جريدة الوطن:
2025-03-18@00:46:03 GMT

شربة الحاج محمود

تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT

من الأضرار الجانبيَّة لحرب الإبادة الجماعيَّة في غزَّة، وإن لَمْ تكُنْ في وضع مقارنة مع ما يدفعه الفلسطينيون من أرواحهم ودمائهم، أنَّها ركَّزت الضوء مُجدَّدًا على بعض العِلل العربيَّة الَّتي نُعاني مِنْها من قَبل لكنَّها كالأمراض المزمنة تزداد حدَّة في أوقات الأزمات. من بَيْنِ تلك العِلل ما يخصُّ المهنة الَّتي نعمل بها: الصحافة والإعلام.

فتقريبًا لَمْ يدَّخر أيُّ منفذ إعلامي عربي جهدًا لانتقاد الإعلام الغربي وانحيازه السَّافر إلى حدِّ العنصريَّة، وهو انتقاد مبرَّر بل ومتأخِّر. فالإعلام الغربي الرئيس لا يعتدُّ كثيرا بالعرب ولا بمصادر معلومات مِنْهم، وإن تناولهم فإنَّما على أساس معلومات الآخرين، خصوصًا الاحتلال في فلسطين في أغلب الأحوال أو بعض العرب «المتخوجنين» الَّذين يسمعون الأجانب ما يريدونه طمعًا في أن يقبلوا بهم لدَيْهم. انكشف ذلك بقوَّة ووضوح في التمهيد لغزو واحتلال العراق ثمَّ تدمير مقدرات ذلك البلد العربي وقتل الملايين من أبنائه استنادًا إلى كذب وتلفيق روَّج له الإعلام الغربي، ونقلنا عَنْه، بطريقة قضت تقريبًا على كُلِّ أصول مهنة الصحافة والإعلام.
مع ذلك، يظلُّ الإعلام العربي ينقل عن الإعلام الغربي ويروِّج لمصادره الأجنبيَّة كأنَّما يَعدُّ نَفْسه هكذا أصبح «مهنيًّا»! حتَّى بعد العنصريَّة الفجَّة في تغطية الصحافة الغربيَّة منذ بداية الحرب في أوكرانيا مطلع العام الماضي والسخرية المرَّة من العرب وغيرهم؛ لأنَّهم ليسوا من ذوات «الشعر الأشقر والعيون الملوَّنة»، لَمْ تتوقف أغلب منافذ الإعلام العربيَّة عن أن يكُونُ مصدرها الرئيس للأخبار والمعلومات، وحتَّى التحليلات والآراء، هو ذلك الإعلام الغربي المضلِّل والَّذي يقوم بمُهمَّة أقرب للدعاية الفجَّة والتعبئة المعنويَّة لشعوبه بطريقة التلفيق والدَّس. مفهوم أحيانًا أنَّ بعض المنافذ ليس لدَيْها الموارد والإمكانات لِتكُونَ لها مصادرها، كما أنَّ عالَمنا العربي لَمْ يتطوَّر بالقدر الَّذي يجعل الحصول على المعلومات من مصادرها الرسميَّة أمرًا يسيرًا بعد. لكن على الأقل من أهمِّ معايير الصحفيِّين مهنيًّا، دَونَ حديث حتَّى عن حياد أو موضوعيَّة شديدة، هو التفكير النقدي وتمحيص وتدقيق ما ينقلونه لجمهورهم وليس أخذ الروايات على أنَّها حقائق مُطْلقة.
وهذا ما أصبح إعلامنا يفتقر إليه بشدَّة وبوتيرة متسارعة حتَّى كاد يصبح صورة من مواقع التواصل الَّتي تعجُّ بالكذب والتضليل والآراء المغرضة المدعومة بالصوت والصورة المزيَّفة.
