جريدة الوطن:
2025-02-16@15:19:48 GMT

شربة الحاج محمود

تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT

من الأضرار الجانبيَّة لحرب الإبادة الجماعيَّة في غزَّة، وإن لَمْ تكُنْ في وضع مقارنة مع ما يدفعه الفلسطينيون من أرواحهم ودمائهم، أنَّها ركَّزت الضوء مُجدَّدًا على بعض العِلل العربيَّة الَّتي نُعاني مِنْها من قَبل لكنَّها كالأمراض المزمنة تزداد حدَّة في أوقات الأزمات. من بَيْنِ تلك العِلل ما يخصُّ المهنة الَّتي نعمل بها: الصحافة والإعلام.

فتقريبًا لَمْ يدَّخر أيُّ منفذ إعلامي عربي جهدًا لانتقاد الإعلام الغربي وانحيازه السَّافر إلى حدِّ العنصريَّة، وهو انتقاد مبرَّر بل ومتأخِّر. فالإعلام الغربي الرئيس لا يعتدُّ كثيرا بالعرب ولا بمصادر معلومات مِنْهم، وإن تناولهم فإنَّما على أساس معلومات الآخرين، خصوصًا الاحتلال في فلسطين في أغلب الأحوال أو بعض العرب «المتخوجنين» الَّذين يسمعون الأجانب ما يريدونه طمعًا في أن يقبلوا بهم لدَيْهم. انكشف ذلك بقوَّة ووضوح في التمهيد لغزو واحتلال العراق ثمَّ تدمير مقدرات ذلك البلد العربي وقتل الملايين من أبنائه استنادًا إلى كذب وتلفيق روَّج له الإعلام الغربي، ونقلنا عَنْه، بطريقة قضت تقريبًا على كُلِّ أصول مهنة الصحافة والإعلام.
مع ذلك، يظلُّ الإعلام العربي ينقل عن الإعلام الغربي ويروِّج لمصادره الأجنبيَّة كأنَّما يَعدُّ نَفْسه هكذا أصبح «مهنيًّا»! حتَّى بعد العنصريَّة الفجَّة في تغطية الصحافة الغربيَّة منذ بداية الحرب في أوكرانيا مطلع العام الماضي والسخرية المرَّة من العرب وغيرهم؛ لأنَّهم ليسوا من ذوات «الشعر الأشقر والعيون الملوَّنة»، لَمْ تتوقف أغلب منافذ الإعلام العربيَّة عن أن يكُونُ مصدرها الرئيس للأخبار والمعلومات، وحتَّى التحليلات والآراء، هو ذلك الإعلام الغربي المضلِّل والَّذي يقوم بمُهمَّة أقرب للدعاية الفجَّة والتعبئة المعنويَّة لشعوبه بطريقة التلفيق والدَّس. مفهوم أحيانًا أنَّ بعض المنافذ ليس لدَيْها الموارد والإمكانات لِتكُونَ لها مصادرها، كما أنَّ عالَمنا العربي لَمْ يتطوَّر بالقدر الَّذي يجعل الحصول على المعلومات من مصادرها الرسميَّة أمرًا يسيرًا بعد. لكن على الأقل من أهمِّ معايير الصحفيِّين مهنيًّا، دَونَ حديث حتَّى عن حياد أو موضوعيَّة شديدة، هو التفكير النقدي وتمحيص وتدقيق ما ينقلونه لجمهورهم وليس أخذ الروايات على أنَّها حقائق مُطْلقة.
وهذا ما أصبح إعلامنا يفتقر إليه بشدَّة وبوتيرة متسارعة حتَّى كاد يصبح صورة من مواقع التواصل الَّتي تعجُّ بالكذب والتضليل والآراء المغرضة المدعومة بالصوت والصورة المزيَّفة.
