لماذا لا تزال الرسالة الإعلامية الإسرائيلية فاشلة المحتوى؟
تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT
لم تكن الحرب الإعلامية التي اشتعلت مع اشتعال الأراضي الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر أقل عنفًا وشدةً من القتال المتواصل حتى لحظة كتابة هذه السطور.
فحرب السردية- بين المقاومة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية- كان لها نصيب كبير من الاهتمام والتركيز. ذلك أنه لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية موقف العالم من هذه الحرب، التي تتجاوز في أبعادها وآثارها حدود الأراضي الفلسطينية والإقليم كلّه.
من اللحظة الأولى لبدء عملية "طوفان الأقصى"، كان واضحًا أن فصائل المقاومة الفلسطينية قد أتمت استعدادات كبيرةً للحرب الإعلامية بالتزامن مع اقتحام السياج الأمني حول قطاع غزة. فالفيديوهات المذيّلة باسم "الإعلام العسكري"، بدأت البث منذ اللحظات الأولى لهذه العملية. وهذا ما أشار إلى أن المقاومة الفلسطينية، قد أعدت نفسها لفرض السردية والرواية الفلسطينية عبر رسائل الإعلام العسكري، وهو ما غاب- في البداية- عن الجانب الإسرائيلي كنتيجة طبيعية لغياب المعلومة عنه ابتداءً.
إسرائيل تعتبر دائمًا أن الآخر المقابل -ولا سيما العربي- هو مجرد شخص "غبي" غير قادر على الإبداع، ولذلك فالمفترض أن إسرائيل لا تحتاج لبذل جهد في بناء سردية مقنعة مقابل سرديته، خاصةً أنه لا يحمل أي خبرات في التعامل مع أدوات بناء السردية عبر الدراما والإعلام الهوليودي
وللحق، بمجرد استيعاب حجم الضربة بعد أيام من العملية، بدأت إسرائيل في لملمة صفوفها، واستنفار جميع خبراتها وقوتها الإعلامية العالمية؛ لاستدراك ما حصل ومحاولة فرض سرديتها الخاصة، متسلحةً في ذلك بشبكة واسعة جدًا من حلفائها من جهابذة الإعلام الأميركي خصوصًا، والغربي عمومًا. ولجأت في سبيل ذلك إلى سيل الأكاذيب التي كُشفت لاحقًا في قصص السابع من أكتوبر، مثل: قطع رؤوس الرضع، وإحراق الأطفال أحياء، والاغتصاب، وغير ذلك.
الفكرة هنا ليست دراسة أثر هذه العملية، خاصةً أن كذب هذه السردية كلها قد انكشف لاحقًا كما كان متوقعًا، وما زالت الكذبات تتكشف كل يوم، حتى وصل الأمر يوم 19 ديسمبر إلى إفراج جيش الاحتلال عن فيديو صورته طائرة مسيرة في السابع من أكتوبر يثبت الرواية الفلسطينية، بأن قتل عائلات إسرائيلية ونساء وأطفال – في الكيبوتسات الإسرائيلية، مثل كيبوتس بيئيري – لم يكن إلا نتيجةً لقصف الدبابات الإسرائيلية للمنازل في هذه الكيبوتسات دون النظر إلى وجود نساء وأطفال داخلها.
كما أن الفكرة ليست دراسة سبب فشل الرواية الإسرائيلية في الإعلام التقليدي في إقناع الجيل المعروف باسم جيل "Z" الذي يعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي بدلًا من وسائل الإعلام التقليدية، وبالتالي حدّ ذلك من قدرة حكومة الاحتلال على المناورة،
وإنما السؤال هنا هو: لماذا أقدمت حكومة الاحتلال، أصلًا، على الكذب الفج على العالم وما زالت مصرةً على ذلك بشكل مستمر، دون النظر إلى فشلها في إقناع العالم، أو إلى الأثر السلبي عليها عندما يتم كشف كذباتها كل مرة؟ ولماذا لا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي ينشر فيديوهات باردة ضعيفة غير مقنعة لعدد من الجنود يطلقون النار في الهواء، في مقابل فيديوهات المقاومة الفلسطينية النوعية، التي التزمت الصدق منذ اللحظة الأولى، بما جعلها أكثر قوةً في رسالتها وإقناعها للمشاهد والمتابع من إسرائيل؟
ربما يكون القائمون على الحكومة الإسرائيلية اليوم من كبار السن الذين لا يعرفون كيفية التعامل مع وسائل التواصل التي يتعامل معها الشباب الذين يمتلكون القدرة العالية على اكتشاف الصواب من الخطأ، ولكن مخطئ من يظن أن القائمين على السردية الإسرائيلية – سواء من إسرائيل أم من حلفائها- هم جميعًا من هذه العينة نفسها، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع ما يفهمه هذا الجيل!
