قادني الفضول للحصول على الرواية الأخيرة «متلازمتان» التي نشرت لأول مرة عام 2021 للمفكرة والفيلسوفة الوجودية الفرنسية سيمون دو بوفوار. بعض الأسماء تسبق محتوى الكتاب وتحثنا على البحث في ما تعذر نشره في زمنه.

تملكتني الدهشة والتساؤل: ما الذي منع كاتبة بحجم سيمون دوبوفوار من نشر رواية لها كتبت عام 1954 بعد أن أعطاها شريكها جان بول سارتر رأيا سلبيا في رواية أتوبيوغرافية؟ هل هي التبعية الضمنية المشروطة على المرأة التي تجاهد من أجل الاستقلال الفكري والاقتصادي؟ أم العجز عن تحطيم المحظورات دفعة واحدة والبقاء في ظل فيلسوف وثوري كبير له أثره على الحراك الثقافي في فرنسا والعالم؟ أم أن هناك أولويات للكتابة والطرح في كل حقبة زمنية، وانحازت سيمون دو بوفوار إلى الموافقة مع سارتر في هذا الرأي لتنصرف إلى مشاريعها الكتابية الغزيرة سواء سير-ذاتية أو فكرية أو متخيلة!

الأرشيف يؤكد أن سيمون فضلت أن تنشر روايتها الفلسفية المعقدة المهمة في تلك المرحلة والتي حملت عنوان «ذا ماندرين - أو الماندرين» وهي رواية فلسفية معقدة عن دور المثقف في المجتمع بعد الحرب العالمية الثانية كما يشير العنوان إلى العلماء البيروقراطيين في الصين الإمبراطورية.

حيث ترى الشخصيات في بعض الأحيان نفسها على أنها «ماندرين» أي نخبة غير فعالة تبحث في الدور الذي سيلعبه المثقفون للتأثير على المشهد السياسي العالمي بعد الحرب. وهذه الرواية حصلت على جائزة غونكور حينها وطبع منها ملايين النسخ في فرنسا وأمريكا.

من هما الشخصيتان غير القابلتين للانفصال وللتفريق بينهما في رواية «متلازمتان»؟

أنهما المؤلفة سيمون دو بوفوار وصديقتها اليزابيث لكوين في هذه الرواية الإتوبيوغرافية القصيرة. جاءت تلك الكلمة في سياق رسائل شخصية تم تبادلها بين سيمون دوبوفوار مع إليزابيث لكوين والتي عرفت باسم زازا، والاسم ورد في مذكرات سيمون دو بوفوار الشخصية.

سيمون دو بوفوار والإهداء إلى الصديقة التي عرفتها وأحبتها بشغف على مقاعد المدرسة الإعدادية ثم واستمرت حتى بداية المرحلة الجامعية حيث درست دو بوفوار الفلسفة، فيما التحقت إليزابيث بقسم الآداب في جامعة السوربون. ويبدو أن تلك الباريسية ليست فرنسا التي نعرفها اليوم والتي غدت مدينة الأنوار، بل كانت رازحة تحت جور تقاليد كاثوليكية صارمة. ينعكس ذلك في الرسائل المتبادلة بين سيمون وإليزابيث (زازا)، وهي منشورة في نهاية الرواية مؤرخة بين عامي 1920-1929. انتهت الرواية الإتوبيوغرافية بموت (زازا) في ظروف غامضة حين كان عمرها 21 سنة. ويذكر أن أندريا، اسم بطلة القصة وشخصية «سيلفي» هي سيمون دو بوفوار كما يرد في صفحات أخرى في ختام الرواية.

هل أثرت تلك العلاقة الملتبسة على حياة دوبوفوار وكتابتها اللاحقة؟

أقول ربما، لو تعش سيمون دو بوفوار تجربة شخصية خاصة مع واحدة من بنات صفها حين كان عمرها 9 سنوات لما ألفت هذه المفكرة الوجودية كتابها الثوري «الجنس الثاني» الذي اعتبر مانفسيتو الحركة النسوية الثانية حين صدر عام 1949.

