فى مناخ تمدُّد مساحات الحرب “المليجيشية” فى السودان، المطلوب مواصلة الضغط لتحقيق وقف الحرب، وفرض السلام !!
تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT
مدار أوّل:
"البلد الحنين .. سمِّيتو يُمٌة و يابا... بين العالمين ..عِزة وجمال ومهابة... الحُزن القديم .. تمطر تزيلو سحابة... لا أطفال حزانى..لا نازحين وغلابة..." ((محمد طه القدال))
-1-
أكتُب مساء اليوم 26 ديسمبر 2023، ومُدن العالم الآمنة والمطمئنة، تواصل اِحتفالاتها البهيجة بعيد ميلاد السيد المسيح، "رسول السلام"، بصورٍ شتّي، بينما يعيش السودان وأهله وساكنيه، فى حالة حُزنٍ تام، وضنك حربيٍّ سام، وكرب يُثقل الأنفس المحبة للسلام، ومآسي كُبري، تسبّبت فيها وعمّقتها وأطالت أمدها الحرب "المليجيشية" الكارثية، بين الدعم السريع والجيش، وتابعهما "الأطراف المتحاربة الأُخري"، كما يُطلق عليها مجازاً، حيث تتواصل – وبصورة متزايدة – أفظع انتهاكات حقوق الإنسان فى السودان، بهذه الحرب اللعينة والخاسرة، وقد "وصلت سيوفها زباها"، لتدمّر - يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر – المزيد من البني التحتية، والمنشئات الإستراتيجية، فى طول البلاد، وعرضها، من عاصمة البلاد الخرطوم، إلى دارفور، ثُم كردفان!.
-2-
هاهي الحرب "المليجيشية" (("العبثية"))، كما يُطلِق عليها، ويصفها، مفجروها بـ"عظمة ألسنتهم"، تتمددّ، وتدخل منعطفاً خطيراً، لتدشن مرحلة جديدة من الاحتراب والإقتتال طويل المدي، بدخول قوات الدعم السريع مدينة ودمدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وقد تمددت المعارك القتالية بين الجيش والدعم السريع، لتصل إلى تخوم مداخل مدينة سنار، التي تبعد 60 كيلومتراً من عاصمة الولاية سنجة، التي تبعد – هي الأُخري - من عاصمة البلاد الخرطوم بحوالي 360 كيلومتر، وكل هذا وذلك، يؤكّد أنّ الحديث عن انحسار موجات الإقتتال، لم يُعد سوي، مجرّد كلام "ساكت"، ليس له ما يدعمه ويعضده فى الواقع، وميادين ومسارح القتال، رُغم الجهود المبذولة من منظومة الإيقاد، وغيرها، لتحقيق اختراق، بلقاء قادة الطرفين (البرهان وحميدتي) المُرتقب فى عنتيبي، بيوغندا، أو ربّما غيرها، للوصول لوقف أصوات البنادق والراجمات، وانحسار حركة الطلعات الجوية، والقصف العشوائي للأهداف والأعيان المدنية، قبل نهاية هذا العام!.
-3-
بعد إعلان قوات الدعم السريع، اِحكام سيطرتها الكاملة على مدينة ود مدني، وعلى أمانة الولاية، كما على مقر الحامية العسكرية، أعلن الجيش - فى المقابل – انسحاب قواته من (رئاسة الفرقة الأولى) من مواقعها فى المدينة، يوم الإثنين 18 ديسمبر 2023، وقال الجيش، فيما قال: أنّه بصدد إجراء تحقيق فى أسباب وملابسات هذا "الانسحاب"، ثمّ مضى قائد الجيش الفريق البرهان، ليقول – لاحقاً- "ستتم محاسبة كل متخاذل تورط فى أحداث ودمدني، ولا مجاملة فى ذلك" !.
