لم تتطور التجارة الدولية أبدا في يوم من الأيام بشكل مستقل عن العلاقات السياسية بين الدول. كان المؤلفون المركانتيليون (نسبة إلى المذهب المركانتيلي/التجاري في الاقتصاد) في نهاية القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر يبرّرون الفوائض التي يسجّلها الميزان التجاري بمقابلها المتمثل في تدفقات الذهب التي تسمح للملوك بتشكيل جيوش من المرتزقة.

وكان الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689-1755) يرى في «التجارة النّاعمة» وسيلة لتحضّر العلاقات الدولية والحيلولة دون نشوب الحروب بين الدول. أمّا الحصار القارّي الذي فرضه نابوليون على إنجلترا بين عامي 1806 و1814 فقد كان يهدف إلى تدمير قوتها من خلال منعها من التجارة مع بقية أوروبا...

ومما يدلّ بشكل واضح على استمرارية هذه العلاقة بين السياسة والتجارة خلال السنوات الأخيرة، مسألة الحصار المفروض على روسيا وفرض العقوبات التجارية عليها، أو شنّ الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب لحربٍ تجارية وتكنولوجية على الصين. إن قضايا الأمن والاستقلالية الوطنية والصراع من أجل القوة تتشابك بشدّة مع التجارة.

ويزيد هذا الوضع المعقّد من المخاوف بشأن التشظّي الجيوقتصادي للعالم استجابة لأهداف ذات طبيعة غير اقتصادية تُوظَّف السياسات التجارية والصناعية في خدمتها. إن صدمتي جائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا، وآثارهما على استيراد بعض المنتجات إلى جانب التوترات القوية للغاية التي يعرفها العالم على المستوى الجيوسياسي، تفسّر التزايد الذي نشهده على مستوى التدابير والإجراءات التي تقيّد التجارة الحرة، بهدف تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية.

وتعدّ هذه التدابير استجابة لمعايير تتعلّق بالأمن والقدرة على امتصاص الصدمات أكثر من كونها تتعلّق بتهديدات ذات طبيعة اقتصادية، سواء كان ذلك من جانب الدول أو من جانب الشركات عندما يتعلق الأمر بسلاسل الإنتاج العالمية.

وهذا ينطبق بشكل خاص على الولايات المتحدة، حيث يقود مفهوم «التجارة بين الدول الصديقة» الذي تدافع عنه وزيرة الخزانة جانيت يلين، إلى منح الأفضلية من الناحية السياسية لمثل هذه التبادلات والحدّ من غيرها. يتعلّق الأمر بنقل سلاسل الإنتاج نحو بلدان موثوقة تتقاسم مع الولايات المتحدة نفس القيم وتشترك معها في نفس الأحلاف، وذلك من أجل بناء «تجارة آمنة». ومن ثم يشهد العالم تشكّل تكتّلات تجارية، ذات طبيعة جيوسياسية وليست جغرافية، وفقا لما تقتضيه الدواعي الأمنية أو الحاجة إلى امتصاص الصدمات والصمود أمام الأزمات. إن الدول، شأنها في ذلك شأن الشركات، تُدخل سلاسل الإنتاج العالمية في مجال التنافس الجيوسياسي.

من الضروري أن نؤكّد على التغيير العميق الذي أحدثه هذا التحوّل. لقد كانت المزايا النسبية لكل اقتصاد هي الأساس النّاظم إلى حدّ كبير لفترات العولمة ثم العولمة المفرطة التي مرّ منها العالم خلال العقود الأخيرة. وأدّت هذه الفترات إلى الحدّ من الفقر في العالم وإلى تراجعٍ لا يقبل الجدال على مستوى انعدام المساواة بين الاقتصادات الوطنية، لكن مع زيادة في عدم المساواة داخل بعضها. لقد كنّا بحق في لعبة بمحصّلة موجَبة.

