خرافة الأحداث غير المسبوقة
تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT
لقد عمِلتُ في مجال التنبؤ لأكثر من خمسين عاما. وخلال تلك الفترة، سمعتُ الفكرة الراسخة عن أن العالم يمر «بتغيرات غير مسبوقة». وكثيرا ما أدى هذا المجاز الشائع إلى نتائج طبيعية مبالغ فيها مُماثلة: ادعاءات مُستمرة بأننا لم نواجه قط مخاطر أكبر أو مثل هذا المستقبل غير المؤكد والغامض، وأن التنبؤ أصبح أصعب من أي وقت مضى.
أعترفُ أنني فشلتُ في التنبؤ بالمستقبل مرات عديدة؛ وذلك بسبب تطورات يُزعم أنها غير مسبوقة لدرجة أنني لم أتمكن من إحصائها. كانت سبعينيات القرن العشرين تُمثل عقدا من الاضطرابات غير العادية: فقد أعقب صدمة النفط في عام 1973 مباشرة «التضخم العظيم» وفترة من الركود التضخمي، مما مهد الطريق لأول مرحلة بدت غير مسبوقة من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
سمح الانكماش اللاحق في الثمانينيات بعودة الأحداث المُرعبة في السبعينيات إلى الظهور في التسعينيات، والتي انتهت مع الأزمة المالية الآسيوية، إيذانًا ببدء ما وُصف في البداية بأول أزمة تُواجهها العولمة.
لكننا اليوم ننظر إلى هذه الأحداث باعتبارها مجرد هزات أرضية تسبق الصدمات الزلزالية القادمة. فقد أشارت ثورة تكنولوجيا المعلومات وفقاعة الدوت كوم أو ما تُسمى بفقاعة الإنترنت في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تزايد فقاعات الأصول التي ضَربَت أسواق العقارات العالمية والعديد من الأصول المالية، بدءًا من الرهون العقارية عالية المخاطر إلى تدفقات الائتمان والأسهم الأوسع نطاقًا.
وعندما تلاشت المخاوف، كانت العدوى الناتجة العابرة للحدود والأصول سببًا في تأجيج الأزمة المالية العالمية في الفترة ما بين عامي 2008 و2009 -وهي اضطرابات غير عادية أخرى لما أصبح، في تلك المرحلة، عالمًا مُنهكا بالأزمات.
وفي الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن الظروف العالمية لا يمكن أن تزداد سوءًا، أدت الجائحة التي تحدث مرة واحدة كل قرن والأحداث المناخية المتطرفة الناجمة عن التغيرات المناخية إلى قلب التفكير التقليدي رأسا على عقب، كما فعلت الموجة المُتصاعدة للحمائية والحروب التجارية وحروب التكنولوجية واصطدام القوى العظمى المُحتمل بين الولايات المتحدة والصين.
أضف إلى ذلك اندلاع الحرب في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، فتُصبح الأحداث غير المسبوقة تُشكل القاعدة الجديدة. أصبحت الكتب التي تتحدث عن «الأزمة الدائمة» و«الأزمات المُتعددة» تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعًا.
يقول صوت ساخر بداخلي: «كنت هناك، فعلت ذلك». ولكن مجرد ممارستي لمهنتي كمتنبئ خلال نصف قرن من الاضطرابات لا يعني أن لدي فهما فريدا لما سيحدث مُستقبلا. مع الأخذ في الاعتبار ملاحظة مارك توين بأن التاريخ غالبًا ما يكون متناغمًا، أقدم ثلاثة دروس رئيسية من تجربتي في محاولة فهم ما قد يحدث في المستقبل غير المؤكد:
أولا، تعلّم أن تتوقع ما هو غير متوقع. إن الجنس البشري بطبيعته ارتدادي، ويتطلع دائمًا إلى الماضي القريب باعتباره أفضل مؤشر للمستقبل. ويميل صُنّاع السياسات بشكل خاص إلى اتباع هذا النهج قصير النظر والمتمثل في إصلاح العيوب في الأنظمة التي أدت إلى الأزمة الأخيرة ولكنهم لا يفكرون أبدًا فيما قد يؤدي إلى الأزمة التالية. على سبيل المثال، في أواخر التسعينيات، قامت الاقتصادات الآسيوية ببناء خزانات ضخمة من احتياطيات النقد الأجنبي -وهي الخطوة التي كانت لتساعد في منع الأزمة المالية الآسيوية التالية، ولكنها فشلت في وقف الأزمة التي حدثت بالفعل، والتي نشأت عن انفجار فقاعة الأسهم.
