التربيةُ السليمة خيارُها الحصانةُ لا المنع
تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT
آخر تحديث: 27 دجنبر 2023 - 1:34 مد. عبد الجبار الرفاعي أضعفت وسائل التواصل كثيرا دور العائلة في التنشئة الاجتماعية، إلى درجة أصبح الصغارُ يعيشون ويتفاعلون مع اليوتيوب وأمثاله أكثر من حياتهم وتفاعلهم وأحاديثهم مع الأبوين والأهل. الناشئة يحتاجون التسلية واكتشاف كل شيء في الحياة، تغويهم وسائل اللعب المسلية أكثر من أي شيء آخر.
في وسائل التواصل المرئية يمكن التعرّف على الأشياء بسهولة بالصور ووسائل الإيضاح الجذابة، وتوفر لهم طرائق للاندهاش واللعب، وعروضا كوميدية ضاحكة لا يرونها خارجها، وغالبا لا تتوفر في بيت العائلة والمدرسة. أمضيت أسبوعين قبل مدة في بيت ابنتي د. تقى وابنتها سمير أميس، سمير أميس بعمر عشر سنوات، حادة الذكاء ومتفوقة كأمها، لم تجلس معنا إلا وقت الطعام، كانت تستهلك وقتها منذ تستفيق صباحا بمشاهدةِ الأفلام والسياحة في وسائل التواصل المرئية والمسموعة، والتواصل مع ألينا بنت ابنتي أبرار في استراليا لعدة ساعات. سميراميس وألينا تتحدثان الإنجليزية كأنها لغتهما الأم، تتبادلان المعلومات عن: الأفلام، واكتشاف ثقافات العالم، والطبيعة، والحياة في البحار والمحيطات والأنهار، والمدن وتقاليد المجتمعات، وآخر معطيات العلوم والمعارف والذكاء الاصطناعي. تدهشني سميراميس حين تتحدث بما تعلمته من اليوتيوب ووسائل التواصل، تعرف أشياء مازلت أجهل كثيرًا منها.
يمكن إعادةُ بناء التربية والتعليم من خلال تطوير مناهج تواكب إيقاعَ الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة في وسائل التواصل، وإيقاظُ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية الضرورية لتحصين الجيل الجديد، وحمايته من الآثار السلبية لوسائل التواصل والذكاء الاصطناعي، لكن ذلك يتطلب خبراءَ مؤهلين أكاديميًا وقيميًا للنهوض بهذه المهمة الجسيمة.في أغلب البلاد العربية ينتمي العقلُ الذي يدير العمليةَ التربوية والتعليمية إلى عصرٍ لم تظهر فيه وسائلُ التواصل ولا الذكاء الاصطناعي، أعرف بعضَ مَن يديرون مؤسسات التربية والتعليم لا يمتلكون مهارات بسيطة للتعامل مع وسائل التواصل. في استطلاعٍ نُشر قبل سنوات قريبة رأيتُ بعضَ المسؤولين في الدولة لا يمتلكون بريدًا إلكترونيًا. التربيةُ السليمة تعتمدُ الحصانةَ لا المنع، الأبناءُ ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذرُ علينا إرجاعَ الزمن للوراء والهجرة العكسية من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا.
كنتُ لا أمنعُ أولادي من اللعبِ في الشارع والاندماجِ بجيلهم، والتعرّفِ على الواقع ميدانيًا. أساعدهم على اكتشافِ ذواتهم، والتنقيبِ في خرائط دروبِ الحياة المتشعبة بأنفسهم، لئلا يعيشوا مغتربين عن عصرهم وجيلهم. أرشدهم، وأراقب سلوكَهم من بعيد، ولا أتدخل كثيرًا في حياتهم الخاصة وخصوصياتهم. حرصتُ على أن يكونَ أولادي كما هم لا كما أنا، كلٌّ منهم يشبه ذاته، ما أكرهتُهم على محاكاتي، ولم أحثّهم يومًا على استنساخ صورتي.