فالقضية في الحقيقة ليست متعلقة بقوة وسائل التواصل، أو عدم تمكن إسرائيل وحلفائها وأصواتها من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، مثلًا، بل إن لدى إسرائيل أصواتًا قوية وذات أثر إعلامي كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تجنّد لهذا الأمر عدد من كبار المؤثرين الممثلين للرواية الإسرائيلية، وخاصة في الولايات المتحدة، مثل: بن شابيرو ومايم بياليك وغيرهما.. لكن بالرغم من ذلك لا تزال السردية الفلسطينية أقوى أثرًا في الإعلام والفضاء الرقْمي.
إذن القضية ليست متعلقة بجيل " Z"، أو عدم تمكن إسرائيل من مخاطبته بأدوات العصر، وإنما في عدم قدرة إسرائيل على المضي قدمًا في تقديم رواية مقنعة لأسباب عدة لا يفهمها الإسرائيليون. وللحقيقة فإن دراسةً لسيكولوجيا الرواية الإسرائيلية تكشف أن من أهم أسباب الفشل الإسرائيلي- في الإقناع بروايته- هي تركيبة العقلية الإسرائيلية نفسها، فهي عقلية قائمة على التعالي والنظر للآخر بدونية.
فإسرائيل تعتبر دائمًا أن الآخر المقابل -ولا سيما العربي- هو مجرد شخص "غبي" غير قادر على الإبداع، ولذلك فالمفترض أن إسرائيل لا تحتاج لبذل جهد في بناء سردية مقنعة مقابل سرديته، خاصةً أنه لا يحمل أي خبرات في التعامل مع أدوات بناء السردية عبر الدراما والإعلام الهوليودي، كحال إسرائيل ومناصريها في الولايات المتحدة بالذات، ولذلك فالفلسطيني- في نظر الاحتلال وحلفائه- لا يمكنه أن يمتلك الأدوات التي تقنع الآخر.
هذه النظرة الدونية عند الإسرائيليين، لا تنطبق على العربي فقط، بل تنطبق كذلك على الشعوب الغربية نفسها، فهم لا يرونها قادرةً على فهم ما يجري؛ لأن الشعوب الغربية اعتادت على استقاء معلوماتها من أفلام هوليود، ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها اللوبيات الداعمة لإسرائيل، فكيف يمكن ألا يصدق الفرد الغربي العادي الآن ما كان يصدقه على مدار سبعة عقود؟!
يبدو أن إسرائيل تظن أن هذا الرصيد القديم من البروباغندا، وغسل الدماغ الذي تعرض له العالم عبر آلة الإعلام المناصرة لها كانا كافيين لبناء الثقة غير القابلة للتزحزح في كل ما تقوله إسرائيل الآن ومستقبلًا، فلا يحتاج الجيش الإسرائيلي- مثلًا- إلا ليخرج المتحدث الرسمي باسمه فيقول أي شيء- مهما كان- ليكون صادقًا، حتى لو وصل به الأمر إلى أن يشير لقائمة كلمات عربية غير مفهومة معلقة في مستشفى قائلًا: إنها "أسماء إرهابيين"، ويتوقع أن يصدقه المواطن الغربي (ولاحظ أنه في تلك الحادثة الشهيرة كان يتكلم بالإنجليزية؛ لأنه يوجه رسالته للشعوب الغربية أساسًا)، ويكفي ذلك ليصدقه العالم.
فكيف يمكن أن يجرؤ أحد على تكذيب الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم؟! وكيف يصدق المواطن الغربي البسيط هؤلاء الإرهابيين الفلسطينيين، الذين كانت هوليود تصورهم كذلك دائمًا، حين يقولون: إن هذه الكلمات غير المفهومة لم تكن أكثر من أيام الأسبوع؟!