ثانيا، هناك سلسلة متصلة واضحة مما يُسمى بحقبة غير مسبوقة إلى أخرى. تميل إحدى الأزمات إلى توليد الأزمة التالية. وبقيادة العظيم بول فولكر، اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تدابير صارمة لوقف التضخم الكبير (كما فعلت البنوك المركزية الأخرى). ولكن على الرغم من الفوز في الحرب، أهدر صنّاع السياسات فرص تحقيق السلام، حيث خفّضوا أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية تحول دون الحفاظ على الاستقرار المالي.
وعلى نحو مماثل، مع توقف أسواق رأس المال العالمية أثناء الأزمة المالية الآسيوية، اكتشفت البنوك المركزية الحل الفعال المتمثل في سياسة أسعار الفائدة الرسمية القريبة من الصفر. وكان هذا بدوره سببا في تمهيد الطريق أمام وفرة من فقاعات الأصول في المستقبل -ليس فقط الأسهم بل وأيضا السندات والائتمان- والتي بلغت ذروتها في الأزمة المالية العالمية بعد عقد من الزمان.
ثالثا، أصبحت الأزمات والتطورات «الاستثنائية» الناتجة الآن هي القاعدة وليست الاستثناء. وفي العقود الأخيرة، كان حدوث كارثة واحدة كل ثلاث أو أربع سنوات هو المتوسط. فقد أعقب أزمة الديون في أمريكا اللاتينية في عام 1982 انهيار سوق الأوراق المالية في عام 1987، وأزمة الادخار والقروض في الولايات المتحدة في الفترة ما بين عامي 1986 و1995؛ وانهيار الاقتصاد في اليابان (1990)، والمكسيك (1995)، وآسيا (1997)؛ وشبه انهيار صندوق التحوط كأسلوب لإدارة رأس المال على المدى الطويل (1998)؛ وانهيار فقاعة الدوت كوم (2000)؛ وفضيحة شكة إنرون المُحاسبية (2001)؛ وكارثة الرهون العقارية عالية المخاطر (2007)؛ وأزمة الديون السيادية في منطقة اليورو (2010)، و«نوبة الغضب من التخفيض التدريجي» الناجمة عن الخوف من تطبيع السياسة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي (2013)؛ وانهيار سوق الأسهم الصينية (2015)، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين (2018)، وجائحة فيروس كورونا المُستجد (2020)، وتراجع العولمة (2023). وفي ظل هذه الخلفية، يواجه المتنبئون المهمة المستحيلة على ما يبدو المُتمثلة في التنبؤ بالمستقبل.
وبطبيعة الحال، يواجه صنّاع السياسات العامة تحديا هائلا بنفس القدر: ففي حين أن أزمة أخرى قادمة، ربما عاجلا وليس آجلا، يتعين عليهم العمل على التوفيق بين السياسات المتطلعة إلى المستقبل والمخاطر المتمثلة في مستقبل غير مؤكد إلى حد كبير. ولكن هذا لا يُبرر تقديم أعذار تخدم مصالح ذاتية لارتكاب أخطاء سياسية، أو تصوير سوء تسعير أسواق الأصول والاضطرابات الاقتصادية باعتبارها حوادث لا يمكن تجنبها ناجمة عما يسمى بالظروف غير المسبوقة.
لقد نفد صبري تجاه صنّاع السياسات، وصنّاع القرار في الشركات، والمستثمرين الذين يرفعون أيديهم بشكل جماعي ويقولون: «لا تلوموني». إنها عملية انسحاب بشكل واضح. إن الأزمات مُستمرة، ومهمتنا لا تكمن في التنبؤ بالصدمة التالية -على الرغم من أن شخصًا ما يفعل ذلك دائمًا- ولكن في زيادة تركيزنا على القدرة على الصمود.