مع ذلك، لا نجد أيَّ نقدٍ لإعلامنا العربي وتغطية المنافذ الرئيسة له للحرب في منطقتنا ولا حتَّى أيّ قدر ـ ولو خجولًا ـ من النقد الذَّاتي بهدف تعديل المسار قليلًا والعودة لبعض المهنيَّة. بل نغرق في لوم مواقع التواصل الَّتي تنشر الأكاذيب والتضليل المتعمَّد و»تهيج» الرَّأي العامَّ بالتزييف والكذب. مع أنَّه ـ للأسف الشديد ـ كثير من وسائل الإعلام العربيَّة تقوم بِدَوْر مماثل تقريبًا، وحين يلجأ إليها النَّاس لمحاولة الحصول على معلومة أقرب للدقَّة وليست ممزوجة بالرَّأي والغرض لا يجد ضالَّته. ليس القصد هنا فقط وسائل الإعلام الَّتي تبدو كأنَّ مصدرها الأوَّل للمعلومات هو طرف واحد، أي الاحتلال الصهيوني، ولو تدويرًا لمصادر إعلام غربيَّة وإنَّما أيضًا بعض المنافذ الَّتي تنطلق من خلفيَّات أيديولوجيَّة ولو كان قصدها دعم المقاومة. فالنتيجة واحدة تقريبًا: فقدان ثقة الجماهير في الأخبار والمعلومات وإعادتهم لمصادر مشوّهة ومضلِّلة في مواقع التواصل. لا يقتصر الأمْرُ على الأخبار والمعلومات، بل حتَّى الرَّأي والتحليلات. فكما يفعل إعلام الغرب إلى حدٍّ كبير باستدعاء «الخبراء» والمحلِّلين في نقاشات الراي الَّذين غالبًا هُم الوجوه ذاتها الَّتي تظهر في كُلِّ أزمة، نجد وسائل إعلامنا العربيَّة تُعيد الوجوه والأفواه والأقلام ذاتها الَّتي طالما اعتادت الفتوى في كُلِّ الأمور وكأنَّها أحاطت بما لَمْ يحطْ به الآخرون خبرًا ورأيًا. والنتيجة أنَّ النَّاس تنفضُّ عَنْهم وتعود إلى الكذب والتضليل والتلفيق والدَّس والتشويه على مواقع التواصل وصفحات الإنترنت المُغرضة.
صحيح أنَّ البعض من بَيْنِ الجماهير قَدْ يريحه أن يسمعَ من هؤلاء المحلِّلين ما يرضيه ويتَّفق مع هواه، لكنَّ النتيجة أنَّه حتَّى الرَّأي على وسائل الإعلام يضرُّ بقدر ما يضرُّ غياب الدقَّة الخبريَّة والمعلوماتيَّة. وللأسف الشديد لا ننتبه؛ لأنَّ هؤلاء الَّذين يستعان بهم لوضع الأحداث في سياق منطقي يقنع النَّاس ويقدّم له صورة قريبة من الواقع يبنون عَلَيْها آراء ومواقف هُمْ أنْفُسهم المحلِّلون الَّذين تثبت الوقائع أنَّهم ربَّما لا يفقهون فيما يتحدَّثون عَنْه. فالكُلُّ تقريبًا أصبح «خبيرًا عسكريًّا» و»محلِّلًا للشؤون الاستراتيجيَّة» و»متخصِّصًا في القدرات النوويَّة»!! يذكِّرني هؤلاء بظاهرة انتشرت في الأسواق ووسائل المواصلات في مصر قَبل عقود، وكانت قَبلها مقصورة على الريف في نطاق محدود، وهي «شربة الحاج محمود». لا أعرف إن كان الاسم حقيقيًّا أم لا؟ لكنَّها كانت عبارة عن وسيلة للتسوُّل المقنع، حيث تجد في القطار مَنْ يوزِّع زجاجات صغيرة على الركَّاب فيها سائل داكن اللَّون وعَلَيْها ملصق لصورة شيخ غالبًا هو الحاج صاحب الوصفة وينادي في الطرقات: «شربة الحاج محمود اللي بتنزل الدود». ويُعدِّد المنادي فوائد تلك الشربة شارحًا أنواع الطفيليَّات، فمِنْها ما هو مفيد وما هو ضارٌّ، وأنَّ الدواء يقضي فقط على ما هو ضارٌّ ويُغذِّي ما هو مفيد. ومع أنِّي كنتُ أدرس الطبَّ وقتها، لَمْ أستطع الوصول إلى المصدر العلمي للحاج محمود.
وكم أخرجَتْ لنَا حرب الصهاينة على الفلسطينيِّين من «حاج محمود» من المُعلِّقين والمُحلِّلين.