أمّا الآن، فالأهداف غير الاقتصادية، والأبعاد السياسية والجيوسياسية، والتنافس على القوة والنفوذ وما إلى ذلك، تلعب دورا مهيمنا في عدد من المجالات (الوصول إلى الموارد النادرة، التحكم في التكنولوجيات). ولقد كان ذلك على حساب لعبة الأسواق، وإن كانت غير كاملة أو غير مثالية، وبالتالي على حساب الكفاءة الاقتصادية التي تتحقّق من خلال التخصّص، وبفضل وفورات الحجم أو التكتل، وذيوع الابتكارات التكنولوجية.

إن العالم يدخل بذلك في لعبةٍ ذات محصّلة صفرية، لأن قوة كل بلد (اقتصادية كانت أم عسكرية أم تكنولوجية...) لا يمكن ممارستها إلا على حساب تلك المتاحة للبلدان الأخرى. ومن هنا نفهم اللجوء المتزايد إلى العقوبات والحصار والتدابير الحمائية، وحظر ذيوع بعض التكنولوجيات ومنع الآخرين من الوصول إليها. إن جميع هذه التدابير هي بمثابة توظيف للاقتصاد كأداة في خدمة مطامح القوة والنفوذ. يتحدث البعض عن تسليح (weaponization) التجارة. وذلك ما يفسّر الجانب الصّراعي والعدائي لهذه العولمة الجديدة، وصعوبة وضع قواعد أو إحداث مؤسسات دولية تضمن الحدّ الأدنى من التنسيق وتسمح بالتسوية السّلمية للنزاعات بين الدول القومية.

تتزايد الإشارات التي تدلّ على التشظّي الذي يشهده العالم. وهذا ما تظهره دراسة حديثة لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية نشرت في الحادي عشر من شهر ديسمبر الحالي، وتتعلق بالفترة الممتدة بين الربع الأول من عام 2022 والربع الثالث من عام 2023. تشير الدراسة إلى انخفاض في حجم المبادلات التجارية بين «التكتّلات الجيوسياسية» بنسبة 4% تقريبا (تمّ تحديد هذه التكتلات بناءً على تصويتات كل دولة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة). وعلى العكس من ذلك، حصلت زيادة قوية في حجم المبادلات التجارية داخل هذه التكتلات بنحو 6%. لكن التجارة الدولية للخدمات لم تتأثر بعدُ بهذه التطورات وبقيت بمعزل عن السياسة على الأقل إلى الآن. وبالتالي فإن التشظّي الجيوقتصادي للعالم لم يعد مجرد سيناريو محتمل نترقّبه في المستقبل، بل أصبح واقعا تراه العين بالفعل اليوم.

نأمل فقط أن يكون الباحثون في علم الاقتصاد قادرين في قادم الأيام على منح ما يكفي من الأهمية في أبحاثهم للعوامل السياسية والتوترات الجيوسياسية التي تلوّث التجارة العالمية، ولا تهدّد الرخاء الاقتصادي فحسب، بل تهدد السلم العالمي أيضا.

أندريه كارتبانيس أستاذ الاقتصاد بمعهد العلوم السياسية بمدينة إكس أون بروفانس (فرنسا)

فرونسواز بنحمو أستاذة الاقتصاد بجامعة السوربون، ورئيسة دائرة الاقتصاديين بفرنسا.

الترجمة خاصة لـ $ عن صحيفة لوموند

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بین الدول

إقرأ أيضاً:

ما هي الدول العربية التي أعلنت الأحد أول أيام عيد الفطر المبارك؟

تابعنا أيضا عبر تليجرام t.me/alwatanvoice رام الله - دنيا الوطن
أعلنت كل من المملكة العربية السعودية وقطر ودول عربية أخرى أن يوم غد الأحد أول أيام عيد الفطر المبارك بعد ثبوت رؤية هلال شهر شوال.

بينما أعلنت كل من مصر وسوريا والأردن وسلطنة عمان والعراق أن بعد غد الاثنين هو أول أيام العيد بعد تعذر رؤية الهلال.

وذكرت وكالة الأنباء السعودية (واس) أن دائرة الأهلة في المحكمة العليا عقدت جلسة مساء اليوم للنظر فيما يردها بشأن ترائي هلال شهر شوال لهذا العام 1446هجرية، وبناء على شهادة عدد من الشهود العدول برؤية الهلال قررت الدائرة أن يوم غد الأحد الموافق 30 آذار/مارس هو أول أيام عيد الفطر المبارك لهذا العام.