إن الحفاظ على مسار السياسات المُقررة بموجب ولايات سياسية مع الحد من الاضطرابات الحتمية هو أمر يسهل قوله أكثر من فعله. ولكن هذا ليس مبررا للوقوع ضحية أسطورة الأحداث غير المسبوقة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأزمة المالیة غیر المسبوقة غیر مسبوقة
إقرأ أيضاً:
تطورات الأحداث والطريق لوقف الحرب والديمقراطية
بقلم: تاج السر عثمان
١
اشرنا سابقا بعد دخول الحرب اللعينة شهرها ال ٢٢ الي اهمية وقف الحرب واسترداد الثورة، وتوصيل المساعدات الإنسانية. فقد أكدت تطورات الأحداث إنها حرب لتصفية الثورة، وبدعم من المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب مثل: الإمارات، مصر، روسيا، إيران، تركيا. الخ، و امتدادا لحرب روسيا - أوكرانيا، وغزة لنهب ثروات الشعوب، وتفكيك الجيوش الوطنية للدول العربية ونهب ثرواتها وجعلها تابعة مرتهنة للخارج في نظام النيوليبرالية الجديد، وتفكيكها إلى دويلات على أسس دينية واثنية، لا حول لها ولا قوة ليسهل إخضاعها، في إطار الصراع الدولي لنهب الموارد ، ومحاصرة الصين. الخ، فضلا عن الهدف لنهب ثروات البلاد وإيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر.
كما أكدت تطورات الأحداث صعوبة الحل العسكري ولا بديل غير التفاوض لوقف الحرب، وكشفت المصالح الطبقية لطرفي الحرب للوصول للسلطة ونهب ثروات البلاد، كما هو في الفساد الذي يزكم الانوف في حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، واستمرار تهريب الذهب وبقية موارد البلاد، وفرض الضرايب والرسوم الباهظة لتهريب الحرب، وتدهور الأوضاع المعيشية والصحية حتى أصبحت المجاعة تهدد أكثر من ٢٥ مليون سوداني حسب بيانات الأمم المتحدة، فهي بحق حرب بهدف السلطة والثروة وتصفية الثورة.
كما تستمر الضغوط الخارجية على الطرفين لوقف الحرب والتسوية السياسية وتوصيل المساعدات الإنسانية، مع فشل كل المبادرات والمنابر السابقة، علما بأن الحل العسكري الذي يطرحه الإسلاميون بعيد المنال، وهدفهم من الحرب العودة للسلطة بعد أن انكشفت كل أكاذيبهم حول "حرب الكرامة" ، الدعم السريع من صناعتهم، ولا يوجد تناقض اساسي بين قيادتي الطرفين المتحاربين، الذين تورطوا في جرائم الحرب، كما في الإبادة الجماعية والتهجير القسري، والعنف الجنسي، والتطهير العرقي، وتدمير البنيات التحتية ومرافق الدولة الحيوية والمصانع والأسواق والبنوك ومواقع الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي، اضافة لحملة الاعتقالات والتعذيب والاغتيالات للمعارضين السياسيين ولجان المقاومة والناشطين في لجان الخدمات، و المحاكمات والمذابح الجارية من الإسلامويين كم حدث في مدني، بهدف تصفية الحسابات السياسية مع الثوار، وسخرية كتاب البراء ابن مالك من الثورة والثوار ورموزها في الجداريات والشهداء ، الذي وجد استنكارا واسعا من جماهير شعبنا، مما أكد ان جذوة الثورة مازالت متقدة.
تتزايد الضغوط الدولية لوقف الحرب والإبادة الجماعية والمآسي الانسانية، كما برز من دعوة المحكمة الجنائية الدولية لتسليم مجرمي الحرب، والمطالبة بالتحقيق في جرائم الابادة الجماعية في الجنينة، اضافة للعقوبات الأمريكية على قيادة طرفي الحرب، و باعتبار أن الطرفين ارتكبا جرائم حرب. مما يتطلب لضمان الاستقرار في السودان خروج الدعم السريع والجيش من السياسة والاقتصاد، وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي .
٢
الطريق لوقف الحرب لايمكن بعد التجربة المريرة السابقة ان يمر عبر تكرار التسوية والشراكة مع العسكر والدعم السريع مرة أخرى، التي تعيد إنتاج الأزمة والحرب مرة أخرى، والإفلات من العقاب، كما حدث في فشل تجربة الوثيقة الدستورية التى انتهت بانقلاب ٢٥ أكتوبر 2021، وتجربة الاتفاق الإطاري التي أدت للحرب اللعينة الجارية حاليا. فهي حرب كما أوضحنا سابقا لتصفية الثورة، وبالوكالة بين المحاور الاقليمية والدولية الهادفة لنهب ثروات البلاد. إضافة لخطر تحولها لحرب أهلية وعرقية واثنية تهدد وحدة الوطن، فضلا عن خطر انتقالها للبلدان المجاورة.
لقد أدت الحرب لتصدعات في طرفي الحرب وانهكت الطرفين، وأدت لتصدعات في تحالف " تقدم"، بعد نشوب الخلاف حول حكومة الدعم السريع الموازية التي تهدد وحدة البلاد.