-4-
بورود عبارات من شاكلة "متخاذل" و"تورُّط" و"مُجاملة"!. فى مثل هذا السياق الحساس، فإنّ هذا يُعتبر مؤشّراً بارزاً وقوياً، لـ(شيئٍ ما) يجري فى الكتمان فى أروقة الجيش السوداني، على طريقة عبارة "وحدث ما حدث"، التي أطلقها الفريق الكباشي، فى تبرير جريمة (فض الإعتصام) من أمام بوابات القيادة العامة للجيش السوداني، تلك الجريمة النكراء، التي مازالت أسرارها طي كتمان مدبريها ومنفذيها، وقد زاد طينها بِلّة، صمت لجنة التحقيق فى تلك الاحداث التي شكلها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، برئاسة المحامي نبيل أديب، ولمن لا يعلم، فإنّ مثل هذه الجرائم الخطيرة، لا – ولن – تسقط بالتقادم، مهما كانت الاسباب والمبررات !.
-5-
كثير من المراقبين العسكريين يعتقدون أنّ انسحاب قوات الجيش من "حامية" مدينة مدني، فيه مؤشّر قوي لوجود بحيرات مياهٍ آسنة، ظلّت راكضة تحت جسر العلاقة بين القيادة العليا للجيش، والقيادات الوسيطة، و"الرُتب" الأدني من الضباط، والقاعدة التحتية المكونة من صف الضباط، والجنود البسطاء، إذ لم يعد خافياً على الجميع – والحديث للمراقبين العسكريين – "شبهة" تحالف القيادة العليا فى الجيش، مع كتائب النظام المُباد (البراء) على حساب (وحدة الجيش)، وبخاصةّ، أن ظاهرة "الانسحاب" من "الحاميات" والمواقع العسكرية، والمُدن المهمة، لم يكن الأوّل من نوعه، فى مدني، إذ سبقته "انسحابات" مشابهة ومماثلة، من مواقع عسكرية أُخري، من قبل، ويخشي كثير من الناس أن يسود هذه السيناريو فى مُدن وولايات أُخري، وهذا مربط الفرس !.
-6-
انتقال المعارك الحربية بين طرفي الحرب "المليجيشية" الكارثية، إلى ولاية الجزيرة، وحاضرتها ودمدني، جعل من احتمالات اتساع رقعة الحرب، ودخول البلاد مرحلة الحرب الشاملة، مؤشّراً لحقيقة مخيفة، بإنضمام ولاية الجزيرة، إلى تسع ولايات سبقتها، ظلّت تشهد قتالاً مستمراً وشرساً بين الطرفين الرئيسيين فى الحرب، والأطراف المتحاربة الأخري، وهي – لمن لا يعلم - كتائب النظام المُباد، بمختلف مسمياتها وواجهاتها، والمليشيات الأُخري، المتحالفة مع واحدٍ من طرفي الحرب، والمدعومة بالمال والرجال والعتاد الحربي منهما، بل، نجدها تحارب إلى جانبه "كفاحاً"، أو تخوض معاركها بالوكالة عنه، وعن جهاتٍ خارجية، أصبحت معروفة للجميع، هي المستفيد الأوّل والأخير من الدمار الذي يحدث – وبفظاعة غير مسبوقة - فى السودان، مُضافاً إلى ذلك حملات (استنفار) المدنيين، ليصبحوا وقوداً للحرب الكارثية !.
-7-
فى الوقت الذي تتواصل فيه الحرب الكارثية على الأرض، تتواصل على الميديا والمنصات الإعلامية والميديا الإجتماعية بين الطرفين، حرب ضروس أُخري، لا تقل ضراوة عن الحرب الأصل، حربٌ، ترتفع فيها وتائر الدعاية الحربية "البروباقاندا"، التي يصرف فيها الطرفان أمولاً ضخمة، لتنشر الأخبار الزائفة والمضللة، والكاذبة، ويتم عبرها التحشيد، والتحشيد المُضاد بين طرفي الحرب، حيث يثمارس خطاب كراهية ضد الآخر والمختلف، ويتصاعد لمراحل غير مسبوقة، وهذا يجعل السودان فى حالة اِظلام إعلامي ومعلوماتي شامل، ويجعل من الشباب المتحمّس وقوداً لهذه الحرب الخاسرة، وترتفع رايات التخوين، والتحقير والتحريض على كل الأصوات المعارضة للحرب، والمنادية بالسلام!.