الشيء نفسه ينطبق على ادعاءات الاغتصاب؛ فلم تظهر شخصية واحدة تدّعي تعرضها للاغتصاب ولا حتى في شهادة واحدة تقدمها إحداهن لأحد الصحفيين، فكلها كانت تقارير إعلامية منقولةً عن مؤسّسات حكومية إسرائيلية رسمية تدعي أنها تأكدت من تعرض "بعض" النساء للاغتصاب، ويجب على العالم أن يصدق ذلك؛ لأن من يعلن هذا الادعاء هو الرئيس الإسرائيلي نفسه!
وكذلك قصة حرق الأطفال وقطع الرؤوس وغيرها مما ردّده نتنياهو محتميًا باسم منصبه، فهو رئيس وزراء إسرائيل وأعلى سلطة تنفيذية فيها، ولذلك فيجب أن تقبل روايته؛ لأن الثقة هي الأصل فيما يقول دائمًا!
الرسمي الصادق مقابل الإرهابي الكاذب.. هذا ما يكفي في نظر إسرائيل ليصدقها العالم.. فما دامت إسرائيل الرسمية هي التي تتكلم فيمكنها أن تقول ما شاءت، وعلى العالم أن يصدقها؛ لأنها هي الممثل الرسمي للغرب في المنطقة!
نسيت إسرائيل- في خضم كل هذا- أن الشعوب الغربية قد أقامت على مدار العقود الماضية جدارًا من عدم الثقة بينها وبين مؤسساتها الرسمية نفسها -لا المؤسسة الإسرائيلية فقط- وذلك بعد أن صُدم المجتمع الغربي كثيرًا بالكذب الذي تعرّض له على يد حكوماته كاحتلال العراق وأسلحة الدمار الشامل مثلًا.. بل إن البعض في المجتمع الأميركي -مثلًا- لا يجد غضاضةً في تكذيب رواية حكومته حول 11 سبتمبر.
وقد تعمق هذا الحاجز من عدم الثقة في أزمة كورونا، فلماذا يصدق النسخة الإسرائيلية من حكوماته التي اعتاد أن تكذب عليه؟ ولماذا يصدق أن فيديو لبضعة جنود يطلقون الرصاص في الهواء أو على جدران صماء يقاتلون فعليًا مقاتلين لا نراهم في الصورة؟
بالمقابل فإن السردية الفلسطينية تقدم للمشاهد دائمًا طرفين واضحين، هما: مقاتل ودبابة أو مقاتل وجندي.. وتقدم صورةً ثبَت بالوقائع أنها صحيحة، فأصبح الصدق هو السلاح الأقوى للمقاومة الفلسطينية. هذا إضافةً لسرعة خروج روايتها الإعلامية لتكذيب الرواية الإعلامية الإسرائيلية، وتنويع رسالتها الإعلامية بمختلف الأساليب، وهذا أمر غير معتاد لدى الطرف الإسرائيلي، ولا يتناسب مع ما أقنع نفسه به من "غباء العرب" و"سذاجتهم".
فمنذ متى كان العربي ذكيًا بما يكفي لاختيار أغنية (لا تتركونا نشيخ) خلفيةً لفيديوهات أسرى من كبار السن؟ ومنذ متى كان يفهم الفرق بين اختيار موقع محدد لتصوير حدث ما وتصويره داخل غرفة؟ ومنذ متى كان يعرف كيف يوجه الكاميرا نحو أقدام حافية لأحد المقاومين، وكيف يوجه الكاميرات في الجو لتصوير الصواريخ مع السيارات والجيبات العسكرية تتوجه كلها في الوقت نفسه مخترقةً الجدار الفاصل؟ ومنذ متى كان يعرف متى يجب تغيير صوت المتحدث في أي فيديو، ومتى يجب أن يظلل صور بعض الوجوه والمواقع، ويكشف بعضها؟ بل منذ متى تعلم أن يقدم رسالةً بلغة عبرية أو إنجليزية سليمة غير ركيكة؟
هذه كلها أسئلة ما زالت تحير المراقبين الإسرائيليين وحلفاءهم، وهي بالنسبة لهم لا تقل مفاجأة عن لغز الاقتحام الكبير يوم السابع من أكتوبر! والجواب الذي لا يريدون الاعتراف به هو ببساطة أن الفلسطينيين ليسوا سذجًا ولا أغبياء، فهل تعترف إسرائيل بذلك يومًا؟
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة السابع من أکتوبر وسائل التواصل متى کان دائم ا
إقرأ أيضاً:
خصوصية الطوفان.. لماذا تصدعت السردية الإسرائيلية عقب 7 أكتوبر؟
قبيل فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يكن المشهد الدولي عموما، والفلسطيني خصوصا، يشي بالحقيقة. بطريقة ما، اجتمعت كل "حقائق" العالم المخادعة لتُنتج كذبة واحدة ضخمة، وكان شرط أن تبقى تلك الكذبة الضخمة على قيد الحياة هو ألا تُخترق تلك "الحقيقة".
