعية مهددة للأمن والسلم والتلاحم الوطني.. فهكذا، لعب تغير البيئة السياسية في دول وسط وشرق أوروبا بعد العام 1989، وتوسع الفضاء الأوروبي، دورا مفصليا في تطوير أسس مقاربة الفقر، حيث أصبح مفهوم الفقر محددا من منظور الإقصاء الاجتماعي (Exclusion sociale)، ويشمل أكثر معايير الفقر والتفاوتات التقليدية القائمة على الدخل لوحده.
توسيع دائرة النظر إلى الفقر، باعتباره نقيضا للرفاه، وتعداد المؤشرات ذات الصلة بكرامة الإنسان في قياس مراتب التنمية ودرجاتها، لذلك، ومنذ ظهور أعماله الرائدة ذات الصلة، تغيرت منظورات العالم لمفهوم التنمية وآفة الفقر، وأصبح الفقراء لا يحدَدون من منطلق ما يعانون من عوز مادي فحسب، بل مما يعيشون من شنك وعسر في قدرتهم على المشاركة في تدبير شؤونهم بقدر متكافئ وشفاف ومسؤول
تنهض المقاربة الجديدة لظاهرة الفقر على مصفوفة من المعايير والمؤشرات التي تصلح قاعدة للمعالجة والتحليل، وتساعد أكثر من ذلك، على جعل الفقر معطى موضوعيا قابلا للقياس. فوفق هذه المقاربة متعددة الأبعاد، لا يعني الفقر مجرد الافتقار إلى ما يكفي من المال، ولا يعني فيها التفاوت مجرد اختلاف في الدخل المادي. فعلى سبيل المثال، شهدت دول الاتحاد الأوروبي نقاشا مستفيضا حول "الإقصاء الاجتماعي"، قبل أن تهتدي إلى التوافق حول فحص الفقر من منظور الحرمان من عدد من البضائع أو الخدمات، لا من منظور نقص الدخل في حد ذاته، ما ساعد على صياغة مجموعة من المؤشرات، عوض الاقتصار على "براديغم" توزيع الدخل، وما تترتب عته من الإسقاطات والآثار. والأكثر من ذلك، فتحت المقاربة المتعددة فرصا نوعية لمراجعة المفاهيم الأصولية للفقر والتفاوت، وتم التشجيع عليها في أعمال "أمارتيا سن"، الحائز على جائزة نوبل، وفي صدارتها تلازم "التنمية والحرية"، وضرورة الربط بين التنمية والقدرة على المشاركة بمختلف أنواعها ومستوياتها، وهو ما أوضحه بقوله: "الاهتمام بالحريات الإيجابية يؤدي مباشرة إلى تثمين قدرات الأشخاص، وتثمين ما من شأنها تنمية هذه القدرات، وترتبط بفكرة القدرات ارتباطا وثيقا بأداء الشخص، وهذا يتناقض مع ملكية البضائع وصفات البضائع المملوكة، وما يتولد عنها من نفع..".
إن روح منهجية "أمارتيا سن" في تأصيل مفهوم التنمية تكمن في قدرتها على توسيع دائرة النظر إلى الفقر، باعتباره نقيضا للرفاه، وتعداد المؤشرات ذات الصلة بكرامة الإنسان في قياس مراتب التنمية ودرجاتها، لذلك، ومنذ ظهور أعماله الرائدة ذات الصلة، تغيرت منظورات العالم لمفهوم التنمية وآفة الفقر، وأصبح الفقراء لا يحدَدون من منطلق ما يعانون من عوز مادي فحسب، بل مما يعيشون من شنك وعسر في قدرتهم على المشاركة في تدبير شؤونهم بقدر متكافئ وشفاف ومسؤول، سواء في توزيع الثروة والاستفادة من الخيرات، أو في التداول على السلطة والتعاقب على ممارستها.