لكن سارتر، المفكر والفيلسوف لم يتقبل تلك الرواية حين عرضتها سيمون دو بوفوار عليه، وكانت نظرته إليها بأنها لن تلفت اهتمام القرّاء، وموضوعها ليس مسألة مهمة في الوقت الذي كان العالم يحارب من أجل قضايا أساسية كبيرة وهي الاشتراكية ومناصرة الحركات العمالية والرأسمالية البرجوازية ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية.

وهنا يلح علي سؤال: هل ستتحرر المرأة كليا من إملاءات وسلطة الرجل الذي تعيش معه أو في حمايته، سواء كان فيلسوفا أو تاجر سيارات؟!

ملابسات الصداقة وموت زازا

ماتت (زازا) في ظروف غامضة في 25 ديسمبر 1929. بسبب فايروس تسبب لها في هلوسات وحمى، أو بسبب الاكتئاب والجنون الذي قضى على صحتها النفسية والجسدية وأدى إلى الموت المبكر الغامض. تنتهي القصة بمشهد دفن (اندريا) التي يقوم الأهل بنثر الكثير من الورود البيضاء على قبرها، وحدها سيمون (سيلفي) تضع ثلاث زهرات حمراء على القبر.

تلخص سيمون دو بوفوار في مذكراتها: إن صديقتها كانت ضحية المجتمع وقُتلت نفسيا وروحيا بسبب التقاليد الصارمة وحصار الأسرة والعشيرة التي كانت تتبع تقاليد كاثوليكية برجوازية ذات خلفية عسكرية.

كانت البنت متمردة -اندريا- متقدمة على عصرها تتمتع بفردية عالية في التفكير لا تتناسب مع حركة المجتمع الفرنسي البرجوازي في العقد الثالث من القرن 19. التحرر والاختلاف الفكري كان سبب كآبتها لأنها لم تستطع تحمل متطلبات الحياة الجماعية واشتراطاتها القاتلة للفردية الشخصية. لم تستطع كل المحاولات المحيطة ترويضها لتجعل منها امرأة مثل أخواتها وأمها، كي تكتفي بالزواج المدبّر لتعيش مثل أمها التي أنجبت 9 أولاد وبنات ولم يكن لديها فسحة للاهتمام بنفسها، بل قامت الأم بدور الجلادة وحجبت عن ابنتها أي رغبة خاصة بما في ذلك العزف على القيثارة مما حدى بها للقبول بالزواج من رجل إنجليزي خارج الأقارب والعشيرة كي يأخذها إلى إنجلترا بعيدا عن أسرتها. لم تستطع سيمون دوبوفوار أن تبقيها في دائرتها.

أفكار على هامش المرأة الفرنسية والعربية: حين أتمعن في هذه القصة التي انتهت بموت البطلة «زازا» في 25 نوفمبر 1929، أجد بالتوازي هناك آلاف الحالات القمعية التي لا تزال تحدث في المحيط العربي والشرقي، حيث تكون البنت مجردة في كثير من الأحيان من حقها في اختيار الدراسة أو الشريك أو المهنة.

كتبت سيمون في مقدمة الرواية الإهداء إلى زازا وترجمته هي: إذا كنتُ أبكي الآن فلأنكِ ميتة، أو ربما لأنني باقية على قيد الحياة؟ يجب أن أهدي هذه القصة لك، ولكنني أعرف أنك هنا الآن فيها، وأنا هنا أتحدث معك بصيغة أدبية. إضافة لذلك، الحقيقة هذه ليست قصتك، ولكن ببساطة هي قصة مستوحاة منا. أنت في القصة لست «اندريا» وأنا لست «سيلفي» التي تتكلم باسمي.

***

ماذا قالت مارغريت أتوود في مقدمة الرواية:

اخترت ترجمة فقرة أخيرة من الكلمة التي تتناول مقارنة مفصلة بين جيل سيمون دو بوفوار ووالدة مارغريت أتوود، التي عاشت وأسرتها في حرية شديدة قياسا للحال في باريس في تلك الحقبة. وتأخذ أتوود فرصتها في تحليل الخط السياسي الذي سار عليه سارتر في علاقته مع الاتحاد السوفييتي والثورة الفرنسية. بالإضافة إلى الإعجاب بثورية سيمون وطروحاتها المتميزة في مجتمع ذكوري الفلسفة والتقاليد.