-8-
وقبل أن نودع هذا المقال منصات النشر، ليقرأه الناس، هاهي الأخبار تتري بتجدد المعارك فى الخرطوم، ومناطق ومُدن أخري منها أم روابة والرهد، والأبيض التي شهدت فى الأيام القليلة الماضية، حالات عُنف ورُعب جديد، بسبب تعرّض أجزاء من المدينة لهجوم نفذه الدعم السريع، لعدة أيّام، وبلا أدني شك، فإنّ مثل هذا المنحى الخطير، يجعل من هذه الحرب كارثة أعظم وأكبر مما توقّع الناس، ولهذا، يتوجب بحث كل السبل الكفيلة بإيقافها، ومُسائلة ومحاسبة مدبريها، وعدم السماح لهم بأن يكونوا طرفاً فى أيّ ترتيبات "إنتقالية"، بعد الحرب، وبكلمة أُخري، عدم مكافأتهم، بعودتهم للحكم مرّة أُخري، على أشلاء ودماء أهل السودان، عبر تسويات – من الواضح - أنّها تُحاك فى الظلام، بعيداً عن أحلام وآمال شعبنا فى تحقيق السلام والإستقرار المستدامين، ورغبته فى استكمال مسار ثورة ديسمبر المجيدة !. ولن يتحقق ذلك، إلّا بتكوين أوسع جبهة شعبية، لمناهضة الحرب، وعزل مفجريها عن الحياة السياسية السودانية، ومحاسبتهم على الجرائم التي إرتكبوها بحق الوطن والشعب، وما هذا ببعيد، إذا توحدت إرادة قوى الثورة الحقيقية، وواصلت مهام وواجبات استكمال ثورة ديسمبر المجيدة، ة، وحتماً، فإنّ طريق السلام شاق وطويل، ولكن، يبقي أنّ كل من سار على درب السلام المستدام، سيصل، ولو بعد حين !. والمطلوب اليوم – قبل الغد – تكريس كل الجهود لوقف الحرب، بمواصلة الضغط الشعبي، والإقليمي والدولي، على قيادة طرفي الحرب، للجلوس المباشر، لإتخاذ تدابير عاجلة لوقف الحرب، وتوفير الحماية للمدنيين، وتحقيق فرض السلام... وهذا ما ينتظره الشعب السوداني، من الإيقاد، وأصدقاء الإيقاد، فهل يتحقق ذلك، الحلم المشروع، اليوم، قبل الغد ؟!.
جرس أخير:
"لا تقف فى بداية الطريق إن وجدت صخرة ... فهذه جزء من جسرٍ ستبنيه يوماً لمستقبلك"... /// "يقيس الجنود المسافة بين الوجود وبين العدم بمنظار دبابة ... نقيس المسافة ما بين أجسادنا والقذائف بالحاسةِ السادسة ..." ((محمود درويش))
فيصل الباقر
faisal.elbagir@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: طرفی الحرب
إقرأ أيضاً:
“كتّاب التدخل السريع: عباقرة الانحدار الأكاديمي”
“كتّاب التدخل السريع: عباقرة #الانحدار_الأكاديمي”
بقلم: أ.د. #عزام_عنانزة
في كل حقبة زمنية، يظهر نوع جديد من العباقرة الذين يعيدون تعريف معاني الانحدار الأخلاقي. أحدث هؤلاء “المبتكرين” هم ما يمكن وصفهم بـ”كتّاب التدخل السريع”، أولئك الذين باعوا أقلامهم بثمن بخس لا يكاد يكفي لشراء احترام الذات. هذه الظاهرة التي بدأت تغزو الوسط الأكاديمي هي تجسيد حيّ لما يمكن أن يصل إليه البعض من انحطاط، في سبيل التقرب إلى المسؤولين أو لتغطية أخطائهم وخطاياهم. بل والأكثر إثارة للشفقة، أنهم أحياناً يصبحون عيون الإدارة في كل زاوية، وألسنتها في كل مجلس، مقابل مكاسب صغيرة أشبه بفتات الموائد.
