من الأضرار الجانبيَّة لحرب الإبادة الجماعيَّة في غزَّة، وإن لَمْ تكُنْ في وضع مقارنة مع ما يدفعه الفلسطينيون من أرواحهم ودمائهم، أنَّها ركَّزت الضوء مُجدَّدًا على بعض العِلل العربيَّة الَّتي نُعاني مِنْها من قَبل لكنَّها كالأمراض المزمنة تزداد حدَّة في أوقات الأزمات. من بَيْنِ تلك العِلل ما يخصُّ المهنة الَّتي نعمل بها: الصحافة والإعلام.
مع ذلك، يظلُّ الإعلام العربي ينقل عن الإعلام الغربي ويروِّج لمصادره الأجنبيَّة كأنَّما يَعدُّ نَفْسه هكذا أصبح «مهنيًّا»! حتَّى بعد العنصريَّة الفجَّة في تغطية الصحافة الغربيَّة منذ بداية الحرب في أوكرانيا مطلع العام الماضي والسخرية المرَّة من العرب وغيرهم؛ لأنَّهم ليسوا من ذوات «الشعر الأشقر والعيون الملوَّنة»، لَمْ تتوقف أغلب منافذ الإعلام العربيَّة عن أن يكُونُ مصدرها الرئيس للأخبار والمعلومات، وحتَّى التحليلات والآراء، هو ذلك الإعلام الغربي المضلِّل والَّذي يقوم بمُهمَّة أقرب للدعاية الفجَّة والتعبئة المعنويَّة لشعوبه بطريقة التلفيق والدَّس. مفهوم أحيانًا أنَّ بعض المنافذ ليس لدَيْها الموارد والإمكانات لِتكُونَ لها مصادرها، كما أنَّ عالَمنا العربي لَمْ يتطوَّر بالقدر الَّذي يجعل الحصول على المعلومات من مصادرها الرسميَّة أمرًا يسيرًا بعد. لكن على الأقل من أهمِّ معايير الصحفيِّين مهنيًّا، دَونَ حديث حتَّى عن حياد أو موضوعيَّة شديدة، هو التفكير النقدي وتمحيص وتدقيق ما ينقلونه لجمهورهم وليس أخذ الروايات على أنَّها حقائق مُطْلقة.
وهذا ما أصبح إعلامنا يفتقر إليه بشدَّة وبوتيرة متسارعة حتَّى كاد يصبح صورة من مواقع التواصل الَّتي تعجُّ بالكذب والتضليل والآراء المغرضة المدعومة بالصوت والصورة المزيَّفة.
مع ذلك، لا نجد أيَّ نقدٍ لإعلامنا العربي وتغطية المنافذ الرئيسة له للحرب في منطقتنا ولا حتَّى أيّ قدر ـ ولو خجولًا ـ من النقد الذَّاتي بهدف تعديل المسار قليلًا والعودة لبعض المهنيَّة. بل نغرق في لوم مواقع التواصل الَّتي تنشر الأكاذيب والتضليل المتعمَّد و»تهيج» الرَّأي العامَّ بالتزييف والكذب. مع أنَّه ـ للأسف الشديد ـ كثير من وسائل الإعلام العربيَّة تقوم بِدَوْر مماثل تقريبًا، وحين يلجأ إليها النَّاس لمحاولة الحصول على معلومة أقرب للدقَّة وليست ممزوجة بالرَّأي والغرض لا يجد ضالَّته. ليس القصد هنا فقط وسائل الإعلام الَّتي تبدو كأنَّ مصدرها الأوَّل للمعلومات هو طرف واحد، أي الاحتلال الصهيوني، ولو تدويرًا لمصادر إعلام غربيَّة وإنَّما أيضًا بعض المنافذ الَّتي تنطلق من خلفيَّات أيديولوجيَّة ولو كان قصدها دعم المقاومة. فالنتيجة واحدة تقريبًا: فقدان ثقة الجماهير في الأخبار والمعلومات وإعادتهم لمصادر مشوّهة ومضلِّلة في مواقع التواصل. لا يقتصر الأمْرُ على الأخبار والمعلومات، بل حتَّى الرَّأي والتحليلات. فكما يفعل إعلام الغرب إلى حدٍّ كبير باستدعاء «الخبراء» والمحلِّلين في نقاشات الراي الَّذين غالبًا هُم الوجوه ذاتها الَّتي تظهر في كُلِّ أزمة، نجد وسائل إعلامنا العربيَّة تُعيد الوجوه والأفواه والأقلام ذاتها الَّتي طالما اعتادت الفتوى في كُلِّ الأمور وكأنَّها أحاطت بما لَمْ يحطْ به الآخرون خبرًا ورأيًا. والنتيجة أنَّ النَّاس تنفضُّ عَنْهم وتعود إلى الكذب والتضليل والتلفيق والدَّس والتشويه على مواقع التواصل وصفحات الإنترنت المُغرضة.