«عزيزي القارئ، أقرأ وأبكي، المؤلفة نفسها بكت، وهكذا بدأت القصة بالدموع. يبدو أنه وبالرغم من ظاهرها المتسم بالتمنع، سيمون دو بوفوار لم تكف عن البكاء مدى حياتها لفقدها زازا. وربما هي نفسها، عملت بكل هذه الجهود كي تصبح ما كانت عليه وكنوع من التعويض والتذكير بأن دو بوفوار كان عليها أن تعبّر بفكرها إلى أقصاه ذلك أن زازا لم يكن بمقدورها أن تفعل».

***

الآخرون والأول والثاني في جحيم سارتر وسيمون دوبوفوار ونحن جيل الألفية الثالثة: سيحفظ التاريخ مقولة جان بول سارتر الشهيرة «الآخرون هم الجحيم» والتي جاءت على لسان واحد من أبطال مسرحيته التي بعنوان «لا مخرج، أو نهاية ميتة» والتي كتبها عام 1944. وستبقى دو بوفوار علامة فارقة في تاريخ الحركات النسوية العاملة وبخاصة في كتابها الفلسفي الشهير «الجنس الآخر» 1949. في كلا الكتابين يقتحم الفلاسفة أيديولوجيا العلاقة الشائكة بين الأنا والآخر المختلف جنسيا وفكريا، ولنا أن نحلل ونفكر ونسقط ذلك على أسلوب معيشتنا ومفاهيمنا عن الحرية والفردية الشخصية والالتزام الاجتماعي. الكتابة بحرية والتفكير خارج الإطار التقليدي يحكم على المبدعة أن تكسر الإطار التقليدي لتغوص في الكشف عما يعاني منه الفرد وإن كان في ذلك مخاطرة ونقد لاذع. ولا أدري إن كان بإمكان المرأة أن تفعل ذلك حين يعاكسها القانون المدني والاجتماعي والديني!

جاكلين سلام كاتبة ومترجمة سورية كندية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

اليوم نرفع راية استقلالنا (1)

تعود ذكری الاستقلال من داخل البرلمان، وبلادنا تخوض حرب الكرامة لكن ذلك لا يمنعنا من الذكری فالذكری تنفع المٶمنين.

يحُقّ لأهل السودان أن يَتَباهوا علی ساٸر أهل أفريقيا طُرَّاً، وعلی كثيرٍ من أهل الدول العربية، بأنهم قد عرفوا سُبُل الحضارة قبلهم، وخَبِروا أساليب الحكم قديمها وحديثها، منذ عهودٍ موغلة فی القِدَم، بل منذ نشأة البشرية علی كوكب الأرض!!

وقد أثبت علماء التاريخ والآثار ذلك فی دراسات كثيرة، تنوء بها أرفف المكتبات القديمة، وتتداولها وساٸط الإعلام الحديثة، ويحتفي بها أُولو العزم من الدارسين، وقد ينكرها بعض المتعصبين من أصحاب الغرض، والغرض مرض !!

وقد يقول قاٸل (هب إن إنسان السودان كان أقدم البشر، وكان هو الإنسان الأول، وأن الجميع جاءوا من نسلهم – من لدن أبينا آدم عليه السلام وحتی يرث الله الأرض ومن عليها- !! فأين هو السودان، وإنسان السودان، وحكومات السودان من ذلك؟؟؟)

– منذ أن نال السودان استقلاله من دولتي الحكم (الثناٸی) -إنجلترا/مصر- فی الأول من يناير عام 1956م ، جَرَّب (ثلاثة) أنواع من الحكومات، فصلت بينها (ثلاث) ثورات شعبية وتخللتها (ثلاث) فترات إنتقالية۔

حكومة حزبية منتخبة۔حكومة يأتی بها إنقلاب عسكری ۔حكومة إنتقالية۔

ويمكن الحديث شيٸاً ما ولو شكلياً، عن نظام (حكم ملكي) فُرِضَ علی السودان الذي كانت تستعمره انجلترا (الملكية)، بالٕاشتراك مع مصر (الملكية) أيضاً، يديره حاكم عام إنجليزي تختاره (ملكة) إنجلترا ويُصدر (الخديوی) فی مصر فرماناً بتعيينه، وفي خِضَم التنازُع بين دولتي (الحكم الثناٸی)، نُودي ب (الملك فاروق ملكاً علی مصر والسودان) مع كون مصر نفسها كانت مستعمرة بريطانية حينذاك !!