د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: الإعلام الغربی مواقع التواصل الإعلام ال تقریب ا

إقرأ أيضاً:

شائعات وفاة ملك المغرب تنتشر على وسائل التواصل.. هذه هي الحقيقة (شاهد)

انتشرت على عدد من مواقع التواصل الاجتماعي، مساء السبت، جُملة من المنشورات المضلّلة، زعمت وفاة ملك المغرب محمد السادس. فيما ارتفع معدّل البحث عن اسم الملك المغربي، بشكل متسارع عبر مختلف محرّكات البحث.

وبحسب تقديرات لموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لوحده، قد تم تداول اسم "الملك محمد السادس" لأكثر من 77 ألف مرة، وذلك خلال ثلاث ساعات فقط، وهي المدّة التي انطلقت فيها هذه "الموجة" بوتيرة مُتصاعدة.

إثر ذلك، أبرز عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أن تداول المنشورات التي اعتمدت على ملصقات وُصفت بـ"المُفبركة"، نُسبت إلى صحيفة "هسبريس" المغربية البارزة، هي: "حملة إلكترونية منسّقة"، خاصة إثر الارتفاع المفاجئ لتداولها خلال فترة زمنية قصيرة.

وزعمت المنشورات المضلّلة أن الصحيفة المغربية قد نشرت خبرا عن: "وفاة الملك المغربي وحذفته بعد دقائق"، وهو ما كذّبته صحيفة "هسبريس"، عبر بيان لها، مساء السبت، نفت فيه أي علاقة لها بهذه المنشورات الزائفة، فيما وجّهت أصابع الاتّهام إلى: "جهات معادية للمغرب" بنشر أخبار كاذبة تستهدف مؤسسات البلاد الدستورية.



وأوضحت الصحيفة، عبر البيان نفسه: "يتواصل مسلسل إقحام جريدة هسبريس الإلكترونية في ترويج أخبار زائفة لا أساس لها من الصحة عبر منصات التواصل الاجتماعي، باستغلال الهوية البصرية للجريدة".

وأكّدت الصحيفة المغربية التي نُسب إليها الخبر الكاذب: "تجدد جريدة هسبريس تنبيه قرائها إلى أن موادها الصحافية متاحة على صفحاتها الرسمية بروابط واضحة، كما ألفوا ذلك منها"، مردفة في الوقت نفسه: "تحتفظ هسبريس لنفسها بحق اللجوء إلى كل الوسائل القانونية في مواجهة مستغلي هويتها البصرية لاقتراف جريمة الترويج للأكاذيب".


تجدر الإشارة إلى أنه رغم محاولة مروّجي هذه المنشورات محاكاة تصميمات "هسبريس"، إلا أن الفروقات كانت واضحة، إذ اختلف نوع الخط المستخدم عن المعتاد لدى الصحيفة، ناهيك عن وجود أخطاء إملائية لافتة في المنشورات المزيفة.

كذلك، كان آخر بيان صادر عن الديوان الملكي المغربي، منشورا على موقع وكالة الأنباء المغربية الرسمية بتاريخ  23 كانون الأول/ ديسمبر الماضي؛ وهو ما يؤكد كذلك كذب الشائعات التي نُشرت.

مقالات مشابهة

  • انطلاق الحلقة التطويرية نحو إطار وطني للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي
  • وسائل الإعلام في مجتمعات ما بعد النزاع: بين الهيمنة والتحرر
  • شائعات وفاة ملك المغرب تنتشر على وسائل التواصل.. هذه هي الحقيقة (شاهد)
  • وسائل الإعلام تحاول التفريق بيننا.. هكذا نفى ترامب خلافه مع إيلون ماسك
  • «الشارقة للصحافة» ينظم جولة لممثلي وسائل الإعلام الدولية
  • ترامب يدافع عن علاقته مع ماسك ويسخر من الإعلام
  • هل تم إحراق جثة حارق «القرآن الكريم».. ما القصة؟
  • مفاجئة وصادمة.. هدايا حماس للأسرى الإسرائيليين تثير جدلاً عالمياً
  • ترامب ينتقد وسائل الإعلام لمحاولة الوقيعة بينه وبين ماسك (فيديو)
  • أنتونيلا روكوزو ترد على شائعات الحمل وتضع حدًا للتكهنات