تطورت شخصياتُهم في سياق طبيعتِهم البشرية وبنيتِهم النفسية وزمانِهم، فصاروا يعبّرون عن ذواتهم ورؤيتهم للعالَم وأحلامهم قبل تعبيرهم عني ورؤيتي للعالَم وأحلامي، وهذا سرّ النجاح في حياتهم. لحظةَ تختفي الحياةُ العائلية لإنسانٍ تفرض وسائلُ التواصل حضورَها بالتدريج بوصفها عائلةً بديلة، يمكن أن توفِّر للإنسان تواصلًا يوميًا مع مَن يحتاج أو يشتاق للتواصل معه.
كثيرٌ من العوائل اليوم، خاصةً الأفراد الذين يقيمون في بلاد متعدّدة، يلتقون بتواصلٍ يومي داخل مجموعة واحدة، تحضرُ فيها أخبارُهم وكلماتُهم وكتاباتهم وصورهم وأفراحهم وأحزانهم، ولا تغيب فيها أكثرُ مواقفهم ونشاطاتهم، يفيض بعضُهم على بعض المودةَ والأشواقَ وترقبَ اللقاء والتطلعَ إلى كلِّ ما يجعلهم أشدّ قربًا وتلاحمًا. ولا تخلو من متاعبهم ومواجعهم ومشكلاتهم وأحزانهم، يتعاونون معًا للتغلّب عليها، ويدعمون مَن يمرّ بظروفٍ قاهرة من أفراد العائلة. تسهم وسائلُ التواصل في خفض معاناة كبار السن، وتخفض شيئًا من عزلتهم الموحشة. الشيخوخة منفىً موحش، أكثر الجيل الذي عاش معه الإنسانُ يغادر الحياة، أو تفرض عليه الأمراضُ ووهنُ البدن العزلة، الأبناء يذهب كلٌّ منهم إلى حياته الخاصة وشؤونها وشجونها. لا يحمي الإنسانَ من وحشة تقدّم العمر إلا تكثيفُ التواصل مع مَن يحب. الاستعمال الذكي لوسائل التواصل يحمي كبارَ السن من منفى العزلة. تجاوز عمرُ أحد الأصدقاء 90 عامًا، أمثالُه من المعمرين تفرض عليه الشيخوخةُ عزلةً مريرة، وأكثرُهم يضطرّ للعيش في دور العجزة، عندما لا يجد أحدًا من العائلة يواكبه في هذه المرحلة العمرية، ويؤمّن له متطلبات العيش الأساسية. صديقي إنسانٌ عالِم حكيم وواقعي اكتشف في وسائل التواصل عائلةً يعوّض فيها شيئًا من الافتقار للعائلة، ويكسر شيئًا من عزلة تقدّم العمر الكئيبة، فصار يكثّف تواصلَه اليومي بكلِّ إنسان تعرّف عليه يومًا في حياته في أيّ بلد كان.
لم أرَه يومًا يضجر من تكرار مهاتفة بعض الأشخاص، الذين لا يجيبونه إلا مرة واحدة لو هاتفهم عدة مرات لكثافة وتراكم أعمالهم. عويلُ الضحايا وصرخاتُ المعذبين كانت تموت داخل جدران الزنزانات الحزينة والكهوف المظلمة، تتمزق جلودُهم من أنواع التعذيب الشنيعة، ويمارس الجلادون كلَّ أساليب القهر وانتهاك الكرامة الفظيعة معهم ويسحقون شخصياتِهم بوسائل قذرة من دون أن يسمع بذلك أحدٌ خارج هذه الأقبية المظلمة الحزينة. في أكثر الدول لم يعد هؤلاء الجلادون يمارسون شناعاتِهم بعيدًا عن الافتضاح عبر الإنترنت وتطبيقات وسائل التواصل. لم يلبث عويلُهم يختنق وينطفئ في تلك الأقبية، بل أضحى بالإمكان أن يتردّد صدى عويلهم في أنحاء العالم المختلفة. المنظمات والهيئات والجماعات المدافعة عن الحقوق والحريات تستثمر تطبيقات وسائل التواصل بمهارة، وتحرص على تحشيدِ الأصوات وتعبئةِ المواقف المتضامنة مع الضحايا وتكثّف شعاراتِها ومطالبَها وما تذيعه من وثائق لفضح جرائم التعذيب والبطش في دول متعدّدة.