مع ذلك، لا نجد أيَّ نقدٍ لإعلامنا العربي وتغطية المنافذ الرئيسة له للحرب في منطقتنا ولا حتَّى أيّ قدر ـ ولو خجولًا ـ من النقد الذَّاتي بهدف تعديل المسار قليلًا والعودة لبعض المهنيَّة. بل نغرق في لوم مواقع التواصل الَّتي تنشر الأكاذيب والتضليل المتعمَّد و»تهيج» الرَّأي العامَّ بالتزييف والكذب. مع أنَّه ـ للأسف الشديد ـ كثير من وسائل الإعلام العربيَّة تقوم بِدَوْر مماثل تقريبًا، وحين يلجأ إليها النَّاس لمحاولة الحصول على معلومة أقرب للدقَّة وليست ممزوجة بالرَّأي والغرض لا يجد ضالَّته. ليس القصد هنا فقط وسائل الإعلام الَّتي تبدو كأنَّ مصدرها الأوَّل للمعلومات هو طرف واحد، أي الاحتلال الصهيوني، ولو تدويرًا لمصادر إعلام غربيَّة وإنَّما أيضًا بعض المنافذ الَّتي تنطلق من خلفيَّات أيديولوجيَّة ولو كان قصدها دعم المقاومة. فالنتيجة واحدة تقريبًا: فقدان ثقة الجماهير في الأخبار والمعلومات وإعادتهم لمصادر مشوّهة ومضلِّلة في مواقع التواصل. لا يقتصر الأمْرُ على الأخبار والمعلومات، بل حتَّى الرَّأي والتحليلات. فكما يفعل إعلام الغرب إلى حدٍّ كبير باستدعاء «الخبراء» والمحلِّلين في نقاشات الراي الَّذين غالبًا هُم الوجوه ذاتها الَّتي تظهر في كُلِّ أزمة، نجد وسائل إعلامنا العربيَّة تُعيد الوجوه والأفواه والأقلام ذاتها الَّتي طالما اعتادت الفتوى في كُلِّ الأمور وكأنَّها أحاطت بما لَمْ يحطْ به الآخرون خبرًا ورأيًا. والنتيجة أنَّ النَّاس تنفضُّ عَنْهم وتعود إلى الكذب والتضليل والتلفيق والدَّس والتشويه على مواقع التواصل وصفحات الإنترنت المُغرضة.
صحيح أنَّ البعض من بَيْنِ الجماهير قَدْ يريحه أن يسمعَ من هؤلاء المحلِّلين ما يرضيه ويتَّفق مع هواه، لكنَّ النتيجة أنَّه حتَّى الرَّأي على وسائل الإعلام يضرُّ بقدر ما يضرُّ غياب الدقَّة الخبريَّة والمعلوماتيَّة. وللأسف الشديد لا ننتبه؛ لأنَّ هؤلاء الَّذين يستعان بهم لوضع الأحداث في سياق منطقي يقنع النَّاس ويقدّم له صورة قريبة من الواقع يبنون عَلَيْها آراء ومواقف هُمْ أنْفُسهم المحلِّلون الَّذين تثبت الوقائع أنَّهم ربَّما لا يفقهون فيما يتحدَّثون عَنْه. فالكُلُّ تقريبًا أصبح «خبيرًا عسكريًّا» و»محلِّلًا للشؤون الاستراتيجيَّة» و»متخصِّصًا في القدرات النوويَّة»!! يذكِّرني هؤلاء بظاهرة انتشرت في الأسواق ووسائل المواصلات في مصر قَبل عقود، وكانت قَبلها مقصورة على الريف في نطاق محدود، وهي «شربة الحاج محمود». لا أعرف إن كان الاسم حقيقيًّا أم لا؟ لكنَّها كانت عبارة عن وسيلة للتسوُّل المقنع، حيث تجد في القطار مَنْ يوزِّع زجاجات صغيرة على الركَّاب فيها سائل داكن اللَّون وعَلَيْها ملصق لصورة شيخ غالبًا هو الحاج صاحب الوصفة وينادي في الطرقات: «شربة الحاج محمود اللي بتنزل الدود». ويُعدِّد المنادي فوائد تلك الشربة شارحًا أنواع الطفيليَّات، فمِنْها ما هو مفيد وما هو ضارٌّ، وأنَّ الدواء يقضي فقط على ما هو ضارٌّ ويُغذِّي ما هو مفيد. ومع أنِّي كنتُ أدرس الطبَّ وقتها، لَمْ أستطع الوصول إلى المصدر العلمي للحاج محمود.
وكم أخرجَتْ لنَا حرب الصهاينة على الفلسطينيِّين من «حاج محمود» من المُعلِّقين والمُحلِّلين.

