تنزرت ضواحي مراكش- في أحد صباحات ديسمبر/كانون الأول البارد جدا، يقف المواطن محمَّاد وحدوش بدوار تنزرت جماعة ويرغان ضواحي مراكش، متأملا ما آلت إليه حياته بعد 100 يوم من زلزال الحوز.

ينظر إلى الجبال المجاورة بنظرة إعجاب وتقدير ممزوجة بحسرة ظاهرة كأنه يلومها على كل ما وقع، كانت لعقود ماضية تحميه من غدر الزمن وتوفر له الملجأ والقوت، لكن اهتزازها لأربع ثوان لا أكثر ولا أقل قلبت حياته رأسا على عقب.

يقول للجزيرة نت وهو يضرب كفا بكف أمام صينية شاي جهزها لضيف غير منتظر على باب خيمته، "صبرا، أجرنا على الله".

يضيف وحدوش قليلا من السكر إلى إبريقه، ويقدم شايا لضيوفه، لا تضاهي حلاوة شايه غير حلاوة كلامه، مظهرا الرضا عما قدره الله له في الثامن من سبتمبر/أيلول الماضي، لكنه لا يخفي الألم الذي بات يعيشه، وعدم قدرته الابتعاد عن أسرته للعمل كما اعتاد لمدة تزيد عن 40 سنة.

محمَّاد وحدوش يتفقد بيته المهدم جزئيا الذي لم يعد صالحا للسكن (الجزيرة)   أسرار

يحكي محمَّاد (65 سنة)، بعد تردد، بدارجة مغربية سليمة، عما أصبحت تعيشه زوجته من خوف دائم، وكيف تخشى البقاء بمفردها خلال الليل الطويل، كما كان ذلك سابقا حين يغادر هو لبضعة أيام؛ بسبب طبيعة عمله بصفته مهنيا محترفا في البناء التقليدي.

يسترسل محماد في الكلام بعد أن تنقلب عربيته إلى أمازيغية يعزز معانيها بإشارات واضحة من اليد وتعابير الوجه، وهو يروي عن ليلة فقد فيها الدوار(تجمع سكني قروي صغير) 21 فردا، منهم: 11 طفلا، وكيف كاد أن يفقد زوجته خديجة التي يذكرها بكثير من الحب، وباقي أسرته لولا ألطاف الله.

يقول محماد، إن زوجته "لا تزال تئن تحت وطأة آثار الهزة وتردداتها، كل هدير أو صوت مرتفع، ولو سمع من بعيد، يعيد لها تلك الذكرى الأليمة، حتى تلك الأحاديث التي كنا نستمتع خلال عودتي من العمل، فقدناها إلى حين وربما إلى الأبد".

المواطن المغربي حميد أيت أوناين مع ابنتيه داخل خيمته بمدشر تزنرت جماعة ويرغان إقليم الحوز  (الجزيرة)

 

فقد الخصوصية

يتفاعل محماد مع سؤال "للبيوت أسرار، فهل للخيام أيضا؟" بابتسامة ساخرة، ويجيب بسؤال" هل للخيمة قفل ومفتاح؟". فحين يخيم الليل تسمع محادثات الخيم المجاورة، أحيانا بوضوح.

تشرح الناشطة المدنية الشابة نجية أيت محند، في حديث للجزيرة نت، أن الخيمة فضاء مفتوح، تتقلص فيها الخصوصية إلى أبعد حد، وقد تُفقد كليا.

وتبرز منسقة أعمال "الائتلاف المدني من أجل الجبل"، المحدث أخيرا، أن كل ما يجري في خيمة، يصل حتما إلى كل الجيران، ما يجبر المرء على تكييف التعامل مع أفراد الأسرة الصغيرة، سواء في تربية الأطفال، أو في حديث الأزواج.

وتضيف المتحدثة ذاتها، التي تقضي أياما كلما زارت عائلتها بمخيم أمادل بأمزميز إقليم الحوز، أن الاحتكاك اليومي والمتقارب بين الأسر، قد يولد بعض النزاعات، وقد تتغير النظرة إلى إنسان كنت تراه "متزنا ومحترما"، عندما ترى منه سلوكا لم تتعود عليه، قولا كان أو فعلا.