وسائل التواصل ليست شرًا مطلقًا، بوصفي طالبًا للعلم وقارئًا شغوفًا كلّ حياتي، تعلمتُ كثيرًا مما يُنشر في وسائل التواصل. وبوصفي كاتبًا تعلمتُ أكثر منها، وقفتُ فيها على شيءٍ مما هو غاطسٌ داخل الإنسان، وما تعلنه بعضُ كلماته وما تضمره هفواتُه.اكتشافُ شيءٍ مما يختبئ داخل الإنسان أثمنُ اكتشافات حياتنا، لأنه يمكّننا من حماية أنفسنا من شروره. اكتشفتُ عبر وسائل التواصل شيئًا من التعصبات والكراهيات والشرور المختبئة في أعماق بعض الأشخاص، الذين يحاولون الاختباءَ خلف أقنعة يظهرون فيها بصورةٍ مضادّة لما يختبئ في داخلهم. رأيتُ المخيالَ والرغبات والعقد النفسية والأوهامَ تحضر في وسائل التواصل أكثر من الواقع، تتحدّث فيها أماني الناس وأحلامُهم وطموحاتُهم ورغباتُهم وأوهامُهم وعقدُهم المكبوتة وأمراضُهم النفسية والأخلاقية بوضوحٍ لافت. لم تعد الحياةُ الخاصة مستودعًا للأسرار، كثرةُ ما ينشره بعضُ المدمنين على النشر ينضب فيها الواقع، ويتدفق شلّالُ المخيال والأوهام بفيض التمنيات والأحلام والأسرار المدفونة في الأعماق.
لا يتسع وقتي للذهاب إلى الأسواق والمناسبات الاجتماعية والمقاهي. السوقُ الذي أحتاج التسوقَ منه أحضر فيه عبر الإنترنت، الشارع أزوره بتطبيقات وسائل التواصل، كأن الفيس بك والتطبيقات المشابهة له أصبحت هي الشارع والسوق والمجال العام الحقيقي لا الافتراضي. أقرأ فيها واستمع وأرى كلَّ ما يزدحم في الواقع من ضجيج وضوضاء وصخب الأصوات العنيفة وغيرها. تعرفتُ بحضوري في تطبيقات وسائل التواصل على كثيرٍ من تفاصيل حياة المجتمع، وعاداته، وتقاليده، وثقافته، والقيم السائدة فيه، وعاهاته، وكثيرٍ من أمراضه الأخلاقية والنفسية،كما تعكسها منشوراتُ بعض الأشخاص وأحاديثُهم. لا أزهد بما تعلمته من الهامشي والتهكمي والغرائبي والتافه الذي يتفشى فيها، الذي تتجلّى فيه ثقافةُ المجتمع واهتماماتُه واحتياجاته وتمنياته وأوهامه. دعاني ذلك أيضًا لإعادةِ النظر بإصدار أحكام قِيْمة، تصف كلَّ ما يُنشر بأنه: هامشي أو تافه أو رديء أو عبثي. إن ما يتكشف في هذا النوع من الكتابات المتنوعة لا نراه أحيانًا في نصوص جادة. ينبغي أن نعيد النظرَ بمثل هذه الأحكام الكلية الشاملة، في مثل هذه الحالات لا يتفق منطقُ البحث العلمي مع التعميم. يجدر بمن يحكم على تسمية الواقع الذي نعيشه اليوم بـ «التفاهة»، ويحكم بذلك على نمط وجود الإنسان الجديد الذي فرضه الإنترنت ووسائلُ التواصل أن يعيد النظرَ بهذا الحكم الكلي المتعجّل. يدهشني التسرعُ والتكرار بإطلاق كلمة «التفاهة»، بنحوٍ أضحت هذه التسميةُ فيه أحدَ الأحكام المبتذلة على كلِّ شيء جديد في الحياة الراهنة، على لسان كثيرٍ من المتحدثين.