بدورها، أعلنت لجنة تحري رؤية الهلال في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر أن يوم غد الأحد هو أول أيام عيد الفطر المبارك في الدولة، وذلك في بيان للجنة صدر عقب اجتماعها بمبنى الوزارة مساء اليوم.

من جانبه، أعلن ديوان الرئاسة في الإمارات أن يوم غد هو أول أيام عيد الفطر المبارك في دولة الإمارات بعد ثبوت رؤية هلال شوال ثبوتا شرعيا مساء هذا اليوم، وفق ما أوردت وكالة الأنباء الرسمية.

وفي الكويت، أعلنت هيئة الرؤية الشرعية ثبوت رؤية هلال شهر شوال، وأن غدا الأحد هو أول أيام عيد الفطر السعيد.

وفي البحرين، أعلنت هيئة الرؤية الشرعية أن الأحد هو أول أيام عيد الفطر المبارك.

وفي اليمن، أعلنت وزارة الأوقاف والإرشاد أن غدا الأحد هو أول أيام عيد الفطر المبارك بعد ثبوت رؤية هلال شوال.

وفي لبنان، أعلن دار الفتوى أن يوم غد أول أيام عيد الفطر، وفق وكالة الأنباء الرسمية.

وفي السودان، أعلن مجمع الفقه الإسلامي عبر بيان، أن يوم غد الأحد هو أول أيام عيد الفطر المبارك.

العيد الاثنين

في المقابل، أعلن مفتي مصر نظير عياد في كلمة متلفزة، أن بعد غد الاثنين هو أول أيام عيد الفطر المبارك بعد تعذر رؤية هلال شوال مساء اليوم.

كما أعلن القاضي الشرعي الأول بدمشق أن غدا الأحد هو المتمم لشهر رمضان المبارك، والاثنين أول أيام عيد الفطر السعيد في سوريا، وفق ما أوردت وكالة الأنباء الرسمية.

كذلك أعلنت وكالة الأنباء الأردنية الرسمية (بترا) أن غدا الأحد المتمم لشهر رمضان والاثنين أول أيام عيد الفطر السعيد في المملكة.

وفي العراق أعلن ديوان الوقف السني، اليوم السبت، أن بعد غد الاثنين هو أول أيام عيد الفطر المبارك.

كما أعلن مكتب المرجع الأعلى علي السيستاني، الذي يعتبر أعلى مرجعية للشيعة في العراق، أن يوم غد الأحد هو المكمل لشهر رمضان والاثنين أول أيام عيد الفطر المبارك، وفق ما أوردت وكالة الأناضول.

بينما أعلن وزير الأوقاف والشؤون الدينية في كردستان العراق بشتوان صادق، خلال مؤتمر صحفي، أن "لجنة رؤية الهلال اجتمعت اليوم وثبت رؤية الهلال، وأن يوم غد أول أيام عيد الفطر المبارك".

وفي عمان أفادت وكالة الأنباء الرسمية نقلا عن لجنة استطلاع الهلال بأن يوم غد الأحد هو المتمم لشهر رمضان، وأن يوم الاثنين هو أول أيام عيد الفطر المبارك بعد تعذر رؤية هلال شوال.

مقالات مشابهة

  • الصين وكوريا الجنوبية واليابان تدعم التجارة الحرة في شرق آسيا
  • المغرب ضمن الدول العشر الأوائل في تسهيل التجارة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا
  • تعرف على الدول التي تضم أكبر عدد من الأغنياء (إنفوغراف)
  • سول وبكين وطوكيو تتفق على تعزيز التجارة الإقليمية بينهم
  • ثلاث دول عالمية تتفق على تعزيز التجارة
  • نيمار يرفض التعليق على مدرب البرازيل الجديد: أنا مجرد لاعب.. فيديو
  • ثلاث دول عالمية تتفق على تعزيز التجارة والسبب جمارك ترمب الجديدة
  • الدول العربية التي أعلنت غدًا الأحد أول أيام عيد الفطر 2025
  • ما هي الدول العربية التي أعلنت الأحد أول أيام عيد الفطر المبارك؟
  • الدول التي اعلنت غدا رمضان