تعزز تطورات الأحداث ضرورة الخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية التي دخلت فيها البلاد منذ الاستقلال، وأخذت أكثر من ٥٨ عاما من عمر الاستقلال البالغ أكثر من٦٩ عاما ، والسير قدما في ترسيخ الحكم المدني الديمقراطي والسلام، والتداول الديمقراطي للسلطة، والحل الداخلي بديلا للحلول الخارجية التي أكدت فشلها كما اوضحنا سابقا.
٣
أكدت تطورات الأحداث ضرورة تعزيز وتقوية التحالف الجماهيري القاعدي لوقف الحرب واسترداد الثورة، الذي يستند إلى مواثيقنا وتجاربنا السابقة وإضافة المستجدات لها، والإصرار على تنفيذ الميثاق ومهام الفترة الانتقالية، ويسير قدما بعد إسقاط حكومة الأمر الواقع الانقلابية نحو اقامة البديل المدني الديمقراطي الهادف لترسيخ الديمقراطية ودولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة أو الفكر السياسي والفلسفي ، ومواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها مثل:
وقف الحرب واسترداد الثورة، والتمسك بوحدة البلاد وسيادتها الوطنية، والوقوف سدا منيعا ضد الحكومة الموازية التي تهدد وحدة البلاد.
– توصيل المساعدات الإنسانية، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي تدهورت ، وصرف مرتبات العاملين، وتركيز الأسعار مع زيادة الأجور التي تآكلت، ودعم الإنتاج الزراعي والسلع الأساسية، وزيادة ميزانية التعليم والصحة وتوفير الدواء وإعادة تأهيل المستشفيات والمؤسسات التعليمية ، واعمار ما دمرته الحرب .
– خروج الدعم السريع والجيش من السياسة والاقتصاد، والترتيبات الأمنية لحل المليشيات (دعم سريع ومليشيات الكيزان وجيوش الحركات، وكل المليشيات التي تكاثرت ) وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية .
– المحاسبة وعدم الافلات من العقاب، بتقديم مجرمي الحرب والجرائم ضد الانسانية للمحاكمة.
- إلغاء كل القوانين المقيدة للحريات.وإجازة قانون ديمقراطي للنقابات يؤكد ديمقراطية و استقلالية العمل النقابي، وإصلاح النظام القانوني والعدلي والأمني، وتكريس حكم القانون، وإعادة هيكلة الشرطة وجهاز الأمن ليصبح لجمع المعلومات ، وتحقيق قومية ومهنية الخدمة المدنية والقوات النظامية ، وعودة المفصولين من العمل مدنيين وعسكريين، وتسليم البشير ومن معه للمحكمة الجنائية الدولية، وتكوين المجلس التشريعي والمفوضيات.
ج – تحقيق السلام بالحل الشامل والعادل الذي يخاطب جذور المشكلة وينجز التحول الديمقراطي ، ودولة المواطنة التي تسع الجميع.
- تفكيك التمكين واستعادة أموال الشعب المنهوبة.
- التنمية المتوازنة، وتحديد نصيب المجتمعات المحلية من عائدات الذهب والبترول.الخ لتنمية مناطقها، والعدالة والمحاسبة على جرائم الحرب والابادة الجماعية
– عودة النازحين لقراهم ومناطقهم ومنازلهم، وتوفير الخدمات لهم ” تعليم ، صحة، مياه، كهرباء، خدمات بيطرية.الخ”، حل كل المليشيات وجمع السلاح ، وقيام المؤتمر الجامع الذي يشارك فيه الجميع من حركات وقوي سياسية ومنظمات مدنية وجماهير المعسكرات، للوصول للحل الشامل الذي يخاطب جذور المشكلة، ووقف التدخل الخارجي..
– تحقيق السيادة الوطنية والعلاقات الخارجية المتوازنة
مع كل دول العالم، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخري والابتعاد عن الأحلاف العسكرية وعدم قيام القواعد العسكرية ، واستعادة كل الأراضي السودانية المحتلة.
– قيام المؤتمر الدستوري الذي يحدد شكل الحكم في البلاد، وهوّية البلاد وعلاقة الدين بالدولة.الخ، والتوافق على دستور ديمقراطي وقانون انتخابات ديمقراطي ، يتم علي أساسه انتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية، وغير ذلك من أهداف الثورة وقضايا الفترة الانتقالية
alsirbabo@yahoo.co.uk