أما طريقة الاختراق فهي تجاوز نُظُم المراقبة والمدافع تلقائية التفعيل والأسوار الخرسانية السميكة التي صنعتها إسرائيل واستثمرت فيها مليارات الدولارات على الحدود مع قطاع غزة المحاصر. هذه هي "كذبة الصهيونية"، كما تحدّث عنها الحاخام اليهودي الأميركي يعقوب شابيرو، التي سيفاجئك إدراكه لتفاصيلها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف سرق نتنياهو منزله "الفلسطيني" في القدس؟list 2 of 2النار من كل مكان فهل باتت مبادئ بن غوريون فاشلة في حماية إسرائيل؟end of listالأكاذيب خادعة بطبيعتها، لا لأنها تُخفي الحقيقة فقط وتنقل واقعا مضللا، بل لأنها لا تُفصح عن أضرارها الكاملة. وهذا جزء من سيكولوجية الأكاذيب؛ ذلك أن وجودها بحد ذاته يُهين ذكاءنا وقدرتنا على الملاحظة والتحليل والنقد، وبالتبعية يُهين غرورنا نحن البشر.
لهذا السبب تحديدا، يقل أثر الأكاذيب مع الزمن مهما بلغت بشاعتها. فالأكاذيب القديمة لا تستفزنا، ولا تحفزنا على رد الفعل، لأنها أهانت مَن سبقونا، واستقرَّت حتى باتت بديهية، وهذا يُنسينا لعنة الأكاذيب الأهم؛ أنها لا تعيش، ولا تستقر، إلا لو تكاثرت، واستقرت باختلاف الأجيال، واحدا تلو آخر.
إعلانوفي هذا التقرير، سنستعرض تلك الأكاذيب التي فكّكتها عملية السابع من أكتوبر، وجعلتها واضحة للعالم كما لم تكن يوما.
"الكذبة الأولى"يعتقد الحاخام اليهودي الأميركي المناهض للحركة الصهيونية، "يعقوب شابيرو"، أن "الصهيونية هي الكذبة الجامعة التي تنطوي تحتها كل الأكاذيب اللاحقة"، على حد تعبيره. يشرح شابيرو فكرته خلال حوار مُطوَّل مع شبكة "تي آر تي"، ففي بدايات تبلور فكرة الصهيونية، لم يكن اليهود شعبا واحدا، أو قومية واحدة، أو حتى عِرقية واحدة، ولم تجمعهم ثقافة أو لغة أو عادات، أو حتى نسخة واحدة من الديانة اليهودية.
لذا كان يقال إن تجمعات اليهود المنغلقة في أوروبا، أو ما يُعرف بـ"الغيتو"، كانت موصدة من الداخل قبل الخارج، بمعنى أن اليهود أدركوا تمايزهم عن محيطهم الأوروبي المسيحي منذ قرون، وبما أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية تسعى لجذب الكثير من الأتباع، فكان الحل المنطقي هو أن تتجمع الأقليات اليهودية في مجتمعات انطوائية، تُمكِّنها من الاحتفاظ بهذا التمايز وتراعي خصوصيتها.