صحيح أنَّ البعض من بَيْنِ الجماهير قَدْ يريحه أن يسمعَ من هؤلاء المحلِّلين ما يرضيه ويتَّفق مع هواه، لكنَّ النتيجة أنَّه حتَّى الرَّأي على وسائل الإعلام يضرُّ بقدر ما يضرُّ غياب الدقَّة الخبريَّة والمعلوماتيَّة. وللأسف الشديد لا ننتبه؛ لأنَّ هؤلاء الَّذين يستعان بهم لوضع الأحداث في سياق منطقي يقنع النَّاس ويقدّم له صورة قريبة من الواقع يبنون عَلَيْها آراء ومواقف هُمْ أنْفُسهم المحلِّلون الَّذين تثبت الوقائع أنَّهم ربَّما لا يفقهون فيما يتحدَّثون عَنْه. فالكُلُّ تقريبًا أصبح «خبيرًا عسكريًّا» و»محلِّلًا للشؤون الاستراتيجيَّة» و»متخصِّصًا في القدرات النوويَّة»!! يذكِّرني هؤلاء بظاهرة انتشرت في الأسواق ووسائل المواصلات في مصر قَبل عقود، وكانت قَبلها مقصورة على الريف في نطاق محدود، وهي «شربة الحاج محمود». لا أعرف إن كان الاسم حقيقيًّا أم لا؟ لكنَّها كانت عبارة عن وسيلة للتسوُّل المقنع، حيث تجد في القطار مَنْ يوزِّع زجاجات صغيرة على الركَّاب فيها سائل داكن اللَّون وعَلَيْها ملصق لصورة شيخ غالبًا هو الحاج صاحب الوصفة وينادي في الطرقات: «شربة الحاج محمود اللي بتنزل الدود». ويُعدِّد المنادي فوائد تلك الشربة شارحًا أنواع الطفيليَّات، فمِنْها ما هو مفيد وما هو ضارٌّ، وأنَّ الدواء يقضي فقط على ما هو ضارٌّ ويُغذِّي ما هو مفيد. ومع أنِّي كنتُ أدرس الطبَّ وقتها، لَمْ أستطع الوصول إلى المصدر العلمي للحاج محمود.
وكم أخرجَتْ لنَا حرب الصهاينة على الفلسطينيِّين من «حاج محمود» من المُعلِّقين والمُحلِّلين.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الإعلام الغربی مواقع التواصل الإعلام ال تقریب ا
إقرأ أيضاً:
البديوي: وسائل الإعلام بدول مجلس التعاون تؤدي دورًا مهمًّا في دعم وترسيخ مكتسبات العمل الخليجي المشترك
المناطق_واس
نوّه معالي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية الأستاذ جاسم محمد البديوي، بالدور المهم لوسائل الإعلام بدول مجلس التعاون في دعم وترسيخ مكتسبات العمل الخليجي المشترك.
وأشاد معاليه -خلال لقائه أمس عددًا من الإعلاميين في الرياض- بدور وسائل الإعلام في إيصال الرسائل الخليجية الهادفة إلى دعم السلام والاستقرار، وإبراز الجهود الكبيرة التي تقوم بها دول المجلس على الساحتين الإقليمية والدولية، من خلال تغطياتهم الإعلامية المميزة, مبينًا أن دول مجلس التعاون شهدت قفزات كبيرة في الإبداع والتطوير الإعلامي ومواكبة المتغيرات المتسارعة في عالم الإعلام، بفضل ما توليه دول الخليج من اهتمام ورعاية بالجانب الإعلامي.
أخبار قد تهمك البديوي: انعقاد المجلس الوزاري الـ 163 لمجلس التعاون والاجتماعات الوزارية المشتركة مع مصر وسوريا والمغرب والأردن بمكة المكرمة غدًا 5 مارس 2025 - 7:37 مساءً البديوي: موقف دول مجلس التعاون راسخ وثابت تجاه القضية الفلسطينية 12 فبراير 2025 - 2:54 مساءًواستمع معاليه إلى وجهات نظر الإعلاميين وأفكارهم ومبادراتهم الهادفة إلى تعزيز وتطوير العمل الإعلامي الخليجي المشترك.