وسائلُ التواصل قَدَر وجود الإنسان في عصر الإنترنت ووسائل التواصل، نادرًا ما نرى أحدًا من البشر اليوم غيرَ منخرط فيها، أو تخرج نشاطاتُه وما يمارسه في حياته عن الإنترنت. البشر جميعًا نقلهم الإنترنت ووسائلُ التواصل إلى نمطِ وجود مختلف شاؤوا أم أبوا. نمطُ الوجود هذا فرضته صيرورةٌ أبدية لن تتعطل ولن تعود للوراء إلا بانهيار هذه التكنولوجيا. ذلك ما يجعل الإنسانَ لا يرى بحضوره في الإنترنت ووسائل التواصل حرجًا قيميًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، بوصف حياته صارتْ لا تتحقّق إلا في فضاء هذا الواقع الذي وجد ذاتَه تعيش فيه، ويجري تسيير ُكثيرٍ من معاملاته وعلاقاته وإدارة حياته في فضائه.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: فی وسائل التواصل فی حیاته شیئ ا من أکثر من
إقرأ أيضاً:
البعثة الأممية: وسائل التواصل الاجتماعي تسهم في تفاقم خطاب الكراهية بليبيا
ليبيا – أكدت بعثة الأمم المتحدة في تقرير إخباري تنظيم ورشة عمل شبابية عبر الإنترنت، تمحورت حول خطاب الكراهية بوصفه محركًا للصراع الاجتماعي.
وأشار التقرير، الذي تابعته وترجمته صحيفة “المرصد“، إلى مشاركة 24 شابًا وشابة من مختلف أنحاء ليبيا في الورشة التي تندرج ضمن برنامج “يو إنغيج” المُصمم من قبل البعثة. وأكد المشاركون الحاجة إلى جهود مشتركة لمعالجة قضية خطاب الكراهية.
وناقش المشاركون، وهم 11 شابًا و13 شابة، سبل مكافحة خطاب الكراهية السائد في البلاد، ولا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، مع التركيز على تأثيراته في الصراع الاجتماعي. كما أشاروا إلى وجود ارتباك واسع حول التمييز بين الانتقاد المشروع وخطاب الكراهية.
وأوضح التقرير أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المستقطبة لعبت دورًا كبيرًا في تفاقم خطاب الكراهية والمعلومات المضللة. ونقلت سميرة بو سلامة، مسؤولة حقوق الإنسان في البعثة الأممية، قولها: “يجب على أصحاب السلطة اختيار كلماتهم بعناية، فالاختيار الخاطئ للغة يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة”.
كما نقل التقرير عن أحد المشاركين قوله: “إن مكافحة خطاب الكراهية في ليبيا أمر صعب، لأن الصفحات الأكثر انتشارًا في نشره على فيسبوك تعود ملكيتها لشخصيات مؤثرة، مما يجعل التصدي لها أمرًا خطيرًا بالنسبة للشباب”.
التوصيات:
التعليم المبكر في المدارس حول منع التنمر والجرائم الإلكترونية. دعم السلطات وزيادة الوعي بين الشباب بالمخاطر المحيطة بخطاب الكراهية. وضع ميثاق شامل ومدونة سلوك لوسائل الإعلام لتقليل الخطاب التحريضي والمعلومات المضللة. تعزيز المجتمع المدني والاتحادات الطلابية ومنظمات التحقق من الحقائق. العمل مع منصات التواصل الاجتماعي لتحديد خطاب الكراهية ومواجهته. إطلاق مبادرات إعلامية تعزز قصص التعايش السلمي وتجمع المجتمعات المختلفة.وأكد أحد المشاركين أن معالجة خطاب الكراهية تتطلب جهودًا مشتركة من الحكومة والمجتمع المدني والمواطنين، مع التركيز على تعزيز الهوية الوطنية الموحدة والقيم المشتركة التي توحد الليبيين.
واختُتم التقرير بالإشارة إلى أن الورشة هي جزء من سلسلة ورش نظمتها البعثة الأممية، تهدف إلى إشراك ألف شاب من جميع أنحاء ليبيا لتقديم توصيات تسهم في وضع استراتيجيات الأمم المتحدة الموجهة للشباب وتعزيز إدماجهم.
ترجمة المرصد – خاص