من هنا أتت الفكرة للرعيل الأول من مؤسسي الحركة الصهيونية بتحويل الديانة إلى قومية. تلك كانت "الكذبة الأولى" بحسب وصف شابيرو؛ الهوية الموحَّدة التي سيجتمع عليها يهود الشرق والغرب والشمال والجنوب، المتدينون منهم وغيرهم، ثم فتح هذه المجتمعات على مصراعيها لتمتزج مع محيطها، لأنها الطريقة الوحيدة لاستمالة كل هذا المزيج المختلط.
المشكلة هنا، كما يشرحها "شابيرو"، أن قضية الحركة الصهيونية المحورية -أي إنشاء وطن موحَّد لليهود- إلى جانب توقيتها -أي عصر صعود القوميات الأوروبية- ساقت كل يهود العالم لاختيارات متطرفة؛ حيث كان بإمكانهم وقتها البقاء في أوروبا والتعرض للمزيد من النبذ والتشكيك بما أن وجودهم -بوصفهم أقليات- لم يعد منطقيا بعد "إنشاء وطنهم"، أو هجر مجتمعاتهم وحياتهم التي بنوها لعقود لأجل احتمالية مبهمة لم تبدُ واقعية أو مستدامة.
إعلانهذه الخيارات الضبابية هي ما دفع مؤسسي الصهيونية الأوائل لصناعة حالة من العداء بين اليهود وبين الدول التي يعيشون بها، وذلك بحسب توصيف شابيرو نفسه، وهو ما يحكيه المؤرخ اليهودي "آفي شلايم" عما وصفها "بالعمليات الإرهابية التي نفذتها أجهزة المخابرات للعصابات الصهيونية في العراق واليمن والمغرب لدفع أقلياتها اليهودية للهجرة للمشروع الاستيطاني الناشئ"، كما يقول شلايم .
وفي نظر الصهاينة الأوائل، لم يكن من الممكن تعريف اليهود بما هم عليه، بل أرادوا تعريفهم بما هم ليسوا عليه، أي تعريفهم بالنقيض، حتى يصبح ذلك النقيض هو "الهوية الحقيقية"، وبذلك بات تعريف الذات مبنيا على عداء الآخر لها، وهذا ما يعرفه علماء النفس بالهوية السلبية.
هذه "الأكاذيب"، كما يصفها شابيرو، صنعت جزءا لا بأس به من المشهد؛ فهذا الاستعداء لكل ما هو "غير يهودي" تطور في العقود التالية إلى نظام تعليمي متكامل، يحكي سردية موازية للتاريخ، لا تاريخ العرب والفلسطينيين وحسب، بل تاريخ العالم، ويقسمه إلى فئتين فقط لا غير؛ اليهود، وأعدائهم.
بين الحقيقة والروايةتعتقد الدكتورة "نوريت بيليد-الحنان"، أستاذة فقه اللغة بالجامعة العبرية بالقدس، أن المكوِّن الأوضح في المناهج التعليمية الإسرائيلية هو العداء المبطَّن لكل ما هو غير يهودي، فالأطفال يتعلمون في المدارس أن الجميع يلاحقهم من فجر التاريخ لمجرد كونهم يهودا.
وبالتالي، فلا فرق بين آشوريين ما قبل الميلاد، ولا رومان ما بعد الميلاد، ولا إنجليز القرن الثاني عشر، ولا نازيين القرن العشرين، ولا عرب القرن الحادي والعشرين. كلهم أوجه لعُملة واحدة.
هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح من خطاب الدولة الرسمي وخطاب عوامها كذلك، وما تقوله الدكتورة "الحنان" إنه أمر مخطط ومدروس ومقصود، لأن الدولة التي قسّمها الرئيس الإسرائيلي السابق "رؤوفين ريفلين" إلى ما سمَّاه "العشائر الأربعة" تحتاج إلى هذا العداء مبررا لوجودها واتحادها، وتستخدمه في تحفيز المزيد من الهجرات الجماعية الضرورية للإبقاء على تفوقها العددي على الفلسطينيين، وهي مسألة أخرى تعاني فيها إسرائيل بشدة.
إعلانهذا ما يمنح وثائقي "تشهير" (Defamation) أهمية خاصة، كونه العمل الذي عبَّر عن هذا التناقض بأفضل طريقة ممكنة، وكذلك لأنه حظي بنفاذية لم يكن أي عمل آخر قد حظي بها عند إصداره، خاصة أن منتجه يهودي وإسرائيلي.