تسلمت أول حكومة وطنية مقاليد الحكم من الإستعمار ، وكانت حكومة حزبية منتخبة برٸاسة السيد الأستاذ إسماعيل الأزهری، بعدما ذاب مٶتمر الخريجين – طليعة الوطنيين المنادين بإستقلال السودان – فی الحزبين الكبيرين، أو فی الطاٸفتين الكبيرتين علی وجه الدِّقة، فمٶتمر الخريجين الذی أنشِٸَ علی غرار حزب المٶتمر الهندی- القاٸم إلی يوم الناس هذا – وجد نفسه أمام (إنتخابات عامَّة) تتطلب ميزانيات ضخمة، ومعينات كثيرة، وتجربة جديدة كليَّاً، لا قِبَل له بها، خاصة بعد المعركة الإنتخابية عام 1943م لاختيار الهيٸة الستينية للمٶتمر والتی أدت لانقسام حاد، بين مجموعتين الأولی بزعامة الأزهري يساندهم الأبروفيون، والثانية مجموعة الشوقيين بزعامة محمد علی شوقي ومجموعة من أبناء الأنصار يساندهم بطبيعة الحال السيد عبد الرحمن المهدی، ووسط جماهير تدين بالولاء للسيدين الكبيرين، السيد (السير) علي الميرغنی زعيم طاٸفة الختمية، وسليل العترة النبوية !! والسيد عبد الرحمن المهدی زعيم طاٸفة الأنصار، ونجل السيد الإمام محمد أحمد المهدی مُفجر الثورة المهدية، الذی خاض غمار حرب ضروس ضد المستعمر وحرر البلاد من ربقة الإستعمار بحد السيف (حرفياً) بمساندة واسعة من جماهير الشعب السوداني الذی بذل الغالي والنفيس في سبيل نيله حريته. فقد كان من المحتم علی عضوية مٶتمر الخريجين أن ينضووا تحت عباءة أحد السيدين ربما تُقيةً، لكنه ليس عن قناعة حتماً، وعندها تفرق مٶتمر الخريجين أيدي سبأ، وحُرم السودان من تجربة حديثة لبناء دولة ديمقراطية حديثة، ونالت البلاد إستقلالها، بعد سودنة جميع الوظاٸف فی الدولة، وكانت السودنة هی الشرارة التي أطلقت التمرد فی جنوب السودان من عقاله، في اْغسطس 1955م، قُبيل إعلان الإستقلال إحتجاجاً علی إبدال الإنجليز الرحماء!! بالعرب القساة تجار الرقيق !! كما قالت بذلك الدعاية الإستعمارية (رمتني بداٸها وانْسَلَّتِ)، والذی أفضی في نهاية الأمر – بعد حرب أهلية هی الأطول فی القارة الأفريقية – إلی انفصال جنوب السودان بعد الإستفتاء الذی أقرته إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) الموقع فی نيروبی يناير 2005م۔ وأدت ل(ثناٸية) جديدة !!

ونواصل إن أذِن الله لنا بالعودة.

-النصر لجيشنا الباسل.

-العِزة والمِنعة لشعبنا المقاتل.

-الخِزی والعار لأعداٸنا، وللعملاء.

محجوب فضل بدري

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وزير الثقافة يفتتح مؤتمر الرواية والدراما الأربعاء المقبل
  • الأربعاء.. وزير الثقافة يفتتح الدورة الأولى من مؤتمر الرواية والدراما
  • أبرزها «باحث جوجل العكسي».. أدوات للتأكد من صحة الصور المنشورة على الإنترنت
  • الأربعاء.. افتتاح مؤتمر الرواية والدراما بنادي القصة
  • خبراء يشككون في الرواية الأمريكية حول إسقاط طائرة “إف18” في البحر الأحمر
  • في عكّار.. ما الذي ضبطه الجيش؟
  • أول صورة للمُجرم الذي دهس الدراج في بيروت.. شاهدوها
  • الفرق بين الفيتامينات والمعادن وتأثير نقص فيتامين د على الصحة
  • اليوم نرفع راية استقلالنا (1)
  • دعاء يوم الجمعة الذي يغير الأقدار للأفضل