نجية أيت محند: الخيمة فضاء مفتوح تتقلص فيه الخصوصية وقد تفقد (الجزيرة) نزاعات

بمجرد النظر على الخيام المنصوبة والمتراصة في سفح الجبل، يمكن فهم أحاسيس الألم الممزوج بالأمل التي يعبر عنها سكان مدشر تنزرت بكل تلقائية، وهم ينتظرون الفرج والعودة إلى مساكنهم.

لا يجدون المساحات المستوية الكافية، ومن أجل استغلال المرافق المشتركة، ويفضلون أن يقيموها جنبا إلى جنب.

في المقابل فضّل الحسين وحمو (42 سنة) أن ينصب خيمته في أعلى الجبل بين دمار المباني، حفاظا على خصوصية أسرته. يقول للجزيرة نت "لم أعرف نعمة ومعنى المسكن المستقل، المقفل عن عيون الغير، إلا بعد الزلزال، لم أتعود النوم وسط الضجيج، لذا اخترت هذا المكان المغزول".

أما الشاب حميد أيت أونانين (32 سنة)، فلم يجد ملجأ غير أرض مستوية قريبة من منزله المهدم جزئيا، لبناء خيمة تؤويه وأسرته الصغيرة المكونة من 4 أفراد، وعدد من أقربائه.

يواجه كل صباح جاره صاحب الأرض الذي يذكره بملكيته لها، ويفكر هو -أيضا- كيف يمكن أن يسترجع بقعة نصبت عليها خيام أخرى، وفي النزاعات التي يمكن أن تنشأ جراء هذا الواقع الجديد.

وسط الجبال يبحث السكان عن أماكن صالحة لإقامة الخيم ويتجمعون في شكل مخيمات (الجزيرة) خوف الصغار

لم يخل حديث الصباح الذي اقتسمناه مع بعض من ساكنة المدشر من مواعظ حول ما أحدثه الزلزال في نفوس الساكنة. "إن أول خيمة نصبناها كانت لمكان الصلاة سميناها بعد ذلك "مسجد التوبة"؛ لأننا نعلم أن نجاتنا بالله ومع الله، كما يعبر ذلك المواطن محمَّاد.

أما المواطن أحمد أيت حمو الذي جاوز سنه الستين من العمر، فيقول، إنه يخاف خوف الصغار حين يتذكر ما جرى.

إنه يعلم علم الخبير المجرب أن الشتاء القادم سيكون قارسا هذه السنة، وأن سقوط الثلوج لن يتأخر، لكن حين تسأله عن مخاطر ذلك وتفضيله السماء الصافية، يجيب بكل الثقة اللازمة، "كيف أرضى لنفسي هذا الأمر، الماء من الله، وإن بللت يوما أو تعبت، فما لي إلا الصبر، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا".

في حين يتذكر الشاب حميد، في حديث للجزيرة نت، بكثير من الحسرة ما وقع، حين وجد نفسه أمام تساقط الأحجار على رأسه، وهو يحاول إنقاذ ابنته الصغرى التي غطاها التراب إلى النصف.

يقول وهو يعانقها، إن الله كتب لها عمرا جديدا، ويتابع أنه كل يوم يزور منزله المهدم جزئيا، كأنه يتفقد ذكريات 30 سنة قضاها بين أحشائه.

المواطن المغربي حميد أيت أوناين يتفقد بيته المهدم (الجزيرة) لن أهاجر

يشتاق حميد -كذلك- إلى تلك اللمة التي كانت تجمعه بإخوانه وأخواته كل يوم جمعة على مائدة الغداء. يروي بأسف، وهو الذي فقد أخته في الزلزال أمام عينيه، كيف اضطر أخوه إلى الهجرة بعدما لم يجد ما يؤويه، وحفاظا على مسار ابنته الدراسي التي تنتظرها امتحانات "الباكالوريا" آخر السنة.

في السياق ذاته تعلق الناشطة أيت محند أن هناك من يقاوم الصعاب التي يعيشها بعد الزلزال، لكن بعض الناس يهاجرون مضطرين خاصة إلى مدينة مراكش، لظروف خاصة بالمرض أو الدراسة، أو من لديهم أقرباء يحتاجون إلى رعاية خاصة لا يمكن أن توفرها الخيام.