ففي عام 2009، تمكَّن المنتج، الصحفي الإسرائيلي "يؤاف شامير"، من إقناع رئيس منظمة "عصبة مكافحة التشهير" الأميركية "آبراهام فوكسمان"، بأن ينتج وثائقيا عن معاداة السامية، وهذا السبب -إلى جانب جنسيته طبعا- جعل "فوكسمان" يثق به على الفور، ويفتح له مكاتب المنظمة على مصراعيها، ويصطحبه معه في كل رحلاته الميدانية، بل ويسمح له بتصويره وتصوير أعضاء المنظمة وهم يناقشون أسرارا خطيرة، كالولاء المزدوج لإسرائيل على حساب مواطَنَتهم الأميركية.
ما كان ينويه "شامير" فعلا هو أن ينتج رؤية تحليلية ناقدة للمسألة وليس فيلما دعائيا منحازا، ولم يدرك "فوكسمان" وأعضاء المنظمة وقتها حقيقة ما يجري حتى عُرض الفيلم.
وبعد عرضه، تعرَّض شامير لهجوم واسع قادته المنظمة. لكن الوثائقي خرج ليؤكد ما كانت الدكتورة "الحنان" ستصفه في كتابها، "فلسطين في كتب التعليم الإسرائيلية"، بعدها بثلاث سنوات فقط.
أحد المشاهد اللافتة في الوثائقي وقعت أثناء تقصي إحدى حالات معاداة السامية التي بلَّغت المؤسسة واعتبرتها إحدى الحالات المتعددة للتمييز الذي يتعرَّض له اليهود.
لكن شامير، وباعتباره صحفيا في المقام الأول، ذهب ليتتبع الحادثة. وبسؤال "شيا هِخت"، الحاخام الأميركي وأحد قادة المجتمع اليهودي في المنطقة التي وقعت فيها الحادثة، اعتبرها "مُبالَغا في تقديرها"، فلا يمكن تفسير أي اعتداء على أي يهودي بكونه نابعا من معاداة السامية.
"أنا أرتاب عندما أرى رجلا يصنع رزقه من مشكلة معينة، فلو كان هناك رجل يتكسّب من وقائع معاداة السامية، ويجمع على إثرها التبرعات، فسأشك في تقاريره وبلاغاته عن وقائع معاداة السامية. هذا الرجل يحتاج إلى مشكلة ليبقى على وظيفته".
الحاخام الأميركي "شيا هِخت" – وثائقي "تشهير". تأصيل الزيفهنا تلتقي نظريات "شابيرو" و"شامير" ودكتورة "الحنان" في مشهدين محوريين في الوثائقي، عندما يذهب "شامير" رفقة طلبة الجامعات الإسرائيلية في الرحلة السنوية التي تنظمها المؤسسة إلى معسكرات الاعتقال النازية في بولندا.
إعلانفي المشهد الأول يتجمّع فوج الطلبة في أحد الميادين وهم يحملون أعلام إسرائيل، فتتوجَّه فتاتان بالسؤال عن الطريق الذي ينبغي لهما السير فيه لمجموعة من المسنين البولنديين الذين لا يجيدون الإنجليزية، وبمجرد فشلهما في التفاهم، تفترض الفتاتان أسوأ احتمال ممكن؛ هؤلاء البولنديون ينعتوننا بـ "العاهرات".
يحاول "شامير" -الذي يفهم البولندية- التصحيح لهما لاحقا، ولكن دون جدوى.
ثم يتبع الموقف السابق موقف مشابه في الفندق الذي يعامله الفوج الزائر وكأنه سكن جامعي، فيركضون خلف بعضهم في الطرقات، ويتمازحون ويلعبون ويتشاجرون بصوت عالٍ، فيأتي موظف الاستقبال ليبلغهم بشكوى باقي النزلاء من الضوضاء.
بعدها، سأل شامير الطلبة عن رأيهم فيما حدث، ليكتشف "شامير" أن تفسيرهم الوحيد للواقعة هو أن الموظف والنزلاء معادون للسامية.