د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: الإعلام الغربی مواقع التواصل الإعلام ال تقریب ا

إقرأ أيضاً:

ترامب يجمد الإعلام الأميركي الموجه لروسيا والصين وكوريا الشمالية

جمّدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عمل الصحفيين العاملين في إذاعة "صوت أميركا" وغيرها من وسائل الإعلام الممولة من حكومة الولايات المتحدة، ما أدى إلى وقف عمل وسائل إعلام اعتبرت أساسية في مواجهة الإعلام الروسي والصيني.

وتلقى مئات من مراسلي وموظفي إذاعات "صوت أميركا"، و"آسيا الحرة" و"أوروبا الحرة" وغيرها من وسائل الإعلام الرسمية، رسالة إلكترونية أمس السبت تفيد بمنعهم من دخول مكاتبهم وإلزامهم تسليم بطاقات اعتمادهم الصحفية، وهواتف العمل وغيرها من المعدات.

وأصدر ترامب الذي كان قد أوقف عمل الوكالة الأميركية للتنمية ووزارة التعليم، يوم الجمعة الماضي أمرا تنفيذيا يدرج الوكالة الأميركية للإعلام العالمي من ضمن "عناصر البيروقراطية الفدرالية التي قرر الرئيس أنها غير ضرورية".

و"صوت أميركا" مؤسسة إعلامية دولية تبث برامجها بأكثر من 40 لغة عبر الإنترنت والراديو والتلفزيون، وتشرف عليها الوكالة الأميركية للإعلام العالمي. كما تمول الوكالة إذاعة "أوروبا الحرة"، "راديو ليبيرتي"، وإذاعة «آسيا الحرة».

ووفقا للبيت الأبيض، فإن هذه الإجراءات تضمن "عدم اضطرار دافعي الضرائب لدفع أموال من أجل الدعاية المتطرفة".

إعلان

وبعثت كاري ليك المذيعة السابقة المؤيدة لترامب والتي عُيّنت مستشارة للوكالة الأميركية للإعلام، رسالة إلكتروني إلى وسائل الإعلام التي تشرف عليها تقول فيها إن أموال المنح الفدرالية "لم تعد تحقق أولويات الوكالة".

وكتب هاريسون فيلدز، المسؤول الإعلامي في البيت الأبيض، على منصة "إكس" كلمة "وداعا" بـ 20 لغة، في سخرية لاذعة من تغطية إذاعة صوت أميركا بلغات متعددة.

هدايا للأعداء

ووصف رئيس إذاعة "أوروبا الحرة" التي كان بثها موجها للاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة، إلغاء التمويل بأنه "هدية عظيمة لأعداء أميركا".

وقال ستيفن كابوس في بيان له إن "آيات الله الإيرانيين والقادة الشيوعيين الصينيين والمستبدين في موسكو ومينسك سيحتفلون بزوال إذاعة أوروبا الحرة بعد 75 عاما". معتبرا ذلك "إهداء فوز لخصومنا سيجعلهم أقوى وأميركا أضعف".

وترى إذاعة آسيا الحرة التي تأسست عام 1996، أن مهمتها بث تقارير غير خاضعة للرقابة إلى البلدان التي لا توجد فيها وسائل إعلام حرة مثل الصين، وبورما، وكوريا الشمالية وفيتنام.

وتتمتع وسائل الإعلام الحكومية بجدار حماية يضمن استقلاليتها رغم أن تمويلها يأتي من الحكومة الأميركية. وهذه الاستقلالية لم ترق لترامب الذي اعتبر خلال ولايته الأولى أن وسائل الإعلام الحكومية يجب أن تروج لسياساته.

واختار ترامب الذي اختلف مع وكالة "صوت أميركا" خلال ولايته الأولى، مذيعة الأخبار السابقة كاري ليك مديرة لها في ولايته الثانية. واتهمت ليك مرارًا وسائل إعلام بارزة بالتحيز ضد ترامب.

ويمثل الأمر أحدث خطوة يتخذها ترامب لإعادة هيكلة البيروقراطية بالحكومة الاتحادية، وهي مهمة أوكلها بشكل كبير إلى الملياردير إيلون ماسك بصفته مسؤولا عما تعرف بإدارة الكفاءة الحكومية.

وحتى الآن، أسفرت جهود هذه الإدارة عن إلغاء محتمل لأكثر من 100 ألف وظيفة من قوة العمل المدنية الاتحادية البالغ قوامها 2.3 مليون موظف، وتجميد مساعدات خارجية، وإلغاء آلاف البرامج والعقود.

إعلان

مقالات مشابهة

  • «وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها على الفرد والمجتمع».. ندوة توعوية بشبراخيت في البحيرة
  • ترامب يوقف صوت أمريكا بعد 83 عاما من انطلاقها.. غير ضرورية
  • ترامب يوقف صوت أمريكا بعد 83 من انطلاقها.. غير ضرورية
  • ترامب يجمد الإعلام الأميركي الموجه لروسيا والصين وكوريا الشمالية
  • "الحقيقة" الأمريكية
  • ترامب يوقف إذاعات صوت أمريكا وآسيا الحرة وأوروبا الحرة
  • ترامب يصب جام غضبه على وسائل الإعلام وخصومه السياسيين
  • فاسدة وغسر شرعية..ترامب يهاجم ووسائل الإعلام التي تنتقده
  • ترامب يهاجم الإعلام : فاسد وغير قانوني ويؤثر على القضاة
  • أعداء الشعب… ترامب يهاجم وسائل الإعلام ومعارضي سياساته