وتختم نجية أن لا حديث للناس في المناطق المتضررة، كما هو حال محمَّاد وحميد وحسين، إلا عن تلك الرسالة القصيرة (الكود) -وهو رقم سري خاص وعدت الحكومة أن ترسله للمتضررين لتمكينهم من سحب دعم إعادة الإعمار- التي يفترض أن يتوصل بها كل متضرر، للانتقال من مرحلة الانتظار القاتل إلى مرحلة أخرى تقربه من العودة إلى منزل آمن يستعيد فيه خصوصية الأسرة، ويمنع شبح التفكير في الهجرة، لكن لسؤال الذي يطرحه كل واحد منهم كلما آوى إلى فراشه تحت جنح الظلام وصمت المكان: متى هو؟

أحمد أيت حمو يقدم الشاي لضيوفه وينتظر رسالة إعادة السكن (الجزيرة)

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

الحوز في طريق التعافي بإنجاز مئات المنازل لإيواء العائلات ضحايا الزلزال المدمر

زنقة 20. الحوز

وسط جماعة أمغراس الجبلية، الواقعة ضمن النفوذ الترابي لإقليم الحوز، يمر أحمد، الذي كان يعمل فلاحا قبل وقوع الزلزال. اليوم، يبدو أكثر نشاطا، إذ عاد لتربية المواشي وزراعة الأرض التي طالما أحبها.

يقول أحمد، الذي كان من بين الأشخاص الذين فقدوا منازلهم بالكامل بدوار “أكني”، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، إنه “رغم أن الزلزال دمر جزءا كبيرا من الأرض والمنزل، إلا أن الأمل لم يفارقنا. بدأت أشعر بأننا نتعافى، وبفضل تسارع جهود إعادة الإعمار، نعود للحياة شيئا فشيئا”.

فبعد أشهر على زلزال الحوز، عاد سكان جماعة أمغراس، على غرار باقي الجماعات الترابية المتضررة بالإقليم، إلى حياتهم اليومية، كما عادت المحلات التجارية الصغيرة إلى العمل، واستأنف الفلاحون أنشطتهم الفلاحية مجددا، وبدأت العائلات تستعيد روتينها المعتاد داخل منازلها المبنية حديثا.

وكما هو الحال بالنسبة لأحمد، تحدثت عائشة، إحدى ساكنة دوار “تفغاغت” بنفس الجماعة، عن عودتها رفقة أسرتها، منذ 5 أشهر، إلى منزلهم الجديد الذي أصبح أكثر متانة في مواجهة الكوارث، مؤكدة أن “مواجهة الحياة اليومية كانت صعبة، لكن الآن بفضل الدعم الذي حصلنا عليه، عدنا إلى منازلنا وبدأنا نعيش كأي عائلة أخرى، والأهم من ذلك أننا عدنا إلى حياتنا الطبيعية”.

بدوره، يشكل رشيد، رجل في الخمسينيات من عمره، كان يعمل في المجال الحرفي قبل الزلزال، مثالا لقدرة ساكنة الجماعة القروية على التكيف والصمود. اليوم، أصبح رشيد واحدا من بين العاملين الذين يساهمون في إعادة إعمار دوار “آيت ترغيت” عبر توظيف خبرته الحرفية في مجال البناء وطلاء الواجهات.

وتتغير الحياة في جماعة أمغراس الجبلية بسرعة رغم الجراح التي خلفها الزلزال، بالموازاة مع تسريع عجلة إعادة الإعمار، حيث تحرص لجنة اليقظة والتتبع المحدثة على مستوى عمالة الإقليم على تنفيذ برنامج إعادة البناء وتأهيل المناطق المتضررة من هذه الكارثة الطبيعية، بما يضمن تحسين ظروف عيش الساكنة المتضررة، وتمكينها من السكن في ظروف تحفظ الكرامة الإنسانية، تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس.

وبالمناسبة، أوضح منسق برنامج إعادة البناء وتأهيل المناطق المتضررة جراء الزلزال، حسن إيغيغي، أن الأشغال بلغت مستويات إنجاز جد متقدمة، حيث انتهت عملية البناء بالنسبة لأكثر من 15 ألف و100 سكن أعيد بناؤه وتأهيله للسكن، أي بنسبة 60 في المائة، في أفق أن تصل نسبة تقدم الأشغال في غضون الشهرين القادمين إلى 80 في المائة.