صناعة هذه العقلية كان أمرا مفيدا للحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ما دام يمكن استثمار أثر هذا الخطاب والتصوّر في دفع المزيد من اليهود نحو الهجرة إلى إسرائيل، أو بالحصول على المزيد من التعويضات والمساعدات، أو المزيد من الغطاء السياسي والعسكري والإعلامي.
يظهر هذا التناقض جليا في الدوائر الأكاديمية كذلك؛ منذ عقدين تقريبا، صدرت ورقة بحثية مهمة بعنوان "تراجع علم الاجتماع الإسرائيلي" للإسرائيلي "أليك إبستين"، الدكتور بعلم الاجتماع بالجامعة العبرية بالقدس، ويعتبر فيها أن ظهور مَن سمَّاهم بـ"علماء الاجتماع النقديين"، وتصدُّرهم المشهد بعد أن كانوا على هامش المجتمع الأكاديمي، يُعبِّر عن تراجع المجال في إسرائيل عموما، ليس لأن "علماء الاجتماع النقديين" قليلو الكفاءة، أو لم يستحقوا درجاتهم العلمية، بل لأنهم كوّنوا تيارا يشكك في الرواية الرسمية لنشأة الدولة، بل ويعادي الدولة ذاتها أحيانا.
من هذه الزاوية يتضح أن دعاية الحركة الصهيونية وسرديتها التاريخية بُنيت على معادلة صفرية، تقتضي أن تغِيب الحقيقة تماما -حتى لو صدرت من علماء ومؤرخين إسرائيليين- لكي تسود الكذبة، ثم تتكاثر، ثم تقضي عمرها كله في ابتكار أكاذيب جديدة تلاحق الثغرات التي أوجدتها الأكاذيب القديمة، وتلك هي الكلفة التي لا ندركها عند الكذبة الأولى؛ أن لكل كذبة حياتها الخاصة، وأن تكاثرها ليس اختيارا، بل ضرورة بقائها، وهذا هو المعنى الذي أكَّده الحاخام شابيرو وأكّده شلايم وغيرهما من اليهود المناهضين للصهيونية.
إعلانعلى الأرجح، مرّت اللحظة الأولى بالفعل منذ عقود، فظهور أول موجة من المؤرخين الجدد الذين شكَّكوا في السردية التاريخية لنشأة الدولة لم يؤثر في إعادة تعريف الحقيقة. وقد فشلت جميع المحاولات الرامية إلى المراجعة أو النقد، ولُفِظَ أصحابها، وهذا بالضبط ما مهَّد للحظة الثانية.
يهود معادون للصهيونية في أميركا يتظاهرون رفضا للحرب الإسرائيلية على غزة (الجزيرة) ما بعد الطوفانربما لا تكون اللحظة الحالية مناسبة لتقييم جدوى العملية العسكرية في السابع من أكتوبر وفائدتها، وهي مسألة متروكة للمحللين السياسيين والعسكريين. ولكنها، في الوقت ذاته، كافية لإدراك حقيقة أنها اختبرت السردية التاريخية لإسرائيل الاختبار الأكبر.
الطوفان كان أضخم عملية لفصائل المقاومة في تاريخ إسرائيل، وبالإضافة إلى عناصر المشهد المعلومة بالضرورة، مثل الإنترنت، وظهور المنصات المستقلة عن الحلف الغربي مثل "تيك توك"، فإن حجم العملية، وانكشاف جيش الاحتلال بقتله للمدنيين على مستويات واسعة ضَمِن انتباها عالميا غير مسبوق.
في تلك اللحظة، لم تكن فصائل المقاومة تحتاج من إسرائيل إلا أن تتصرف على طبيعتها، وما ترسّخ في المناهج الدينية والتعليمية. كان ذلك كفيلا بظهور عدائهم لكل ما هو غير إسرائيلي، حتى من أولئك اليهود الذين رفضوا أن يُقتل الأبرياء باسمهم، فأُطلق عليهم وصف "اليهود الكارهين لأنفسهم". كان كل ذلك كفيلا أن تصطدم كل كذبة بحقيقتها في الواقع الافتراضي وعلى الأرض.