هذه الفئة مكشوفة للجميع، وكما يقول المثل الشعبي: “معروف ثمنه”. لا أحد يأخذهم على محمل الجد، لا في الوسط الأكاديمي ولا في المجتمع عموماً. تأثيرهم؟ معدوم تماماً، لأنهم ببساطة استُهلكوا واحترقوا في عيون الجميع. وكيف لا يحترقون وهم ينقلبون على أعقابهم بين ليلة وضحاها، يتغنون بإنجازات الإدارة الحالية ورؤيتها العميقة، ثم يشتمون الإدارات السابقة باعتبارها سبب كل الأزمات والمصائب.
لكن المأساة الأخلاقية الحقيقية تتجلى في أن هؤلاء الكتّاب لم يبيعوا أقلامهم فحسب، بل وصل الأمر بهم إلى بيع ضمائرهم. فقد تحوّلوا إلى شهود زور في كل قضية، يلوون الحقائق وينقلبون على المبادئ ليخدموا أجندات المسؤولين، ضاربين بعرض الحائط أمانة الكلمة وشرف الموقف. لقد أصبحوا رموزاً للنفاق والرياء، يبيعون ضمائرهم في سوق المصالح الضيقة بلا تردد.
مقالات ذات صلة معلمو مخيمات اللاجئين السوريين يلوحون بالاضراب 2025/01/23هؤلاء الكتّاب ذاتهم كانوا بالأمس القريب يتغنون بأمجاد الإدارة السابقة، يصفونها بأنها قائدة التغيير وصانعة المستقبل. ثم، وبقدرة قادر، تنسى هذه الأقلام “المستأجرة” أن ذاكرة الناس ليست بهذا القصر. تناقضاتهم مكشوفة، ومواقفهم تتبدل بسرعة تعجز عنها حتى عقارب الساعة، لتثبت أن لا ولاء لهم إلا لمصالحهم الضيقة.
هؤلاء الكتّاب لا يمثلون فقط حالة فردية من التلون والنفاق، بل هم خطر على المجتمع بأسره. فهم يكرسون نموذجاً منحرفاً من السلوك الأكاديمي، حيث يصبح النفاق وسيلة للارتقاء، والتكسب هو العنوان الأبرز. ومع ذلك، فإن المصير الحتمي لأي إدارة تعتمد على دعم هذا النوع من الكتّاب معروف: الانهيار والفشل.
عندما ترحل الإدارة التي دعموها (وربما ساهموا في تعجيل سقوطها)، يتحولون فجأة إلى أول من يهاجمها ويلقي اللوم عليها في كل صغيرة وكبيرة. في مشهد هزلي لا ينقصه سوى موسيقى تصويرية ساخرة، يبدأ هؤلاء الكتّاب في التغني بالإدارة الجديدة، يملأون الدنيا صخباً بوعودها البراقة التي ستغير واقع الجامعة بـ”لمسة قلم” أو “رمشة عين”.
نحن لا نحسد هؤلاء، بل نشفق عليهم. نشفق على الرحلة التي يقومون بها بين أحضان الإدارات المتعاقبة، يجلسون عند أبوابها مستجدين رضاها، بينما تمتد أيديهم بلهفة لالتقاط أي فتات يُلقى لهم. هؤلاء الكتّاب ليسوا فقط عاراً على الوسط الأكاديمي، بل هم وصمة سوداء تذكرنا بما يمكن أن يحدث عندما يصبح القلم أداة للبيع، والرأي سلعة تخضع للعرض والطلب.
في النهاية، نرجو لهم التوفيق… في إيجاد مرافق جديدة يجلسون عند أعتابها، وإدارات جديدة يبيعون لها ولاءهم، في انتظار الفرصة القادمة للتلون والنفاق.