وأكد السيد إيغيغي، في تصريح مماثل، أن “هذه المعطيات تجسد حصيلة إيجابية، لا سيما إذا استحضرنا أنه لم تمر بعد على بداية أشغال البناء والإعمار سنة كاملة، حيث لم تبدأ هذه العملية مباشرة بعد 8 شتنبر 2023، نظرا لقيام لجنة قيادة وتتبع عملية إعادة البناء وتأهيل المناطق المتضررة بعمليات أخرى ضرورية لفتح المجال أمام عملية البناء”.

وأشار إلى أن أكثر من 10 في المائة من الأسر المعنية بإعادة الإعمار التي لم تباشر بعد عملية البناء، تدخل في إطار مشاكل بين الورثة، أو عدم مباشرة المستفيدين لعملية البناء رغم توصلهم بالدفعة الأولى من الدعم المرصود من طرف الدولة، حيث باشرت السلطات المحلية إشعارهم، وإنذارهم، وحثهم على بدء الأشغال أسوة بالمستفيدين الآخرين الذين أنهوا البناء وعادوا إلى منازلهم.

وسجل أنه فيما يرتبط بالمساكن التي تقع في المناطق ممنوعة البناء أو تستلزم تدابير خاصة، فقد تم تنفيذ حلول بديلة، وبدأ المستفيدون منها في أشغال البناء، مشيرا إلى أنه رغم كل الإكراهات والصعوبات الميدانية المطروحة، خاصة أن إعادة الإعمار تتم بمناطق جبلية صعبة الولوج، قامت لجنة القيادة والتتبع بتنزيل برنامج إعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة بعمل إيجابي يمنح ساكنة الإقليم إمكانية السكن والعيش في ظروف لائقة.

من جانبه، أبرز مدير وكالة العمران الحوز، أمين بويه، الدور الذي تضطلع به مجموعة العمران في عملية إعادة الإعمار، لاسيما المواكبة التقنية لعملية إعادة البناء عبر وضع رهن إشارة المتضررين مهندسين معماريين وطبوغرافيين ومهندسين بمكاتب الدارسات، وكذلك مختبر من أجل تتبع عملية إعادة الإعمار.

وأضاف السيد بويه، في تصريح مماثل، أن عملية من هذا الحجم تضم أزيد من 26 ألف و253 مستفيد من عملية إعادة البناء، لا تخلو من مجموعة الإكراهات والتحديات الموضوعية التي تتمثل، بالخصوص، في قلة اليد العاملة المتخصصة في البناء، وصعوبة التضاريس نظرا للطبيعة الجبلية للإقليم، والتكلفة العالية لنقل مواد البناء خاصة في بعض المناطق النائية بالإقليم.

والأكيد أن عودة الحياة إلى طبيعتها في جماعة أمغراس بعد الزلزال، تمثل رمزا للتحدي والإرادة التي لا تنكسر، بالموازاة مع عملية إعادة الإعمار، التي تمضي بوتيرة متسارعة بباقي الجماعات الترابية لإقليم الحوز، حيث يظل الأمل قويا في قلوب الساكنة المحلية سعيا منها لكتابة فصول جديدة من التعافي والعودة إلى حياتها الطبيعية.

زلزال الحوز

مقالات مشابهة

  • طنجة.. الخيام تعوض المحلات التجارية المحترقة بسوق بني مكادة
  • واشنطن بوست: 90% من السوريين تحت خط الفقر و7 ملايين يعيشون في الخيام
  • الحوز في طريق التعافي بإنجاز مئات المنازل لإيواء العائلات ضحايا الزلزال المدمر
  • العدالة والتنمية يطالب بتسريع إعادة إعمار الحوز ويحمل الحكومة مسؤولية التأخير
  • الثلوج تعود من جديد إلى مرتفعات أوكايمدن بإقليم الحوز
  • اللهم امنحني نورك الذي يضيء لي الطريق.. دعاء اليوم 15 رمضان 2025
  • السوداني يعلن قتل الإرهابي عبد الله مكي الذي يشغل منصب والي العراق وسوريا
  • الحوز: تقدم كبير في إعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال
  • سليمان من قصر بعبدا: المعادلة التي تُفيد البلد هي معادلة الجيش والشعب
  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. أنا السجّان الذي عذّبك