الطوفان لم يوقف تكاثر الأكاذيب، ولكنه وضعها في سياق سريع مُعادٍ، لا يمنحها وقتا كافيا للتخطيط والنضج والهضم، بل تتحول فيه إلى ردة فعل عشوائية لمجزرة هنا أو مذبحة هناك، فتُنتج المزيد من الثغرات والثقوب، يعجز عن رتقها جيل من الإعلاميين والمُنظِّرين الذين نشؤوا في عهد سيادة الكذبة، وأفسدهم الانحياز الإعلامي الغربي، ولم يعتادوا النقد والتشكيك والحوار والأسئلة، ولا يعلمون عن العالم إلا ما تعلموه في المدارس ورحلات الجامعة؛ المرويات القديمة ذاتها التي لم تعد تقنع الكثيرين.
إعلانأسهم في كل تلك التغيرات ثلاث ملاحظات مهمة؛ الأولى هي ما أظهره موقع مركز "بيو" للأبحاث، الذي أظهر تغيرا في الديمغرافية المسيحية في المجتمع الأميركي، التي تُعد الرافد الأول للتأييد المطلق الذي حظيت به إسرائيل في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة. وذلك بتراجع عدد مَن يُعرّفون أنفسهم بوصفهم مسيحيين من 90% من البالغين منذ بضعة عقود إلى 63% في 2022، وبالعكس، صعود نسبة مَن يُعرِّفون أنفسهم بكونهم "غير مُعرّفين دينيا" لتملأ هذا الفراغ.
المهم في هذا السياق هو أن كل المؤشرات تدل باستمرار على هذا النسق، كون نسبة أعلى ممن نشؤوا مسيحيين ينتقلون إلى المعسكر الثاني (المعسكر الذي لا يُعرِّف نفسه بوصفه مسيحيا) عند البلوغ، بينما العكس غير صحيح، فعدد أقل ممن نشؤوا غير مُعرّفين بوصفهم مسيحيين يصبحون مسيحيين عند البلوغ.
هذا يعني ببساطة أن الفئة الأميل لتأييد إسرائيل ودعمها في الولايات المتحدة الأميركية تقل باستمرار، وتتقدم في السن، وبالتبعية تصبح أقل نشاطا على منصات التواصل، وهو ما يفسر جنوح التجمعات الشبابية الجامعية لمساندة القضية الفلسطينية.
الملاحظة الثانية أنه في العقود الماضية كان قادة المجتمع اليهودي -وعلى رأسهم نتنياهو- ممن وُلدوا ونشؤوا بين المجتمعات الغربية التي يسعون لاستمالتها، وعاشوا لحظات ميلاد إسرائيل وصعودها لمكانتها الحالية في العالم، وهذا سلَّحهم بقدر من الحصافة في التعامل مع حلفائهم وأعدائهم، وقدرة على التفريق، في كثير من الأحيان، بين التكتيكي والإستراتيجي، على عكس "سموترتش" و"بن غفير" اللذين يقودان الجناح اليميني الآن، أبناء مستوطنات الجولان والضفة، وخريجي المدارس الكاهانية المتطرفة.
هذا كله أنتج مشهدا إعلاميا استثنائيا غير مسبوق في تاريخ الصراع، باتت تحتل فيه الحقيقة موقعا من المشهد بعد أن غابت كليا، لتزداد مساحة وجودها في قفزات ضخمة متصاعدة لا تبدو منطقية للوهلة الأولى، ولكنها تصبح كذلك عندما نضع في اعتبارنا الملاحظة الثالثة.
إعلانفمقابل كل مناضل خاطر بحياته في زمن سيادة الكذبة، كان هناك العشرات من الصامتين الخائفين من بطش آلة الدعاية، ومع كل معركة جديدة تُختبر الكذبة، وكل شجاعة يُظهرها الغزّيون تصيب العدوى أولئك الصامتين وتحررهم، وتدفعهم إلى تحرير غيرهم، فالحقيقة تقوى بالتكاثر أيضا.
لا أحد يعلم نتيجة هذه الجولة من الحرب، ولكن الجميع يعلم أن زمن سيادة الكذب والتضليل قد انتهى. خصوصية الطوفان لم تكن فقط في أنه أظهر للعالم وحشية جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، بل في كونه أيضا منح الجميع الفرصة لإظهار عداء "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" واستخفافه بالعالم ذاته.